مقدمة

خير ما في استطاعة كاتب أن يهديه إلى قومه من ثمرات قلمه؛ كتابٌ يُضمِّنه شيئًا من بيان حال بلادهم؛ ماضيها وحاضرها وآثار العمران فيها في كل زمان، وحال مَنْ عمرها والنهج الذي نهجوه في تعميرها؛ حتى يكون لهم بذلك سفرٌ يجتنون منه لمستقبلهم ما يصلح به الحال، ويحسن المآل؛ لأن خير العلم الذي ينتفع به المرء إنما هو العلم الذي يبدأ به بنفسه وبقومه، والثمرات التي يجتنيها من مثل هذا العلم لا يتأتى له اجتناؤها من العلم بغيره من بقية الأقوام؛ إذ لكل قوم في عاداتهم وأخلاقهم ومشاربهم وموقع البلاد التي استوطنوها وطبيعة تربتها ومائها وهوائها من المميزات ما يجعلهم في بعض الشئون صالحين لما لا يصلح له غيرهم، حتى يكاد يكون لكل قوم تربية خاصة بهم لا تنطبق على شئون غيرهم كل الانطباق.

فالهدية التي رأيت خير ما في إمكاني أن أهديها إلى اللبنانيين أبناء وطني العزيز؛ سَفْرٌ أُضمِّنه ثمرات بحث الباحثين، ونظر المحققين المدققين في أحوال جبل لبنان، وما طرأ عليه من طوارئ الحدثان، وأضم إلى ذلك كل ما عنَّ لي من الخواطر، ووصلتُ إليه من المعلومات عن هذا الجبل القائم عند البحر المتوسط؛ كخطيب كلَّل الشيبُ هامته ليحدِّث عن غير الدهر فيه وفي ما حوله من السهول المطمئنة والآكام والروابي، وهذه كلها مصغية إليه إلا البحر كأنه عاهد الدهر على كتمان الأسرار فجعل يقطع على الخطيب حديثه، فيلطمه بأمواجه فيدفعها الجبل بإسناده، فترتد عنه ممزقة من الغيظ من عناده في إفشاء الأسرار من مفاعيل الأقدار.

إلا أن لغة هذا الخطيب القديمة لغة الطور الحجري أو طور الظران التي تنبئنا عن سكان هذا الجبل أيام كانت شفار الإنسان، ومخارزه، ومقاشطه، ومجارفه، وغير ذلك من أدواته من صوان ومن الخزف صقيلًا أو غير صقيل لم تكشف لنا أسرار جميع ذلك الطور؛ إذ لم يتصل إلينا من تلك الأدوات وغيرها من الآثار الناطقة بأحوال الناس يومئذٍ من مثل عظام الحيوانات التي كانوا يصيدونها أكلًا لهم وعظامهم أيضًا إلا المتحجرات التي اكتشفها علماء طبقات الأرض من الغرباء في ما اهتدوا إليه من مغاور لبنان وكهوفه. والغريب أعمى ولو كان بصيرًا؛ فبقي لذلك كثيرٌ من تلك الأسرار مدفونًا في قلب تلك الآثار المستورة.

وأما لبنان بعد انقراض ذلك الطور وازدهائه بالطوائف التي عمرته إلى أن سقطت صيدا في منتصف القرن الثالث عشر، فتاريخه لا يُعلَم منه إلا ما ورد في التوراة، وما بقي من أقوال المؤرخ الفينيقي البيروتي سنكن يتن، والمؤرخ فيلون الجبيلي، وما أذاعته الخرافات والتقاليد.

ثم إن تاريخ لبنان بعد سقوط صيدا تغشاه ظلمات من الجهل كثيفة، وغاية ما ينكشف منه للباحث عن حقيقته ما يُستخرَج من تواريخ الأقوام التي بلغت بفتحها هذا الجبل أو الأقوام التي لجأت إليه فرارًا من وجه الأعداء؛ لأنه كان في الغالب إما ملجأ الفارين أو محط رحال الفائزين.

ولم يُذكَر شيء من تاريخ هذا الجبل ذكرًا مقصودًا بنفسه إلا التاريخ الحديث منه، ومع هذا فإن الذين توخوا ذكره من الإفرنج لم يكونوا في مأمن من السقطات الناشئة عن جهل لغة أهل البلاد التي كتبوا عنها وطباعهم وأخلاقهم وعاداتهم، والذين توخوا ذلك من أهل لبنان نفسه لا نبرئهم من العيب التاريخي بما هو ظاهر على كلامهم من مسحة التحزب.

فالمهمة التي انتدبتُ نفسي لها بإهداء مثل ذلك السفر إلى إخواني اللبنانيين ليست ميسورة الأسباب من كل الوجوه، وأفضل طريق رأيت أن أنهجه في اتقاء تلك العيوب التاريخية أن أكتب عن كل طائفة من طوائف لبنان راجعًا في ما أكتب إلى ما رواه علماؤها عنها تاركًا بذلك لنظر المطالعين مجالًا ولحكمهم مقامًا.

وقد جعلت هذا السفر جزأين تسهيلًا لتداولهما.

فالمسئول من أهل النظر والتحقيق أن يراعوا ما عرض لي من الصعوبات في التأليف ويقابلوه بالمعذرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤