«أغنية الرياح الأربع» وفن الأوبرا

تحدثتِ الصحف والمجلات المصرية منذ قليل عن فنون الأوبرا والباليه والرَّقص الشعبي بمناسبة موسم القاهرة السابق، الذي شهد فِرقة موسييف السوفيتية، وفرقة يا ليل يا عين المصرية، وأَخَذْنَا نناقش المَنابع التي يمكن أن نستمد منها الرقص والموسيقى والغناء، وهل تكون تلك المنابع فرعونية أم من مصر الحديثة أم تجمع بين الاثنين.

وقد فوجئت عندما عدتُ في هذه الأيام إلى كتاب «أغنية الرياح الأربع» لشاعرنا المعاصر علي محمود طه، فوَجَدْتُ أنَّه قد استمدها من أدبنا الفرعوني القديم، وأنَّه قد صاغها صياغة شاعرية خفيفة مجنحة صالحة كل الصلاحية للغناء والرقص، ومن شخصياتها أربع حوريات يمثلن الرياح الأربع: ريح الشمال، وريح الجنوب، وريح الشرق، وريح الغرب. وشاعر وقرصان وكلها شخصيات مُحَلِّقة تَسْبَح في عالم الشعر وسط جو خيالي هو جو الأوبرا المثالي.

ففي سنة ١٩٤٣م نشر علي محمود طه هذه الأغنية على شكلِ حوارٍ مسرحي في ثلاثة فصول، يشتمل الفصل الثاني منها على منظرين، ثم يختتم الأغنية بقصيدة رثاء لأزمردا بطل المسرحية على لسان باتوزيس، وهو شاعر يدخل في عداد الشخصيات الهامة في المسرحية.

وقد استمد علي محمود طه موضوع هذا الحوار المسرحي من أغنية فرعونية قديمة اكتشفها العلامة دريتون مدير المتحف المصري السابق، ونشرها مُترجمة إلى الفرنسية في عام ١٩٤٢م في كتاب نَشَرَتْه مجلة «دي كير» التي تصدر بالفرنسية في القاهرة.

وقد صدَّر لها دوريتون بكلمة قال فيها: تقوم هذه الأغنية على الحوار، وبعد أربع مقطوعات تُغَنِّي كلَّ واحدة منها فتاة، يدخل رجل فيجيبهن ويشرع في خَطْفِهن ليستولي على الرياح الممثلة فيهن، فيغريهن بإثارة الفضول في نفوسهن، وذلك بأن يَعْرض عليهن زيارة سفينته، وتلك كانت خطة البحارة الفينيقيين في عهد هذه الأغنية، يلجئون إليها عندما يريدون اقتناص الجواري من بلاد البحر الأبيض، ولما قوبل طَلَبُه بالرَّفض لم يستسلم للهزيمة كما هو واضح من المقطوعة الأخيرة في الأغنية حيث يقول: «إن وسائلي لا تنفد». ولكن لسوء الحظ لم نَعْثُر على تكملة الأغنية والوسائل التي لجأ إليها الرجل، وأكبر الظن أنها مما يثير الشراهة التي تكشف عن مواضع الضعف في النساء.

ويبدو من قراءة هذه الأغنية أنها لم تصل إلينا كاملة، بل امتدت إليها يدُ الغير، تشهد بذلك مقطوعتها الثالثة التي تتغنى بريح الشرق، فإنها تزيد على المقطوعات الأُخرى، ورُبَّما تَعَمَّد ذلك الشخصُ الذي قام بجمع أجزائها حتى تبدو هينة سهلة، ومهما يكن من أَمْرِ هذا الحذفِ فإن هذه الأغنية قد وسَّعت من آفاق مَعارِفنا عن أقدم نصوص الأدب المصري، وأضافت إلى معلوماتنا شيئًا جديدًا جديرًا بالتقدير، ولسنا مغالين في أن نقول: إنها أثبتت وجود شعر غنائي مليء بالخيال والعذوبة في مثل هذا العهد البعيد.

ويحدد علي محمود طه زمن الرواية بأنه في عهد الأسرة التاسعة المصرية، أي: منذ أكثر من أربعة آلاف عام، ولقد أضاف علي محمود طه إلى هذا التراث التاريخي ما أكمل به القصة وجعل لها بدءًا ونهاية، بل ودرسًا أخلاقيًّا تتمخض عنه.

ففي الفصل الأول نشاهد حانة في ميناء بيبلوس من أعالي فينيقيا، وهي بيروت الحالية أو المكان المجاور لها، وإلى هذه الحانة يَفِد البحارة والقرصان يلهون ويشربون ويعبثون مع بنات الهوى، وفيها يتعرف أزموردا، وهو رجل فينيقي يعمل قرصانًا يرتدي ملابس أنيقة ويبدو ذا جسم رياضي وحديث خلاب، يتعرف بباتوزيس المغني المتجول، وهو شاعر مصري صاحب فن ورب خيال يعيش ليومه قبل غده، وأكبر الظَّن أنَّه شاعرنا علي محمود طه نفسه، وينجح القرصان في أن يغري المغني المتجول الذي كان يعرفه منذ الصبا بمصاحبته في سفينته، كما يختطف إحدى بنات الهوى.

وفي الفصل الثاني نرى سفينة القرصان وقد ساقتها الرِّياح حتى أَرْسَتْ عند شاطئ مصر غربي ميناء رافيا، أول الثغور المصرية من جهة الشرق (رفح الآن). وعند هذا الشاطئ يجري الفصلان الأخيران: أحدهما على أرض الشاطئ والآخر فوق السفينة.

فعلى أرض الشاطئ يلتقي القرصان أزمردا بالفتيات الأربع الفاتنات اللاتي يمثلن رياح الشمال والجنوب والشرق والغرب، ويَسْتَرِق السمع إلى أغانيهن العذبة، كما يسترق البصر إلى أجسادهن الفاتنة ورقصهن الساحر من خلف صخرة بيضاء تقع وراءها المروج، ثم يفاجئهن بعد أن يرتدينَ غلائلهن، وما يزال يغريهن بالتحف والجواهر التي يزعم أنه يختزنها في سفينته؛ حتى يقبلن الصعود معه إليها، وهناك يلتقين بالغانية الأسيرة المعذبة بالسياط، كما ينكشف خداع أزمردا وكذبه، وعندئذٍ تلجأ الفتيات إلى قُوَّتِهِنَّ الإلهية فيُصِبْن أزمردا بشلل الحركة ويَكَدْنَ يصعقنه، ثم يُطْلِقْن الرياح فتُحَطَّم السفينة وينجون هن والشاعر باتوزيس والغانية الأسيرة إلى الشاطئ.

وينبئنا المؤلف بعد ذلك أنه قد عثر عند الشاطئ على قصيدة يرثي فيها باتوزيس أزمردا، ويستنبط فيها الحكمة التي تتمخض عنها حياة هذا المغامر الشرير، الذي تقلَّب في نعيم القرصنة فترة من الزمان، ولكنه انتهى بما لقي من مصير مُحْزِن، والمرثية طويلة يستهلها الشاعر بقوله:

أثر ليس يبرح
وخيال مجنح
وشراع محطم
حوله الموت يَسْبح

… إلخ.

وإذا كانت هذه المرثية تبدو مفْتَعَلَة لصيقة بالمسرحية، فإن من الممكن الاكتفاء منها بعدة أبيات يرثي فيها باتوزيس نفسُه رفيقَ صباه أزموردا، ويستخلص منها العبرة من حياته في ختام الفصل السادس، وإذا كنا قد حَبَّذْنَا تلحين مسرحيات شوقي وتقديمها كأوبرا أو أوبريت؛ فإننا نعتقد أنَّ أغنية الرياح الأربع ربما كانت أكثر مواتاة للتلحين والغناء والرَّقص إذا وُجِدَ من يستطيع تلحينها، ووُجِدت الأصوات التي تستطيع أن تغنيها؛ وذلك لأنَّ شِعْر علي محمود طه أكثر سلاسة وقُرْبًا إلى الفهم من شعر شوقي، وقد لا تقل موسيقاه عن موسيقى شوقي، وله عليه فضل التحليق في جو شعري خالص.

وشعر علي محمود طه الذي يجمع بين التحليق الغنائي والوصف الحسي يصدر عن مزاج أبيقوري مرح، يلتمس متع الحياة ولذاتها في غير جرأة على الأخلاق ولا تبذُّل، كالذي نجده أحيانًا عند الشاعر الفرنسي بودلير، أو عند الشاعر العربي إلياس أبو شبكة في ديوان «أفاعي الفردوس»، فهي أبيقورية خفيفة مجنحة، أقرب إلى مَرَح الشباب منها إلى استبداد الغرائز وجموحها.

وإذا كان هناك ما يعيب شعر علي محمود طه فإننا لا نظن أن هذا العيب يأتيه من الناحية الأخلاقية، وإنما يأتيه من ناحية السطحية في المشاعر والانفعالات ومن ناحية الضعف في الحرارة، ومن المعلوم أنَّ الحرارة والعمق يصدران عن الحرمان، وأن الاستمتاع بمتع الحياة يُضْعِف منهما، وربما كان ذلك هو الفارق الواضح الذي نحسُّه بين شعر علي محمود طه السابح في مَرَحٍ على سطح الحياة، وشعر الدكتور إبراهيم ناجي الذي ينتفض انفعالًا ويتحرق لهفة، وتئج فيه نار الحرمان.

ومع ذلك فإنَّ الصفات التي نلمحها في «علي محمود طه» وشِعْره لا نظنها تتعارض مع فنِّ الأوبرا أو على الأقل فن الأوبريت، فهذه الشعشعة العاطفية، وهذا التحليق الشعري، وذلك الوصف الحسي لمسطحات الحياة، من الممكن أن يتزاوج في سهولة مع فنون التعبير الأخرى كالموسيقى والرقص؛ لنخرج من «أغنية الرياح الأربع» بأوبرا أو أوبريت مصرية فرعونية، يمكن أن تصل إلى المستوى العالمي إذا ما أُتِيحَ لها مَن يُلَحِّنها ومَن يخرجها ومَن يغنيها.

وكم أود لو حاولتْ فرقنا الناشئة أو المرتقبة أن تَسْتَهِلَّ عملها الفني بهذه الأغنية الجميلة التي لا ينبغي أن نتركها ميتة بين أرفف الكتب.

وهذه الأغنية لا تقف قيمتها عند ما فيها من شعر غنائي خفيف مجنح، أو مناظر فاتنة خلابة في حانة بميناء صاخبة، أو سفينة تتقاذفها الرياح، أو شاطئ ساحر ترقص فيه حوريات الرياح، ولا عند الدرس الأخلاقي الذي تتمخض عنه، بل يمكن أن تمتد إلى كثير من الأهداف الرمزية، كهدف القرصان الذي يريد أن يختطف حوريات الرياح ليسيطر عليهن ويُسَخِّرهن لسفينته، وتمرُّد هذه القوى الطبيعية على إرادة الإنسان، بل وتحطيمها لهذه الإرادة، وبفضل هذه الرموز يمكن أن تدخل هذه الأغنية في عداد المآسي الإنسانية الكبرى التي تتصل بالجلال الصادر عن صراع الإنسان ضدَّ القوى الكونية، حيث تُعْتَبَر الرياح من عناصرها العاتية بالنسبة لرجال البحر والجو.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤