تاريخ اليونان

الشعب اليوناني: إن بلد اليونان التي ارتفع صيتها، وعلا قدرها، وكان لها دور عظيم من التمدُّن، لم تكن إلا بلدًا صغيرةً، لكن أهليها أذكياء، لهم فكر وقادة، وبصائر نقَّادة، تردَّوا بأردية الهمة والنشاط، فإنهم كانوا قبل الميلاد بثمانمائة سنة لا يفقهون شيئًا غير تفليح الأراضي، وتربية الحيوانات، وما مضى قليلٌ من الزمن إلا وسطع نور تمدُّنهم، وأضاء جميع الآفاق، وهبَّ نسيم تقدمهم، فصنعوا السفن، وبنوا المدن، ونقشوا الحجارة، وصوَّروا التصاوير، وشادوا وسادوا.

مستعمرات اليونان: لما كثر عدد اليونان تفرَّق عددٌ عظيم منهم في البلاد، وسَعوا في مناكبها ليأكلوا من خيراتها، ويتموَّلوا من أرزاقها، ويُعمروا فيها مدنًا يسكنونها، وهذه ما تسمى ﺑ «المستعمرات»، فكانت توجد مستعمرات يونانية عديدة على سواحل «البحر الأبيض المتوسط»، وفي «آسيا، وأفريقيا، وإيطاليا، وفرنسا، وبلاد الأندلس»، وعلى شاطئ «البحر الأسود»، وفي «قبرص»، وكانت «مرسيل، ونيس، وأنتيب، واجد» مستعمرات لها في بلاد الفرنسيس.

مدن اليونان: اليونان أمة واحدة، بل كان كل ناحية بخلائها مكونة، لم تكن لأمة صغيرة منفردة بحكومتها وجيشها وعمارتها البحرية، وكانت نار الحرب مشتعلة بين هذه الأمم على الدوام، وكانت توجد مئات من تلك النواحي، كانت تُسمى «مدن اليونان»، وأغلب هذه المدن كان صغيرًا وأعظمها وأهمها مدينتا «أسبرطة» و«أثينا».

الكلام على مدينة أسبرطة: كانت أسبرطة مدينة جبليِّين وجنود، وكانوا يُربون الأطفال فيها بكثرة، فكانوا يُعلمونهم المكافحة والرماية، وكانوا يُعوِّدونهم على الوثوب والجري، ويعلِّمونهم تثقيف الأسلحة والرماح، وكان أهلوها متربين على الخشونة وشظف العيش، فكانوا ينامون على القصب، ويتوسَّدون الحجارة، ويضربون بعضهم؛ لأجل أن تصير أجسادهم جامدة.

وكانوا لا ينظرون إلى الترف، ولا يهتمون بزخرف الدنيا، ولا يوجهون آمالهم إلى نعومة الجسد، ولا يكترثون بالملابس الفاخرة، وكانوا يُربون بناتهم كما يربون صبيانهم، وكانت الرجال تأكل معًا على حدتهم، وبعد الأكل يقومون للتدرُّب على المصارعة، وكانوا لا يقرءون ولا يكتبون، غير أنهم بلغوا الدرجة القصوى في فن المصارعة؛ ولذا كان يشار إليهم بأطراف البنان، ويقال: إن سكان هذه المدينة صناديد بلاد اليونان، وكانوا يذهبون إلى القتال فِرَقًا يقودهم صوت المزمار، وكلُّ واحد منهم متسلِّح برمحٍ ومعه بيضة ودرقة، وأغلب جسده عارٍ. وكان لسكان «أسبرطة» نواميس استغربها معاصروهم ومَنْ بَعْدهم، يعزونها إلى «ليكورغه» الذي كانت مدة حياته قبل المسيح بثمانمائة سنة تقريبًا.

الكلام على أثينا

كانت أثينا بعكس ما كانت عليه أسبرطة؛ إذ كان للأثينيين بالقرب من مدينتهم مينا عظيمة تدعى «ببريه»، ترد إليها التجارة من آسيا ومصر، وكانوا موسِرين ولهم ميل شديد إلى الأبنية الجليلة والزينة الفاخرة والتماثيل الجميلة والتشبب بالشِّعر، وكان أهل هذه المدينة أعظم مُشَخِّصِي بلاد اليونان.

وبأثينا كانت المحافل تُعقد للنظر في مصالح العامة في ميدان يقال له: «آجورا»، وفيها كانت تتلى الخطب الرائقة والمقالات الشائقة على الحاضرين، وكانوا متَّبعين قوانين صادرة عن حكمة وعقل، سَنَّها لهم «سولون» الذي كانت حياته قبل المسيح بستمائة سنة.

حرب الفرس مع اليونان

كانت بلاد آسيا ومصر خاضعة للفرس الذين كانوا سادوا أغلب الأمم، وأخذوا البلاد، وامتدت سلطتهم من بلاد الهند إلى ديار مصر في ثلاثين سنة، فكانوا قادوا جزءًا عظيمًا من آسيا، واستولوا على مصر، وكان الملك الذي يحكم الفرس هو أعظم ملك في زمانه، وأقوى شوكةً، وأرفع قدرًا وشأنًا، وأعظم سلطانًا من غيره؛ ولذا كانوا يسمونه الملك الأكبر. ولما أراد أحدُ ملوك العجم المسمى «دارا» أن تذعن لسلطانه وقدرته بلاد اليونان، وبعث لأهليها رسلًا ليدعوهم إلى الطاعة، فمنهم من نزل الرعب في قلوبهم وامتثلوا لأوامره، ومنهم من فجر وعصى وتَكَبَّر وأبى الإذعان، وهم أهل «أسبرطة وأثينا». فلما بلغ هذا الفعل «دارا» اشتدَّ غيظُه، وأرسل عمارة بحرية بالقرب من أثينا في «مرتبان»؛ لإبادة أهليها، فعشرة آلاف جندي من الأثينيين نصبوا خيامهم تلقاء مراكب الفرس، وانقضوا عليهم انقضاض النسور، وقلبوا سفنهم في البحر وأغرقوا من كان فيها، وذلك كان قبل المسيح بأربعمائة وتسعين سنة.

وبعد مضي عشر سنين انتشبت نار الحرب ثانيًا؛ إذ إن «اكزرسيس» الملك الذي خلف «دارا» أتى بنفسه مع جيش عرمرم، مُركَّب من مليون جندي أشداء، وعمارة بحرية مؤلفة من خمسمائة سفينة حربية، فلما شاهد أهل أثينا وأسبرطة ذلك، ضموا قلوبهم معًا، وشدوا أزر بعضهم، واتحدوا بقالبهم وقلبهم، وذهبوا إلى القتال، فأبادوا عمارة الفرس البحرية في «سلامين» في سنة أربعمائةٍ وثمانين قبل المسيح، وأهلكوا الجيش البري عن آخره في «بلاتيه» في سنة أربعمائةٍ وتسعة وسبعين قبل الميلاد.

عصر بركليس: بعد أن انتصر أهل أسبرطة وأثينا على الفرس، وسقوهم كأس الغلب، وهزموهم شرَّ هزيمة، رجع أهل أسبرطة إلى ديارهم، مطمئني الفكر ثابتي الجأش، واستمر أهل أثينا على القتال بأن ساروا راكبين سفنهم لطرد جنود الفرس من جميع مدن اليونان وجزائرها وجميع مستعمراتها، ونجحوا في مساعيهم، وضربوا الضرائب على اليونانيين الأُخَر الذين كانوا أذعنوا للفرس وقتما بعثوا لهم الرسل، وبنوا بدراهم الضرائب معبدًا فاخرًا لآلهتهم، وشيَّدوا أبنية أخرى كثيرًا عددها.

وأول من أوجد التياترات بأنواعها ﮐ «الكوميديا»؛ أي التشخيص المضحك، «والتراجيديا»؛ أي التشخيص المحزن المبكي، هم اليونانيون. وكانت المهندسون والنقاشون والمصورون والفلاسفة والشعراء تجتمع بأثينا.

وكانت الأثينيون في ذلك الوقت تبجِّل وتُعظِّم بركليس ابن وطنهم، وتصغي لكلمته، وتَمتثِل لكل ما يشير به؛ إذ إنه كان رجلًا جليل القدر، عظيم الشأن، مدبِّرًا عاملًا، وفي عصره قد تفنَّنت الفنون، وتقدَّمت الصنائع والعلوم، وطارت شهرة أثينا إلى السبع الطباق وانتشرت في جميع الآفاق، ولهذا السبب سُمي العصر الذي كان فيه باسمه فيقال عصر بركليس.

الكلام على مقدونيا: إن أثينا لم تَقُم زمنًا طويلًا، وهي قوية الشوكة عليَّة المقدار والشأن، إذ إن أسبرطة في سنة أربعمائةٍ وإحدى وثلاثين قبل المسيح أعلنتها بالحرب، فقامت بينهما على قدم وساق، واشتعلت نارها في جميع الأنحاء، وطارت شرارتها إلى (آسيا وسيسيليا). وفي هذه الحرب دارت الدائرات على أثينا، ولحقها النَّكال، وانكسرت شوكتها، وهزمت شر هزيمة، وذلك كان في سنة أربع وأربعمائة قبل الميلاد. ولكن بعدما انتصرت أسبرطة أبت اليونانيون الأُخَر أن يذعنوا لسلطانها، فأضرمت الحرب ثانيًا، وأذكى ضرامُها وفدح أمرها، فكانوا يقطعون الأشجار، ويقتلون الرجال، ويسبون النساء، ويذبحون الأولاد. وفي هذا الزمن في كلِّ مدينة كانت الأغنياء والفقراء يقاتلون بعضهم بعضًا، ويوم ذاك كان يوجد في شمال اليونان بمقدونيا أمة صغيرة كانت خامدة الذكر ومعدومة الشهرة، ولكنها كانت أمة منتظمة قوية؛ إذ إن «فيليبش» ملكها نظم جيشًا جرارًا واستمال باقي اليونان إلى أن يصيروا حلفاء لقمع ملك الفرس، فأبى الأثينيُّون ذلك، وحصل قتال عظيم، وكان الفوز لفيليبش في «قيرونيه» في سنة ثمانٍ وثلاثين وثلثمائة قبل الميلاد.

فتوحات إسكندر: جلس إسكندر ولد فيليبش على أريكة الملك في سنة ثلاثمائةٍ وستٍّ وثلاثين قبل الميلاد، وبعد أن مكث سنتين على عرش مُلكه ظعن بخمسة وعشرين ألف مقاتل لفتوح بلاد الفرس، فقابله ملكهم بجيش عرمرم أكبر من جيش إسكندر بعشرين مرة، لكن جنوده كانوا ضعفاء متسلحين بأسلحة عاطلة، وأغلبهم كان مجبورًا على القتال، يطاعن بعزيمة فاترة، وهِمَّة خامدة، مع كونه ليس متدربًا على النزال، وأما جنودُ إسكندر فكانوا متسلحين بأسلحة باترة، وسيوف صارمة، ينزلون في ميدان الهيجاء وهم له راغبون؛ ولذلك ظفروا بالفرس ثلاث مرات، وقهروا جميع البلاد التي كانت خاضعة لملك الفرس. وقد شيد إسكندر عدة مدن لم تزل واقفة على قدم الوجود، وأشهرها إسكندرية التي بمصر. ثم ذهب إسكندر إلى بلاد الهند ووضع يده عليها، وعاد إلى ديار بابل، وقضى نحبه فيها بالحمى في سنة ثلاثمائةٍ وثلاثٍ وعشرين قبل الميلاد، وهو لم يبلغ من العمر إلا ثلاثًا وثلاثين عامًا.

تقسيم مملكة إسكندر: لما لم يترك إسكندر خلفًا له يخلفه في ملكه، تنازع المُلْكَ قوادُ جيشه، فكان كلُّ واحد منهم يريد أن يكون ملكًا، فحصل من ذلك شقاقٌ أفضى بهم إلى القتال، وسفك الدماء، فمات منهم كثير، ومن بقي تقاسم المُلك، واستولى كلُّ واحد على نصيبه، وأصبح ملكًا بعد ما كان قائدًا. فكان يوجد يومئذٍ ثلاثُ ممالك عظام، وهي: مملكة مقدونيا، وسوريا، ومصر، وممالك أخرى صغيرة، ليست كهاتيك الممالك، وقد أقامت هاته الدول نحو قرنين تقريبًا.

ممالك اليونان: إن رعايا هذه الممالك كانت آسيين، ولكن ملكهم كان يوناني الأصل، فكانت جنوده ومتوظفوه من جنسه، وكان يأتي بالعلماء والكُتَّاب وأرباب الصنائع والفنون إلى دار خلافته من بلاد اليونان في هاته الممالك؛ فتعوَّدوا بعوائد أهل اليونان على التدريج، وتخلَّقُوا بأخلاقهم، وتطبَّعوا بطبائعهم، وانبثت في أرواحهم اعتقاداتهم، وتديَّنوا بدياناتهم، وآل أمرهم إلى أن أصبحوا لا يتكلمون إلا بلغة اليونان.

إسكندرية ومدرسة علومها وفنونها: كان بعض ملوك ممالك اليونان يصبو إلى العلوم، فأقيال مصر كوَّنوا بإسكندرية في تخت ملكهم مكتبة عظيمة، ويومئذٍ كانت الأوراق والمطابع في عالم الخفاء، فكانوا يسطِّرون الكتبَ جميعَها بأيديهم على «البردي» ثم يطوونه، وكان عزيزًا إذ ذاك وجود الكتب، ولقلَّتِها كانت غالية الثمن؛ ولشدة حرصهم على التآليف، وخوفهم عليها من أن تغتالها يدُ الضياع، إذ إنه ما كان يوجد من مؤلَّفٍ إلا بعض نسخ قليلة؛ اعتنوا بجمع نحو ثلاثمائة ألف نسخة، ووضعوها في هاتيك المكتبة، ونظَّموا بستانًا لدراسة علم النباتات، ومعملًا للعلوم الطبيعية، وكانوا يُطلقون على هذه المحلات اسم: مدرسة العلوم والفنون، وكانت الناس تُهرعُ إليها من كل فجٍّ؛ ليتعلموا فيها، وما جادت الدنيا بمثلها ولا رأت العين غيرها في عالم الوجود.

فنون وعلوم اليونان: لا يتوقف تقدم أمة على كثرة عدد أهلها؛ إذ إن المصريين واليونانيين واليهود ما كانت إلا أممًا صغيرة مع أنهم وصلوا إلى الدرجة الرفيعة، ووطئوا السماكَين بأقدامهم، وسطع صيتهم، وعَلَتْ كلمتهم، انظر كيف فتح اليونانيُّون ديارَ مصر ومملكة الآسوريين وبابل وبلاد العجم، وتعلَّموا كلَّ ما كانت تعلَمُه هذه الأمم، وزادوا عنهم بأشياء كثيرة، أخرجوها من حيز العدم إلى الوجود. فإن الأثينيين كانوا ينظمون الشعر وينشدون القصائد، ويتلون الخطب والمقالات في المحافل، ويؤرِّخون التواريخ، ويصنعون التآليف، وقد ترجمت تصانيفهم وأشعارهم من بعدهم، فكلُّ من قرأها تقع عنده موقعَ الاستحسان، ويكاد يطير فرحًا بها، وتشهدُ لهم بجودة أفكارهم وسمو ملكاتهم أشعارُ أشهر شعرائهم «مريوس، وهزيودوس، وأشيل، وسوفاكل»، وتدلُّنا على فطنتهم، وحِدَّةِ ذكائهم؛ كتبُ «هيردوت» المؤرخ الشهير و«توسيديد»، وتنبئنا بشدَّة فصاحتهم خطبُ ديموستين، ومن قلَّدهم وحذا حذوهم أصبح خطيبًا وأضحى كاتبًا.

وقد شيدت اليونانيون معابد عظيمة، ورفعت تماثيل منقوشة بأحسن نقش وأبدع إتقان، وحفظوا بأوفر اعتناء كلَّ ما أمكنهم وجوده من آثار القدماء.

واليونانيون هم أول من أوجد مبادئ العلوم وأوضح حجمها، فبقراط ابتدأ الطب، وكتب فيه عدة فصول مفيدة، وظهر بعده جالينوس وروفس وغيرهما، ووسَّعوا نطاق دائرته، وأرسطاطاليس أنشأ التاريخ الطبيعي، وأوكليدس أظهر الهندسة إلى عالم الوجود، وأرشميدس ابتدع علم «الميكانيكا» أي علم رفع الأثقال، وأرالوستينس ابتدع الجغرافيا، وهيباركس أوجد الفلك. وهذه المبادئ التي ولَّدتها اليونانيون من أفكارهم بدون معلم ولا موقف نمضي في تعلمها الأيام العديدة والليالي الطويلة، ونؤرِّق عيوننا وننضِّي جسومنا، وندخل المدرسة صبيانًا ونخرج كبارًا، وبالجملة نصل إلى معرفتها مع المشقة والعناء. أليس الفضل أن يكون لليونانيين؛ إذ منهم تعلمت الرومانيون أولًا، ومن الرومانيين تعلمت الغربيون، وعلى الأخص أهل إيطاليا وفرنسا.

ملخص تاريخ اليونان: أولًا: إن اليونانيين أمة صغيرة في غاية الذكاء والنشاط، وأسست مستعمرات عديدة على ساحل البحر الأبيض المتوسط. ثانيًا: إن بلاد اليونان كانت منقسمة إلى عدة مدن صغيرة، وكانت الحروب مُنتشِبة بينهما على الدوام، وأشهر هذه المدن مدينتا أسبرطة وأثينا. ثالثًا: إن أسبرطة مدينة جبليِّين وجنود، وكانت أعظم بلاد اليونان جيوشًا. رابعًا: أن أثينا كانت مدينة بحريِّين، وكانت أشهر بلاد اليونان في التشخيص. خامسًا: إن أثينا وأسبرطة اتحدا مع بعضهما، وشنا جملة غارات مع ملك الفرس من سنة أربعمائةٍ وتسعين إلى سنة أربعمائةٍ وثمانين قبل المسيح. سادسًا: إنهما شنَّا الغارة مع بعضهما، وأضرما نار الحرب، وهُزمت أثينا في هذه الحرب سنة أربعمائةٍ وأربعٍ قبل المسيح.

سابعًا: إن مقدونيا كانت أقوى بلد في بلاد اليونان، وفتح ملكها إسكندر جميع مملكة الفرس من سنة ثلاثمائةٍ وثلاثٍ وثلاثين إلى سنة ثلاثمائةٍ وثلاثٍ وعشرين قبل الميلاد. ثامنًا: إنه بعد ما مات إسكندر تقاسمت قوادُه مملكتَه. تاسعًا: قد أُسست جملة ممالك يونانية في الشرق، واشتهرت إسكندرية تخت مملكة مصر بمكتبتها ومدرسة علومها وفنونها.

عاشرًا: إن اليونانيين اشتهروا في العالم؛ لأنه كان موجودًا فيهم شعراء فصحاء وكتاب نبلاء، وصنعوا ونقشوا تماثيل جمَّلوها بالإتقان، وأوجدوا جميع مبادئ العلوم وعلموا جميع الأمم الأخرى.

تاريخ الرومانيين القدماء

الكلام على تأسيس رومة: إن رومة كانت في الأَعصُر الخالية والسنين الماضية من أشهر ممالك الأرض، وأعظمها رفعةً وشأنًا، وأجلها قدرًا، على أنها لم تكن في مبدأ الأمر إلا مدينة صغيرة مربعة مؤسسة على ربوة بالقرب من نهر «التبر» في وسط إيطاليا تقريبًا، وأُسست في سنة أربعٍ وخمسين وسبعمائة قبل الميلاد. وإنما سُميت رومة نسبةً إلى بانيها «رومولوس»، ولم تقف المؤرخون على حقيقة تاريخه، وكذلك لم تعلم حقيقة خبر الملوك الذين حكموها في الأصل.

الكلام على جمهورية رومة: كان الملك الذي يحكم رومة لا ينفذ حكمًا ولا يقضي بأمرٍ إلا باتفاق كبراء الأمة، ومشاوراتهم في الأمر، وفي سنة عشرٍ وخمسمائة قبل الميلاد تجمعت كبار الأمة وحكموا بطرد «تركوين» الذي كان ملكًا يوم ذاك، واستولى على زمام الملك اثنان من القضاة، وتلقَّب كلُّ واحد منهم بلقب قنصل؛ أي منفِّذ الأحكام، وكانت الأمة تنتخب هاته القناصل في كل سنة، وكانت رؤساء العائلات تجتمع في جمعية لتعطي آراءها فيما يعود بالصالح والمنفعة على الأمة، وهذه الجمعية كانت تُلقب بجمعية «السناتو»؛ أي ديوان أعيان المملكة.

شقاق الأشراف والعامة: كانت سكان رومة منقسمة إلى حزبين؛ الأول يقال له حزب الأشراف، والثاني يدعى بحزب العامة. فكانت الرومانيون الذين من نسل العائلات القديمة تدعى «بالأشراف»، وأما من أتوا دخلاء في ديار رومة، واستوطنوا فيها، وليسوا من نسل الرومانيين القدماء، فكانوا يُلقَّبون «بالعامة»، وكان عدد هؤلاء يزيد عن عدد أولئك بكثير؛ إذ إن أغلب سكان المدن المجاورة هُرعوا من ديارهم، ودخلوا رومة، وانتظموا في عقد الأمة الرومانية، ولما أرادت الأشراف الاستقلال بالحكم، وطلبت العامةُ أن تشاركهم في الحكومة، وأبت الأشراف ذلك الطلب؛ نشأت من ذلك فتن أفضت إلى الشقاق والمشاجرات بين الطرفين. ومن ذلك ذهب العامة من رومة، وتخلوا عنها، فمجلس «السناتو» لأجل أن يرجعهم قرَّر بأن يكون منهم رؤساء يحامون عن حقوق الشعب، ويكون لهم الحق بأن يمنعوا القناصل عن عمل أي شيء سوى المحاماة، ثم حصل نزاع ثانيًا بين الفريقين، مكث أكثر من مائة سنة، وفي آخر الأمر قرَّر الأشراف بأن تُعيَّن قناصل من العامة، وذلك كان في سنة ستٍّ وستين وثلثمائة قبل الميلاد، وعندئذٍ استتبت الراحة، وحصل هدوء من الفريقين.

الجيش الروماني: كانت الرومانيون مُوَجِّهَةً جُلَّ عنايتها إلى فن الزراعة؛ حيث كانوا يُعتبَرون أمهر الحرَّاثين كأفضل الناس، وكانوا مشتغلين أيضًا بالتجارة، وكانوا قاطبة جنودًا. وكانت العساكر تتدرَّع بالدروع وتتقلَّد بالصوارم، وتحمل الرمح والترس، وتَلْبَس ثيابًا حمرًا تصل إلى رَكَبهم، وتَضع على رءوسهم خوذًا من نحاس بأهداب من شعر الخيل، وكانت تشيد معسكرات مشطورة يحتمون فيها، وكانوا بلغوا الدرجة القصوى في فن القتال حتى إنه كان يمكنهم المحاربة بمائة أو مائة وعشرين جنديًّا، وهذا منال لم تصل إليه أية أمة. وكانت قوانين العسكرية قسرية جدًّا؛ فكان الجندي الذي يترك موضعه يُضرب بالسياط حتى يموت. وكان الواحد منهم يدخل في العسكرية وهو في السابعة عشرة من عمره ويمكث فيها مدة حياته. وقصارى الأمر كان الجيش الروماني في أحسن انتظام ومعتنًى به كثيرًا؛ ولذا فتح المعمورة بأسرها قليلًا قليلًا.

فتوح إيطاليا: لما تطلَّعت رغبة الرومانيين، واتجهت عزائمها إلى قهر أمم إيطاليا، أعلنتها بالحرب، ولكن ذلك كان عليهم أمرًا عسيرًا؛ إذ إن القتال قام بينهم عدة أجيال، وفي آخر الأمر فُتحت بحيث جزيرة إيطاليا بأكملها في سنة اثنتين وعشرين ومائتين قبل الميلاد.

حروب قرطاجنة الثلاثة: كان يوجد بأفريقيا — قريبًا من المكان الذي فيه تونس الآن — مدينة تجارية حصينة مبنية على شاطئ البحر تُدعى «قرطاجنة»، أسَّسها جماعة من البحريين كانوا أتوا من «فينيقية»، وكانت هذه المدينة متموَّلة غنيَّة من التجارة ومن استخراج معادن الفضة من بلاد الأندلس، وكانت سكان قرطاجنة لا تُقاتل بنفسها، بل كانت تؤجِّر عساكر من الأمم المتوحشة التي تميل إلى القتال، وبهذه الجنود فتحت «بلاد الأندلس، وشمال أفريقيا، وسيسيليا»، ولما أرادت الرومانيون أن تستولي على سيسيليا، وقابلوا جنود قرطاجنة هناك، حصل نزاع وشقاق، وحينئذٍ ابتدأت الحروب بين رومية وقرطاجنة، وهذه الحروب تُعرف بالحروب «البونيكية» وهي كانت ثلاثة؛ ففي أول واحدة منها من سنة أربعٍ وستين ومائتين إلى سنة إحدى وأربعين ومائتين ق.م. طرَدَت الرومانيون القرطاجيين من «سيسيليا». وفي الحرب الثانية التي كانت من سنة ثماني عشرة ومائتين إلى سنة أربعٍ ومائتين قبل الميلاد سافر قائد قرطاجيني يُدعى «أنيبال» من بلاد الأندلس واخترق بلاد الجول الجنوبية (أي: فرنسا) وجاز جبال «الألب» ونزل في إيطاليا، وفي مدة ثلاث سنين انتصر على الرومانيين في ثلاث وقعات، وبعد واقعة «كنس» أشهر هاتيك الوقعات أقام في «نابلي»، ولكن رومة ما فتَرَت همتها و«أنيبال» لم يتجرَّأ على الإغارة عليها، ولأجل أن يجبر «أنيبال» على المبارحة من إيطاليا أرسلت إلى أفريقيا قائدًا يدعى «سيبيون» بجيش عرمرم نزل قريبًا من قرطاجنة، فلما رأى ذلك «أنيبال» اتبعه، ولكن هزم في «زاما» في سنة اثنتين ومائتين قبل الميلاد، وعند ذاك طلبت قرطاجنة الصلح، واستولت الرومانيون على الأندلس. وفي الحرب الثالثة التي من سنة تسعٍ وأربعين ومائة إلى سنة ستٍّ وأربعين ومائة أرادت الرومانيون أن تتخلص من قرطاجنة، فذهبوا وحاصروا المدينة، وبعد ما وضعوا أيديهم عليها هدموها وفتكوا بأهلها فتكًا عظيمًا، ورجعوا إلى رومة بالغنائم والأموال.

فتوح الشرق: كان يوجد في الشرق أثناء تقسيم مملكة إسكندر جملة ممالك يونانية فتحها الرومانيون واحدة بعد الأخرى، منها ممالك فتحتها بدون تكلف وبدون أدنى نزاع، ومنها ممالك فتحتها قسرًا بالقتال وشن الغارات بأن هَزموا شر هزيمة ملكَين من ملوك مقدونيا وهما «فيلبش» في سنة سبعٍ وتسعين ومائة و«برسية» في سنة ثمانٍ وستين ومائة قبل الميلاد، وكسروا ملك «سوريا» المدعو «أنتيكوس» في سنة تسعين ومائة قبل المسيح، ثم أثاروا الحرب مع «متردات» ملك «بون» من سنة سبعٍ وثمانين إلى سنة أربعٍ وتسعين قبل المسيح، وكان لهم الظفر، وانتهت بهم الحال إلى أن أصبحوا ملوكًا على «مقدونية، وبلاد اليونان، وآسيا الصغرى، وسوريا، ومصر».

فتوح الغرب: بعد ما فتحت الرومانيون الشرق التفتت إلى الغرب، وقد عرفنا قبل ذلك أنها استولت على الأندلس، وملكت زمامها من القرطاجينين، وكانت إذ ذاك فرنسا معمورة بالغاليِّين، وكان هؤلاء مهابين عند الرومانيين؛ إذ إنهم كانوا فتحوا إيطاليا قديمًا واستولوا على رومة، وبعد ما خضعت الغاليون (سكان إيطاليا) للرومانيين فتكت الرومانيون بالغاليين (سكان الجول) أي غالة «فرنسا» وظفروا بهم، وفتحوا ما بين جبال «الألب» وجبال «بدنيبة» في سنة مائةٍ وعشرين قبل المسيح، وأسسوا فيه مدينتي «اكس وتاربون»، ثم فتح القيصر في ثماني سنين ما بقي من «غالة» إلى نهر «الران» من سنة ثمانٍ وخمسين إلى سنة إحدى وخمسين قبل الميلاد.

الحروب المدنية: في أثناء هذا الزمن كانت رومة تحت حكم السناتو، وكانت جمعية الأمة تحتشد في محلات معلومة، فكانت تارة تجتمع في «الغوروم»؛ أي ساحة السوق، وتارة كانت تجتمع في ميدان الفعلة لتنظر في مصالح العموم، ومع هذا كانت لا تخرج عن طاعة السناتو، وكانت القناصل لا تفعل شيئًا، ولا تقضي بأمر بدون ما تشاور هذا المجلس. وفي هذه الحروب قُتل جمٌّ غفيرٌ من رجال الرومانيين حتى إنه كاد لا يوجد إلا القليل من الرومانيين الأصليين، فدخل حينئذٍ في الجيوش الرومانية أغراب وجماعات لا مستقرَّ لهم، متنقلين على الدوام، ولم ينتظموا في سلك العسكرية إلا لاكتساب الدراهم، وسلب الأموال من الأمم المنهزمة.

وهاته الجنود التي كانت تحارب لاتخاذهم الحرب حرفة لهم يكتسبون منها، لا لأداء واجب، ولا لتقديم خدمة نحو وطنهم، كانوا لا يطيعون الحكومة ولا يعرفون لهم حكامًا يذعنون لهم إلا قُوادهم، فلما رأت ذلك القواد أرادت أن تحكم على السناتو، وتجعل لهم إمرةً عليهم، ولكن بما أنه يوجد جملة قواد، وكل واحد منهم يريد أن يكون سيدًا مستقلًّا بنفسه، حصل من ذلك شقاق ونزاع، أفضى بهم إلى قتالٍ أهليٍّ مكث ثمانين سنة، وهذا القتال كان في رومة وفي إيطاليا وفي جميع البلاد الخاضعة للرومانيين، فكانت حرب بين (ماريوس وسيلا) من سنة ثمانٍ وثمانين إلى سنة اثنتين وثمانين، وبين «سيتوريوس» و«بوبيه» و«سيزار» من سنة تسعٍ وأربعين إلى سنة خمسٍ وأربعين، وبين «أنتوان» و«أوكتاف» من سنة ثلاثٍ وأربعين إلى سنة ثلاثين قبل المسيح، وكان كل قائد ينتصر يصير حاكمًا مدة بعض سنين. ولكن هذا الحال لم يستمر على ذلك زمنًا طويلًا؛ إذ إنه لما ضجرت الناس وكلَّتْ، وأَعْيتْها الحرب، سلَّمت جميع السلطة إلى «أوكتاف» آخر منتصر، ولقِّب باسم أغسطوس وإمبراطور في سنة ثمانٍ وعشرين قبل المسيح، وما ألغى مجلس السناتو، ولكن لم يكن له أدنى سلطة، بل كانت السلطة والأحكام للإمبراطور، وفي حكم أغسطوس ولد المسيح.

الملخص

  • أولًا: إن رومة أُسست في سنة أربعٍ وخمسين وسبعمائة قبل الميلاد.
  • ثانيًا: إنها كانت أولًا محكومة بملوك، ثم من سنة خمسمائة وعشر كانت تحت حكم القناصل ومجلس السناتو.
  • ثالثًا: إنه حصل شقاق بين الأشراف والعامة، مكث زمنًا طويلًا، وانتهى الأمر بأن الأشراف أطاعوا، وصارت المساواة بين الاثنين في درجة واحدة.
  • رابعًا: كانت الرومانيون من أعظم عساكر القرون الخالية، ولذلك خضعت لهم الدنيا بأسرها.
  • خامسًا: إنهم ابتدءوا في قهر إيطاليا من سنة عشرٍ وخمسمائة إلى سنة اثنتين وعشرين ومائتين قبل الميلاد.
  • سادسًا: خضعت لهم قرطاجنة في ثلاث حروب، تدعى بالحروب «البونيكية» من سنة أربعٍ وستين ومائتين إلى سنة ستٍّ وأربعين ومائة قبل الميلاد.
  • سابعًا: إنهم فتحوا بلاد الشرق بدون مشقة وعناء.
  • ثامنًا: إنهم قهروا الغاليين وأخضعوا بلاد الغرب.
  • تاسعًا: لما كانت الجيوش خاضعة لقُوادها، وأرادت القواد أن تكون حكامًا، حصل من ذلك حروب أهلية مكثت زمنًا طويلًا، وانتهى الحال بأن صار أحد القُواد حاكمًا تحت لقب الإمبراطور في سنة ثمانٍ وعشرين قبل المسيح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤