المجترون

١

لما ظهر كتاب «الألفاظ الكتابية» لعبد الرحمن بن عيسى الهمذاني قال رجل — لا أذكر اسمه ولا كلمته بعينها: لو غدا حكمه إليَّ لقطعت يده.

يا ليته قطع تلك اليد، وأحرق ذلك الكتاب! فكتاب «ألفاظ» عبد الرحمن و«صبح» القلقشندي، و«نجدة» الشرتوني، و«نجعة» اليازجي، مراعٍ لسوائم التقليد، وزرائب لشويهات النقل، ومستودعات لعاديات اللغة، لا مثل لها إلا تلك المخازن التي تُكترى منها الثياب للسهرات والطقوس المحدد لها طراز خاص من أزياء تواضع عليها الناس. فما قتل أدبنا وأفقده الحس والشعور غير هذه الرواسم (الكليشيهات) التي نجترها ونحشرها بين كلمات مرصوفة ونشكك شك الخرز في فساطين النوريات، ثم نتباهى بها كالقرعاء.

الأدب كغيره من الفنون الرفيعة صورة من صور مشاهد الحياة التقتطها العين، ورسمها القلم على الورق صورة حية، فلابست العقول ووعتها الآذان. كانت رائعة يوم ابتكرت، فهي لم تنشأ ليلوكها ضيفن الأدب ويتقيأها على القرطاس دهورًا وعصورًا، ولا لتؤدى لها ضروب العبادة والتقديس وتمسي ترجمان كل من حمل قلمًا يستوحيها دون تفكير بما تحتها ولا نظر إلى ما فوقها، كأنها فرضت على الإنشاء فرضًا فلا يجمل أن يَتَزَيَّا إلا بها، ومن لم يحسن التأدية بها فذاك غير فصيح، فهبَّ بعض المتمشرقين يَصِمُون أدبنا بكثرة رواسمه، ومستحاثاته، ومومياءاته.

إن هذه العناصر من التعبير تفسد البناية الشخصية الأدبية، ونحن أفقر أهل الأرض في أدبنا إلى كل ما هو شخصي. خذ قطعة أو قصيدة وضعْ ديباجتها تحت المكبِّرة، كما يفعل الحائكون، فتبدو لك فيها هذه التعابير كرقعة نابية لونًا وديباجة، وهكذا يظهر منظومنا ومنثورنا كالمسرح المُزَيَّن بما يدنيه من المكان المقصود، وإن شئت كلمة أوضح فقل إنها كالقديد في مأدبةٍ طعامُها طازج.

لو رصدنا الكون لرأينا حركة راعبة تدهش المتأمل وقلنا مع القرآن الكريم وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ. فلا جامد جمدة الموت إلا عقول البشر، فالذين يفكرون بعقولهم هم أندر من الراديوم. هناك فئة قليلة جدًّا تفكر اتفاقًا، والذين يفكرون بعقول جيرانهم لا تحصيهم الأرقام، أما أكثر الناس فلا يفكرون. عقول صغار في جثث ضخام. مثلما يأكلون ويشربون وينامون، هكذا يقرءون ويتكلمون ويكتبون. ومثلما يمشون ولا يعنون أين يضعون أقدامهم هكذا تقذف أفواههم تعابير رأوها نائمة في بطون الكتب فأيقظوها ليستخدموها في الإفصاح عن خلجات نفوسهم وبدواتها، والتنفيس عن عواطف مكبوتة، كأنما التعبير علك يُمضغ.

مسكين الإنسان! ما أشبهه بحصان العربة يتبع الطريق وسوط العرف ينهره ويلذع قفاه، فلا يتعوج ولا يتعرج إلا ليستريح ريثما يستأنف السير. ما أكثر الذين يقومون بعملهم الإنساني ولا يفكرون أنهم ناس! وما أبعدنا عن تمحيص ما نقرأ وما نكتب وما نسمع وما نعتقد، فكأننا أبواق تنفخ العادة فينا ما شاءت من أصوات قد تكون هي أنكر الأصوات لا غيرها، فنضم ما ألفناه وتعودناه إلى مجموعة الميراث الأقدس. فكم من ألفاظ طنانة وتعابير غامضة حائرة تطربنا وما ندري لماذا، وتهيمن وتسيطر علينا كأنها نواميس طبيعية لا بد من تفاعلها، ثم لا نفكر لماذا.

قد يعتب عليك أحدهم إذا لم تقل «إن شاء الله» كما فعل أبو نصر بالمتنبي ليلة غدوته في طلب منيته. وهذا اللائم يتلفظ بها ولا يدري لماذا، إن لم يقلها ويجهل أنه قالها. ومثل هؤلاء إذا ناقشتهم أخفى الأمور والقضايا عن الإدراك وجدت عندهم لكل سؤال جوابًا مما لقنوهم إياه وأملوه عليهم، كأنما نفسيتهم أحد كتب الرسائل القديمة: المكتوب وجوابه قبالته، أو كالذي ألفناه في التخاطب فنقول «مشتاقون» لمن نكره محضره، و«داعٍ لك» لمن نتمنى قصف عمره.

كم من كاتب يحدثك عن الملأ الأعلى، وهو ينكث مزابل المادة كالشقبان في ليالي كانون المظلمة، ليزدرد ديدانها ويلتهم حشراتها!

إن المفكرين الحقيقيين قليل في هذا الورى، والمشككين الحقيقيين أقل منهم. أما المطمئنون إلى كل شيء فملء الأرض، أكثر من الذباب والبرغش حول المستنقعات، وهل من مستنقعات أنتن من رواكد العقل البشري؟! ما أشبه هؤلاء بصبيان يحسبون منتهى الدنيا وراء الجبل القاعدة في حضنه قريتهم، وكم كانت دهشتنا عظيمة حين تسلقنا الجبل ورأينا وراءه أشياء أخرى.

وأفتك الأوبئة الإنسانية ذلك الاطمئنان الداخلي، مرض الدهماء الذين يعومون دائمًا في زبد أنفسهم ولا يغوصون في لجتها، تلهيهم ثرثرة الساقية عن صمت النهر الهادئ حيث الحيتان الضخمة التي تبتلع حوت يونان. إن هؤلاء يخافون المعرفة فيتجنبونها ويؤثرون الجهل عليها، وهذه الحياة المخدرة التي يلذ بها كل رجل مشترك العقل تدفعهم إلى تقديس القديم، فيرون في الثورة عليه خروجًا على المجتمع ومروقًا من عرفه وتقاليده، فيسمون فاعله في الدين زنديقًا، وفي الأدب شعوبيًّا، وفي العادات والتقاليد معتوهًا أبله.

وهذا الذي يسمونه «الرأي العام» يحفظ لنا أنماطًا من الحقائق المائتة، كالسردين في علبه، فنحترم ونقدس كل ما تواطأ السلف على احترامه وتقديسه بلا نظر ولا تأمل، ويتبع بعضنا بعضًا كقطيع غنم قائلين: قالوا … فعلوا … حكموا … فلنحكم!

الرأي العام غوغاء يتراكضون خلف عدو أفلت منهم، يستطيع أن يحولهم معتوه واحد عن وجهتهم — وهم مئات — فيمضون حيث أشار ولا يسألون ولا يفكرون. والعرف الذي يقدسه الناس أشبه بالكظيمة (الترموس) التي تحفظ لي القهوة فاترة حتى الضحى، أو كالخزانة المثلوجة تصون الطعام حينًا فلا يفسد ولا يدوِّد، فنأكله ولا نبالي بما بقي فيه من غذاء.

لقد عممنا فلنخصص، فأنا لا يعنيني الآن إلا الأدب، ولكن ما الحيلة والأدب جذر كل عدد من مسألة الكون العظمى، أو كالمنارة التي يراها المسافر في عرض البحر فيحل على ضوئها شيئًا من لغز ظلمته.

التعبير جسد الفكرة وقليلًا ما يمثل هذا الجسد الكلامي محاسن الروح كلها. وأحيانًا تكون تلك الروح — الفكرة — دميمة والألفاظ حسنة كبلهاء جميلة الوجه والجسد. تراها فترثي لجمال بلا عقل، يعجبك ولا يستهويك. أما نحن فغرضنا الفكرة الجيدة أو الصورة الرائعة التي لا يدل الكلام عليها إلا كما تدل الصيغ الرمزية على الأجسام الكيماوية، فهذه لا يفهمها إلا من مارس الكيمياء وعرف مصطلحاتها، وتلك لا يدركها إلا من فهم نفس قائلها. وأحيا الزمان الذي قيلت فيه، وأعد لها المكان كما يهيئ المخرج الحاذق ما يقتضي مسرحه من آلة.

أما التعابير التي تستعمل بلا كيل ولا ميزان، ولا تشكيل ولا تغيير، فما هي إلا مقاييس تخمينية لأفكارنا لا تقوِّمها تمامًا. إنها كتلك القوارير الجاهزة Specialité تعالج بها كل الأدواء، ولا تشفي من داء. فهيهات أن تؤدي الجمل كل ما يحسه الشاعر — لا نعني الوزَّانين — وهذا سبب الغموض في بيان عباقرة الشعراء، عربًا وعجمًا، حتى عدوا اللغات عاجزة؛ لأنها لم تلن لأغراضهم. ولولا هذا الضيق لم يكن التشبيه والاستعارة والكناية.

وكثيرًا ما يتعدى كلامنا الطفاف فنقول عن شيء: تافه، غريب، مدهش! ولو فكرنا لرأينا أننا أكرم من رو كفلر حين يهتز للإحسان فيهب الملايين. وهذا الإسراف والتبذير في التعابير والألفاظ برهان على أننا نفكر بعقول جيراننا ولا نعتقد ما نقول. فكم من مرة نكرر صلاة تعلمناها، وفكرنا هائم، فتموج الألفاظ على شفاهنا ولا تلج قرارة أنفسنا. فإذا شئنا خلق أدب جديد فلنخلعن أنفسنا التي ألبستنا إياها الأجيال، ونفكر بعقلٍ جديد وتعبير حديث.

إن في ذاتنا حقائق مخفية عنا ولا نحاول كشف غطائها، ولو فعلنا لكانت هي وحدها الأدب المنشود. فمعظم تقاويمنا ومقاييسنا الحاضرة ستنزل عن منصبها وتبدو لنا أنها من خداع النظر. ولا خوف على الأمم من الذين يفكرون تفكيرًا شخصيًّا، بل الخوف كله من الطرش المتعصبين لكل قديم، الذين يتبعهم جمهور من العميان المجاذيب، ولا يقولون ولا يفكرون إلى أين.

إن المتمسكين بالقديم على علَّاته، هم كأولئك الشيوخ الذين يتناسون عيوب زمانهم ورذائل جيلهم، ويتأسفون على أخلاقه الفاضلة ذامين الزمن الحاضر. ألم تتأملهم — تأملهم إذا شئت — كيف ينقرون الأرض بعصيِّهم متأوهين قائلين: دنيا زائلة. رويدًا رويدًا يا عم، أنت الزائل وحدك. لماذا لم تقرر هذا قبلما ابتليت بهذا الرعشان؟!

إن الجحود والإيمان والتمرد على القديم النخر من خواص القلب المخلص والروح النقية. والتجديد في كل شيء لا يرتجى إلا من هذه الفئة النادرة. ولولا «المنفعة» التي تهاجم الفنون تحت راية الرأي العام لسار الأدب وكل فن بخطى واسعة إلى القمة، ولكن حب الاشتهار بين «الجماهير» — شهرة تسبق صاحبها إلى القبر — يحمل الكاتب والشاعر والمصور وكل فنان إلى محاباة الناس والتملق لهم، وهكذا يظل المجدد مدثرًا بأكفان المتقدمين، وإن غسلها وكواها ليخفي ما علق بها من قيح وصديد.

الناس بلاء الناس، يقلد بعضهم كالقرود وتعجبهم حركاتهم «السعدانية» فلا يملون تكرارها. خذ الفكر العربي منذ ترعرع ونشأ حتى اليوم، وأرني عناصر التجديد فيه، ثم قل لي ماذا قال «العلماء» في كل جديد عند ظهوره؟ ألم يسموا الشعراء العباسيين مولدين ومحدثين، ولم يحتجوا بكلامهم؟ وأخيرًا أذكرك بما فعله بشار بابن عمه سيبويه، وابن الرومي بالأخفش.

يا حبذا هؤلاء المولدون، يا ليتهم نموا وكثروا ومَلَئُوا الأرض، كما قال رب التوراة لمخلوق اليوم السادس، حقًّا إنهم مولدون غير معقَّمين، ولو فكر كل عربي بعدهم وأعمل رأيه مثلهم لابتدع واستنبط تعابير ومعاني، إلا أن أكثرنا لا يعقلون. نرى وكأننا لا نرى، يسيطر علينا عقلنا الباطن ثم لا نتذكر شيئًا لا من أحلام اليقظة ولا من أحلام الليل، فندونه للعالمين.

ماذا يقول أدباؤنا في شعراء الأندلس؟ ألا يرون فيهم شعراء طراز خاص؟ بل ماذا يقولون في موشح لسان الدين بن الخطيب؟ ألم يقيموه نموذجًا للشعر الأندلسي؟ هلمَّ نناقش، على عجل، مطلع هذا القصيد الرائع الذي يرويه كل من ألم ولو قليلًا بالأدب العربي وشعره:

جادك الغيث إذا الغيث هَمَى
يا زمان الوصل بالأندلس

ماذا ترى؟ أفكر لسان الدين بعقل ومحيط أندلسيين؟ لماذا يتمنى الغيث؟ إنه لو افتكر لم يقل هكذا، لقد شغل عقله تصور شاعر الصحراء المتقدة أحشاؤه، فأنساه تواليَ المطر وغزارته في الأندلس، فنظم كأنه بيثرب أو منى، وقد التصق لسانه بحنكه، ولا يقع على نقطة ماء يبل لها طرف لسانه.

اتبعني يا أخي ولا تقف، فسأعرض عليك شريطًا أدبيًّا تراه كل يوم في سياحتك العقلية، واعذرني، إذا قلت لك، إنك قلما فكرت به تفكيرًا عميقًا. إنني أدعوك إلى التفكير العميق، فخفف سيرك، المفرق خطر، خطر الموت!

٢

وبعدُ فلا بد لهذا الإنسان العاقل المجنون من أوهام يرتع بها. إن خلص من وهم تعلق بآخر، كالحرباء في الشجرة الغضة الأشبة، فالإنسان يبني دائمًا دنيا جديدة يعيش فيها، وكلما ظن أنه أفلت من وهم ارتمى في حضن آخر، كمن يضل في مفازة يهماء تكذب فيها العين والأذن، فكيفما اتجه يستقبل أفقًا جديدًا، مدَّ العين والبصر.

خذ مثلًا من يسمون أنفسهم أحرار التفكير Libres Penseurs أحقًّا ما يدعون؟ لا، وحياتك يا أخي، قد لا يفكرون مرة واحدة، بحرية مطلقة، في حياتهم كلها. إنهم يتابعون من استنبط هذا الاسم بلا تفكير. وكما في الدين كذلك في الأدب، فالذين يعدون أنفسهم مجددين يقلدون ولا يدرون. وتلك مصيبة …

من يخل بنفسه ساعة ليناقش الأدب العربي كيف صرف عشرة أجيال تدهشه دعوى شعرائنا الصارخة وتبجحهم الأجش في كل حقبة حتى الساعة، ويستفظع تختر العقول وجمودها كالجليد. إذا فتح أذنه جيدًا سمع قعقعة سلاسل التقليد التي يسحبها شعراؤنا وكتابنا على بلاط الكهوف المظلمة كالحصان المقيد، ولا يستحي أن يقول: هل كان هؤلاء بلا عقول، ما خلا نفرًا منهم؟ وهذا النفر إن حاول التجديد ساعة في شبابه وأبدع بعض صور وخواطر — لا أقول أوحتها إليه ربة الشعر، فهذا تعبير مضغه العالم عشرات الأجيال وقد حان أن يلفظه بعد يقظة وجدانه — عاد في شيخوخته إلى صيرة المتقدمين، كأنما انحطاط قواه أعدَّ لبذور التقليد تلك التربة الفاترة فطرَّت والتفَّت، وأخذت الوراثة تعمل عملها.

فالتقليد داء أدبنا الوبيل، هو تصلب شرايين قلب الأدب العربي. والعتيق هيهات أن يلين بعدما يبس. فلنفتش إذن عن القلوب الفتية. إننا لهؤلاء نكتب هذه الحمية، نكتبها للشباب قبل أن تدركهم السن، فالحمية رأس كل دواء.

ألا ترى كيف نُدعى إلى حفلات الرثاء فنبكي على الموتى بعد ألف عام؟! ما أرق قلوبنا وأسخى عيوننا! لقد صار الشعراء في هذه الأيام كالنادبين والنادبات، وكثيرًا ما يمزجونهم في مأتم واحد. والغريب العجيب أن تسمع هؤلاء الشعراء يسألون الشمس ألَّا تطلع حزنًا على الفقيد الغالي …

اتفق أن كسفت الشمس يوم موت ابن محمد الرسول العظيم، فأراد أحدهم أن يعدها أعجوبة، فقال النبي الكريم: ما كان للشمس أن تنكسف لموت أحد! فهلا قرأ هذا شعراؤنا وكفوا عن تشييع الشمس وتكفينها وتحنيطها … وهي الأم المحيية، وهلا انثنوا عن تشبيه أحبابهم بها! فمن يستطيع أن ينظر إلى محبوبة كالشمس أو يقربها، أفلا يحتاج إلى نظارتين سوداوين؟ ثم من يحب وجهًا بضخامة القمر لا يضارعه إلا وجه جدنا الفرزدق رحمه الله؟ هذا تشبيه حلا طريئًا، أما اليوم فصرنا نقرؤه ولا نحس.

قلنا في مقالنا السابق إن أكثر الناس يفكرون بعقول جيرانهم، والآن نقرر أن معظم شعراء العرب فكروا بعقول نفر قليل ممن تقدموهم، وبأذهان من قلدوهم من العرب والعجم. فمن لم يفكر بعقل عمر والمتنبي والبهاء فكر بعقل موسه وبودلر ومالرمه وبيرون وغوت وغيرهم.

قال الشاعر العربي:

وسقى ضريحك صيب القطر

والله ما أدري لماذا هذه السقيا؟ أليفرح وينبت ويصير دمنة ترعاها الإبل والشاء؟ أم لترتوي كبده الباردة؟ أما نحن فأعدنا كلامهم بلا تفكير، ورددنا ما قالوه أجيالًا، ولم نتساءل: لماذا؟

وقال الناثر: سقى الله قبره، وبرد ضريحه، وطيب ثراه.

تلك صورة انتزعها الجاهلي من معتقده ومحيطه، فهو وليد أرض ملتهبة وربيب خرافات، فأشفق على من يهوى من الحر والعطش حتى قال طرفة بن العبد:

فدعني أروِّي هامتي قبل موتها
ستعلم إن متنا غدًا أينا الصدي

أما نحن فما يجعلنا نقول مثلهم؟ أديننا؛ وعندنا الجنة وفيها كل بكر نضير؟ أبلادنا؛ وهي غزيرة المياه لا يزورها الحر إلا لمامًا، وإذا مرت ريح الخماسين صرنا بحاجة إلى الدفء.

ألسنا نقول هذا لأننا نفكر بعقول غيرنا؟

وقف امرؤ القيس على الأطلال وبكى واستبكى، فأعجب العرب بهذه الصورة الجديدة، وفتنهم تعبيره الطريف «قيد الأوابد»، ثم أخرج صورًا جديدة لم يسبق إليها فخلع عليه الأدباء من ثنائهم حللًا ومطارف لم يلبس سليمان يوم عرسه أجمل منها، فاقتفى أثره الشعراء ووقفوا جميعًا حيث وقف، حتى أدرك المتنبي ذلك بعد أجيال فقال:

إذا كان مدح فالنسيب المقدم
أكل فصيح قال شعرًا متيم؟!

أما الناس فلم يقفوا مطيهم على هؤلاء الواقفين على الطلول بعد امرئ القيس، ولا جبروا خاطرهم بكلمة. بيد أن ذلك الازدراء لم يردعهم فظلوا يقفون ويبكون ويملَئون الليالي نواحًا وعويلًا، ولا يزالون يلوكون هذه التعابير ويمطونها كما يفعل الصبي بعلكته.

فيا عجبًا لمن يفكر بالوقوف على الطلول، وعنده فنادق الاصطياف التي يجري فيها ما لم يحلم به امرؤ القيس وعمر! فأين أصحابنا يقفون أمامها، وهي العامرة اليوم بحسن العرب والعجم، والخالية بعد شهرين من ذلك الجمال الفاتن العابث بالأحلام التي تزن الجبال رزانة!

وكان الإسلام، فانفرد الأخطل بوصف الخمرة وفاق من تقدموه وعاصروه، ومدح الملوك مدحًا يهزهم؛ لأنه نجيُّهم وجليسهم وحليفهم، فما بالنا نسمع حتى اليوم من هم كيوحنا لا يشربون خمرًا ولا مسكرًا يحدثوننا بلسان الأخطل وأبي نواس وغيرهما ممن لم يصحوا ساعة في حياتهم حتى قالوا: وما العيش إلا سكرة إثر سكرة، ثم لا يخجلون أن يمدحوا أو يرثوا من لم يروا لهم صورة وجه.

وفكر عمر بن أبي ربيعة بذاته فوصفها وصفًا واقعيًّا دقيقًا فأعجب الناس بقوله، وشاقهم تعبيره: حير الدمع، وماء الشباب، فقلده من أتوا بعده ولا يزالون. ولو درى المقلِّد أنه دون المقلَّد مهما سما خياله، واتسع فكره، وطاوعه الكلام، لعدل عن التقليد، ولم يصبه ما أصاب بسمرك داهية الألمان بعد خطاب إنكليزي ألقاه في لندن، فاستحق ثناء مفكري الإنكليز إلا واحدًا منهم فإنه هز يد المستشار قائلًا له: صُنع في جرمانيا. فعرق بسمرك، وضحك السامعون متألمين!

وأعجب العجب أن يقول شاعر قصيدة مطلعها «بانت سعاد» فيلبس أشرف جبة، ثم يأتي بعده زهاء مائة شاعر يقولون قصائد أولها «بانت سعاد» ولا يلبسون قميصًا، حتى يقوم في آخر الزمان شاعر طريد — أحمد فارس الشدياق — ويقول قصيدة استهلها ﺑ «بانت سعاد»، فيحمل على بارجة ويكرم أيما إكرام، ولا أدري بل لا أضمن أننا انتهينا من بانت سعاد.

قال امرؤ القيس: ألا أيها الليل الطويل ألا انجل

فرددوا قوله أجيالًا، حتى أدرك ذلك بشار الأعمى فقال:

لم يطل ليلي ولكن لم أنم
ونفى عني الكرى طيف ألم

إن في هذا البيت حقيقة لا يعلمها إلا المغرمون، فهم — وحدهم — يعرفون ماذا يفعل الطيف إذا طرق، وعرض بين الأهداب والأحداق، وكأن هذه الفكرة لم تَرُقْ لابن الفارض بعد أجيال، فأخذ يتأوَّه ويتململ على فراشه هاتفًا:

يا ليل ما لك أول
يرجى ولا للشوق آخر

وقال الأخطل: ما زال في ماردين الزيت يعتصر، فتابعه الكتاب والشعراء وقالوا: ما غرَّد القمريُّ، وما كرَّ الجديدان، وما اختلف الملوان، وما ذر شارق ولاح بارق حتى وما بلَّ بحر صوفة … وهكذا دواليك، وإن طلبت التتمة وجدتها عند الهمذاني صاحب كتاب الألفاظ.

وانتشر القرصان في بحور الشعر، وكثر صعاليك الأدب كثرة راعبة، فغزا المتأخرون المتقدمين حتى تناولوا الفكرة الواحدة وصبوها بألف قالب وقالب، كأن الغزو سنة عربية لا محيد عنها حتى في الأدب. وهذا دليل على أن الأحفاد لا يفكرون فقالوا الشعر في غرض واحد، ولم يختلفوا في التعبير إلا قليلًا. إن هذه القوالب لا تزال مصفوفة في دواوينهم كالتي يصنعها الفاخوري لجراره وأباريقه وأكوازه وصحونه، فإذا لم يقم من يحطمها ويبتدع أنماطًا جديدة تأخذها العين، فالأدب العربي لا يتجه اتجاهًا مستقيمًا إلى التجديد.

٣

وصم متمشرق العرب بضئولة خيالهم فنحا نحوه كل متمشرق ومستعرب، ولم يفكروا أن العربي البدوي رحالة لا يقر له قرار، فهو لا يثبت في مكان ليطيل التأمل، أنعامه سائرة وهو سائر وراءها، لا يستسلم لعقله الباطن لتتجلى له الرؤى فهو حسي واقعي، وإذا استمرأ المرعى واستقر بمكانٍ إلى حين، فهو كأخيه الذئب ينام بإحدى مقلتيه ويتقي بأخرى المنايا.

ويعيبون عليه ضحل مباحثه كأنهم يجهلون أن الراعي لا يحلق الأرض حلقًا، ولا يقتلع الأنبتة من جذورها، فشأن العربي في بيانه شأنه مع قطعانه، وهو كالنحلة تلثم الزهرة ولا تعضها.

ذاك شأن القدماء، أما الجدد فترسموا خطى الأولين قائلين: إننا وجدنا آباءنا على أمة، وإنا على آثارهم مقتدون. لم يخرجوا عن دائرة رسَمها لهم الغابرون لاعتدادهم بأنفسهم وتقديسهم السلف. أراحهم الإسلام من تأليه اللات والعزى، ولم يرحهم من تقديس شعرائهم وتنزيههم حتى العصمة.

قال بول كلوديل في معرض كلامه عن هيغو: لا شيء يميت الأمم كالاستنقاع في بؤرة التعفن والفساد، وكالاطمئنان إلى الراحة والارتضاء بالدون، وكترك الواجب والتردد في التضحية. وهذا ما أصاب العرب في الأدب فقصروا في مضاميره.

أما هؤلاء المتمشرقون، فلا أراهم يفهمون لباب الأدب العربي فهمًا صحيحًا، بل يفهمون تاريخه. وتفهُّم تاريخ الأدب غير تمحيص نصوصه، فترجموا الشعر العربي إلى لغتهم كما فهموه، ونظروا إلى ما قال الشاعر لا إلى كيف قال، ففاتهم جمال التعبير ولم يأبهوا للموسيقى، كأنما الشعر يقوم بمعناه دون مبناه، فجاءت تراجمهم متشابهة الصور متماثلة لأنهم فهموها فهمًا سطحيًّا.

لا يذكرني بهؤلاء المتمشرقين غير إخوانهم المرسلين الأجانب الذين يعظون في كنائسنا برطانة تضحك الثكلى فوق النعش، وتفقد الهيكل مهابته والشعب خشوعه، يظنون أن الوعظ ما يفعلون فتجيء عظتهم ملهاة ومسلاة.

فما قولك في الذين يزعمون أن الشعر الرفيع يقوَّم بالترجمة، ويجاريهم في زعمهم فريق منا؟ فالريحاني أدلَّ بهذا المذهب في كتيبه «أنتم الشعراء» وتمثل الأمثال.

لا أرى الشعر يقاس بالترجمة — نعني الشعر لا النظم — وكل قطعة فنية في كل أدب تذهب بروعتها ترجمتها. خذ الشعر الجاهلي وترجم منه ما شئت ثم قل لي ماذا أبقت منه الترجمة؟ وهذه التوراة ألم تفقدها الترجمة شيئًا بل أشياء من روعتها الشعرية؟

فلا تولِّ عنك الأمر. هاك، مثلًا، ترجمة كليمان هيار لشعر عنترة، فهو يقول: إن عنترة هو القائل: «إننا ندور كما تدور الرحى على قطبها، بينما سيوفنا تتفتت على رءوس محاربينا.»

أعرفت أي بيت ترجم من شعر عنترة؟ وهل بقي شيء يقال له شعر؟

خذ مثلًا آخر، ترجمه نجيب الحداد لقطعة هيغو (واترلو). راجعها في منتخباته، وقل لي أين الشعر فيها؟

قال شلي: كل شعر سامٍ لا يحد، قد نزيح ستارًا إثر ستار ولا نصل إلى جماله الحقيقي، فماذا يبقى من الجمال الذي يعنيه الشاعر إذا ترجم هذا الشعر؟ وقال أيضًا: «الشعر في رائحة الوردة ولونها لا في نسيج العناصر التي تتألف منها. فلغة الشعراء تظهر دائمًا بلونٍ خاص، وموسيقى لها صداها، وبدونهما لا تكون شعرًا، فترجمة الشعر ضرب من العبث، ومن يحاول ترجمة شاعر إلى غير لغته كان كمن يلقي بنفسجة في بوتقة ليكشف أسرار لونها ورائحتها.»

قال فاري: الناثر يمشي مشيًا، والشاعر يرقص رقصًا، وهل يكون الرقص بلا وزن؟ وأين الإيقاع الذي ينفق الشاعر ساعات وشهورًا لإحداثه إذا ترجمتَ شعره إلى غير لغته؟

يذكرني هذا القول ﺑ «ولز» عندما كتب كتابًا يعارض فيه سفر أيوب، فقال بلسان بطل روايته — وهو أب مات ولده، فعزاه الناس بخلود روحه في السماء — فأجابهم: أنا أحببت روحه لا جسمه.

فإذا كان الشعر يقاس بالترجمة فما هو الذي نسميه فنًّا؟ الفكرة التي يرمي إليها التمثال هي الفن، أم ما في التمثال من حياة؟ إن تكن الفكرة فلتقم نصبًا كما كان يفعل العرب ونسميه هبل والعزى، أو فلنحفر فكرتنا في حجر وندعو الناس إلى الإعجاب بها كفنٍّ. وإذا كان هذا فأي فرق بين تمثال يحفره رودين، وبين ما يركمه الصبيان من الثلج في سباط ليخلقوا منه تمثالًا؟

وقياسًا على هذا تُغني زجاجة من الورد عن جنينة ضاحكة، وألفية من ماء الزهر خير من مشهد بستان منور في صيداء، فلا تعود تشتاق أيار نفوس الورى، ولكن هكذا قال بعض المتمشرقين فلنقل مثلهم، فلنجترَّ ما قالوا، هكذا حكموا، فلنحكم!

قلنا: إن المعنى روح والتعبير جسد، وهذه الكلمة قالها العتابي منذ ألف عام وأزيد، ولكن الهمذاني وغيره من مصنفي كتب الألفاظ يريدون أن تكون الأجساد كلها متماثلة، ولو كان ذلك لملَّ الناس بعضهم وذهب ما نسميه «جمالًا»، فما قولك — أراحك الله ممن يفكرون بعقول جيرانهم — بوجوه متشابهة تروح وتجيء في مكان واحد؟

إن هذا ما أصاب أدبنا المسكين فكثرت الجرَّة فيه وصار كزًّا. تعابير ككسر يابسة في جراب متكرش، وإنشاء متورم كلحم نفخه الجزار، وتقليد طويل العمر فلم يستنبط بعد المتقدمين تعبيرًا جديدًا إلا شعراء قليلون جدًّا وأقل منهم استنباطهم، ما أشبههم بالنحاة الذين يصنفون كتب النحو ولا يزالون يمثلون ﺑ «عندي رطل زيتًا»، والزيت ملء الأرض في هذه الديار.

فلو قرأت أحمد شوقي، مثلًا، رأيت عنده تعابير جديدة ولكن أكثرها منبوش من أضرحة القدماء. فهو كالذي يعثر عليه الأثريون في مدافن جبيل والأقصر، وما أحدث شوقي بضعة تعابير حتى تناقلها عنه شعراء اليوم مثل: رفرف الخلد، وجارة الوادي … إلخ.

الشعر موسيقى قبل أي شيء آخر، ولهذه الموسيقى معنى، وإذا فقدته فهي ألحان مشوشة لا تطرب ولا تهز. وكما تتجدد الموسيقى وتتنوع هكذا يجب أن يتطور الشعر، ولن يدرك هذا إلا بخلق تعابير جديدة لها رنة وصدى ووقع طيب في النفس، فقد مللنا تعابير الأقدمين كما مللنا ونمل كل لحن يكرر ويعاد كل يوم. فالالتجاء إلى هذه التعابير الهرمة يقتل المعاني في أدبنا ويلهينا عن التفكير.

فالشاعر كيماوي؛ ألفاظه الأجسام يؤلف منها مخلوقات جديدة، وهو كالنباتي الذي يُخرج من نباتين نباتًا ثالثًا له خواصهما ولكنه غيرهما.

وكما يطعِّم النباتي شجرة برية فتصير بستانية، هكذا يفعل الشاعر في الألفاظ حين يركبها تركيبًا فنيًّا. أريد أن لا يُفهم من هذا أننا ندعو إلى نبذ القديم وتركه بجملته؛ إننا ندعو إلى ترك تعابير عمت حتى خمت، ندعو إلى أدب جديد ليس كما تخرجه لنا الطباعة من رسوم رافائيل وميكالنج، وليس كالخطوط التي يرسمها الصبيان على الحيطان، فمثل هذا الأدب يجب أن يموت؛ لأنه لا يكون من مواليد الحياة والسعادة، إننا ندعو إلى أدب له جمال الروح والجسد، فالمعاني هي الخطوط أما التعابير فهي الألوان.

لم ينبذ القدماء ابن الرومي إلا لجهومة ألفاظه وابتذال تركيبه وتعبيره. وهذا خير معبر لنا عن ذوقهم الفني، أما بعض أدباء اليوم فلم يكرموا ابن الرومي هذا التكريم الضخم إلا لابتلائهم بدائه.

ولم تكن الجرة في التعابير فقط بل اجتر العرب المعاني، فما زالت الحكمة تتناقل من أبي العتاهية إلى الزهاوي، وما زالت الأغراض هي هي، والتعبير هو هو. فلو تصفحت ما قيل في حفلة «الفردوسي» وحفلة «المتنبي» وما قيل في «وديع عقل» يوم موته، وقابلته بما قاله هيغو في تيوفيل غوتيه، ظهر لك أن تصيدنا تعابير الأقدمين ومعانيهم يقتل شعرنا الحديث.

وأقوى مشجع على هذا الشعر المخيض كيلُ الصحف الثناء لهؤلاء المجترين. فكل حفلة عند الصحف شائقة، وكل قصيدة عصماء رنانة أو قطعة من الخلود، وكل خطبة حجاجية طارقية. لا أكتم أنني سررت جدًّا بما قرأت من فصول نقد لحفلة المتنبي، وأعجبتني مقابلة الصحافة كلًّا بما يستاهل، فليت الكتاب الذين يعنيهم هذا الأمر يدققون أكثر، ولا يرحمون هؤلاء الذين يركبون المنابر ليسمعوا الناس مبتذل القول.

وما زال الشاعر يفكر بالتعبير الذي تَقَضَّى شبابُه وذهب وقته فهيهات أن يبدع. وما زال يتخيل أننا نقيسه بالمتقدمين لا يخرج من أقبيتهم السوداء.

قال الدكتور غرمانيوس المتمشرق المجري: «إن الشعر العربي في أدواره كافة يتجه اتجاهًا واحدًا نحو الإفراط في العناية بالألفاظ، إذ يتعمد الشاعر الغوص في محيط اللغة حتى يختار الألفاظ المختارة. وفي سبيل هذه العناية تضيع من بين يديه الغايات العاطفية والفكرية التي من أجلها نظم القصيدة، فكأن الشاعر يرى أن القصيدة ليست سوى طاقة من الألفاظ البارزة الجميلة.»

لا يا دكتور، إننا نشكو قلة الإبداع والتفتيش في محيط اللغة، إننا نشتكي أدبنا من تعابير بعينها يجترها الشعراء. فلو قرأت شعرنا قراءة متأنٍّ لرأيت أن شعراءنا لا يغوصون في محيط اللغة كما توهمت، بل يغوص المتأخر في بحر المتقدم حتى جاءت التعابير والألفاظ هي هي، وهذا الذي جعل الشعر العربي كريهًا مقيتًا، ما أشبه شعراءنا وكتابنا بولد يأخذ عن أبيه تعابيره ونبراته ومعانيه فلا ترى الإنسانية في هذا المخلوق إنسانًا جديدًا. إنَّ تزمُّت نقاد العرب حصر الأدباء في نطاق ضيق من التعبير فصار الأدب إلى ما صار إليه.

والجمهور أو الرأي العام أضخم حجر عثرة في سبيل تقدم الفنون كلها، فهو الذي يخلق الجمود في كل شيء وخصوصًا في الأدب والدين. فاللغويون يقفلون الباب بوجه اللسان، واللاهوتيون يسدونه بوجه العقل، ويحرمون التفكير ويتهجمون على أصحابه، كما فعل أحد الآباء في رده علينا بالبشير. ولا بأس عليهم أن لا يفتروا مدافعين عن الله كأنه الله من حزبهم، كما قال غوبلز، أما الرأي العام فهو عبد الفريقين.

قال جورج سورل: قد كان غضب باغي Peguy شديدًا عندما ظهر كتاب روستان Rostand وتناولته الصحافة بالإطراء وقامت الضجة حوله، وتغاضت عن كتاب باغي «جان درك» الذي ظهر في تلك الفترة عينها. اعتقد باغي أنه مضام مظلوم، فأفهمته أن الفن الحقيقي لا يمكن أن يدركه الناس كما يدركه الإنتاج العادي، وأنه يجب أن تنقضي عدة سنين على الفنان ليعرف قدره، فدقة الفن الفتانة لا تُفهم فورًا، وكل غرابة تدهش وتنبذ بادئ بدء.

ثم يعقب سورل على هذا الكلام قائلًا: أما باغي فلم يجب، والسكوت دليل الامتعاض. ويقول سورل إن «جان درك» باغي طرفة فنية … إلخ.

فإذا كان التجديد يسبب لصاحبه غضبًا وسخطًا في أمة كادت تبلغ الأوج الفني الأدبي، أفلا نعذر العربي إذا خشي التجديد ولم يجرؤ عليه، وأرضى الجمهور كروستان؟!

وهل أكثر خصومَ المتنبي غير جنوحه إلى التجديد؟! فشقه طريقًا جديدًا أكثر من المعجبين به — اللهم من الذين لا يقدسون القديم، وما أقلهم — ولا يرون في الشعر الجاهلي ما نراه نحن في قداسة سيدنا البابا من عصمة وتنزيه.

•••

والآن قد حان أن نمر مَرَّةً عجلى بما يمضغه الكُتَّابُ والشعراء من تعابير، وما يجترونه من جُمَل، وما تتلقفه أقلامهم من ألفاظ كأنها كرة وضعت لصوالجة.

يقولون: بعد الثريا عن الثرى. قالها عربي مولع بالجناس فحلت يوم مولدها. ويقولون: مزجر الكلب، قالوها يوم لم تكن الكلاب تجلس على مقاعد الرجال وفي أحضان السيدات وتنام بين أذرعهن. وقالوا: لله دره، ولفظ كالدر، وقصيدة عصماء، ونفثة مصدور، وكأن على رءوسهم الطير، وكمن أفواه القرب، وكلفني عرق القربة، وشاعر فحل، وافتض أبكار المعاني، وتقليم الأظافر، وذر قرن الغزالة، وأرخت حبالها الذهبية … إلخ.

أهكذا يكون البحث في محيط اللغة يا دكتور غرمانيوس؟! لا والله، فلو كانوا يبحثون لما حلَّت اللفظة الواحدة عندهم محل عشرين، ولو كان التنقيب الذي زعمت لما كانت هذه الرخاوة في منثورنا ومنظومنا. إن ألفاظ العربي اليوم كعباءته، فهي لا تصلح لواحد، وتصلح لكل مِنَّا على وجه الأرض، هي ثوب يشمله وإن لم تفصل لتلبسه.

فلنسأل الدكتور المتمشرق — إن هذه الألقاب الضخمة ترعب — ما يقول في تقليم الأظافر، وقد صار موضة يدِين بها حتى بعض الكهنة العصريين. وعندنا، بعد، من يستعمل هذا التعبير كأننا في قلب الصحراء، زمن تأبط شرًّا، والشنفرى، وكل صعاليك العرب.

وما رأيه بعرق القربة، والمياه توزع على البيوت وتكاد تخر في كل غرفة؟! بل ما رأي جنابه بافتضاض أبكار المعاني، أليست من ملائمات الشاعر الفحل؟ كم واحدًا يفكر بما يكتب عندما يخطها على الورق؟

بل ما رأي القراء بالزمخشري القائل: «فلان فقيه عالم بذوات الضبع وذوات الحمل»؟ إنني أعجب كيف لم يهتد إليها الكتاب ليستعملوها في وصف الشعراء والفحول الذين يفتضون أبكار المعاني.

ولله دره، أي در نعني ساعة نقولها متعجبين ولا نياق عندنا؟!

وما تقول بنفثة مصدور، وكثيرًا ما يستعملونها؟ أترتاح النفس كثيرًا إلى رؤية البصاق مصورًا على الورق؟! أشهد أن نفسي كادت تجيش عندما قرأت مثل هذه العبارة لولي الدين يكن: «عينان كأنهما بصقتان»، وأسفت أن يستعمل أديب متأنق مثل هذا التعبير.

وأفواه القرب ما يذكرنا بها وعندنا الميازيب والشلالات؟!

وطلوع الشمس أنظل نعبر عنه بذر قرن الغزالة، وأرخت حبالها الذهبية؟ فأين الذهب لنذكره بعد، أما غرق مع ذكاء الشاعر فياض؟

وما رأيك بشاعر كالبارودي يصرخ:

هل من فتى ينشد قلبي معي
بين خدور العين فالأجرع

وعنده مدينة تضيع فيها الجِمال المحملة هشيم برسيم وأرز، ومدنية تستغوي الحبيس. وما تقول بماء وجرة يذكره ابن عاصي حماه — الفارض — القاعد على ضفاف النيل؟

حقًّا يا كولديل إن التعفن آفة الفكر البشري، وما أكثر المجترين!

٤

أما الصوَر التي اجتروها في قيلولة الفكر العربي، وقيلولة الفكر أجيال وأعقاب، فنظرة إلى أي ديوان شئت تريكها متكئة على الآرائك والصفف، شبه بدويَّ النظرة بالسهم، والحاجب بالقوس، فاجتر تشبيهه كل من قال شعرًا من المتبدين والمتحضرين. لقد شبه ذاك البدوي بما لديه من آلة خَبَرَ آلام وقعها ونزعها، فما للحضري يرددها حتى اليوم ولا قوس عنده ولا سهم؟!

وشبه آخر القد بالغصن، والأصابع بالعناب، والعين بالنرجس، والخد بالورد … إلخ، فصارت قدود الحسان جنات تجري من تحتها الأنهار. وشبه أحدهم صدغ الحبيب بالعقرب فصرنا لا نرى إلا عقارب يصورها المتأخرون والمتقدمون تارة شائلة أذنابها وطورًا مرتخية.

إن زعْم المتقدمين «من سرق واسترق فقد استحق» مهد لهذه الجرة ووطأ لها؛ فقلَّ التفكير وابتذل التعبير. وإذا شئت أن ترى فاستعرض كتب الأدب كالمثل السائر والصناعتين والوساطة وغيرها. لسنا ننكر على بشار إجادته حين قال:

وكنا إذا الجبار صعر خده
مشينا إليه بالسيوف نعاتبه

فقد بز الفرزدق بصورة فيها كل الفن واللباقة والتنوق، ولكننا نلوم أبا نواس في تضمينه بيت بشار وإفساده إياه. قال بشار:

يا رحمة الله حلي في مساكننا
حسبي برائحة الفردوس من فيكِ

وقال أبو نواس:

يا رحمة الله حلي في مساكننا
وجاورينا، فدتك النفس من جار

ماذا قال أبو نواس؟ ألا ترى أنه لم يفكر، بل خطر على باله مثل النحاة: يا جارتا ما أنت جارة، وعنت له التفدية، وما أشيع هذه الكذبة عند العرب، فقال: فدتك النفس من جار، وكمل بيته. وأبو نواس شاعر إمام، قال الجاحظ في شعره: هذا شعر لو نقر لطن. أرأيت عمل الرواسم في الأدب العربي؟!

قال النقاد: إن بشارًا شاعر لا صبر له ولا جلد. ما صدقوا فيما زعموا؛ فبشار جليد في الشعر الخالد، ولكنه كان مهزالًا ماجنًا فترك كل شيء في شعره على علاته، اللهم في الشعر الذي نسميه شعر الساعة، يقوله الشاعر إرضاءً لمن يبرمونه، أما فيما عدا هذا فلبشار شخصية أبرز من الشمس وأتمُّ من الريح ولا تجدها في شعر شاعر عربي.

قال طرفة الجاهلي: فدعني أروي هامتي … إلخ، فقام شاعر بعد أجيال يقول:

فيا رب إن أهلكْ ولم ترو هامتي
بليلى أمُتْ لا قبر أعطش من قبري

كأنما فتنت هذه الصورة شاعرنا فنسي دينه الحنيف مهدم خرافات وعقائد الجاهلية.

وقال ديك الجن الحمصي يجتر في إحدى قيلولاته:

وعقدتُ بين قضيب بان أهيف
وكثيب رمل عقدة الزنار

فصرنا نرى في قدود الأحباب أغصانًا، وفي الأكفال كثبانًا. شكل غريب مدهش تصوره ديك الجن فمثل لنا حبيبه كالنملة أو الزنبور. إن كثيب هذا الشاعر المأفون يغلي ثمنه اليوم الاستعمار الصهيوني، ولا يحيي مواته إلا خبير بزراعة الليمون والموز.

وبعدُ فما أصرح الأخطل القائل: نحن معاشر الشعراء أسرق من الصاغة. لقد صدق التغلبي، وإن يسرق فقد سرق أخ له من قبل، هو الأعشى، كلاهما سرق صورة النابغة، ولكن الأخطل أخذها بشحمها ولحمها فقال: وما الفرات إذا جاشت حوالبه … إلخ.

إن هذا التقليد عاق الفكر العربي عن اتجاهه، فلم يتجه شعراؤنا في تفكيرهم إلى سمت معين، ولم ينشدوا مثلًا أعلى ولا افتتحوا آفاقًا جديدة في تفكيرهم وتعبيرهم. تقرأ شعر متأخريهم فلا يصح لك منه شيء يقال له شعر لم يقل مثله، وترى التضاد في شعرهم جميعًا. وإليك مثلًا أكبرهم شيخ المعرة، فبينا هو يقررنا على قضية إذا هو يضادها حين تراءت له أخرى أحب أن يتبناها، فكأنما هو ينظم أرجوزة في النحو والصرف كابن مالك، ولذلك تظهر شخصية شعرائنا كتنين رؤيا يوحنا بسبعة رءوس، ولا يُفهم من هذا أن المعري إمَّعة، بل إنه كالراديو تتغلب طفيليات أحيانًا على ما يذيع على الملأ.

خذ مثلًا بشارًا وعمر وأبا نواس والمتنبي وابن الرومي وغيرهم، فإنك تراهم مجددين ومقلدين في وقت واحد. أذكر لك منهم ابن الرومي، أما أنت فتقصَّ من شئت، فابن الرومي مُجدد ومُقلد في قصيدة واحدة، وما تلك إلا قصيدة «وحيد» المغنية التي يعجب بها أدباء عصرنا، ففيها يشبه الرومي قدَّ وحيد بالغصن، وجيدها ومقلتها بالظبي، وخدها بالنار، وريقها بالبرد، ثم يراها ظبية وقمرية، وينعت ألحاظها بالضعف ولا ينسى عقد السحر التي خبرنا عمر في «داليته» إن هندًا التي لا تنجز ما تعد نفثتها له، وهلم جرًّا. أما حين وصفها فأرانا «وحيد» راقصة نكاد نصفق لها اليوم، ونعطيها نصف ملكنا كهيرودوس.

وأذكر لك شاعرًا آخر من منافسي المتنبي وهو الببغاء — والببغاء والسريُّ الرفاء لو لم يظهرا مع المتنبي لكاناه — فالببغاء يصف الربيع ويذكر نرجس العيون، وشمس العقار، كما فعل المتقدمون ويفعل المتأخرون والمعاصرون.

ومن كتابنا الأحياء خذ مثلًا العقاد، فإنه يكتب كتابًا ضخمًا في ابن الرومي سبقه إلى موضوعه المازني، ولم يزد العقاد عليه إلا دراسة عصر ابن الرومي، وهي بالتاريخ أشبه منها بالدراسة الأدبية الفنية، دراسة واسعة غير عميقة، كأدب طه حسين الذي عرفه العقاد في هلال يوليو ١٩٣٥.

ثم حاول العقاد أن يجدد في الشعر فنظم ما سماه غزلًا فلسفيًّا — ما أقل عقل الحبيب المتفلسف! وكرَّ كرة أخرى فنظم لنا قصيدة خنثى، لا هي فكاهة ولا هي جد، بل هي نظم قنفذي ككل شعر عقادنا الجليل، وإليك مطلعها:

البيلا البيلا البيلا
ما أحلى «سُلب» البيلا!

وإن شئتها كلها فارجع إلى هدية الكروان (ص١٣٩). نشدتك الله أن تقرأ هذه الرائعة، فالبيلا هي البيرة، وسلب هي شُرب!

وتغرب العقاد فنظم في الشيطان الذي لم يبق شاعر غربي، قديم أو جديد، إلا قلد شاعر عوص — أيوب — وقال فيه شعرًا، تلقيت مجموعة شعرية موضوعها لوسيفورس، فجاءت قصيدة العقاد التي سماها طه حسين ملحمة، من الشعر العقادي البارد الذي يقول خيرًا منه طالب موهوب متمرن، شعر لا يرنُّ ولا يطنُّ، أخرس يتوكأ على عصوين ويتهادى بين اثنين — عبد الرحمن صدقي وطه حسين — فأنَّى له يرقص رقصًا كما يريد الشعر بول فاليري، وصاحب هذا النظم، «الفقير» إلى ربة الشعر، كما يوقع المتواضعون من رجال الدين يحدثك دائمًا عن الفن ويتغنى بجماله، رحم الله مجنون ليلى فقد مات ولما يبلغ وطرًا.

فلو تكون الأعمال بالنيات في الشعر أيضًا لوقع أجر هذا الفاضل علينا وجعلناه فوق سدرة المنتهى حيث وضع بشارة الخوري أحمد شوقي، ولكن الفن لا رحمة ولا هوادة فيه؛ الفن غير الدين.

ويدهشني أن من ينظم مثل هذه السخافة التي يسميها طه شعرًا يقول بمعرض كلامه عن الأدب العالمي (صوت الأحرار ٩ ك١، ١٩٣٣): «ربما كان لنا الآن أدب صالح للذيوع في لغات العالم لو تيسرت له وسائل الذيوع.» طبعًا لا يعني العقاد غير شعره؛ لأن شوقيًّا في نظر العقاد كالعقاد في نظرنا أو أقل.

فأي وسائل ذيوع يرتجي العقاد غير الترجمة؟ أما قال صالح جودت في مجلة الأهرام (١ ديسمبر ١٩٣٤): «رحنا نعرض شعره — أي العقاد — للترجمة إلى الإفرنسية والإنجليزية، وندفع بعض الأدباء لترجمته إلى اليونانية.»

حاشية: إخال أو أزعم، كما يقول طه، أن بغية العقاد من ترجمة شعره إلى اليونانية أيضًا أن تتيسر للناس المقابلة بين شعره وشعر هوميروس … أذكر جيدًا أنني قرأت للعقاد كلمة في الإلياذة حين ترجمت، فرأى حضرته شعر هوميروس يكاد يكون هراء في هذا العصر. قد يصح هذا الكلام بشعر هوميروس إذا قارناه بشعر العقاد …

ثم ماذا صار يا صالح؟ ألم يصر شعر العقاد عالميًّا؟ حقًّا إن قصيدة البيلا والغزل الفلسفي وقصيدة الشيطان التي زعم لنا طه أنه قرأها وقرأها وقرأها … لمن روائع الأدب العالمي، ومثلها كل ما نَظَمَه العقاد ببراعته وكَتَبَهُ بنبوته.

وهذا إيليا أبو ماضي يحاول التجديد، ومومياءات الأقدمين تغويه بمظاهر لا تعد، كأنها الشياطين في أسطورة القديس أنطونيوس (راجع رواية فلوبير) فيرصفها بين عذاراه الطريئة، فتبدو كحصيات فسيفساء في جدار جل ما فيه حديث. خذ مثلًا قصيدته التي يختم كل مقطع منها ﺑ «لم أجد أحدًا» ابحث لتعلم من أي شاعر قديم استعار هذه «اللازمة».

ثم خذ قصيدة أخرى سينية عنونت بهذا الشطر «وبلادنا متروكة للناس»، فتراه فيها يشبه كامرئ القيس «بمسابح الرهبان في الأغلاس» كأنه نسي أن زمانًا كانت فيه للرهبان مسابيح تضاء في الأغلاس قد انقضى عهده. ثم لا يحجم إيليا أن ينفحنا بالكذب، ويأخذ تعبير الشاعر الأموي عينه «حز مواسي» ليسد به ثلمة قافية في القرن العشرين.

ويستعمل هذا المثل، محشورًا، فيقول: وضربت أخماسي إلى أسداسي. ومحصول كلامه دق الكف بالكف للتحسر، وليس هذا مفاد المثل العربي: ضربت أخماسًا إلى أسداس، إلا إذا كانت يد من يقوله سداسية.

وفي قصيدته «الفراشة» يخاطبها قائلًا:

وكلما نورت في السفح زنبقة
حثثت للسفح من شوق مطاياك

ذكرني تعبير أبي ماضي هذا بقول المنفلوطي لفرح أنطون، حين عاد من أميركا إلى مصر أو حين ذهب إلى أميركا — لا أذكر جيدًا:

إن كنت لا تبغي لنفسك راحة
فأرح مطيك والدنى وبنيها

فعقب فرح المجدد على بيت المنفلوطي هذا بقوله: إننا ركبنا الباخرة فلانة فلا خيل ولا نياق.

فنصيحتي الأدبية إلى الشاعر أبي ماضي أن ينقي شعره من هذا الزؤان، من هذه التعابير البائخة، ويبدع تعابير جديدة تلبق بشعره العصري، فالشعر موسيقى أولًا، والنغم المبتذل لا يهز النفوس.

ثم ما قولك بالزهاوي — أراحه الله في ضريحه من منكر ونكير — القائل في فردوسيته التي يأتي ذكرها مع الفردوسيات والفردوسيين:

ولقد سرني كما سر غيري
ما بها من نزاهة الأحكام
زرت بالأمس الروض أمتع عيني
وإذا الورد فيه ذو أكمام

أي فرق بين هذا الكلام وبين محليات الصحف؟ فهل تقول بعد هذا: من قال السماء فوقنا، والأرض تحتنا ماذا قال؟ ولكن كل كلام يستقيم وزنه هو الشعر عند الزهاوي والعقاد، فهما بيضتا دجاجة واحدة في النظم، وإن رجح الزهاوي وشال العقاد في الميزان. فسبحان مقسم الأرزاق وواهب القرائح!

٥

وهذا أخونا بشارة الخوري يقول قصيدة وطنية، مطلعها: عش عزيزًا أو مت بها مستقلًّا. فيذكرنا بالمتنبي القائل: عش عزيزًا أو مت وأنت كريم.

ثم افتتح قصيدة أخرى بقوله:

جعلت رسولي نسيم الصباح
إليك وطرسي خدود الملاح

مليح وأي مليح هذا الطرس يقده صاحبنا من خدود الملاح ليصح فيه قول المثل: من يقص من جلد غيره يوسع. أما رسوله نسيم الصباح فيذكرنا بقول «الميجانا»: يا ريح ودِّي للحبيب سلامنا. وقد يكون شاعر الميجانا أروع وأرق.

وفي هذه القصيدة التي بناها شاعرنا على الحاء لا لشيء إلا لأن المنظومة له اسمه صلاح، يأخذ بشارة قول بشار:

إذا أيقظتك صروف العدى
فنبِّه لها عمرًا ثم نم

فيقول:

إذا شاقك الشعر حر النجار
فنبِّه له العربي القحاح

قابل أيها القارئ العزيز، بين القولين، تجدهما متقاربين كالسميَّين؛ أي بشارة وبشار، ثم قس أنت على ما قيل ما لم يقل، ولا تكلفني وحدي الاستقراء.

ونظم الشاعر الذي لا يجحد فضله على الشعر العربي، فقد أجرى في عروقه دمًا جديدًا. وهذا الشاعر هو خليل مطران، قال شعرًا ستصغي إليه الأجيال مهما عتق، ولكنه حين شاء أن يرثي حافظ إبراهيم قال:

عظَّم الله فيك أجر الضاد
وبنيها من حاضر أو باد

وشكر الله سعيك يا خليل، قف حدَّ الحيط حتى نعزيك بالفقيد العزيز: أليس هذا من الاجترار يا صاحبي. إن في قصيدتك الطويلة أبياتًا من الشعر، ولكنك أردت أن تطولها فقعدت تجتر كالعنز في القيلولة.

والآن أنفض يدي من المجترين، ولا أقسو على مطران؛ لأنه كريم لا يرد طالبًا، فهو على دين بشار في هذا، يرضيهم كما أرضى المرعث ربابة ربة البيت ليأكل البيض طازجًا. ثم إن عملًا آخر يدعوني، ولهذا أترك الطريق مفتوحًا لمن يجيء بعدي فينقب عن المجترين. فهذا الاتكال على القدماء وهذا الغزو الأدبي، وهذا الاجترار، بل هذا الاستنقاع كالبوشرية قبل أن شُجِّرت، وهذه الضفادع التي تنق فيها هي التي جعلت هذا الجمود في أدبنا العربي. وقد أدرك ذلك أحدهم فقال في أحدهم: لو قيل لكل كلمة ارجعي إلى صاحبك لما بقي له واحدة!

وآفة رواسم الأقدمين تنتشر اليوم في شعراء الجيل الطالع — الذين يسمون رمزيين — قال جبران: أشباح الليل؛ لأنه كان يسهر الليل وينام النهار، فسمعنا كثيرين يقولونها مع أنهم كرسل المسيح لم يسهروا معه ليلة واحدة. وخلق الشاعر سعيد عقل صورًا وتعابير فأغار عليها الذين استحلوها حتى عجَّ بها شعر الناشئين والبالغين فأفسدوا الطريقة وجنوا عليها وعلى صاحبها. ونبش طه حسين تعابير من خزائن العرب مثل: أنا زعيم، وغيرها، وألح علينا في استعماله إلحاح الذباب على قاضي الجاحظ، ثم كرر وقال: مليح ومليح ومليح فقاموا ينحون نحوه.

فلندع للرجل تعابيره يا بشر، فكروا وانبشوا مثله فالميراث واسع، رحم الله الأجداد كم أحيوا، وما أكسل الأحفاد الذين لا يرجعون إلى دفاتر جدودهم العتيقة!

إن قلة التفكير تولد الاتباع الأعمى. قال طه حسين، كما قال الشدياق منذ قرن: إن تكلف السجع صناعة ممقوتة. فتابعه الكثيرون بلا تبصر حتى أصبحوا يرون كل سجع شنيعًا، وكل «بديع» رديئًا، ولم يقم من يفكر تفكيرًا معاكسًا غير زكي مبارك، فكتب كتابه القيم «النثر الفني» يعارض المتمشرقين وطه حسين الذي تابعهم ويتابعهم دائمًا.

وغير بدع أن تجد الاجترار في إحدى صور الأقدمين، أو في معنى من معانيهم يعالجه العشرات منهم، ويرددونه في كير نظمهم، ولكن الغريب العجيب أن يجتر شاعر معنى واحدًا من معانيه فيقوله مرارًا كما فعل شوقي في بيته: وإنما الأمم الأخلاق … إلخ، حتى يقول الرافعي في نقد صديقه شوقي بعد موته: ومن عيوبه التكرار؛ إن له بيتًا يدور في قصائده دوران الحمار في الساقية!

وقصارى الكلام أن الطريق التي نسلكها لا تؤدي بنا إلى ما نرجو من أدب رفيع، فإذا ظللنا نجتر ونعلك منبطحين عافطين كالعنز فنحن على ما نحن. إنه لن يكون لنا أدب عالمي ما لم نفكر مثل العالم. فلندع ما مات من كلام السلف، ولنفتش عما يخلفه في ديوان العرب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤