الكلام على المملكة الرومانية وولاياتها

قد عرفنا قبل ذلك أن اليونانيين فتحوا بلادًا عديدة خلال ما كانوا تحت حكم الجمهورية، وكذلك إمبراطرة الرومانيين استمروا على فتح البلاد وإخضاع العباد مدة مائة سنة تقريبًا، ففتحوا البلاد التي تُسمى الآن «إنكلترا، وإسبانيا، وفرنسا، وسويسه، وبافييروا، وأوتريش (أي بلاد النمسا)، وتركيا، وآسيا الصغرى، وسورية»، وفتحوا جميع شمال أفريقيا، وجميع هذه الفتوحات كانت منقسمة إلى ستٍّ وأربعين ولاية، وفي كل ولاية كان يُرسَل والٍ ليحكم عليها، ويبعث وكيل ليجمع الضريبة، وهاته الولاة كانت مشتغلة بنهب الرعايا عِوَضًا عن أن يعاملوهم بالعدل والإحسان، ولكن لما رأى ذلك الإمبراطرة منهم صاروا يراقبونهم في أعمالهم، وأمروهم بأن يُحسنوا الاستعمال معهم، ويعاملوهم بالرفق واللين، فسُرَّ من ذلك الرعايا سرورًا زائدًا، وفضلوا حكم الإمبراطرة على حكم الجمهورية.

الكلام على الاثني عشر قيصرًا: كانوا يُسمون الإمبراطرة الذين حكموا رومة من سنة ثمانٍ وعشرين قبل المسيح إلى سنة ستٍّ وتسعين بعد المسيح قياصرة، وكان عددهم اثني عشر قيصرًا، وكان لهذه القياصرة القدرة العامة والسلطة التامة، فكانت الناس تذعن لكل ما يأمرون به، ويشيرون بفعله، حتى إنهم كانوا يقولون: إن الإمبراطور هو «القانون الحي»، وكان بعض هذه القياصرة عادلًا منصفًا موجهًا جلَّ عنايته إلى ما يعود بالمنفعة، ويأتي بالخير، ويجلب التقدم والشرف لحكومته، مثل: «أغسطوس فسيازيان» و«تيتوس»، وأغلبهم كان متبعًا هوى نفسه مسحوبًا بأحبال شهواته، سائرًا وراء أغراضه الشخصية، منقادًا لأوامر تلذذاته الجسدية، لا يلتفت إلا للدنيا وزخرفها، تاركًا مصالح العباد، ومنهم من كان بخيلًا ضنينًا وجبارًا عنيدًا ظالمًا فاجرًا، مثل: «تيبير» و«نيرون» و«دوميسيان»، فإنهم كانوا يقتلون كلَّ من لم يعجبهم ويغتصبون أموال الأغنياء، ومنهم من كان يجبر الخلق على عبادته كإله، مثل: «كاتيجلا»، فإنه كان مجنونًا، ومنهم من كان لا يكلف نفسه أدنى عناء في الالتفات نحو الأحكام، مثل: «كلودد» و«نيرون»، فإنهما كانا تاركين الحكومة في أيدي عبيدهم وعتقاهم يديرونها كيفما شاءوا، ويوجهون عنانها أينما أرادوا.

ثم خلف هاته القياصرة خمسة إمبراطرة عادلون منصفون، أشهروا الحق، وأوضحوا الطريق المستقيم، وحادوا عن طرق الفسق والعتو والفساد، واتبعوا خطة الرشاد، وسنوا قوانين صادرة عن عدل وإنصاف؛ إذ إنه كان كل قاضٍ يسن قانونًا بنفسه؛ ليحكم على مقتضاه، فمنعوا ذلك كليةً، وحرَّروا نواميس عمومية لتحكم بنصها جميع القضاة، وكان قبل حكمهم السيد يقتل عبده إذا أراد، فمنعوا هذا الظلم الجائر والعتو الفظيع، وقد أخذت الأوروباويون بعض قوانين من نواميسهم، أدخلوها في شرائعهم، لم تزل موجودة إلى الآن، وهذه الإمبراطرة الخمسة كانوا صناديد ينزلون إلى الهيجاء بأنفسهم، ويحامون عن رعاياهم بقدمٍ راسخٍ وقلبٍ ثابتٍ، فإنهم ردُّوا الأمم البربرية قاطبةً الذين كانوا أغاروا على الحدود الرومانية من جهة نهر «الدانوب».

التمدن الروماني

إن الرومانيين كانوا أولًا ناسًا همجًا متوحشين، لا يعرفون غير الزراعة والتضارب، ولكنهم لما اختلطوا بأهل آسيا واليونان تعلَّموا منهم القراءة والكتابة، وألَّفُوا الكتب الجليلة، وألقوا الخطب الرائقة، وشيَّدوا الأبنية الفاخرة، ونصبوا التماثيل الجميلة، وبسببهم تمدَّنت أهالي «إيطاليا، وفرنسا، وأسبانيا، وإنكلترا»؛ إذ إنهم كانوا قبلهم أممًا بربرية لا يدرون شيئًا كالأنعام يرعون في الخلاء، وينامون في المغارات، وكان ليس لهم مدنٌ يسكنونها، وكانت بقعتهم مملوءة بالأجمات والحشائش، فلما فتح الرومانيون هذه البلاد هيئوا فيها الطرقات، وشيَّدوا المدن، ورفعوا فيها المعابد والتياترات والحمامات، وعلَّموا الأهالي جميع الفنون التي تعلَّموها من اليونانيين، وتكلم يومئذٍ جميع سكان المملكة باللغة اللاتينية، وتعوَّدوا بعوائد الرومانيين، وتخلَّقوا بأخلاقهم، وعاشوا كعيشتهم، وفي فرنسا موجود نحو مائة مدينة تقريبًا كانت رومانية الأصل، وكثيرًا ما وُجِد فيها أطلال وتماثيل من عصر الرومانيين، وأقوى دليل على أن هذه المدن كانت رومانية الأصل هو لغة الفرنساويين، فإن أصلها لغة لاتينية.

الكلام على حكم الجنود: إن القياصرة الذين تولوا المُلك بعد الخمسة إمبراطرة من سنة اثنتين وتسعين ومائة إلى سنة أربعٍ وثمانين ومائتين لم يكونوا مُطلَقِي الحرية في أحكامهم؛ إذ إن الجنود كانوا عَتَوا عتوًّا عظيمًا، وتمرَّدوا حتى إنهم صاروا كسلاطين، فكان الملك الذي لا يعطيهم نقودًا كثيرةً لا يطيعون لحاكمه، ولا يذعنون لسلطانه، ويقتلونه ثم يقيمون بعده ملكًا سواه على حسب إرادتهم. وكان يوجد يومئذٍ جملة جيوش رومانية متفرِّقة؛ فمنها جيش كان في إنكلترا، وآخر كان على شواطئ نهر «الران»، وسواه على سواحل نهر «الدانوب»، وغيره في الشام، وكانت عصا هاته الجيوش غالبًا منشقة، وعُراهم منفصمة، لا يتَّحدون في كلمةٍ، ولا يتَّفقون على رأي، فمن ذلك كان لكل جيشٍ ملكٌ، وكانت نارُ الحروب مضرمة بينهم على الدوام، وقد أقاموا نحو عشر سنين من سنة تسعٍ وخمسين ومائتين إلى سنة سبعين ومائتين، وهم تحت إمرة عشرين إمبراطورًا في آنٍ واحدٍ، ومن هذه الإمبراطرة ما كان غريبًا مثل «إيليوجبل»، فإنه كان كاهنًا من الشام وكانت عادة هذا الإمبراطور أن يتزيَّا بزيِّ النساء.

تأسيس القسطنطينية: ثم أتى بعد ذلك جملة إمبراطرة قرَّرُوا لمنع الحروب الأهلية أن يحكم دائمًا إمبراطوران معًا؛ أحدهما في الغرب، والآخر في الشرق.

ولما استولى الحكم «قسطنطين» شيَّد في سنة ستٍّ وعشرين وثلاثمائة القسطنطينية في أربع سنين، وأحضر فيها بالقهر سكانَ جميع المدن المجاورة لها، ونقلَ كرسي سلطنته إليها. ومن ابتداء هذا الوقت كان يحكم إمبراطوران معًا؛ أحدهما بالقسطنطينية، والآخر بإيطاليا. وكانت عيشة هذه الإمبراطرة مباينة لعيشة من ولي الأحكام قبلهم؛ إذ كان الواحد منهم يتتوج بتاجٍ مرصعٍ بالجواهر واللؤلؤ، ويجلس في قصره على كرسي من الذهب لابسًا ثوبًا طويلًا مزركشًا بالذهب، وكان كل من يقترب منه يسجد أمامه على الأرض، وكان يجعل حوله دائمًا خدمًا وحشمًا يعبدونه كإله، وبالجملة كانت حاشيته تشابه لحاشية قدماء ملوك الفرس.

سقوط مملكة الرومانيين: لما احتاجت الإمبراطرة إلى نقود كثيرة لتصرفها على خدمهم وحشمهم وجنودهم، قررت على الأهالي فريضة من المال تدفعها سنويًّا، وإذا تأخَّر سكان مدينة عن الدفع كانوا يُجبِرون أصحابَ الأملاك على قضائها عوضًا عن جميع أهالي المدينة، فمن ذلك في مدة مائة سنة اندثرت حالة أصحاب الأملاك، وأصبحوا لابسين ثيابَ الإملاق، يُشيرون بِبنان الفاقة على ما لحقهم من الانحطاط، وأمست الإمبراطرة لا تجد رجالًا لتلقيح الأراضي ولا للمدافعة عن بلادهم، ودخلت في مملكتهم أقوام من البرابرة من كل فجٍّ. وفي سنة أربعمائةٍ وستٍّ وسبعين خلع «أدواكر» أحد رؤساء هذه الجماعات آخر إمبراطور من أرض الملك، وما بقي إلا إمبراطور القسطنطينية.

الملخص

  • أولًا: إن البلاد التي أخضعتها رومة وفتحتها كانت تسمى بالمملكة الرومانية، وهي كانت منقسمة إلى إيالات، كلُّ واحدة محكومة بحاكم.
  • ثانيًا: إن الإمبراطرة الأُوَل كانت اثني عشر قيصرًا، وكان حكمهم من سنة ثمانٍ وعشرين قبل المسيح إلى سنة ستٍّ وتسعين بعد المسيح، وأغلبهم كان قاسيًا ومجنونًا.
  • ثالثًا: ثم أتى بعد هذه القياصرة إمبراطرة كان حكمهم من سنة ستٍّ وتسعين إلى سنة مائةٍ واثنين وتسعين بعد المسيح، وهاته الإمبراطرة كانت اشتهرت بالعدل والإنصاف والعقل، وأتمُّوا القانون الروماني بعد ما أصلحوا فيه.
  • رابعًا: إن المملكة الرومانية كانت إذ ذاك متمدِّنة مشيدة فيها المدن ومعبورة بالسبل، ولم يزل الأثر موجودًا يدل على ذلك.
  • خامسًا: إن الجيوش الرومانية تسببت في دمار المملكة؛ إذ إنها كانت تشن الغارات مع بعضها على الدوام.
  • سادسًا: إن الإمبراطرة الذين أوجدوا النظام قسموا المملكة إلى قسمين؛ أحدهما شرقيٌّ والآخر غربيٌّ، وأسسوا القسطنطينية في سنة ستٍّ وعشرين وثلاثمائة.
  • سابعًا: من هذا الوقت كانت الإمبراطرة تعيش كملوك الفرس محاطين بخدم وحشم.
  • ثامنًا: إن هذه الإمبراطرة تسببوا في دمار المملكة من الضرائب التي كانوا يأخذونها من أصحاب الأملاك، ولما وجَدَت الأمم البربرية أن أهالي البلاد لبسوا ثياب الاحتياج، وتركوا ديارهم، دخلوا فيها، ودمروا المملكة الغربية في سنة ستٍّ وسبعين وأربعمائة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤