لبنان

لبنان كلمة عبرانية معناها الأبيض، وهو مأخوذ من بياض الثلج الذي يغشى قممه صيف شتاء، وهذه التسمية من قبيل تسمية الشيء بظاهرة من ظواهره كما هو جارٍ في أوضاع أكثر اللغات. فلا شيء يؤثر في نفس الناظر إلى لبنان عندما تقع عينه على قممه أكثر من بياض الثلج الذي يغشاها. وغالب الظن أن التعليل في هذه التسمية على هذه الصورة إنما هو أدنى ما يكون إلى الصحة، فقد سُمِّيَتْ جبال كثيرة باسم «الأبيض»؛ لما يكسوها من الثلج؛ مثل جبال حملايا١ التي هي أعلى جبال الدنيا، وكذلك جبل الشيخ لحرمون الكبير من سلسلة جبال لبنان الدنيا، وكذلك جبل الشيخ لحرمون الكبير من سلسلة جبال لبنان، فإن تسميته بالشيخ — كما قال أبو الفداء — إنما هي لاكتساء قمته بالثلج كاكتساء هامة الشيخ بالشيب. وقد ذهب البعض من المحققين إلى أن تسمية لبنان بهذا الاسم مأخوذة من صنف الشجر الموجود في أرضه كثيرًا المسمى باللبني، وقال آخرون: من كلمة فارسية يقرب لفظها من لفظ لبنان، ومعناها فتات الخبز. وقيل أيضًا: لبياض صخوره الكلسية. ولكن هذه الأقوال كلها بعيدة بحسب حكم العقل عن الصواب، وما أوردناها إلا من قبيل التوسع في التفصيل.

(١) حدود لبنان

لبنان يشتمل على سلسلتي جبال على شاطئ البحر المتوسط تمتدان من الشمال إلى الجنوب، وهما من حيث الموقع وبعض الأحوال الطبيعية لا يصح فصلهما إلى جبلين منفردين، وخصوصًا لأن التأريخ القديم يقضي باعتبارهما جبلًا واحدًا، ولكن لما كانت بغيتنا من هذا الكتاب مقصورة على القسم الغربي، وكان لنا من المميزات الطبيعية ما يمكننا من فصلهما فصلناهما إلى لبنان الشرقي وإلى لبنان الغربي كما هو مشهور عند اللبنانيين اليوم؛ فالغربي تبتدئ سلسلته من وادي قلعة الحصن ودير الحميراء بالقرب من جبال النصيرية شمالًا، وتنتهي في وادي الليطاني عند قلعة الشقيف جنوبًا، وأعلى رءوسه فم الميزاب فوق طرابلس، وارتفاعه أحد عشر ألف قدم، ثم رأس صنين وارتفاعه تسعة آلاف قدم.

وأما الشرقي، فتسير سلسلته من الشمال على بعد مرحلة من حمص جنوبًا بين حسيا وشمسين تجاه آخر جبال النصيرية، ثم تأخذ إلى الجنوب الغربي، وبينها وبين السلسلة الغربية سهول بعلبك وبقاع العزيز، وتُعرَف عند الأقدمين بأسماء ثلاثة: كيلي سورية؛ أي سورية المجوفة، وسورية الثانية، وسورية الوسطى. وأعلى رءوس لبنان شرقي جبل الشيخ فوق حاصبيا وارتفاعه عشرة آلاف قدم، وتمتد من هذا الجبل شعبة إلى الجنوب الشرقي، ثم إلى الجنوب البحت، وتنتهي في موضع يُقال له: تل الفرس.

ولو أردنا أن نذكر جميع الجبال التي يتناولها اسم لبنان بحسب اصطلاح أبناء القرون الأولى وبعض أبناء القرون الوسطى لامتدَّ لبنان إلى جبل جلعاد — وهو جبل الصلت — وإلى جبل الكرمل وارتفاعه ألف وخمسمائة قدم. ولكن غرضنا من لبنان في تأريخنا هذا إنما هو ما يحده من جهة الشمال جبل تربل فوق طرابلس، ومن الجنوب جبل الريحان فوق صيدا، ومن الغرب البحر المتوسط، ومن الشرق وادي البقاع أو سورية الثانية، وما زاد على هذا فهو خارج عن حد موضوعنا إلا أننا يلزمنا في كثير من الشرح والتفصيل أن نُورِد هذا القسم متصلًا بغيره مما هو مندرج تحت اسم لبنان بحسب التأريخ القديم؛ لأن أبناء تلك القرون القديمة جمعوا في كلامهم على لبنان بين السلسلتين الغربية والشرقية، ووسعوا في نطاقهما كثيرًا كما سبق لنا أن أشرنا إلى هذا فيما تقدَّم.

(٢) سهول لبنان

يتصل بسلسلتَيْ لبنان ثلاثة سهول فسيحة؛ وهي: السهل الممتد من أمام جزيرة أرواد إلى وجه الحجر شمالي البترون، حيث ينتهي بالجبل والجًا في البحر، ويُعرَف هذا المولج برأس الشقعة أو رأس النورية، ثم يمتد هذا السهل من ناحية البترون إلى بيروت على اختلاف في عرضه، ثم يتناول الشويفات الفسيحة، ويتصل بالمكان المعروف بخلدة على شاطئ البحر فينقطع هنالك قليلًا، ثم يبتدئ فيمتد حتى المكان المسمى بالسعديات وراء الدامور، فينقطع هنالك ويلبث منقطعًا إلى حد القرية المسماة بقصوبة من قرى إقليم الخروب، ثم يبتدئ آخذًا بالانفراج قليلًا حتى ما وراء الجية حيث ينتهي في مكان يُقال له: زاروط، ومن بعد ذلك يبتدئ من رأس الرميلة بالقرب من بساتين صيدا الشهيرة، ثم يجيء بعد هذا قسم من الأرض المستغدرة في بعض المواضع منها تمتد على شاطئ البحر إلى نهر القاسمية، ومن وراء هذا النهر يجيء سهل صور الذي ينقطع عند رأس الأبيض وهو على بعد سبعة أميال من صور إلى جنوبي الجنوب الغربي، ويلبث منقطعًا حتى رأس المشيرفة الذي تُشرِف منه على سهل عكة المنتهي عند جبل الكرمل، والمعروف بمرج ابن عامر وارتفاعه أربعمائة قدم، وأما السهل الثاني: فهو السهل المسمى بسهل البقاع، تكتنفه الجبال من جميع جهاته، وفي رأسه من جهة الشمال مدينة بعلبك ذات القلعة الشهيرة، وينتهي جنوبًا عند جبل الشيخ وطوله نحو سبعين ميلًا، وعرضه بين ثلاثة أميال وسبعة، ومساحة أرضه أربعمائة ألف فدان (الفدان ألف وستمائة ذراع مربع) وارتفاعه عن سطح البحر تسعمائة متر.

وأما السهل الثالث: فهو سهل دمشق، يمتد من سفح الجبل الشرقي إلى بادية سورية، وارتفاعه سبعمائة وثلاثون مترًا عن سطح البحر.

وهذه السهول عجيبة الخصب في تربتها، ولا سيما السهل الأخير منها، وإننا لم نتصدَّ لذكرها مع عدم اختصاص لبناننا اليوم بشيء منها إلا لِنُبيِّن فيما يأتي أن لبنان بعيد العهد في الحضارة.

وقبل الانتقال من هذا المطلب — مطلب السهول — يجدر بنا أن نذكر ما عراها من التغيير والانقلاب، وأفضى بها إلى ما هي عليه الآن، وذلك على أثر الزلازل الناشئة عما في بطن الأرض من الموارج من النيران، وعلى أثر ما يحدث للأرض من حركات خفيفة بطيئة متتابعة على ممر السنين.

أما الزلازل فقد ذكرها كثيرون من المؤرخين الشرقيين القديمين والحديثين ممن كتبوا في سورية، وقد اهتموا بذكر تلك الحوادث، وبالغوا في وصف آثارها مبالغتهم في كل شيء رأوه في سنتهم فوق العادة من قحط وجوع وظهور نجوم ذات أذناب وغير ذلك، وكثيرًا ما شغلهم هول المشهد ورعب الأثر واعتقاد أن ذلك ضربة خفية من يد خفية لا تبلغها نفوس العالم الأدنى بمداركها عن استكناه تلك الضربات، وإننا لنرى العالم منهم بالغًا منه حب البحث عن الحقائق ما بلغ يقف عند حد واقع الحال، ولا يتعدَّاه إلى التعليل.

وقد رأينا في العددين ٧ و٨ من مجلة المشرق مقالة للعالم الأب هنري لامنس اليسوعي في «الزلازل في سورية وبيان نواميسها وسيرها» يتبين منها ما كان لهذه الزلازل من الأثر في بعض الأماكن من تلك السهول؛ مما غيَّر بعض الشيء في وضعها، فرأينا أن نلخص منها ما يتعلق بمطلبنا، وإننا لنأسف كما أَسِف حضرته على ما فات المؤرخين في أوصافهم المسهبة من مراعاة ما تقتضيه الأبحاث العلمية من التحقيق، ولكن لا غرو أن نرى مثل ذلك صادرًا عن أبناء بلاد المعجزات؛ بلاد قام فيها حول العقيدة الخالصة سور منيع.

إن ما يصيب الثغور الشامية من الزلازل جارٍ بين خطين متوازيين على قدر معلوم، ثم ينحرفان إلى ملتقى واحد عند حلب بشكل زاوية حادة، فالخط الأول — وهو الغربي — يبتدئ عند مجرى دجلة السفلي بقرب ديار بكر ويجري إلى الرها «أورفة» فمنبج فحلب فأنطاكية، ثم يميل إلى الجنوب فيمر بساحل البحر إلى عسقلان وغزة حيث ينتهي، وبناءً عليه فإن هذا الخط يجتاز جميع ساحل لبنان. والخط الثاني — وهو الشرقي — يبتدئ عند عينتاب، وينحدر مستقيمًا نحو الجنوب، ويقطع الخط الأول عند حلب، ثم يجوز سائرًا في وسط وادي العاصي ووهاد بلاد البقاع إلى غور الأردن.

ففي مواقع الخط الأول من البلاد المجاورة للبحر المتوسط وقع على ما رواه أصحاب الآثار عدة من الزلازل في السنين الآتية للمسيح؛ وهي: سنة ١٣١، و٣٦٠، و٣٣٣، و٣٤٠، و٣٨٧، و٤٤٤، و٤٥٨، و٥٢٩، و٥٤٣، و٥٦٠، و٥٨٠، و٥٨٩، و٧١٣، و٧٧٥، و٨٥٣، و٨٥٩، و١٠١٦، و١٠٣٣، و١٠٦٣، و١٠٦٩، و١١٠٩، و١١٢٩، و١١٥٥، و١٢٠٤، و١٢١٢، و١٣٣٩، و١٤٠٢، و١٥٤٦، و١٦٥٦، و١٧٨٣، و١٧٩٦، و١٨٢٢، و١٨٥٩، و١٨٧٢، و١٨٧٣.

وحدثت عدة زلازل قبل المسيح منها ما أخبر به إسترابون في عرض الكلام على الموقعة التي جرت في سنة ١٤٣ قبل المسيح بين أهل عكة والقائد سربيدون؛ إذ قال: «جاشت مياه البحر بين عكة وصور، وامتدت كما في المد، وأغرقت مَنْ فرَّ هاربًا من جنود سربيدون، ولما حُسِرَت المياه وُجِد جيشهم على سيف البحر بين الأسماك الهالكة.»

ومن أعظم الزلازل الزلزلة التي حدثت أيام يوستينيان الأول في سنة ٣٤٥، واشتهر ذكرها في التأريخ، وبقيت آثارها إلى أيامنا هذه دالة على ما حدث في بعض الأماكن من تغيير هيئة الساحل. قال المؤرخ ثاوفان: «إن رأس الشقعة موقعه بين البترون وطرابلس، قُذِفَ يومئذٍ إلى البحر، وصار في مكانه خور واسع، وأصبحت الطريق شمالي هذا الرأس متعذَّرًا سلوكها، وأصبح الساحل صخورًا قائمة فوق وجه الماء قيامًا عموديًّا.»

ولا غرو، قال الأب هنري لامنس: «إن حادثًا من مثل ما تقدَّم ذكره حدث فغيَّر شكل الأراضي الساحلية، فانخسفت الأرض في عدة أمكنة وساخت، ولا سيما في قيسارية وصور وصيدا وبيروت وجبيل والبترون، وربما كان ذلك هو السبب المانع من تعيين موقع صور قديمًا وموقع صيدا كذلك تعيينًا محكمًا بالضبط والدقة، وفي كل هذه المدن يُرى عند ركود ماء البحر مآثر جليلة ومبانٍ عظيمة قد غمرتها المياه منذ قرون عديدة، ويُشاهَد عند مصب نهر الكلب آثار مقالع قديمة وهي اليوم تغمرها مياه البحر.»

هذا، ومن مثل ما أشار إليه الأب لامنس من الآثار الدالة على تغيير السواحل يشاهد كثير كما في الرأس الواقع إلى جهة الجنوب من المحلة المعروفة بخلدة، وكذلك في الأمكنة القريبة من الجية.

وفي الخط الشرقي، حدثت زلازل كثيرة خص الأب منها بالذكر ما حدث في السنين الآتية: ٧٣٨، و٧٤٦، و٩٩٢، و١١١٤، و١١٣٨، و١١٥٧، و١١٧٠، و١٣٠٢، و١٣٠٧، و١٦٥٩، و١٦٦٦، و١٧٥٩، و١٨٣٧، و١٨٥٤.

قال تاوفان: «إن زلزال ٧٣٨ حلَّ في وادي الأردن وفي البرية الواقعة بين القدس وبحر لوط؛ فدمَّرَ غالب أديرة تلك الأنحاء.»

وقال ابن الأثير في تاريخ سنة ١١٧٠ / ٥٦٧ﻫ: «أن حدثت في هذه السنة زلزلة لم يَرَ الناس مثلها عمت أكثر بلاد الشام والجزيرة والموصل والعراق وغيرها من البلاد، وكان أشدها بالشام، فخرب كثير من دمشق وبعلبك وحمص وحماة وشيزر وبارين وحلب وغيرها.»

ووصف كمال الدين المعروف بابن العديم في كتاب «زبدة الحلب في تاريخ حلب» الزلزلة التي وقعت في سنة ١١٣٨ وصفًا هائلًا، وقد يظهر من مفاعيل مرج النيران في بطن الأرض في مواقع الخطين، فالزلزلة حينئذٍ تكون أسوأ عاقبة كما كان في زلزلة سنة ٨٥٩ / ٢٤٥ﻫ مما وصفه الطبري؛ إذ قال: «كانت في هذه السنة بأنطاكية زلزلة ورجفة في شوال تقطَّع بها الجبل الأقرع، وسقط في البحر فهاج وغار منها نهر على فرسخ لا يُدرَى أين ذهب، وأصاب حمص ودمشق والرها وطرسوس وأدنة وسواحل الشام، وأرجفت اللاذقية، وذهبت جبلة بأسرها.» وحدث مثل هذه الزلزلة واحدة في سنة ١١٥٧ / ٥٥٢ﻫ خربت منها: حماة، وحمص، وأنطاكية، واللاذقية، وطرابلس، وبيروت، وصيدا، وصور، وعكة.

وأثبت عبد اللطيف البغدادي في كلامه على زلزلة سنة ١٢٠٢ في كتاب «الإفادة والاعتبار» نسخة كتابين وردا من حماة ودمشق يتبيَّن منهما أن تأثرت من تلك الزلزلة قلعة حماة مع إتقانها وعمارتها، وبارين مع اكتنازها ولطافتها، وبعلبك مع قوتها ووثاقتها. وتساقطت عدة مساكن بدمشق على أهلها، وأن بانياس سقط بعضها، وكذلك صفد وتبنين ونابلس لم يَبْقَ بها جدار قائم سوى حارة السمرة، وأما بيت جن فلم يَبْقَ منها ولا أساس الجدران إلا وقد أتى عليه الخسف، وكذلك أكثر بلاد حوران غارت، ولم يُعرَف لبلد منها موضع يُقال فيه: هذه القرية الفلانية. وجاء في أحد الكتابين: «يُقال إن عكة سقط أكثرها، وصُور ثلثها، وعرقة خُسِف بها، وكذلك صافيتا، وأما جبل لبنان وهو موضع يدخل الناس إليه بين جبلين يُجمَع منه الريباس الأخضر فيُقال عنه: إن الجبلين انطبقا على من بينهما وكانت عدتهم تناهز مائتي رجل.»

وقد سبق لنا أن قلنا: إن الزلازل ليست هي وحدها محدثة التغيير في سواحل لبنان، بل يشترك معها في ذلك ما يحدث للأرض من حركات خفيفة بطيئة متتابعة على ممر السنين، فقد أثبت العالم الأب غدفريد زموفن — مدرس الطبيعيات في كلية القديس يوسف — في العددين ٩ و١٢ من مجلة المشرق، مقالتين في ارتفاع ساحل بيروت وسورية أنتج منهما أن ساحل سورية على طول مداه قد ارتفع، وأن ذلك يظهر خصوصًا من قرب غور المياه في المرافئ القديمة: كيافا، وصور، وصيدا، وطرابلس. ومن الرواسب البحرية التي تُرى الآن مرتفعة فوق سطح البحر.

وبالجملة، فإنه مما لا شبهة فيه أن جبلًا قائمًا مثل لبنان يناطح بشماريخه السحاب كبرياءً فتقشَّر جلده بقذائفها من ثلوج وسيول جارفة، وينظر إلى البحر عند مواطئ أقدامه ازدراء، فيرغي البحر ويزبد عليه، ويصدمه بأمواجه صدمات الأبطال المغاوير، وينظر إلى ما حوله من السهول الراقدة المطمئنة فيتلظى قلبه بنيران الحسد لها على سكينتها جبلًا مثل ذلك، لا بد أن يعتريه هو وما حوله التغيير والتبديل على ممر السنين.

(٣) تربة لبنان

إن تربة البنان هي في الغالب طبقة رقيقة مرتكزة على الصخور، وأما في الوديان فسميكة لتراكم الأجراف فيها. ولما كانت الأرض في لبنان شديدة الانحدار عمد أهله إلى معالجتها بالجدران صونًا لترابها من السيل، وهنا يجمل بنا أن ننبه اللبنانيين إلى أمر لا يخلو من الفائدة لو وُضِع موضع العمل به؛ ذلك أن تُترَك الأرض الشديدة الانحدار بدون حرث منبتًا لصنوف الأشجار التي تقوى على النمو فيها بدون حرث تربتها مثل أشجار الآجام المتروكة وشأنها من النماء الطبيعي؛ فإن ذلك أصون لترابها من الجدران. وفي هذه الأشجار منفعة أعظم من غيرها سواء كان من جهة صون التراب لتماسك أجزائه بما يشتبك فيها من الجذور، أو كان من جهة الريع؛ فإن ريعها بطول المدى يجيء أكثر من غيرها، وأما لو حُرِثت هذه الأرض فإنها لا تكون في مأمن من جرف السيول مهما عُولِجَتْ بالجدران، فإن المجروف من ترابها بمياه السيل يذهب من خلال الجدران. هذا إذا لم يثغر السيل نفسه تلك الجدران ويذهب بترابها، ففي كل حال لا يمر بتلك الأرض المنحدرة زمن حتى تمسي فاقدة لما عليها من تلك الطبقة الترابية، وينكشف من تحتها صخور لا تنبت شيئًا. وقد ذهبت الغرة ببعض الناس إلى أن عمدوا إلى شيء من أراضي تلك الآجام على ما هي عليه من الانحدار فقطعوا أشجارها، واستأصلوا أرومها، وجعلوا يحرثونها ويزرعونها مغترين في أول الأمر بخصبها بسبب المتناثر من أوراقها طبقة فوق طبقة، فأدى بهم الأمر إلى أن رأوا تلك الأرض بعد مدة من الزمان فاقدةً لما كان عليها من التراب، غير صالحة للزرع ولا للغرس، مع أنهم لو أبقوها عامرة بأشجارها لانتفعوا بها كثيرًا. أما نرى أن اللبنانيين كانوا في القرون الغابرة مشهورين بتجارة الأخشاب من الأرز وغيره مما كان يُستعمَل في اصطناع السفن والمباني؟ ولكن ربما كانت الحاجة اضطرتهم في ذلك كله إلى اجتناء الثمرات الدانية وإنْ قلَّ مقدارها، والتغاضي عن الثمرات القاصية وإن كثر مقدارها.

والأرض اللبنانية في كل حال كريمة صالحة للنمو بما يدخل في تراكيبها من الجواهر والأجزاء العضوية الصالحة لغذاء النبات ونموه، وهذه الأرض تختلف ألوانها، فمنها بيضاء وحمراء وسوداء، وما يلامس الصخور منها يكون عِذْيًا تزداد صلاحيته للإنماء بعذاوته المكتسبة من ملامسة الصخور وبما يدخل في تراكيبه من المتحات من بعضها؛ لأن هذه الصخور لا تخلو أن تكون إما من الطباشيري، أو من الجصي، أو الصدفي، أو الرملي، أو الصواني. وبالجملة، فإن أرض لبنان جيدة كثيرًا، وإن كان المستعمل منها قليلًا؛ بسبب كثرة الصخور فيها. واللبنانيون لولا إقدامهم ونشاطهم لما تيسَّر لهم إن وسَّعوا في نطاق المستعمل من أراضيهم حتى بلغ ما هو عليه الآن، وذلك بإزالة تلك الصخور وتغشية البعض منها بطبقة ترابية. ولا غرو فإن افتقارهم إلى الأرض وقلة موارد الاسترزاق من دونها أوجدا فيهم ذلك النشاط؛ فإن المرء ابن الحاجة.

(٤) هواء لبنان

لبنان واقع بين الدرجة الثالثة والثلاثين من العرض الشمالي والخامسة والثلاثين منه، ومع هذا فإنه يختلف كثيرًا من حيث جودة هوائه عن الأماكن الواقعة في هذا العرض نفسه؛ مثل: شمالي إفريقيا، ومكسيكو، والهند. وإن الإنسان ليجد فيه من كل صنف من صنوف الهواء، ويتخير منها ما يوافق مزاجه، فللبنان في هذا مزية على سائر البلدان؛ إذ الحرارة فيه تختلف درجاتها بين سواحله وأعاليه اختلافًا منسوقًا بحسب درجات الارتفاع لكل مائتي متر من العلو نقصان درجة واحدة من الحرارة، وإنك لو سرت من السواحل المنبسطة عند أقدامه إلى هامته لتيسر لك بمسيرة يوم واحد أن تجتاز جميع تلك الدرجات؛ إذ لو ركبت صباحًا من سواحل شماليه، وحر الصيف بالغ معظمه ٨٥ درجة من مقياس فارنهيت لما غربت عنك الشمس إلا وأنت على قمته ترشف الحياة من لطيف نسماته، وتعلل بصرك ببياض لمته. وبالجملة، فإن هواء لبنان ملائم للأبدان على اختلاف أمزجتها، حتى أصبح يُضرَب المثل بجودته. والأمراض المزمنة يكاد لا يعرفها اللبنانيون إلا البعض من سكان سواحله الذين يصيبهم الالتهاب الشعبي المزمن، على أن هذا الالتهاب لا يُعزى السبب فيه إلى الهواء أكثر مما يُعزى إلى التفريط في الوقاية من الأعراض، والإفراط في استعمال التبغ ونحوه إلى حد ليس عليه من مزيد.

أما فصول السنة فأربعة واضحة بمميزاتها، ويظهر وضوحها كثيرًا في الأماكن العالية من الجبل والأماكن الوسطى. وقبل أن ننتقل من هذا المطلب إلى مطلب غيره من مطالب جغرافية لبنان نرى من الضرورة أن نذكر أمرًا يتعلق بالهواء عظيم الشأن؛ ذلك أنه من المعلوم أن الأشجار تؤثر في الهواء كثيرًا، فمنها ما يفسده ومنها ما يصلحه، وذلك بحسبما تتناوله من أجزاء الهواء غذاء لها، ففي الغالب تكون الأشجار العريضة الورق أكثر ضررًا من غيرها، فشتان بين شجر التوت والأرز. ومعلوم أن اللبنانيين أُولِعوا من زمن بغرس أشجار التوت لما لهم فيه من المنفعة ولعلمهم أن هذا الصنف يلزمه من السماد أكثر من غيره، وأن الأرض التي تحيط بالمنازل في القرى تشتمل على السماد بما يُطرَح فيها اضطرارًا من الهوالك والقاذورات؛ فأكثروا من غرس التوت فيها، حتى إنهم لم يَدَعوا منها قِيدَ ذراع بدون أن يُظلِّله هذا الشجر، وإن كثيرًا من القرى فسد لذلك هواؤها بعد أن كان نقيًّا صافيًا.

ثم إنه لو تيسَّر للبنان ما تيسَّر لغيره من البلدان من أسباب التحسين ومكملات العمران واشتغلت به يد الزراعة والصناعة كما اشتغلت بغيره لكان من أجمل البلدان وأفضلها؛ فإن الطبيعة ما ضنَّتْ عليه بشيء من محاسنها بل سخت عليه سخاءً بغير حساب، ولكننا مع ذلك لا ننكر أن من تقلد زمام الأعمال فيه من المتصرفين الكرام قد بذلوا ما في وسعهم من تحسين الحال بتمهيد المسالك، وإنشاء المعابر والقناطر لأنهاره وسواقيه كما سيتبين ذلك في بابه.

(٥) نبات لبنان وشجره

تختلف المنابت في لبنان كثيرًا بحسب اختلاف طبيعة الأرض فيه ودرجات الحرارة، حتى يكاد لا يوجد صنف من أصناف النبات إلا وله منبت صالح لغذائه ونموه من منابت أرض هذا الجبل. ومن أجل ذلك كثرت أصناف النبات فيه كثيرًا؛ فإن اثنين من علماء النبات — وهما أهرنبرج وهمبريخ — قد تيسر لهما في مدة شهرين أن جمعا منه أكثر من ألف صنف ومائة صنف. وقد علمنا أن غيرهما من المشتغلين بجمع أصناف النبات — مثل الدكتور بوست والمسيو بلانش قنصل فرنسا في طرابلس سابقًا — قد جمعا كثيرًا من أصناف نبات لبنان، كما يتبين ذلك من كتاب أحدهما الدكتور بوست المسمى «نبات سورية وفلسطين والقطر المصري وبواديها». والسبب في هذا اختلاف طبيعة الأرض من جهة واختلاف درجة الحرارة من جهة أخرى، وقد قلنا إن طبيعة الأرض في لبنان تختلف اختلافًا واضحًا يعرفه خاصة اللبنانيين وعامتهم، حتى أصبح من المتداول على ألسنتهم أن بين قيد كل شبر من الأرض وشبر آخر طبيعة أخرى وكذلك درجات الحرارة فيه؛ إذ يوجد فيه من المنابت ما يصلح لنبات كل منطقة من مناطق الأرض، ذلك فضلًا عن جودة هوائه وما يقع من الندى ليلًا مما يلائم النبات في نموه بتلطيف سورة القيظ وبصون مائية النبات من الجفاف بالتعويض عليه من فروعه عما يفقده من جذوره بنقص المائية من الأرض لشدة الحرارة وتسلط الهواء الجاف. وحسبنا دليلًا على هذا ما يُشاهَد من الفرق في نمو الأشجار بين عام يكثر فيه وقوع الندى ويقل الهواء الحار الجاف، وبين عام آخر يقل فيه الندى ويتسلط هذا الصنف من الأهوية.

إن ما اشتهر به لبنان من الأشجار في القرون الغابرة إنما هو الأرز، وهي كلمة معناها في العبرانية متين ومادتها في العربية من معانيها الثبات، وقد ورد ذكره في الكتاب المقدس في عدة مواضع، ومنه بُنِيَ قصر داود وهيكل سليمان، ومنه خشب الهيكل الثاني الذي جُدِّد في أيام زربابل، وكان من هذا الصنف من الشجر في أيام سليمان آجام كثيرة؛ إذ قيل إن سليمان شغل ثمانين ألف رجل بقطع الخشب منها، غير أنه لم يَبْقَ منها إلى الآن إلا شيءٌ يسير؛ وهو أجمة فوق قرية معاصر الفخار، تشتمل على مائتين وخمسين شجرة تُعرَف عندهم وعند أهل القرى المجاورة لهم باسم «الأبهل»، وأجمة كبيرة فوق قرية الباروك، وأجمة فوق قرية عين زحلتا، وهذه كانت قد أُحْرِقَتْ لاستخراج القطران منها، ثم عادت فنَمَتْ وهي أكبرها شجرًا، وواحدة بين أفقا والعاقورة، وواحدة بالقرب من بشري يقصدها السياح من كل صقع؛ لضخامة أشجارها التي يبلغ عددها ستمائة وثمانين شجرة بين كبيرة وصغيرة قائمة بسفح الجبل في مكان يرتفع ستة آلاف قدم عن سطح البحر، وكانت الكبيرات منها في سنة ١٥٥٠ بالغة ٢٨ شجرة، وأما الآن فعددها ١٢ شجرة، وبعض الناس يحسبها مقدسة، وقد بُنِيَ معبد إلى جانبها وفي قلب شجرة منها معبد لناسك، وقد أقام لهذه الأجمة المغفور له رستم باشا ثالث متصرفي لبنان سورًا، وأجمة أخرى بين قرية تنورين وبشري صغيرة الشجر، وعدد شجراتها نحو عشرة آلاف.

والأرز من الفصيلة المخروطية، وهو عدة أنواع أصلها نوع الأرز اللبناني وهو أفضل الأنواع، يبلغ طول الساق منه أكثر من مائة قدم، ودائرته عند القاعدة تبلغ من ٢٤ قدمًا إلى ٣٠.

ومن أشجار لبنان السنديان بأنواعه، والسرو، والصنوبر، وأكثر ما يكون منه في قضاء المتن، والشربين، والأزدرخت، والجميز، والبطم، واللبنى المشهور باستعمال صمغه كاستعمال البخور كما هو وارد في نشيد الأنشاد، والنخل في سواحله ولا سيما الجنوبية منها، وقد كان عند الفينيقيين رمزًا مقدسًا، حتى إنه رُسِم على كثير من معابدهم مثل قلعة بعلبك وقلعة بزيزا في لبنان وشجر المقساس بالسواحل أيضًا، ومنه يُستخرَج الدبق. ومن أشجاره: الزيتون، والعنب، والتوت. ويستحصل معظم رزقه من هذه الأنواع الثلاثة من الشجر، ولا سيما التوت منها فإن ما يُصدَّر من الحرير في العام تزيد قيمته عن ثمانية ملايين فرنك، ويُنتفَع بحطبه وثمره وكذلك بورقه علفًا للمواشي، وأما الزيت المستخرج من الزيتون فمن أجوده ما يُستخرَج منه بإقليم الخرب من أقاليم لبنان، والسبب في جودته طريقة استخراجه، وطبيعة تربة منبته فإن الأرض البيضاء يكون في الغالب زيتها أجود من غيره.

ومنها اللوز والجوز وأشهره في شمالي لبنان والزعرور والخروب والصفصاف والطرفاء والتين والتفاح والمشمش بأنواعه، ويُستخرَج من نوى المرمنة زيت والكمثرى والخوخ والدراقن والليمون بأنواعه، والكرز والدلب والحور والزيزفون، واللزاب والدردار والقيقب والقطلب والزمزريق، والخروع والعناب والحناء والسفرجل. وأكثر ما يكون منه في قضا الكورة والفستق، ويطعمون شجر البطم منه والبندق والكستناء والعوسج والميس. ويوجد فيه كثير من الغراس والأنجم؛ كالدفل والصبير والموز، والورد والياسمين والآس، وقصب السكر والقصب الفارسي والغزار. ويُستعمَل لتربية دود القز والريحان والوزال، والقندول والبيلسان، والفل والياسمين، وكثير من النبات العطري؛ كالبنفسج والقرنفل والمردكوش، والحبق والنعنع والأقحوان، والمنثور والمضعف. ومن الحاصلات النباتية التبغ، وهو من أعظم موارد رزق اللبنانيين، وأجود ما يكون من هذا النوع إنما هو الذي يُزرَع في جبل الريحان وجبيل وبعض أنحاء الكورة، وأجود من ذلك كله ما يحصل من أرض دير البلمند. وقد أخذ بعض اللبنانيين في زرع الصنف الإسلامبولي من التبغ فلم يجئ على حسب المرغوب من حيث الجودة، كأنَّ الأرض اللبنانية تشتمل تربتها على جواهر في تراكيبها لا تصلح لهذا الصنف، وخصوصًا في القسم الجنوبي من الجبل، وأما القسم الشمالي فقد جاء بمحصول يقرب كثيرًا في الجودة من الأصناف الإسلامبولية كالحاصل منه من قرية جوار الحوذ من أعمال قضاء المتن، والسبب لذلك في الغالب إنما هو كثرة البوتاس في الجنوب وقِلَّته في الشمال ثم التنبك؛ فإن بعض اللبنانيين قد أخذوا في هذه الأيام يعتنون بزراعته، ولكن لم يأتِ بالفائدة المطلوبة إلا في بعض الأماكن مثل زحلة والجرمق من أعمال قضاء جزين؛ فإن الحاصل منه فيهما يقرب كثيرًا من التنبك العجمي، ومن الحاصلات اللبنانية: الحبوب من قمح وشعير، وعدس وماش، وكرسنة وحمص، وفول وذرة، وسمسم وبيقة (باقية)، وفصة وبرسيم، وشوفان وحلبة، وبازلاء ولوبياء. وكثير من الخضراوات: كالخيار والكوسا، والملفوف والكرنب، والقثاء والقرع، واللفت والجزر، والفجل والخس، والبطيخ والبندورة، والباذنجان والبطاطة، والقلقاس البلدي والخرشف (أرضي شوكي)، والشمندور (البنجر)، وغير ذلك.

ومن الحاصلات اللبنانية أيضًا «النبيذ»، وأكثره صرف غير مشوب بشيء؛ مما يدخله غير اللبنانيين في نبيذهم. فمنه الأسود والأصفر، فأما الأسود فهو في الغالب ذو عفوصة، وأما الأصفر فهو في الغالب حلو، كان في الأيام السابقة استخراجه خاصًّا بنواحي كسروان وما يليها إلى معاملة طرابلس ولا سيما سبعل التي قيل في نبيذها:

كل النبيذ محرمٌ
إلا النبيذ السبعلي

ثم كثر استخراجه في جميع الأنحاء اللبنانية، وأجود ما يُستخرَج منه في هذه الأيام نبيذ قرية زكريت إحدى قرى قضاء المتن في لبنان، و«العرق»؛ وهو صنف من المسكرات يكاد يكون استخراجه خاصًّا باللبنانين، وأكثر ما يُستخرَج منه في مدينة زحلة، وقد اشتهر بالجودة منه ما يُستخرَج في قرية زوق ميكائيل إحدى قرى قضاء كسروان.

و«الدبس» بنوعَيْه ما يُستخرَج من العنب أو الزبيب، ومن الخرنوب وهذا يطبخ به اللبنانيون التين كما تطبخ المربياتُ بالسكر، ويطبخون التين كذلك بالدبس المستخرج من التين نفسه وبالسكر أيضًا.

و«الصابون» وأجود أنواعه ما كان حيث يكثر الزيتون، أي في جنوبي لبنان وشماليه، وقد اشتهرت كفرشيما في المتن بصنعه، ويُتجر به مع كثير من مدن سورية وأوروبا.

و«ثمر الليمون» بأنواعه وخصوصًا الكباد، والحامض منه يكثر في السواحل ويُتجر به أيضًا مع مدن أوروبا.

و«الإسفنج» ومغاصه يمتد من البترون إلى طرابلس، ومنه يُستخرَج أفخر الأصناف، وفي مغاص لبنان ١٢٠ قاربًا يديرها ٥٥٠ رجلًا كانوا يكسبون في العام من ٤٠٠٠ ليرا إلى ٦٥٠٠ ليرا، وأما اليوم فقلَّ الكسب من هذا الصنف لكثرة المتجرين به من دون اللبنانيين.

و«ماء الورد» ويكثر استخراجه في السواحل من أزهار الورد، و«ماء الزهر» ويكثر استخراجه في السواحل أيضًا من زهر الليمون.

(٦) معادن لبنان

إن لبنان لا يخلو من المعادن مما يمكن الانتفاع به، ولكن ربما كان في استخراج البعض منها صعوبات تستلزم من النفقات والعمل ما يضيع دونه النفع، ومن أجل هذا كان الفينيقيون يقصدون البلاد السحيقة لاستخراج المعادن، وما كانوا ليغفلوا عن معادنهم ويسعوا إلى غيرها لولا ما في استخراجها من الصعوبات، وربما كان ما يُرى من نفاية المصهور من المعادن في بعض الأماكن من لبنان دليلًا على أنهم اشتغلوا بالحفر فيها وسَعَوْا في استخراجها. ففي لبنان من معادن الحديد معدن فوق العاقورة، وآخر بالقرب من المروج القريبة من الشوير، وتُعرَف بآبار مرجبا.

وفيه أيضًا الفحم الحجري يتخلل طبقات أراضيه؛ فقد اكتشف المغفور له إبراهيم باشا ابن محمد علي باشا سنة ١٨٣٥ منجمًا من هذا الفحم بالقرب من قرنايل بقضا المتن، واستخرج منه قدرًا كبيرًا، وترك هذا المنجم وشأنه بعد مزايلته للديار الشامية، ويوجد الفحم الحجري أيضًا في نواحي الشوير، وبكفيا، وفي حارة حمزة، وترشيش، وكفر سلوان من أعمال قضاء المتن، وفي بعض الأنحاء من قضاء جزين، وفي عين طورين من قضاء البترون، وفي عين الرجمة من قضاء كسروان. ويوجد أيضًا في لبنان معادن أخرى؛ كالنحاس والتوتيا والفضة.٢ ولكن لجهل أهله بصناعة استخراج المعادن، وضيق ذات اليد، وعدم اعتيادهم على الصبر في الأعمال الخطيرة على اجتناء الثمرات البعيدة، ولغير ذلك من الأسباب؛ لم يطرقوا هذا الباب من أبواب الرزق الحلال.

(٧) حيوانات لبنان

إن الحيوان الداجن منه والآبد في لبنان كثير الأنواع؛ فمنها: العنز الطويل الآذان، وهو لا يوجد في غيره من البلدان، والخيل كريمة وغير كريمة، والجمال والبغال والحمير، والأبقار والجاموس، والأغنام ذوات الأليات الكبيرة يأتي بها التجار إلى لبنان من الخارج ويبيعونها من اللبنانيين، فيعلفونها حتى تبلغ مبلغًا من السمن كبيرًا فينحرونها، ويذخرون لحمها إلى آونة الشتاء، ومنها: الغزال والأرنب، والثعلب وابن آوى، والذئب والضبع، والنمس والقنفذ، والدب في بعض الأماكن كجبل صنين وجبل الشيخ، والخنزير البري في جبل الريحان وما يليه، ومنها النمر، وقد كان في السنين الماضية كثير العدد لكثرة الآجام في الجبل، وأما الآن، وقد قلت تلك الآجام ولم يَعُدْ لهذا الصنف ولغيره من أصناف حيوانات القنص عُرُن تتقي بها فتكات القانصين، فقل عددها كثيرًا، كما قلَّتْ أنواع الطيور الأوابد كالحجال وغيرها. ومن طيور لبنان الأوابد الحجال، والحمام والغربان، والنسور والحسون والدوري. أما القواطع التي تجتازه في فصول من السنة معلومة؛ كالإوز العراقي والبواشق، والخطاطيف والسنونو، واليمام «الترغل» والسماني، والفري والدجاج الأرضي، والهدهد والشحرور والعقبان إلى غير ذلك من صغار الطيور. فكثيرة، وهكذا الحشرات والهوام فإنها كثيرة جدًّا، منها دود القز والنحل وعسله مشهور في القديم، ولكن تربية هذا الصنف في السواحل لا تصلح كثيرًا لفقد الأزهار القائمة بغذائه في قسم كبير من السنة؛ ولذلك عوَّل المربون له في عدة أماكن على نقل خلاياه في الشتاء إلى السواحل وردها في الصيف إلى الصرود «الجرود»، وخير النحل ما كان في العاقورة وفاريا، ومزرعة كفر ذبيان وأفقا من أعمال كسروان، وفي بعقلين والمعاصر من الشوف، وفي بزبدين وكفر سلوان وأرصون من المتن، وفي حصرون وبزعون وبشري من البترون. وأجود العسل ما كان من نحل يكون مرعاه ذا نبات عطري، وهذا في الغالب في العذي «البعل» من الأرض.

وقد يسطو الجراد في بعض السنين على حقول لبنان — ولا سيما حقول السواحل منها — بعدد يحجب عين الشمس، محمولًا على أجنحة الرياح من مهاب بعيدة فيجتاح الزرع، وكثيرًا ما ينقف الأرض التي يقع عليها فينتج منه بعد ذلك الجراد المسمى بالزحاف، فيأخذ في الزحف وتكون وجهته في الغالب نحو الصرود.

وقد يسطو في بعض الأحيان على الجراد طائر يُقال له: السمرمر. ويهلكه، وكثيرًا ما يسوقه بصوته إلى البحر حيث يهلك عن آخره. وفي لبنان أنواع كثيرة من الحية منها ما له سم ناقع يقتل الملدوغ حالًا إذا لم يبادر إلى علاجه في موضع ما ينجع فيه العلاج، ومنها ما ليس يؤذي لدغه، وفيه العقرب ولسعه لا يقتل إلا فيما ندر.

(٨) أنهار لبنان

إن مياه لبنان المنفجرة من منحدريه الشرقي والغربي تتكون منها أنهار تصب في البحر المتوسط، وتختلف أسماء هذه الأنهار في بعض الأماكن من مجاريها كما هي العادة الغالبة في تسمية الأنهار في سائر أجزاء الأرض؛ فمنها:

نهر قديشا

(أي: المقدس)؛ وهو نهر كبير يجري في وادٍ ضيق يُقال له: وادي قديشا، أصله عينا ماءٍ إحداهما منفجرة من مكان تحت بشري، والأخرى تحت دير قزحيا. تلتقيان عند أسفل الوادي حيث ينصب إليهما جداول ومياه وينابيع عديدة، فيجتمع من ذلك نهر كبير منبعه الأعلى عند أسفل أرز لبنان، ومصبه في البحر المتوسط عند مدينة طرابلس، وهناك يُكنى بأبي علي وتُوزَّع مياهه بقنوات لسقي بساتين هاته المدينة.

نهر الجوز

نهر صغير يجري في وادي الجوز ويمر بالجنوب من قلعة المسيلحة، ومن هناك تذهب منه قناة إلى البترون فتسقي ما حولها من البساتين، أصله عين ماء غزيرة بمغارة فوق كفر حلدا، وهو يصب في بحر الروم بالقرب من البترون وطوله خمسة عشر ميلًا، وعلى إحدى ضفتيه آثار قنوات محكمة الوضع جرت فيها مياهه إلى البترون.

نهر إبراهيم

نهر كبير لقبه القدماء بنهر أدوني٣ وهذا النهر يخرج من مغارة أفقا بالقرب من العاقورة، ومجراه إلى الجنوب الغربي، ومصبه في بحر الروم إلى الجنوب من مدينة جبيل، وبينه وبينها نيف وخمسة أميال وطوله ثمانية عشر ميلًا، وأما ينبوع تلك المغارة، فيُقال إنه من بحيرة اليمونة في لحف المكمل يجري إليه الماء من منفذ في غورها في قلب الأرض، واستدلوا على ذلك بأن التغييرات التي تحدث في تلك البحيرة تؤثر في نبع أفقا، وأما مياه هذا النهر فلا يُنتفَع منها إلا متى دنت من جبيل. وفي سنة ٦٩٥ب.م بنى له سابع أمراء المردة الأمير إبراهيم ابن أخت القديس يوحنا مارون قنطرةً كبيرة لا نظير لها بين قناطر هذه البلاد في الطول والارتفاع وهي باقية إلى الآن، ومن أجل هذا لُقِّب النهر بنهر إبراهيم؛ نسبةً إليه. وإلى جانب هذا النهر قناة ذات قناطر متينة متقنة البناء تُسمَّى قناطر زبيدة تجري عليها المياه التي كانت تُؤخَذ إلى جبيل، وقد دَرَسَتْ ولم يَبْقَ منها إلا رسومها، وأما احمرار مائه فهو من فيضها وتعاليها حتى تتصل بأراضٍ حمراء وانصباب سواقٍ متعكرة مياهها إليه، وبنى رابع المتصرفين بلبنان المرحوم واصه باشا قنطرة لهذا النهر فهدمتها المياه، ثم عاد فبنى له نعوم باشا خامس المتصرفين جسرًا من حديد في سنة ١٨٩٤.

نهر الكلب

وقد سمَّاه اليونان «ليقوس» ومعناه ذئب، وهو نهر كبير بينه وبين نهر إبراهيم ثمانية أميال، وأصل مياهه عين خارجة من مغارتين في سفح جبل جعيتا جارية إلى فم الوادي هناك؛ حيث تختلط بها مياه نبع العسل٤ ونبع اللبن٥ آتية من نحو عشرة أميال من الجبل، ثم يمر هذا النهر تحت صخر مقور من أسفله يحسبه الناظر إليه أنه قنطرة من صناعة الأيدي للعبور عليها، وهو يُسمَّى جسر الحجر، ثم تجتمع إليه عيون حتى يصل إلى مصبه، وهو يجري إلى الجنوب الغربي، ويصب في بحر الروم إلى الجنوب من جونية كسروان. وزعم البعض أن سيزوستريس وهو رعمسيس الثاني ملك مصر لما فتح فينيقية نقر تاريخ الفتح في صخور بقرب النهر، ويُقال إنه لما فتح سنحاريب ملك الآشوريين فينيقيةَ أمر بنقر صورته، وذكر أعماله في تلك الصخور، وذلك لم يزل باقيًا إلى الآن.

وفي سنة ٢٥٠ق.م، بنى له أنطيوخوس ملك سورية جسرًا عظيمًا بالقرب من شاطئ البحر؛ فهُدِم باعتراض أشجار اقتلعها السيل، فجدَّد بناءه الملكُ أنطونيانوس قيصر الذي تولَّى المُلْك برومية سنة ١٤٠ب.م، وأصلح البرج هناك، ومهَّد الطريق، ولقَّبَه بالطريق الأنطونياني، ونقر ذلك في صخرة جنوبي الجسر، ونصب فيه القدماء قائمة من حجر كبير بهيئة كلب، وربطوه بسلسلة من حديد إلى صخرة أخرى جعلوا له فيها نقيرًا للطعام؛ زعمًا منهم أنهم إذا طرقتهم الأعداء نبح فحذَّرهم منهم؛ فسُمِّي لذلك نهر الكلب، ثم طُرِح تمثال ذلك الكلب إلى البحر، وهو لم يزل باقيًا حتى الآن ولكن بدون رأس، ثم هُدِم ذلك الجسر. وفي سنة ١٢٩٢ب.م جدَّد سيف الدين ابن الحاج أرقطاي المنصوري بناءه، وفي سنة ١٧٥٠ أنشأ الأمير حيدر الشهابي قناة إلى الجانب الشمالي من النهر، وغرس في الوطا تحت القناة أغراسًا من التوت لتُسقَى منها، ثم هُدِم أيضًا فجَدَّد بناءه الأمير بشير عمر الشهابي حاكم الجبل يومئذٍ، ثم هُدِم أيضًا فبنى الأمير نفسه في سنة ١٨٠٩ جسرًا جديدًا بمكان قريب منه، وهو ثابت إلى الآن. وفي سنة ١٨٨٩ بنى المغفور له واصه باشا جسرًا آخر بالقرب منه تمر العربات عليه؛ وذلك لأنه رأى الجسر القديم لا يصلح لذلك، ولكن لم يكد يُتِم بناءه إلا هدمته المياه، فعاد فبناه ثانية واكلًا أمر الملاحظة على البناء وترتيبه إلى فارس أفندي الخوري وأنطون أفندي قيقانو مهندس المتصرفية اللبنانية يومئذٍ، فجاء جسرًا منيعًا مُتقنًا لا نظير له في البلاد السورية، ونقر فيه باللغات الثلاث — العربية والتركية والفرنسية — تاريخًا هذه صورته: «في ظل السلطان الغازي عبد الحميد خان، أُنْشِئ هذا الجسر وهذا الطريق بعناية صاحب الدولة واصه باشا متصرف جبل لبنان سنة ١٨٨٩.» وسماه «جسر الشوكتية»، وقد نُقِر فيه أيضًا تاريخان؛ أحدهما للمؤرخ والآخر لأنطون أفندي قيقانو.

نهر أنطلياس

نهر صغير يبعد نحو ثلاثة أميال عن نهر الكلب إلى الشمال من مدينة بيروت يصب في البحر المتوسط مارًّا بالقرب من دير القديس إلياس المسمى باسمه؛ لأن كلمة أنطلياس لا تخلو أن تكون منحوتة، إما من أنطون وإلياس، وإما من أنطش إلياس، وإما من أيقونة إلياس، وهذا الأخير هو الأرجح، وأقبل ما يكون للتحريف حتى يجيء منه أنطلياس لما أن اللفظ العامي لأيقونة هو قونة. ومعلوم ما بين القاف والهمزة من الملابسة في اللفظ عند العامة، ومخرج هذا النهر من ينابيع أعلاها يبعد ساعة عن البحر المتوسط، ومن هذه الينابيع ما هو دائم الجريان؛ مثل ينبوع التنور والحاووز، ومنها ما يغيض ساعات قليلة كينبوع الصفصافات الذي يخرج فوارًا من بئر احتفرها في الأرض وهو أغزر ينابيع هذا النهر ماء، وبه تدور رحى المطاحن على ضفتي النهر وهو يغيض بضع ساعات في بعض السنين كما حدث في صيف سنة ١٨٩٧ وفي شتاء سنة ١٨٩٨، فلبث غيضه في المرة الأخيرة ست ساعات متوالية فتلونت الأحاديث عنه وتكاثرت الأقوال، ولما عادت مياهه إلى فيضها في مجراها كانت معتكرة محمارة، ومنها ما يغيض ماؤه في بعض من السنة، ثم يعود في الربيع إلى فيضه كينبوعَي الزيتونة والمغارة، ومنها ما لا يغيض أبدًا.

وجميع هذه المخارج قد احتفرت منهرًا واحدًا تنصبُّ فيه وتجري مسافة ساعة حتى تبلغ مصبها من البحر، وعلى الضفتين رحى كثيرة وعلى مقربة من البحر معمل للورق تديره مياه النهر، وليس يوجد معمل للورق غيره في سورية جميعها، وأما الأراضي التي تستقي من مياه هذا النهر فمن حدود ضبية شماليه إلى برج حمود جنوبيه على مسافة ساعة ونصف ساعة، وأما السر في غيضه فهو انهيال التراب في مجرى مياهه إلى حدان يستد المجرى فتنقطع المياه حتى تخترق السد وتذيبه.

وقد يُعلِّل عن غيض بعض الينابيع وعودها إلى مجاريها في أوقات معلومات بأن لمثل هذه الينابيع أحواضًا طبيعية في طبقات الأرض، تتحلب إليها المياه من أماكن كثيرة أوشالًا وتتجمع فيها لتنفذ من منفذٍ على شكل الممص الذي تفرغ به السوائل من وعاء إلى وعاء أي على شكل قوس، فمتى امتلأت الحياض من تلك المياه المتحلبة إلى حدان يصير سطح المياه فيها موازيًا لنقطة يجتمع عندها انعطاف القوس اندفعت نافذة في الممص حتى تبلغ في هبوطها سطحًا يكون تحت تلك النقطة فينقطع؛ إذ ذلك جريها، وهكذا تكون ذات فترات تارةً منتظمة وتارة غير منتظمة، وزمن فيضها يكون غالبًا في الربيع لما أن السيول تملأ نخاريب الصخور والثلج يغشى قمم الجبال فيكثر تحلب المياه، وتمتلئ أحواض الينابيع، فيجري الماء منها عدًّا، ثم برضًا، ثم يغيض غيضًا كما يُشاهَد ذلك في ينبوع الأربعين شهيدًا٦ المنصب في بحيرة اليمونة (أي اليم الصغير) وينبوع دير الحميراء في قضاء حصن الأكراد التابع لمتصرفية طرابلس.

ولنهر أنطلياس بالقرب من دير النبي إلياس جسر صغير بناه المغفور له رستم باشا سنة ١٨٨٣.

نهر بيروت

بينه وبين نهر أنطلياس ميلان، وقد سماه بلين بحسبما اتفق عليه جمهور العلماء ماغوراس، وأصله نهران أحدهما مخرجه بالقرب من ترشيش وكفر سلوان، والآخر مخرجه بالقرب من فالوغا وحمانا، وهما يلتقيان في وادٍ تحت دير القلعة، وقيل: مخرجه من أعلى جزيرة ابن معن، وأصله ينبوع منفجر بين صخرين في أصل واحد طوله أربعة أميال، ويُسمَّى نبع القُصَيْر مصغرًا من قصر بُنِيَ هناك، ويؤخذ منه قنوات تسقي أراضي ساحل بيروت، وكان في ما سلف من الأيام القديمة يذهب منه قناة على قناطر تُسمَّى قناطر زبيدة عجيبة الأساس والبناء.

ويُقال إن الباني لها زبيدة أرملة أودناتوس؛ المسماة عند العرب بزينب٧ ومن هذه القناة ينفذ الماء في ثقب داخل صخر عظيم إلى قناة أخرى كبيرة حتى يبلغ بيروت، ولكن الآن لم يَبْقَ من تلك القناة إلا أثرها، وله جسر طويل بالقرب من البحر، وفي سنة ١٢٩١ﻫ أنشأ عليه المغفور له رستم باشا جسرًا شديد البناء مستكمل الإتقان، وذلك في مكان قريب من الحازمية يبعد مسافة ساعة عن الجسر القديم، ونقر فيه تاريخًا وسماه الجسر الجديد، وكان قد أنشأ إلى جانبه حديقة كبيرة يأتيها الناس كل يوم تنزيهًا للخواطر، وهذا النهر يجري إلى الغرب، ثم يرتد إلى الشمال وينصب في بحر الروم بالقرب من خليج مار جرجس الواقع في مكان شرقي بيروت يبعد عنها نحو كيلو مترين وربع كيلو متر ومياهه تسقي سهل بيروت بقنوات عديدة.

نهر الغدير

وهو نهر لا يجري الماء فيه إلا شتاءً عندما يهطل المطر غزيرًا، فيجتمع فيه عند قرية كفرشيما من الأودية هناك، ويخترق السهل المسمى صحراء الشويفات، ويصب في بحر الروم، وله بالقرب من كفرشيما جسر تمر عليه العربات، بناه المغفور له فرنقو باشا سنة ١٨٧٠.

نهر الدامور

دامور هو بحسب الخرافات القديمة بعل دمر، وبعل باللغة الفينيقية معناه إله، ودمر محامٍ، وهو ابن زوجة السماء، وبوليب سماه داموراس وإسترابيون سماه تاميراس من بعل تمر؛ أي إله النخل، ودامور بالسريانية معناها العجب، وبالعربية معناها المخرب٨ وهو نهر كبير بينه وبين نهر بيروت عشرة أميال وهو مجموع من نهر الغابون الخارج من ينبوع بخشتيه، أو من عين الدلم القريبة منه ومن نهر الصفا وينبوع القاع الذي جرَّ منه الأمير بشير عمر الشهابي إلى قصره ببيت الدين قناة تصب ماءها في وادي دير القمر؛ وذلك سنة ١٨١٥.

وقد استغرق إنشاء تلك القناة اثنين وعشرين شهرًا، وكانت جميع أهل البلاد تشتغل يومين من كل سنة بتلك القناة على وجه الإعانة للأمير؛ فبلغت النفقة على إنشائها ما ينيف عن مائتي ألف درهم. وقد نظم أحد المقربين إلى الأمير المرحوم المعلم بطرس كرامة الحمصي الشاعر الشهير في هذه القناة موشحه المشهور الذي يقول في مطلعه:

صاح قد وافى الصفا يروي الظما
بشراب كوثري العس
وأفاض الشهد في روض الحما
لجلا الغم وبرء الأنفس

ولكن يظهر أن ضرورة الشعر والمحسنات الشعرية قضت على الأستاذ أن يشذ عن الحقيقة التاريخية؛ لأنه يقول إن الماء وافاه من الصفا، والحال أنه من ينبوع القاع، أو أنه أراد من الصفا نهر الصفاء متناولًا الينبوعين معًا، ويضم إلى ذلك ينبوع عين داره، وتجتمع إليه أيضًا عيون كثيرة فيصير نهرًا كبيرًا يجري في وادٍ طوله اثنان وعشرون ميلًا. ومن هذا النهر جرَّ الحاكمُ يومئذٍ الأمير منصور حيدر الشهابي قناةً تسقي البساتين التي هي في الجانب الأيسر من النهر، وقبل أن يبلغ سهل الدامور ينضم إليه جدول آخر له قنطرة عند قرية الجاهلية مخرجه من ينبوع الحمام بالقرب من قرية غريفة من قضاء الشوف. وينضم إلى هذا الفرع عدة ينابيع قبل أن يلتقي بنهر الدامور شمالي قرية البوم.

ولهذا النهر جسران؛ الأول في الوادي الكبير الذي بين عبيه ودير القمر. بناه الأمير زين الدين التنوخي الملقب بالقاضي فسُمِّيَ جسر القاضي،٩ ثم جُدِّد بناؤه سنة ١٨٨٦ / ١٣٠٣ﻫ المرحوم واصه باشا رابع متصرفي لبنان بناءً متقنًا، وجعله صالحًا لمرور العربات عليه بالطريق التي أتمَّها من سوق الغرب إلى بيت الدين؛ حيث تستقر حكومة لبنان صيفًا. وقد نظم له المؤلف تاريخًا نذكر منه بيت التاريخ؛ وهو:
وجعلت ذا الجسر الجديد يقول في
تاريخه إني بفضلك أشهد

والجسر الثاني في مكان يُقال له ياروطي، بالقرب من البحر، وهو يُسمَّى جسر الدامور. بناه الأمير بشير عمر الشهابي سنة ١٢٣٠ للهجرة فهدمته المياه، وإلى الآن لم يزل بعض قواعد قوائمه مرتكزًا في النهر وفي سنة ١٨٦٩ وسنة ١٨٧٠ أُنْشِئ شرقي هذا الجسر على بعد بضع خطوات منه جسر آخر من حديد بعناية المغفور لهما داود باشا أول المتصرفين بلبنان وفرنقو باشا ثاني المتصرفين. وهذا النهر يجري إلى الغرب منحرفًا إلى الجنوب، ويصب في بحر الروم بالقرب من معلقة الدامور بعد أن يسقي سهل الدامور.

نهر الأولى

بينه وبين نهر الدامور عشرة أميال. إن تعريف هذا النهر بالأولى إنما هو حديث العهد من يوم أن صارت مدينة صيدا قاعدة الشطر الجنوبي من لبنان في أوائل القرن السادس عشر أي المدينة الأولى، وأما قبل ذلك فإن العرب كانوا يُعرِّفونه بنهر الفراديس (جمع فردوس)؛ لما حول صيدا من البساتين الشهيرة، وفي الزمن القديم كان يُقال له: النهر البسري؛ وذلك نسبة إلى بسري، وهي قرية واقعة بالقرب من ملتقى النهر الجزيني بهذا النهر. ومعنى بصرة في العبرانية محصن، وإنه لا يزال يوجد في تلك الأنحاء آثار حصن يُسمونه اليوم أهلُ تلك الناحية قلعةَ أبي الحسن. وهذا النهر أصله ينبوع ماء غزير معروف بينبوع الباروك١٠ جرَّ منه الشيخ بشير جانبلاط قناة إلى داره بقرية المختارة سنة ١٢٢٢ﻫ.

وعندما يبلغ هذا النهر السهل المعروف بسهل بصرى يلتقي بالنهر الآتي من جزين، فيكون منهما نهر واحد تُوزَّع مياهه بالقرب من صيدا لسقي بساتينها، وله غربي تلك القناة جسر، وهو يجري إلى الجنوب الغربي، ثم يرتد إلى الغرب ويصب في بحر الروم بالقرب من صيدا، وطول مجراه ثلاثون ميلًا.

نهر الليطاني

ليطاني كلمة سريانية معناها الملعون والحرام، وهو معروف بهذا الاسم في جميع مجراه في سهل البقاع وجنوبي لبنان، ولا يُسمَّى بالقاسمية إلا عند مصبه، وتسميته هذه حديثة العهد دالة على معنى الفصل بين إيالة عكة وصيدا، وأما اليونان والرومان فسموه لاونتوس. وهذا النهر يخرج من المنحدر الشرقي للبنان من ينبوع العليق لا من عين الشمس فوق مدينة بعلبك كما يزعم البعض من الناس؛ لأن مياه هذه العين تنصبُّ فيما جاورها من الحقول، ولا ينفذ منها شيء إلى الليطاني، ولكن ينضم إليه في السهل عدة أمواه منها أمواه نهر البرذوني وغيرها من جهة الشرق أيضًا، ومتى اجتاز هذا النهر سهل البقاع نفذ من شعاب لبنان وجبل الشيخ مارًّا تحت قلعة الشقيف ويصب في بحر الروم بين صور وصيدا، أما نهر البرذوني فمخرجه قرية قاع الريم من أعمال قضا المتن يسقي بساتين زحلة والمعلقة وضواحيهما، ويدير عددًا كبيرًا من أرحاء المطاحن، وعلى ضفتيه بزحلة عدة فنادق وحدائق غنَّاء يقصدها طلاب التنزه من أبناء البلدة والغرباء من كل صوب؛ لما بها من ترويح النفس وتعليل الخاطر بكل منظر بهيج، وقد بنى له نعوم باشا في سنة ١٨٩٧ قنطرة متقنة الوضع متينة.

(٩) أقسام لبنان

إننا لو أردنا أن نُقسِّم لبنان بحسبما كان مصطلحًا على قسمته في القرون القديمة والقرون المتوسطة للزِمَنا أن نوسع في نطاقه كثيرًا؛ لأن لبنان في تلك القرون كان يمتد إلى جبل الصلت وإلى جبل الكرمل، كما أثبتنا ذلك في فصل حدود لبنان. وهَبْ أننا طرقنا في ذلك باب التوسع؛ فإنه يتعذر علينا إثبات وجه الصحة فيه لما هو معروف من أن تلك البقعة التي كان يُطلَق عليها اسم لبنان كانت تشتمل على عدة ممالك غير مستقرة على حال واحد؛ لأن الآشوريين واليونان والرومان بدَّلوا كثيرًا في هيئة التقسيم لتلك البقعة عندما ضربوا سلطتهم عليها، وبناء على هذا وعلى أن غرضنا مستوعب في أقل مما تقدَّم ذكره، فإننا نلتزم في تقسيم لبنان الحالة الإدارية الحاضرة غير أننا قبل أن نُضيِّق علينا مجال البحث بالتزام الحدود الواردة في تقسيمه الإداري رأينا من الواجب أن نستوفي الكلام عن أحواله أيام كان متسع النطاق فسيح الأرجاء لنعلم شيئًا من أمر مَنْ عَمَره من أبناء الخلق في القرون الخوالي، وما ناله من حوادثهم في تلك القرون، وإلا لما تيسَّر لنا بعد تقيدنا بتلك القسمة الإدارية أن نتناول شيئًا من تأريخه القديم إلا ما كان متعلقًا بمدينة جبيل والبترون وغيرهما من بعض الأماكن مما لا تُستوفَى بذكره بغيتنا من تفصيل الأحوال. ومن أجل هذا قد أفردنا لهذا البحث المقالة الآتية:

(١٠) مقالة في تاريخ لبنان القديم

يسرنا أن نرى العقول السامية من عقول بني الإنسان سالكة سبيل الارتقاء في المعارف مستطلعة من أسرار الخلق ما لا يُنكَر نفعه في معرفة الإنسان نفسه في كل طور من أطوار وجوده على وجه البسيطة من يوم أن كان ساذجًا فطريًّا حتى اليوم، فلولا تلك المعرفة لما تيسر له إصلاح المختل من أمره، واستكمال الناقص من شئونه؛ فمستقبله مقيس على ماضيه.

ومن ذلك الارتقاء الارتقاء في علم طبقات الأرض وما انطوى فيها من أسرار التكوين ومن آثار الآدميين الأُوَل الذين كانت معايشهم من الصيد ومآويهم المغاور.

فقد كان للبنان ومغاوره وكهوفه حظ من سكنى تلك القبائل الفطرية التي أبقت لنا من آثارها ما هو ناطق بجهلها استخدام المعادن لقضاء حاجاتها في معايشها، واقتصارها على قطعٍ من الظران والصوان المنحوت وما خرشبته أيديها من عظام وخزف في الاستعانة على قضاء تلك الحاجات، وأبقت من عظامها وعظام مأكولاتها ما يدلنا على طريقة معاشها.

فذلك الطور هو الطور الحجري، أو طور الظران، وقد بحث في ما كان منه بلبنان بعض السياح من علماء طبقات الأرض بحثًا كشفوا به شيئًا من أسراره، وبقيت أسرار كثيرة غير مكشوفة، إما لامِّحاء الآثار الدالة عليها، وإما لما هو معلوم من جهل الباحثين لمواقع تلك الآثار؛ لأنهم غرباء «والغريب أعمى ولو كان بصيرًا.» ومما يزيد هذا البحث صعوبة هو أن كثيرين ممن يعرفون تلك المواقع، أو يحسبون أنهم يعرفونها لا يدلون عليها طمعًا في كنوز المال لا كنوز العلم، أو أنهم قلبوا رسومها وبددوا أرومها في سبيل البحث عن تلك الكنوز.

وبالجملة، فإنه يتبين مما وصلوا إليه من البحث الجيولوجي في مغاور عدلون بين صور وصيدا، وفي ناحية عقبيه وهو جدول ينصبُّ في البحر المتوسط في شمالي شرقي عين القنيطرة وفي مغاور نهر إبراهيم وفي كهف عند نهر الجوز، وفي مغاور وادي أنطلياس، وفي الضفة اليسرى من نهر بيروت على مقربة من الجسر الحالي، وفي ضواحي طرابلس وفي مغاور جعيتة، وفي مغارة حراجل ما بين ميروبا وفاريا، وفي الرأس المجاور لمصب نهر الكلب، وفي رأس بيروت، وفي ناحية نهر الزهراني على بعد ساعة من صيدا، وفي ناحية المعاملتين أن سكان لبنان قبل طور المدنية تركوا لنا آثارًا مستحجرة من شفار للقطع ومخارز ومقاشط ومجارف وغير ذلك من صوان ومن أدوات من الخزف صقيلًا، أو غير صقيل ومن عظام الحيوانات مما كانوا يصيدون أكلًا لهم١١ ومن عظامهم أيضًا.

ثم إن لبنان بعد ذلك الطور مثل سائر البلدان يغشى تأريخه القديم (نريد تاريخ نشأة الطوائف التي عمرته إلى الزمن الذي سقطت فيه صيدا؛ وهو منتصف القرن الثالث عشر) ظلمة كثيفة لا نستطيع أن نستشف من ورائها شيئًا من الحقيقة إلا أن نستعين بما ورد في التوراة، وما بقي لدينا من أقوال سنكن يتن المؤرخ الفينيقي البيروتي وفيلون الجبيلي، وبما ذاع من الخرافات والتقاليد، وإن كانت في حد نفسها لا يصح الاستناد إليها بوجه من الوجوه، ولكنها كثيرًا ما يستدل بها الناظر المحقق على أمر من الأمور يصح درجه في جملة الحقائق التاريخية. وسنكن يتن هو في رأي غالب العلماء بيروتي، وذهب بعضهم إلى أنه من صيدا، وآخرون إلى أنه من صور.

أما عصره فقال البعض إنه كان في القرن العشرين ق.م، وقال آخرون إنه كان معاصرًا لموسى النبي، وآخرون لجدعون، وآخرون لحيرام ملك صور، وبعضهم زعم أنه كان في أيام تداعت العبادات الوثنية إلى الاضمحلال، وكيفما كان هذا الرجل فإنه لا ينكر أنه كشف بعض أمور من التأريخ القديم يمكن الاستناد إليها في استطلاع كثير من الحقائق.

أما التوراة، فقد ذُكِر فيها لبنان في عدة مواضع يظهر منها أنه كان داخلًا في بقعة أرض نسل إبراهيم أي أرض الميعاد؛ فقد جاء في الفصل الخامس عشر من سفر التكوين في العدد (١٨ و١٩ و٢٠ و٢١): «لنسلك (نسل إبراهيم) أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات، وسأمكِّنكم من القينيين والقنزيين والقدمونيين والحثيين والفرزيين والرفائيين والأموريين والكنعانيين والجرجاشيين واليبوسيين.»١٢ وجاء في سفر العدد في الفصل الرابع والثلاثين منه (عدد ٣–١٢) يبتدي لكم الحد الجنوبي من برية صين على جانب أدوم (وهو جبل سعير الذي يمتد إلى الشرق والجنوب من البحر الميت، وقد انتقل إليه عيسو بعد افتراقه عن أخيه يعقوب بسبب ضيق الأرض على مواشيهما كما يتبين من الفصل الخامس والثلاثين من سفر التكوين، وقال بعضهم إن عيسو سُمِّي أدوم؛ نسبةً إلى احتلاله في هذه البلاد التي كانت تُسمَّى أدوم قبله على ما يظهر من بعض الآثار.
وقد ورد في التوراة في الإصحاح الخامس والعشرين من سفر التكوين عدد ٢٩ و٣٠: «وطبخ يعقوب طبيخًا، فأتى عيسو من الجبل وهو قد أعيا، فقال عيسو ليعقوب: أطعمني من هذا الأحمر؛ لأنني قد أعييت.» لذلك دُعِيَ اسمه آدوم١٣ بمعنى الاحمرار) فيكون من طرف بحر الملح شرقًا، ثم يستدير لكم من جنوب عقبة العقارب ويمر إلى صن (وهي واقعة بحسب ما رأته اللجنة الإنكليزية العلمية التي أُرْسِلَتْ لبرية سينا تحت رئاسة العالم هنري بلمر سنة ١٨٦٨ في عين قادش في جبل معرة) وينفذ من الجنوب إلى قادش برنيع، ثم ينفذ إلى حصرادار، ويمر إلى عصمون، ثم يستدير الحد من عصمون إلى نهر مصر نافذًا إلى البحر، وأما الحد الغربي فيكون لكم البحر الكبير تخمًا. هذا يكون لكم تخم الغرب، وهذا يكون لكم التخم الشمالي، تخطون لكم من البحر الكبير إلى جبل هور، ومن جبل هور تخطون إلى مدخل حماة، ويكون منفذ الحد إلى صدد (وهي قريبة من حمص في بادية تدمر)، ثم ينفذ إلى زفرون (وهي في برية حمص) وينتهي إلى حصر عينان، هذا يكون حدكم الشمالي، وتخطون لكم التخم الشرقي من حصر عينان إلى شافام، ثم يهبط من شافام إلى ربلة شرقي العين، وينحدر ويماس جانب بحر كنارة شرقًا، ويهبط إلى الأردن، وينفذ إلى بحر الملح. وجاء أيضًا في سفر تثنية الاشتراع في العددين السابع والثامن من الفصل الأول منه ما يثبت دخول لبنان في بقعة أرض الميعاد؛ حيث قال: «فتحوَّلوا وارتحلوا وادخلوا جبل الأموريين وكل ما يليه من القفر والجبل والسهل والجنوب وساحل البحر أرض الكنعانيين ولبنان إلى النهر الكبير نهر الفرات، انظروا إني قد جعلت الأرض بين أيديكم فادخلوا واملكوا الأرض التي أقسم الرب لآبائكم إبراهيم وإسحاق ويعقوب أن يعطيها لهم ولنسلهم من بعدهم والأموريين.»

وفي قوله: «وادخلوا جبل الأموريين.» هم ولد الأموري الرابع من أبناء كنعان، وجبلهم غربي البحر الميت، ومدينتهم حصاصون تامار، ومعناها مدينة النخيل، والمظنون أنها المدينة المعروفة الآن بعين جدي وهي غربي البحر الميت. تبعد قليلًا عن أريحا، وأيضًا فإنه مما يثبت ذلك ما ورد في العددين الخامس والسادس من الفصل الثالث عشر من سفر يشوع؛ حيث قال: «وأرض الجبليين وجميع لبنان جهة مشرق الشمس من بعل جاد تحت جبل حرمون إلى مدخل حماة، كل سكان الجبل من لبنان إلى مياه مسرفوت، كل الصيدونيين سأطردهم من وجه بني إسرائيل، وأنت تقسمها بالقرعة لإسرائيل ميراثًا كما أمرتك.» والظاهر من هذا القول أن القدماء كانوا يقسمون لبنان إلى الشرقي والغربي كما هو مقسوم اليوم.

أما اسم لبنان، ففي كل حال بقي متداولًا على ألسنة الناس منذ القدم، وما انقطعت الألسنة عنه في بعض الأوقات إلا لعلة ما من العلل التي تحدث عادةً في تأريخ البلدان من مثل استيلاء أجنبي يُبدِّل الأسماء، ويُغيِّر في تقاسيم البلاد، ثم عاد ذلك الاسم إلى ما كان عليه من كثرة التداول على الألسنة.

ثم إذا نظرنا إلى الأسماء التي أُطْلِقَتْ على جبل لبنان مرادفة لاسمه لبنان نجدها كثيرة قد تناوله غالبها في جملة غيره من البلدان، ففينيقيا مثلًا كانت على الأصح من أرواد إلى جبل الكرمل مع بعض لبنان، وسورية المجوفة وهي الواقعة بين لبنان الغربي ولبنان الشرقي، وسورية الثالثة وهي الشاملة دمشق وجبل لبنان، ثم آرام وهو الخامس من أبناء سام بن نوح، فإن هذا الاسم كان يُضاف إلى أعمال عديدة؛ مثل: آرام النهرين، وآرام دمشق، وآرام صوبة، وآرام معكة. وهي ما يشمل — في غالب الظن — مرجعيون وبانياس. ثم اسم الشام الذي يُطلَق الآن على بلاد سورية بجملتها، وهذا الاسم قد ذهب علماء التأريخ في مأخذه عدة مذاهب أصحها أنه مأخوذ من سام بن نوح، وأصله في العبرانية والسريانية شام، أو شم. ثم إن اختلاف هذه الأسماء مع عدم تعيين أسمائها تعيينًا محكمًا يجعل المؤرخ في ريب، ويلجئه إلى أن يطرق أبواب الحدس والتخمين في الأشياء التأريخية، فما ورد في التوراة وأقوال المؤرخين من الكلام على الآراميين والفينيقيين والسوريين والشاميين كان في الغالب يتناول اللبنانيين، وبناءً عليه فإن تأريخ لبنان القديم وسكانه القدماء يمتزج بتاريخ من ذكرنا من هؤلاء الأقوام ومواطنهم امتزاجًا يتعذر تجريده خلوًّا من الشوائب، وما جاء منه مختصًّا ببعض مدن مثل جبيل وبيروت وغيرهما هو مشوب أيضًا. ويليق بنا في هذا المقام أن نبيِّن مآخذ الأسماء القديمة وما في هذا من الأقوال.

«آرام»: وهو اسم الخامس من أبناء سام على ما ورد في سفر التكوين في العدد الثاني والعشرين من الفصل العاشر من هذا السفر، كان يُطلَق على الأراضي التي استوطنها الآراميون. وهي الأراضي الواقعة على ضفتي الفرات التي انتُزِح عنها بعض قبائلهم متجاوزين جبل أمانوس المعروف الآن باللكام إلى الأنحاء الجنوبية من آسيا الصغرى حتى ليكية، وعلى الأراضي الواقعة في شمال سورية والسفح الشرقي للبنان الشرقي بين الجبل والصحراء؛ فانقسم بذلك الآراميون إلى آراميي الشمال بين الفرات وجبل أمانوس، وآراميي دمشق، أو سورية الدمشقية حول مدينة دمشق الكبيرة. والكتاب المقدس أطلق اسم آرام على قسم كبير من سورية، وأضافه كما تقدَّم إلى أعمال عديدة مثل آرام النهرين، والمراد ما بين النهرين دجلة والفرات. وآرام صوبة، وهي على ما يُظَن ما بين دمشق جنوبًا وحماة شمالًا، وآرام رحوب وهي على ما يُظن كانت في محل الجولان. ولبث هذا الاسم محفوظًا تداوله بين الناس القدماء مدة قرون، حتى إن الشاعرين هومير وهسيود والمؤرخ إسترابون جاءوا على ذكره مختصًّا بالسوريين، ولم يُمْحَ هذا الاسم إلا عند ظهور النصرانية.

هوامش

(١) حملايا: كلمة مركبة من لفظتين سنسكريتين؛ معناهما موطن الثلج. وهي سلسلة جبال في آسيا على حدود الهند من الجهة الشمالية فاصلة بين هذه وتيبت.
(٢) قِيلَ إنه يوجد معدن ذهب في قرية فاريا من أعمال قضاء كسروان وفي قرية بسوس من أعمال قضاء الشوف، ولكن المستر هدن الإنكليزي المرسل من قبل الحكومة السنية للبحث عن المعادن في خلال عامَيْ ١٨٦٩ و١٨٧٠ حكم بأنه يوجد في لبنان من كل المعادن ما عدا الذهب.
(٣) ذُكِر أدوني في حكايات جبيل كثيرًا. قد استوعب تفصيل ذلك العالم الأب مرتين اليسوعي في تاريخ لبنان، فقال في ص٢٢٦ وما يليها: «يتبين لأول وهلة أن سنكن يتن كان يجهل ما يختص بأدوني من ذلك الذكر وعظم شأنه، غير أنك إذا تتبعت كلامه الذي يقول فيه إن عليون مات كأدوني بأنياب السباع؛ سهل عليك أن تستنتج أن هذين الاثنين (عليون وأدوني) لا يُراد بهما عندهم (الجبليين) إلا كونهما واحدًا، وهذا يتبين من معنى الاسمين؛ لأن عليون معناه الأعلى وأدوني معناه سيدي، وكلا الاسمين يُراد بهما في الكتاب المقدس الإله الحقيقي.» وسنكن يتن قد سكت في أخباره المختصرة عن الحوادث والظروف التي أضافها اليونان إلى أخبارهم قصد التحسين سكوتًا كاملًا، فاقتصر على قوله إن عليون بعد أن ذهب فريسة الوحوش الضارية عبده أبناؤه، غير أن أصل التصور عن موت هذا الإله لم يزل مشتركًا بين الحكايتين. أما الشعراء اليونان فقد دنسوا، بسبب خلاعتهم، هذا الاسم الإلهي (أدوني)، ولم يكن ذلك منهم في عهد قديم جدًّا إلى أن قال: «زعم أفيد السفيه أن أدوني وُلِد بفاحشةٍ من مرة مع أبيها قنارة، وكانت أمه قد تقمصت سروة قبل أدوني هذا الذي ظهر من جرثومة هذه الشجرة، ثم إن هذا الفتى الجميل عشقته عشترت بعد ذلك، فقتله المريخ ومسخه خنزيرًا.» هكذا كانت حكاية أدوني بالاختصار قبل ظهور النصرانية بقليل، وذلك عند المصريين واليونان والرومان، ثم قال: «غير أن مدينة جبيل التي كانت مصدر هذه الحكاية لم تُسلِّم بهذه القرية التي اختلقتها عقول اليونان الخفيفة؛ فلم ينسبوا اسم أدوني إلى عليون بل إلى تموز.» ثم ذكر الأب مرتين حكاية أدوني الفينيقية التي رواها على وجهها الحقيقي القديس ماليتون في مديحه الذي وجهه للإمبراطور مارك أورال نحو سنة ١٧٥ مأخوذة عن نسخة سريانية كُشِفت حديثًا في أديار نتريه، والحكاية هي: أن أبناء فينيقيا عبدوا بعلتي ملكة قبرس، وهذه الملكة بسبب عشقها لتموز بن كوثر (قيثار) ملك الفينيقيين هجرت مملكتها لتسكن في جبيل مدينة الفينيقيين، فوهبت حينئذٍ جميع ممالكها للملك كوثر، ولكنها قبل أن تحب تموز كانت قد عشقت أروس (مرس أو المريخ) وأتت معه الفاحشة، فتغيَّظ زوجها هوفست (فلكان) من ذلك، وجاء فقتل تموز في جبل لبنان، بينما كان في قنص الخنازير البرية، ومن ذلك الحين ازدادت بعلتي قوة وماتت في مدينة أفقا حيث دُفِن تموزاه.
ويُؤخَذ من التقليد المحفوظ عند أهل تلك الناحية أن قبر أدوني في الغينة من فتوح كسروان، وقد وُجِد في الغينة هذه صخر منقور فيه صورة حيوان يفترس فتى تجاهه امرأة تبكي.
(٤) هذا النبع في محلة يُقال لها: الشلقة، من مزرعة كفر ذبيان. قيل له: نبع العسل؛ لأنه يجري على حصباء ذات لون كلون العسل.
(٥) هذا النبع في مكان يبعد عن نبع العسل نحو ألف متر، وقيل له: نبع اللبن. لأن حصباءه التي يجري عليها بيضاء كاللبن.
(٦) سمي كذلك؛ لأن مياهه تفيض في عيد الأربعين شهيدًا أو في ما هو قريب عهد منه قبله أو بعده، وتندفق مياهه من فوهة سدٍّ بُنِيَ له مرارًا وهدمته المياه؛ حتى تيسر إحكام بنائه، فثبت في وجه المياه وقَوِيَ على صدماتها العنيفة.
(٧) قد أجمع أهل التحقيق بعد البحث أن القناطر والقناة الجارية عليها من مكان يُسمَّى العرعار من أرض كسروان «وهو الآن من أعمال المتن» قيد اثني عشر ميلًا «تاريخ بيروت وأخبار الأمراء البحتريين من بني الغرب لصالح بن يحيى، مجلة المشرق، عدد ٢ ص٨٣» هما من مباني الرومانيين، وليس لزبيدة زوج الخليفة هارون الرشيد ولا لزينب الزباء ملكة تدمر المختلف في أصلها بين أن يكون مصريًّا أو آراميًّا أو أن تكون من جنس عربي ولا لغيرهما يَدٌ في تلك المباني، فأما القول بأن زبيدة زوج الخليفة هارون هي التي بَنَتْ تلك القناطر والقناة فهو قول عامة الناس لا ظل له من الحقيقة، ولا ذُكِر البتة في تاريخ الخليفة على حداثة عهده بالنسبة إلى عهد تلك القناطر. يشير إلى أن زوجه صرفت عنايتها إلى ترميم تلك المباني الضخمة التي كانت في أيامها مثغورة، وأما القول بأن زينب الزباء هي صاحبة تلك المباني؛ فلم نَرَ حتى الآن ما ينفيه نفيًا صريحًا إلا ما جاء في مقالة للأب س. رونزفال في زينب الزباء ملكة تدمر؛ وذلك في العدد ١٠ و١١ و١٢ من مجلة المشرق، ولكن لسوء الحظ لم تكن هذه المقالة قد استُكمِل نشرها في المجلة يوم طُبِع هذا المطلب، فلربما كان لصاحبها الفاضل شيء من النفي الواضح يجيء في آخرها؛ فلذلك يبقى هذا القول مثل سائر الأقوال متناولًا احتمال التصديق حتى ينكشف السر من ارتقاء البحث في العاديات التي هي أصدق الموارد إلى الحقيقة. وإنا لنأسف أن يَظَلَّ هذا البناء الكبير العجيب في وادٍ من ظلمة الجهل أعمق من واديه. لو ذهبنا إليه لنستنطقه عن حقيقة الحال لأفصح لنا كل الإفصاح عن عجيب العناية المبذولة فيه، ولكن لو سألناه عن صاحب اليد البيضاء في بنائه لما فاه ببنت شفة.
(٨) إن في هذا المعنى ما ينطبق على حقيقة حال هذا النهر عند مصبه من تخريب الأرض المجاورة لذلك المصب؛ لأن مياهه في منتهى الوادي عند المحلة المعروفة بياروطي تصطدم بسفح الجبل من جهة الجنوب، فترتد إلى الشمال حيث السهل الفسيح سهل الدامور، ومما يرويه الخلف عن السلف أن مصب النهر كان قبل اليوم عند المحلة المعروفة برأس المصري.
(٩) قيل إن السبب في بناء ذلك الجسر هو أن الأمير زين الدين التنوخي كان مشتغلًا ببناء مطحنة في ذلك المكان، فحدث ذات يوم أنه بينما كان يناظر البناء إذ مرَّتْ فتاة بالقرب من الفَعَلة وخاضت في مياه النهر تبغي الاجتياز إلى الضفة الأخرى، فشمرت أثوابها خشية البلل، فحانت من الأمير التفاتة، فرأى بعض الفَعَلة ضاحكين مما بدا من مستور الفتاة متغامزين عليها، فثارت مروءة الأمير، وأمر بالكف عن العمل بعد أن أَوْسَعَ المتغامزين لومًا وتعنيفًا، وأمر لساعته ببناء قنطرة فوق النهر للعبور عليها، واستحضر فَعَلة آخرين لينضموا إلى فَعَلته تعجيلًا لإنجاز العمل، وأمر بمدِّ سرادق له؛ فلبث في ذلك المكان أربعين يومًا ويومًا حتى تم بناء القنطرة.
(١٠) الباروك بفتح الباء وألف ما بعدها عربي معناه الجبان والكابوس، وبالباء مفتوحة بدون ألف بعدها بصيغة فعول؛ معناه التي تتزوج من النساء ولها ابن بالغ الدية، وأما بروك بضم الباء والراء بغير ألف فهو إما أن يكون جمع باركة للواحدة من الإبل المستنيخة، وإما أن يكون للخبيص، والاسم منه البريكة، وإما أن يكون مصدر برك بروكًا، ومعناه الاستناخة أو الثبوت بالمكان والإقامة به. وهذا في غالب الظن أقرب ما يكون إلى صحة الإسناد إليه. سُمِّي الينبوع به أيام التنوخيين القدماء؛ سموه كذلك عندما قدموا بقبائلهم لبنان، وأناخوا إبلهم عند مائه، وطاب لهم البروك بذلك المكان، والإقامة به قبل أن يستعمروا ويستوطنوا.
(١١) الظران أو الطور الحجري في فينيقية للأب غ. زمفون عدد ٣ وعدد ٨ من مجلة المشرق لسنتها الأولى.
(١٢) كان الحثيون مستوطنين ما بين العاصي والفرات وجبل اللكام، وفريق منهم كانوا بحبرون — وهو الخليل اليوم وما جاوره — وهؤلاء هم الذين وعد الله أن يمكن نسل إبراهيم منهم، والفرزيون يُراد بهم سكان القرى. قِيل لهم ذلك؛ تمييزًا لهم عن أهل المدن، وليس المراد بهم عشيرة قائمة برأسها من عشائر الكنعانيين، فإن موسى لما عدَّ عشائر كنعان لم يذكر عشيرة لكنعان بهذا الاسم (تاريخ المشرق للعالم لنورمان ص١٢٠) وجاء في كلمة «الفرزيين» من معجم الكتاب لكلمت أن الفرز بين شعب قديم كان مقيمًا بفلسطين مختلطًا مع الكنعانيين، وأن الأدلة غالبها يدل دلالة كافية على أنهم من نسل كنعان، ولكنهم كانوا غير مستقرين في مكان بل رحالًا ينزلون تارة هنا وطورًا هناك، ومعنى اسمهم المشتتون والمفروزون أو سكان المزارع والقرى، وكانت محالهم بعبري الأردن مختارين الحزون والسهول. والرفائيون هم الجبارة المعبر عنهم في الآثار الكلدانية بكلمة (كبرو) أو جيبور؛ كانت مواطنهم في بلاد باسان مما وراء الأردن، والأموريون كانت مواطنهم في جبل أفرائم ويهوذا لما استولى بنو إسرائيل على أرض الموعد، وكانوا قد بلغوا غربي البحر الميت وعبروا قبيل عهد موسى الأردن، وشيدوا مملكة باسان وحشبون. وجاء في الآثار المصرية ذكر لفصيلة أمورية تسكن جهة قادس، وعند منبع العاصي في الشمال من بعلبك، والجرجاشيون كانوا ساكنين عبر الأردن، وامتدت سكناهم إلى الجليل وجبل الكرمل، وورد ذكرهم في الآثار المصرية، ويُظَن أن بحيرة الجرجسيين وهي «بحيرة طبرية» منسوبة إليهم، واليابوسيون سكنوا أولًا المحل الذي سُمِّي بعدئذٍ أورشليم «ا.ﻫ. ملخصًا عن تاريخ سورية للعلامة المطران يوسف الدبس».
(١٣) أدمه بالعبرانية معناها التراب الأحمر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤