ديوان الشبيبي

إن كنت، ممن تستهويهم الألقاب الداوية، فالحديث الآن عن وزير خطير صاحب معالٍ، وعين من أعيان الدولة العراقية الجليلة. أما الذين لا يذهب بوعيهم أفيون المناصب الخطيرة، فسأحدثهم عن محمد رضا الشبيبي الشاعر فقط. هب أن كرسي الشبيبي وسع السموات والأرض فهو، لا محالة، زائل، أما ديوانه فباق. وهل يعنينا اليوم من الطغرائي غير لامية العجم؟ إن لقب ذي الوزارتين وصاحب المعالي زائلان، أما اللامية والديوان فميراث الذرية.

الشبيبي واحد ثلاثة من شعراء العراق، وكأن الثالوث — ومهده الشرق — يتجلى عندنا دائمًا حتى في الشعر. ففي الجاهلية والأموي والعصور العباسية حتى أيامنا والتقسيم مثلث، والشعر مدرسي كله، وهذا ما نواجهه في ديوان الشبيبي. إذا قلنا الزهاوي كأبي العتاهية، والرصافي كالبحتري، مثلًا، فالسيد الشبيبي كالشريف الرضي.

الشبيبي شيخ معمم. لست أعرفه معرفة عين، ولكن البادي من رسمه الوقور أنه في خلقه وسمته أشبه بشاعرنا الكبير أمين بك ناصر الدين، المنزوي في كفر متى، وفي الزوايا خبايا. فهذه الديباجة العباسية المتماسكة كالدمقس، اللماعة كالأرجوان تقرب ما بين الرجلين، وهذه الثورة الملتفة على نفسها التفافًا لولبيًّا كالإعصار هي هي في ديواني الشاعرين.

رأيت رسم الشبيبي فخلته ينشدني: كليني لهمٍّ، يا أميمة، ناصبِ. وتخطيت إلى الديوان فإذا فاتحته:

لم يبق لي إلا الشباب وإنه
ديباجة ضمن الأسى إخلاقها

وأيقنت أن الليل الذي يقاسيه بطيء الكواكب حقًّا؛ إذ قرأت:

كلاني أكابد في العراق بلية
وليلًا بأرجاء العراق بهيما

ولكنه يصرح بعد تهدار فينفس عن آلامه المقهورة:

ألا مدرك هذي البلاد وأهلها
فقد لقيت من جور ساستها جهدا
تفرِّغ أيدينا لتملأ جيبها
وتنهكنا جوعًا لنشبعها حمدا

وتزول الشبهة متى قلنا إنها من نظم سنة ١٩١٤. ويبدو له تخاذل قومه فيقول:

وقيل تقاربنا وها نحن جيرة
ولما بدا الصبح انثنى قربنا بعدا

وكأنه قد آيس من كل ما رجا فقال:

كيف اتحاد بني الدنيا وهم بشر
موزع بين أشكال وأقسام
العلم علم خرافات وشعوذة
والدين دين منامات وأحلام
موحدون ولكن عز أنكمُ
نمتم وقد نهضت عبَّاد أصنام
وإن ما بين آرائي وبينكمُ
بعدًا كما انفسحت أبعاد أجرام

والشاعر كالنبي تشغله شئون الجماعة كأنه وصي عليها، وهذه إحدى طبائع الشعراء الكبار، فهم وكلاء الأمة الجبريون، والمسخرون أيضًا. ولولا ذلك ما عناه من أمرها ما عناه:

لولا التفكر في مصير بلادكم
تالله ما ضاقت عليَّ بلاد

والسيد الشبيبي على رأي بطاركتنا القدماء الذين رأوا في شق طرق المركبات انتهاكًا لحرية الجبل، كما رأى شاعرنا في خط بغداد فقال:

مدوا الحديد وما اهتززت لمده
سكك الحديد بأرضنا أصفاد
طرق الحديد إذا التوت وتشابكت
شرك به شرف العراق يصاد

وللشاعر في هذه القصيدة المسماة «الباكية» زفرات حرَّى، ولا سيما حين يرى الزعامة سلمت لزعانف:

انظر إلى الأعجاز كيف تصدرت
وعمائم السادات كيف تساد!

ثم يهيب بقومه النيام:

غفوا وعيوني للعراق طوامح
وشابوا وودي للعراق صراح

ويرى سوء فهم الدين علة ما هنالك فيهتف:

ولو أنصف الناس الديانة أجمعوا
على أنها فيهم نتيجة وجدان
ولكنهم حتى ذويها وأهلها
بعيدون عن عرفانها بعد كيوان
كأن لم يكن إنجيل عيسى بن مريم
ولا أوحيت توراة موسى بن عمران
أنا شافعي إن لم يكن لي شافع
إلى الله، ثم الحق حبي وإيماني

وفي البيت الأخير معارضة للذي قال: الحب ديني وإيماني. أما هذا الانكماش فلون محلي يخلعه الاستيطان على الشعراء كما يخلعه على الطيور، والشعراء طيور خالدة.

ولا يسكت الشاعر السيد — كالإمام علي كرم الله وجهه — وفي الحلق شجى وفي العين قذى، بل يصرخ:

يا قوم، ما الدين عادات معطلة
وإنما الدين تحليل وتحريم
لا تجعلوا آلة التفريق دينكمُ
فالدين عن وصمة التفريق معصوم

وعملًا بالقاعدة الذهبية: «ابدأ بنفسك»، يعنف النجف الأشرف بقوله:

متى إذا حث إقليمي شقاشقه
عجت ترد صداهن الأقاليم
أظهرت بعض عناء لست أكتمه
لكن جلَّ عناء النفس مكتوم

اللهم فرجًا. وكأنه يئس من تقويم الحطب فعاد إلى الغصون فقال يخاطب الشباب في صيداء:

أنتمُ جيل جديد خلقوا
لعصور مقبلات جددِ
كوِّنوا الوحدة لا تفسخها
نزعات الرأي والمعتقد
أنا بايعت على أن لا أرى
فرقة هاكم على هذا يدي

ثم يصفر مخضوضر الرجاء فيقول في ساعة سوداء، وللشعر ساعات:

شباب طائش نزق
وشيب ما بهم رمق
وشعب طالب ثقة
فدلوه بمن يثق
ففي آرائنا شيع
وفي أحزابنا فرق
قد استشرى خلافكمُ
ألا يا قوم فاتفقوا

وسئم عنعناتنا وتفاخرنا بالقديم كأننا البطاطس؛ خير ما عندنا تحت الأرض، فقال:

زلت حديثًا أمة
أبدًا تفاخر بالقدم

أما المرأة فما منحها الشبيبي طرف عينه إلا ليقول لها: الزمي البيت:

بتدبير المنازل هن أولى
وهم أولى بتدبير النزال

وفي قصيدته «روح الرسول» نفحة من إخوة كرامازوف إذ يقول:

وأكبر ظني لو أتانا محمد
للاقى الذي لاقاه من أهل مكة
إذن لقضى: لا منهج القوم منهجي
ولا ملة القوم الأواخر ملتي

ومن عين شمس اليقين ضياء ينتقل إلى ظل شك عابر فيقول:

فيا عالم الليل هل رجعة
إلى عالم منك أوفى سنى
ويا أيها الأزلي القدير
أساراك نحن فرفقًا بنا

وتتوالى المحنة فيقول:

يظنون أن هذا العصر عصر هداية
وأجدر لو ندعوه عصر ضلالات
فإن خرافات مضت قد تبدلت
حقائق إلا إنها كالخرافات

ثم تظلم الفكرة وتضيء في وقتٍ معًا:

خبرونا عن السماء وقالوا
فلك دائر وشكل كري
ربما صح ما رأوه، ولكن
خير رأييك ما يراه النبي

وينزع نزعة صوفية في قصيدة بين العقل والقلب، ولا يحجم عن لزوم ما لا يلزم، ثم يصرخ من وجد اللحم والدم:

يا واردي ماء الحيا
ة تذكروا أنَّا عطاشى

ويشتد به الوجد فيخرج من جلد رصانته، والحب خداع يصغر العظائم فيقول:

لولا انفراد أحبتي بخصالهم
ما سار لي في الدهر بيت مفرد
يتجسد الطائي بي وقريضه
والبحتري من الفحول وأحمد

وتتراءى له الدنيا كعفطة عنز فيلقي — كالإمام — حبلها على غاربها ويقول قبل أن يختم باب الوجدانيات:

أنا من سيَّر الكواكب شعرًا
تتوالى بكم فيملأن كتبي
ربما جاء في القريض نبي
همه نسخ آية المتنبي

بيد أن تلك الآية لم تنسخ، ودليلنا على أنه كان يمزح هو قوله لسيد الشعراء في ذكراه الألفية:

يا شاعرًا قاد القلوب لغاية
لم يدن منها شاعر أو قائد

أما رأي السيد الشبيبي في الشعر فكرأي بشار:

متى خيروني في الكلام ونسجه
رضيت بسيط القول لم أتأنق

وأحزنه تقصير المتأخرين فقال:

أهيم بسر الابتكار لأنني
وقد طال عهدي لا أرى غير ناقل

فما حبسه يا ترى في حصون القدماء حتى لم يحد عن دربهم قيد شعرة؟ لعله رعيه الحقوق كما قال:

ولولا حقوق رعيها لي عادة
لكان لمهري أينما جال ميدان

ورياضة النفس على الأخلاق الفاضلة تحل المحل الأول عند السيد حتى قال فيها:

أصح عباد الله دينًا ونحلة
مجاهد نفس لا المصلي المسبح

ولا بد من القول أن براغيث الحب أكلت الشاعر الشبيبي حتى قال:

تفاهمتا عيني وعينك لحظة
وأدركتا أن القلوب شواهد

وكأن الحبيبة أعجبها منه ذلك فقالت له: ثنِّ، فلم يجعلها بيضة الديك فقال:

وأسهرننا الشهب الحاكيات
عيونًا يشاركننا في السهر

هذا البيت من قصيدة عنوانها «حديث القمر» ويا له حديثًا طليًّا لذيذًا فاقرءوه في الديوان.

وخير ما نختم هذه الكلمة عن الشاعر هو قوله:

فتنة الناس، وقينا الفتنا
باطل الحمد ومكذوب الثنا
كلنا يطلب ما ليس له
كلنا يطلب ذا حتى أنا!
أيها المصلح من أخلاقنا
أيها المصلح، الداء هنا

صدق الشاعر، وعجز الناقد عند هذا الطمع الأشعبي فصيَّر خلانه أعداءه. أما السيد الشبيبي فحسبنا وحسبه أنَّ حمدَنا له حَقٌّ وثناءنا عليه غير مكذوب فيه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤