الفصل الخامس والثلاثون

الاحتفال في الحرش

أشرقت الغزالة وانتشرت أشعتها على ساحل بيروت، فتململ ندى الليل من حرها، وتجمعت نقطة على أوراق القلقاس كالدر، وانبسطت على أوراق التوت كأغشية الحرير، ثم ركبت متن الهواء وطارت إلى أعالي الفضاء، فغطى الضباب تلك الهضاب ساعة من الزمان، ثم تقشع عنها وصفا أديم الأرض ووجه السماء، وجفت الرمال إلا حيث وقع عليها ظل الصنوبر، ثم امتد الجفاف إليها كلها، وعلا صرير الصراصير.

ما هذه النصب العالية! وما هذا الشعاع الذي يزري بشمس الضحى! دكة تعلوها قبة فوقها نصب يناطح السحاب، وفي وجهه سيوف منظومة بعضها مع بعض كالشعاع المنتشر من كوكب دري حوله أكاليل الأزهار، وشعار الأمة الفرنسوية وأعلامها منتشرة ومجموعة على أشكال شتى تأخذ بالأبصار رونقًا وبهاء.

وما هذه الأطناب النازلة من أعلى القبة كأعمدة الصبح وقد التفت عليها أكاليل الأزهار والرياحين، وامتدت كالهواجر إلى أبعاد شاسعة!

الميدان واسع بين الصنوبر والبساتين في ضاحية بيروت تستعرض فيه ألوف الجنود من عهد إبراهيم باشا ومن قبل عهده، وهو الآن مزدحم مكتظ ترمي فيه الرمل فيقع على رءوس الناس، إلا في دائرة كبيرة حول الدكة والنصب تركت فراغًا للولاة والقواد ورؤساء خدمة الدين وأعيان المدينة، وأمامها مركبات المدافع والخيول مقرونة بها، والجنود وضباطهم بأفخر الملابس والحلل.

بُمْ بُمْ بُمْ! شهب تلمع ورعد يصقع، والناس يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت.

بُمْ بُمْ بُمْ! ارتفعت أعمدة الدخان وسردقت فوق تلك الجماهير فحجبت عنها أشعة الهاجرة، ثم صمت كل صوت وسكن كل متحرك، وتقشع الدخان وظهر على الدكة تحت القبة حَبر جليل القدر بحلته الحبرية حوله لفيف من الكهنة، يسبح الله بألحان شجية، وتحته رؤساء الأنام بملابسهم الرسمية ثياب مقصبة، ونياشين تتألق في الصدور، وربات الجمال بالحلى والحلل، خصور كالخواتم، ووجوه كالبدور، وقد أفرطن في توسيع أردانهن وأذيالهن، فوقعن كالأبراج المستديرة تبتدئ بدائرة لا يقل قطرها عن الباع، ثم تستدق رويدًا رويدًا إلى أن تنتهي بخصر يصح فيه قول من قال:

تكاد لهضم الكشح تجعل عقدها
نطاقًا كما يستبدل المثل بالمثل

وحولهم الجنود من الفرسان والمشاة ستة آلاف من رجال فرنسا ونخبة شبانها، ووراءهم جمهور لا يحصى عدده من الرجال والنساء والأولاد يموج كالبحر الزاخر.

خشعت الأبصار واشرأبَّت الأعناق إلى أن انتهى الكهنة من الصلاة والترتيل، فعزفت الموسيقى بالسلام السلطاني ثم بالسلام الإمبراطوري، وعادت المدافع إلى الدوي وتلتها الحركات الحربية، فسار المشاة صفوفًا وانتظموا قلعة كبيرة، المدافع والمهمات في وسطها والفرسان وراءها، وصدرت الأوامر من القواد، فأطلقت البنادق طلقات متوالية يتخللها إطلاق المدافع، وسردق الدخان ثانية فحجب الشمس واستظلت الجماهير بظله.

دام الاحتفال ثلاث ساعات كأنها ثلاث دقائق، والموسيقى تعزف والجنود تهتف والمدافع تقصف، وأهالي بيروت ينظرون مدهوشين، يزحم بعضهم بعضًا ولا يتنفسون الهواء إلا من فوق رءوسهم!

ثلاث ساعات دام الاحتفال، سبقتها ثلاث ساعات ازدحمت فيها الجماهير، وتلتها ثلاث ساعات حتى انحل عقدهم وانفض جمعهم، النهار كله من الضحى إلى الأصيل والناس مزدحمون لا طعام ولا شراب، بل بعضهم جاء قبل الشمس ولم يستطع أن يعود إلا بعد مغيبها، ولولا باعة الكعك وسقاة السوس لضاقت النفوس من الجوع والعطش، أما كبراء القوم فقدم لهم أفخر أنواع الطعام والشراب.

ولكن هل كان الوالي أطيب نفسًا من ساقي السوس؟! وهل كانت زوجة الجنرال أطلق وجهًا من بياعة اللبن؟! هل كان أحد من المجتمعين في الدائرة الوسطى من الحكام والقواد والأحبار والتجار والشرفاء والأغنياء الذين أكلوا حلواء باريس وشربوا خمر شمبانيا؛ هل كان أحد منهم أنعم بالًا من المزدحمين حول تلك الدائرة من أهالي بيروت والقرى المجاورة؟! قال أحد الفضلاء: إن في كل متر مربع من أكواخ الفقراء فرحًا وسرورًا أضعاف أضعاف ما في كل متر مربع من قصور الأغنياء. إيطاليا أفقر ممالك أوروبا، ولكنك لا تجد غناء وطربًا في مملكة أخرى كما تجد فيها! وإسبانيا تتلوها في الفقر، ولكن سكانها يرقصون ويطربون أكثر من سكان إنكلترا وفرنسا!

والذين شاهدوا ذلك الاحتفال من أهالي بيروت وضواحيها، حسبوا أن الجنود الفرنسوية احتلت سورية ولن تخرج منها، فتمت أمنية فرنسا التي تمنتها من زمن حروب الصليب وأمنية فريق كبير من سكان سورية، ومضت الشهور والجنود تزيد توددًا إلى الأهالي، والأهالي لا يجدون سببًا للشكوى، بل لم يجدوا إلا كل ما يستحق الشكر، إذ كثرت الأموال وراجت الأعمال وشيدت المباني الفخيمة في بيروت، وساعدت العساكر أهالي لبنان في بناء بيوتهم المحروقة.

كان مارون ونقولا التاجران قد اشتريا بساتين كثيرة في سقي بيروت وأراضي فسيحة في المدينة، فربحا ربحًا وافرًا بارتفاق أثمانها وبغلاء سعر الحرير، ولم يكن نصيب غنطوس السمسار وعبد الله الوكيل قليلًا، ورأى الخواجه بخور والخواجه شمعون أن ابتياع الأملاك أربح من تديين النقود، فعضا أصابعهما ندامة على فوات الفرص، وبادرا إلى مشترى ما يمكن مشتراه من الأراضي التي قرب ساحة السمك؛ إذا بلغهما أن المدينة ستمتد من تلك الجهة.

واجتمع جماعة من الوجوه في بيت كبير من كبراء بيروت، وكان الشيخ درويش أبو فخر معهم أتى من غير دعوة شأن كل فضولي، ودار البحث على الأحوال الحاضرة بعدما قَتَل فؤاد باشا والي دمشق وكثيرين من المأمورين والضباط واعتقل والي بيروت. فقال واحد من الحضور: إن الإفرنج رشوا الوزير حتى فعل هذا الفعل المنكر. وقال آخر: بل، إنه فعل ذلك بأوامر من إسطانبول لكي يسكت دول أوروبا. وكان بين الحضور رجل دمشقي أتى حديثًا من دمشق وشهد ما حدث فيها، فقال لهم: إن الوزير لم يفعل عشر معشار ما يطلب منه، فأنا قد شاهدت كل ما حدث في الشام، ولولا لطف المولى وشهامة الأمير عبد القادر ما أبقوا أحدًا، والعملية مدبرة من إسطانبول، اعترفنا بذلك أو لم نعترف، ولا أقول إن القصد قتل هذا المقدار من الأهالي، بل إيقاظ الفتنة لكي تتداخل دول أوروبا على ما قال لي أحد العارفين بدخائل الأمر، والظاهر أن أصحابنا لا يهمهم خربت الدنيا أو عمرت إذا كان لهم غرض سياسي.

فقال له آخر: وما هو هذا الغرض السياسي؟ هل يريدون أن يسلموا البلاد للإفرنج؟! قبحهم الله وقبح سياستهم! فإنها كلها نفاق بنفاق.

وقال الشيخ درويش: الحق في يد الشيخ مصطفى، فإني أنا سمعت الوالي يقول لمشايخ الدروز إنه يساعدهم ويحميهم، ولما زارني في رمضان الماضي قال لي: يا أبا فخر يجب أن تجتهد وتستميل الأمير أحمد رسلان. فعملت كل واسطة معه، والمسألة مدبرة كما قال الشيخ مصطفى، ولكن ما عمره خطر ببالي أنها تطلع في الآخر من رأس الوالي ويلقى كل اللوم عليه.

فقال الشيخ مصطفى: حبسوه يومين على عيون الناس وبعدها يفرج عنه.

فقال الشيخ درويش: ولكن والي الشام قتلوه.

فقال الشيخ مصطفى: قتلوه لأنه كان عنده أوراق فيها أوامر سرية وتهددهم بها، فقتلوه حتى يخفوا الخبر، أنا لا أحط بذمتي ولكن الإشاعة مالئة الدنيا، ويقول البعض إنهم رأوا الأوامر بعيونهم.

فقال آخر: ما قولكم الآن هل تبقى العساكر الفرنسوية هنا؟

فأجابه أبو فخر: لا أحد يخرجها إلا الإنكليز مثلما أخرجوا بونابارته من عكا، وقواس قنصل الإنكليز صاحبي وهو يمر يشرب عندي قهوة كل يوم، وقال لي من يومين إن العسكر الفرنسوي دخل على هذا الشرط أنه يبقى حتى تصطلح الأحوال، ثم يخرج وهو سمع هذا الكلام من الترجمان، والترجمان صاحبي أيضًا من زمان طويل، ولو سألته لكان خبرني.

الشيخ مصطفى : الله لا يحكِّم الإفرنج فينا، ولكن الحق أولى أن يقال؛ من حين ما أتوا إلى هنا راجت الأشغال واصطلحت أحوال الحكومة، وإذا فرضنا بقاء الفرنسوية هنا وعفونا من العسكرية كما تعفي الدولة النصارى؛ كان ذلك أفضل لنا.

فأجابه الشيخ درويش: إن الفرنسويين لا يعفون أحدًا، أما رأيت عساكر المغاربة؟ وأنا قد تصادقت مع كثيرين منهم وزاروني في بيت، فعرفت منهم أن الفرنسوية تأخذ العساكر من الجميع.

وبعد أخذ وعطاء على هذا النمط قرَّ قرارهم على أن لا يحركوا ساكنًا، وعلى أن يوصوا الجميع بالتزام السكينة إلى أن يروا ما يحدث في الأستانة؛ لأن بعضهم كانوا يتوقعون حدوث أمر ذي بال فيها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤