الفصل التاسع عشر

النار ولا العار

ومن يخشَ أطراف الرماح فإننا
لبسن لهن السابغات من الصبر
وإنَّ كرِيهَ الموت حلو مذاقه
إذا ما مزجناه بطيب من الذكر
وما رزق الإنسان مثل منية
أراحت من الدنيا ولم تخز في القبر

•••

ألا ربما كان التصبر ذلة
وأدنى إلى الحال التي هي أسمج
وقد يركب الخطب الذي هو قاتل
إذا لم يكن إلا عليه معرج

لا أثقل على نفس الحر من الصنيعة يسديها إليه من ليس أهلها، ولا من الانقياد لرأي ترى من نفسك بطلانه، هكذا كان شأن الأمير عباس حينما بعث إليه الأمير أحمد يدعوه إلى الشويفات ليقيم في حماه، فإنه لما أخبرته زوجته الأميرة هند بكلام الرسول هز رأسه، وقال: الله الله! صار ابن شهاب يحتمي بابن أرسلان! لا وتربة أجدادي. ثم نادى بغلمانه وقال: استعدوا للسفر فإننا ذاهبون إلى حاصبيا. وقال لزوجته: لا يمكنني الذهاب إلى الشويفات والالتجاء إلى بيت أرسلان ولا النزول إلى بيروت؛ لأن الوالي، على ما تعلمين، قد سفهت رأيه وحذرته عواقبه فحقد عليَّ؛ ولا البقاء هنا؛ لأنه لا بد للدروز من مهاجمة الساحل، ولا يستطيع النصارى أن يثبتوا في وجههم بعد أن كفل الوالي لهم الفوز، فقولي للأولاد أن يكونوا على استعداد، فنذهب إلى أولاد عمنا في حاصبيا ووادي التيم، فإنهم بعثوا يلحون علينا بالذهاب إليهم، وربما ذهبنا من هناك، ونزلنا على عرب الفضل، فإن الأمير عمر الفاعور أرسل إليَّ مرتين لنذهب إليه، ونحن باختيارنا منازل البدو على غيرهم نكون قد عدنا إلى أصلنا، أو كما يقول المثل أكلنا الفول وعدنا إلى الأصول.

وكان الشهابيون في كفر شيما والحدث وبعبدا مرتابين في أمره؛ هل ينتصر للدروز أو ينتصر للنصارى. ولكنهم لم يكلموه في هذا الموضوع، وهو كان يعلم أن الحرب الأهلية تئول إلى إضعاف أهالي لبنان كلهم، فيتمكن ولاة الدولة من إذلاهم، وكان يسفه رأي القائلين بها والحاثين عليها، وأفضى الجدال بينه وبين والي بيروت إلى المغاضبة، لكنه طلع بسواد الوجه مع الفريقين، فلا هو أرضى الدروز ولا هو أرضى النصارى، وارتاب كلاهما في إخلاصه، وأقام يرقب تغير الأحوال، وتفاقم الخطوب، وكلما حانت له فرصة وبَّخَ القائمين بهذه الفتنة وسفه رأيهم، وهو لا يوقر كبيرًا، ولا يحترم ذا مقام، حتى مطران الموارنة صديقه الحميم اغتاظ منه وكف عن زيارته، وبقي يحسب أن الوالي يرى وخامة العاقبة، فيأمر الفريقين بالتزام جانب السكينة، أو يكون على المعتدي مع المعتدى عليه، إلى أن جاء الرسول من عند الأمير أحمد يطلب منه أن يلجأ إلى داره ليحتمي فيها، وكان يعلم أن الأمير أحمد رجل جد لا يقول إلا ما يعني، ولا يكلمه إلا بالوقار التام، فثبت له حينئذ أن الشر واقع لا محالة، وأن الدروز واثقون بالفوز في هذه النوبة، وهم لا يثقون هذه الثقة إلا وقد أكد لهم الوالي أنه ينصرهم بالجنود، وترجح له حينئذ ما كان قد سمعه، ولم يصدقه؛ وهو أن الوالي اشترى رؤساء الدروز بالأموال الطائلة، واستأجرهم لهذا العمل استئجارًا، ولما رآهم ممتنعين عن إجابة طلبه برأي بعض عقالهم، حذرهم سوء العاقبة، وقال لهم: إن الأموال التي عرضتها عليكم أعطيها لخصومكم، وأساعدهم عليكم إن أنتم أصررتم على رفض طلبي. لأن غرضه كان إثارة الفتنة على كل حال عملًا بمشورة الحزب الناقم على الحكومة في الأستانة، وقد عمل بعض الدروز برأيه مكرهين؛ لأنهم رأوا أنفسهم بين نارين، فاختاروا أخف الشرين، وما هذه أول مرة استحل فيها رجال السياسة إثارة الحروب والفتن لأجل أغراضهم السياسية.

فقال الأمير عباس حينئذ: لقد قضي الأمر، واتفق الدروز مع الوالي، ووافقهم الأمير أحمد وما كان أغناه عن أمر يجر عليه البلاء، فقوي الميل في نفسه إلى نصرة أبناء عمه؛ لأنه الفريق المعتدى عليه، ولكن أبناء عمه في لبنان لا يأتمنونه، فقال: لا بد من الرحيل إلى حاصبيا؛ لأن أمراء حاصبيا لا يزالون على الإسلام مثله وهم من حزب النصارى.

وشاع في كفر شيما أن الأمير عباسًا عازم على الارتحال إلى حاصبيا، فلم يعبأ أهلها بارتحاله؛ لأنهم كانوا غير عارفين إلى أي حزب ينتمي، وكانوا يحسبون أن الفوز سيكون لهم إذا اتقدت نار الحرب؛ لأن رجال كسروان كانوا في بعبدا وهم أبطال مشهود لهم، والدروز يخشون بأسهم ووراءهم بلاد كسروان كلها.

ولم يخطر على بال الأميرة سلمى أن أباها يفضل الذهاب إلى حاصبيا على البقاء في كفر شيما أو النزول إلى بيروت، وكانت تتبع حوادث الجبل، وتعلم أن أهاليه يستعدون لحرب أهلية، وكثيرًا ما سمعت أباها يتكلم عن رعونة القائمين بهذه الحركة، وأنها ستعود عليهم بالضعف غالبين كانوا أو مغلوبين، مستشهدًا بالحروب الأهلية الماضية ونتائجها الوخيمة، وحسبت كل حساب الأحساب الذهاب إلى حاصبيا والابتعاد عن بيروت، فإنه لم يخطر لها ببال، فلما جاءتها أمها تقول لها «إن أباك عازم على الذهاب بنا إلى حاصبيا ووادي التيم»، نظرت إلى أمها نظر المستفهم المرتاب، وقالت: حاصبيا! أإلى هناك؟! ثم صمتت وكانت آخذة في كتابة كتاب إلى ابنة عمها الأميرة صفا، فوقف القلم في يدها ولم يعد يجري، وقالت لها أمها: إن أحمد أرسل يدعونا لنذهب إلى داره، فرفض أبوك ذلك واغتاظ من دعوته لنا. فقالت سلمى: إذا قال أبي قولًا لا يرجع عنه، وأنت تعلمين طبعه، فليس لنا إلا التسليم لإرادته.

قالت ذلك لأنها رأت اضطراب أمها فأرادت أن تخفف عنها، أما هي فكانت كارهة لهذا السفر نافرة منه أشد النفور، ثم مضت إلى غرفة أبيها وكلمته على انفراد مبينة له أن قنصل الإنكليز يحميهم إذا نزلوا إلى بيروت، ولما قال لها: من أين تعلمين ذلك؟ أسقط في يدها، ولكن بداهتها كانت قوية، فقالت له: إني أشعر بهذا الأمر من نفسي، وقد سمعت أحمد يقول غير مرة إن قنصل الإنكليز مضاد للوالي، فإذا عرف ما بينك وبين الوالي فلا بد من أن يحميك منه.

فقال أبوها: هذا قد يكون وقد لا يكون، والمسألة مسألة حياة وموت وعار وشماتة، فلا ألقي بيدي إلى التهلكة. وكانت تعلم أنه إذا قال كلمة لا يعود عنها فتركته، وعادت إلى الكتاب الذي كانت تكتبه لابنة عمها، وهي تقول في نفسها: لعل صفا أحكم مني، ولو ذهبت وترهبت مثلها لخلصت من كل هذه الهموم. وتجلت أمام عينيها حينئذ صورة السر هنري بدمونت، وكانت قد مضت أيام كثيرة لم تره فيها، ولا سمعت عنه شيئًا ولا سمعت اسمه بلسان أحد، فجالت الدموع في عينيها، وهي تقول: ما أشقى المرأة؛ تحب فتضطر إلى الكتمان، وتميت قلبها وعواطفها لكي تحافظ على عادات قومها! ولقد طالما عللت نفسي بأني أسلوه، فمضت الأيام وأنا لا أزيد إلا شوقًا إليه، فماذا يصيبني إذا أبعدت عنه ولم يبق لي أقل أمل أن أراه؟! ورآها القزم وهي على تلك الحال، ورأى آثار الدموع في عينيها، فلم يخفَ عليه أمرها.

ومضي النهار وهي سكرى لا تدري ماذا تفعل، وكان الخدم يهيئون ما يلزم أخذه من الأمتعة، ونهضوا في الصباح، وركب الأمير عباس وزوجته وأولاده خيولهم، وحملوا الأمتعة على ستة بغال ركب عليها بعض الخدم أيضًا، وأم يوسف معهم أخذتها معها الأميرة هند لتسليتهم، حتى إذا بلغوا نهر الدامور وجدوا الماء فيه غزيرًا إلى بطون الدواب، وكاد يحمل واحدًا من المكارين، فَعَلَا صياح الجواري، واضطر الأمير عباس أن يعود إليهن ويتهددهن بالضرب إن لم يصمتن، أما الأميرة هند والأميرة سلمى، فكانتا معتادتين ركوب الخيل، فخاض فرساهما الماء بهما من غير أن توجسا شرًّا، وتغدوا في النبي يونس، ووصلوا صيداء بُعيد الظهر، فباتوا فيها في بيت قاضيها وهو من أصدقاء الأمير عباس ومن أهل التقى، وقاموا منها قبل الفجر قاصدين حاصبيا فوصلوها عند الغروب، وخرج الأمراء الشهابيون للقائهم ومعهم جماعة من أهالي حاصبيا، فرحبوا بهم وأنزلوهم على الرحب والسعة، وأنست الأميرة سلمى بمن رأت هناك من بنات أعمامها، لا سيما وأن بعضهن كن متعلمات في المدارس الإنكليزية، وآباؤهن على واسع علم وحسن محاضرة، ورأت عندهم كثيرًا من كتب الأدب، فأخذت تطالع فيها لتسلي نفسها وتنسى ما مرَّ بها في الشتاء الماضي مما شغل بالها ولا يرجى تحققه في زمن من الأزمان.

ولكن لم يكد يستقر بهم المقام حتى وردت الأخبار أن الدروز هاجموا ساحل بيروت، وحرقوا قراه وقتلوا كثيرين من سكانه، فَعَلَا البكاء والنواح في دار الخدم، وقامت أم يوسف تطالب الأميرة هند بزوجها، وتطلب منها أن ترجعها إلى كفر شيما، وهي تقول: خرجنا يوم الجمعة وهو يوم نحس ما أقل عقلي! وقلق الأمراء؛ لأنهم رأوا أن الفتنة أوقظت ولا بد ما ينتشر سعيرها في البلاد كلها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤