سورية

قال العالم مسبيرو: «إنه من يوم أن أتى تطمس الأول ابن أمانوثيب بالمصريين إلى آسيا لافتتاحها كانت البلاد التي تجاوزها فيما وراء خليج السويس تُدعَى سورية، وذلك قبل المسيح بألف وسبعمائة سنة ونيف.» وقال بروغش: «إن اسم سورية مخفف أسيرية؛ سُمِّيَتْ كذلك بعد استيلاء تجلت فلا صر الثاني على أعمال سورية وذلك (من سنة ٧٤٥ إلى ٧٢٧ق.م)، ثم استيلاء سرغون عليها (من سنة ٧٢٢ إلى ٧٠٥ق.م).» وقال هيرودوت (الذي وُلِد سنة ٤٨٤ق.م): «إن لفظ السوري مختصر من الآشوري، أو الآسوري بالسين المهملة.» وقال الأب دي كارا: «إن الأولى باسم سورية أن يكون مأخوذًا من أسور، أو أسوريم ابن داوان بن يقشان بن إبراهيم من قطورة بدليل أن الذين أتوا فينيقية وأسسوا مدينة صور، كانت مهاجرهم بشمال بلاد العرب، وأن الاسم آشور أو آسور سُمِّيَ به أحد أعمال بلاد العرب.

وقد جاء في الآثار المصرية ذكر قوم اسمهم آسور حالفوا الحثيين سكان شمال سورية يوم محاربة رعمسيس الثاني ملك مصر في القرن الرابع عشر قبل الميلاد.» وقال أيضًا: «إنه وُجِدَتْ صفيحة بمصر كُتِبَ عليها بالهيروغليفية: روثانو، وباليونانية: سورية، وبلغة الشعب المصرية: أساراواسور.

ومعلوم أن الروثامو يُطلَق على سكان سورية الشمالية.» وقال أيضًا: «إن هذا الاسم مدروج في عداد الذين قهرهم رعمسيس أحد ملوك الدولة التاسعة عشرة في مصر مكتوبًا على جدار هيكل إدفو بمصر، وذلك كله يدل على أن تسمية البلاد بسورية هي أقدم عهدًا من عهد علماء اليونان المعروفين، وقيل إن أول من نقل الاسم آرامي إلى سوري هم اليونان؛ فانتشر هذا الاسم في جميع العالم بسبب انتشار اللغة اليونانية، وقد مُحِيَ اسم الآرامي بعد افتتاح الإسكندر البلاد، وحل محله اسم السوري؛ فإن اليونان كانوا يبدلون في الحروف الهجائية، ويغيرون في أوضاع الألفاظ بحسبما يوافق لغتهم ويسهل عليهم لفظه؛ فجعلوا آشورية أسورية، ثم سورية. وقال بعض إن اليونان اتخذوا اسم سورية من صور؛ لأن أهل صور كانوا معروفين عند أهل إغريقية أكثر من غيرهم من سكان سواحل لبنان، وذلك عند ظهور اسم سورية، وكيفما كانت البواعث على هذه التسمية فإن الاسم أجنبي لا وطني.»

(١) كنعان

هو كنعان بن حام بن نوح، كما ورد في سفر التكوين في العدد الثامن عشر من الفصل التاسع من هذا السفر، وفي العدد العاشر من الفصل السادس منه، وقد سُمِّي سكان جانب كبير من لبنان باسم كنعانيين؛ فإن القبائل الكنعانية — على ما قال مسبيرو — قد انقسمت بعد الفتح المصري إلى فريقين: فريق منهما استوطن في الوديان الكائنة في داخل البلاد بين أمانوس (اللكام) وسعير، وفي السهول الممتدة من جنوب الكرمل إلى الصحراء وإلى تخوم مصر، والفريق الآخر استوطن السواحل بين الكرمل ومصب العاصي وبين جبل لبنان والبحر. وقد اختلف الفريقان في العادات والأخلاق باختلاف مواطنهما، فالمقيمون في داخل البلاد كانوا أهل زراعة ورعاة بحسب أماكنهم؛ فافترقوا إلى عدَّة قبائل، كل قبيلة منها تحارب الأخرى، وكانت نار الفتن بينهم دائمة الاضطرام، وأما كنعانيو السواحل فلانحصارهم بين الجبل والبحر لزموا صناعة الملاحة والتجارة.

وأما انتجاع الكنعانيين سورية فقد كان قبل أن يأتيها إبراهيم من أور الكلدانيين؛ إذ جاء في سفر التكوين في العددين الخامس والسادس من الفصل الثاني عشر منه «وأتوا أرض كنعان، فاجتاز إبرام في الأرض إلى موضع شكيم وإلى بلوطة ممرًّا، والكنعانيون حينئذٍ في الأرض.» فكان انتجاعهم ذلك قبل القرن الحادي والعشرين قبل الميلاد؛ وهو القرن الذي جاء فيه إبراهيم من أور الكلدانيين، أو بعده بقليل. وقد ذهب لانورمان إلى أن انتجاعهم ربما كان في أواسط القرن الثالث والعشرين ق.م؛ لأنه في ذلك الزمان ثار العيلاميون على الكوشيين في بابل وأنحائها، فانتزح الكنعانيون عن مواطنهم في جوار ولد عمهم كوش، وأما هيرودوت المؤرخ اليوناني فقد جاء في تأريخه ما يفيد أنه كان للكنعانيين أثر في سورية قبل ذلك العهد بكثير، وهو هيكل ملكرت الشهير في جزيرة صور، فإنه بُنِيَ فيما رواه هذا المؤرخ نحو سنة ٢٧٥٠ق.م، وأما العالم الفرنسي شباس فقد ترجم البابير١ المندرج فيه كتاب العامل المصري إلى مولاه منيمهات الأول من ملوك الدولة الثانية عشرة في مصر الذي أرسله إلى بلاد أدوم وجرار وغيرهما من الأعمال في جنوبي فلسطين؛ ليتجسس أمورها ويستكشف أحوالها، ولم يُرَ في ذلك الكتاب ذكر الكنعانيين واردًا في جملة من كانوا في تلك الأيام أيام الدولة الثانية عشرة ساكنين في تلك البلاد من الساثيين والجبابرة. والساثيون هم من القبائل السامية، وأما مهاجر الكنعانيين فهي على ما رواه هيرودوت مأخوذًا عن التقاليد الفينيقية وما تلقاه إسترابون من تقليد سكان بلاد العرب الجنوبية، وفيما أُخِذ من الآثار القديمة واقعة على شاطئ خليج العجم في جوار ولد عمهم كوش. وقد قال بلين إنه كان في أيامه عمل على ذلك الشاطئ يُسمَّى بلاد كنعان، وذكر إسترابون جزيرتين هناك كانتا تُسمَّيان صور وأرواد، وقال إن بهما هياكل تشبه هياكل الفينيقيين، أما أسباب ارتحالهم فقد اختلف المؤرخون فيها، فقال هيرودوت إن السبب هو حدوث زلزلة شديدة في البلاد التي هاجروا منها، وقال مؤرخو العرب — فيما رواه العالم برسفال في كتابه تأريخ العرب قبل الإسلام — إن السبب في انتزاحهم حرب اضطرمت نيرانها بينهم وبين سلالة نمرود. وروى لانورمان أن الكنعانيين هجروا مواطنهم؛ بما وقع لهم مع الملوك الكوشيين من النزاع.

ينتج من كل ما تقدَّمَ أنه مهما تضاربت آراء المؤرخين فيما يتعلَّق بمهاجر الكنعانيين، والأسباب التي بعثتهم على المهاجرة قد اتفقت على أن هؤلاء الأقوام أتوا سورية من بلاد أخرى، وأن سورية كانت قبلهم قد أهلَّتْ بأقوام آخرين.

(٢) فينيقية

إن الكنعانيين سكان السواحل قد سُمُّوا فيما رواه مسبيرو فينيقيين، وإن هذه التسمية بحسب التقاليد اليونانية مشتقة من فينكس ابن أجنور، وأجنور مرادف بيل إله الفينيقيين. وقد ذهب جمهور من المؤرخين إلى أن فينكس إنما يُراد بها الشعب الأحمر؛ وهذا إما لأن الفينيقيين استوطنوا وقتًا طويلًا سواحل البحر الأحمر (الأريتره)، وإما لأنهم أنشأوا معامل للمنسوجات الأرجوانية في محالهم التجارية، وإما لاحمرار لون وجوههم. وإن الرأي المتبع حتى هذه الأيام الأخيرة هو أن فنيكس يُراد به النخل، وفينكسية يُراد بها بلاد النخل. وقال مسبيرو أيضًا إن فنيكس لفظ تُوسِّع فيه مأخوذًا من فون أو بوني، اسم قديم أتى به الكنعانيون من منازحهم، وصحبهم في جميع البلدان التي استقروا فيها، فإن أقدم الآثار المصرية قد جاء فيها ما يدل على إطلاق اسم بوني على الأقاليم الشرقية لبلاد العرب؛ فكنعانيو الخليج العجمي أتوا باسم فينيقية إلى سورية، وفينيقيو سورية أتوا به إلى إفريقية، وفينيقيو إفريقية نشروه حتى أبلغوه قواصي مستعمراتهم.

إن الأسفار المقدسة التي كُتِبَتْ باللغة العبرانية لم يَرِد فيها اسم فينيقية بل جاء فيها اسم كنعان وبلاد الكنعانيين، وأما سفر المكابيين وأسفار العهد الجديد فقد ورد فيها اسم فينيقية؛ لأنها كُتِبَتْ باللغة اليونانية. والظاهر من ذلك أن الاسم فينيقي يوناني، وقد قِيلَ إن تأويله النخل؛ لكثرة النخل في البلاد التي سُمِّيَتْ بهذا الاسم، ودليله وجود صورة النخل على المسكوكات٢ القديمة في فينيقية وبعض مستعمراتها.

وقد أفرغ العلماء جهدهم في التنقيب عن أصل لهذا الاسم في اللغة السامية فلم يدركوا المرام، وقد وهم العالم بوشار أن فنيق مشتق من لفظ «بني عناق»؛ وهم قوم من الجبابرة الكنعانيين وَجَدَهم الإسرائيليون بأرض حبرون كما يتبين ذلك من سفر العدد في العدد الثالث والعشرين والتاسع والعشرين من الفصل الثالث عشر منه، ومن سفر يشوع في العدد الحادي والعشرين من الفصل الأول منه. والحقيقة أن هذا الاشتقاق بعيد الاحتمال بما في ذلك من مباينة الحروف بين اللفظين، وأن اسم فينيقي في غالب الظن أُطْلِق على سكان السواحل الذين كثر في أرضهم النخيل، وانتشرت معامل منسوجاتهم الأرجوانية.

وجملة القول أن هذا الاسم قد تسمَّى به سكان سواحل لبنان زمنًا مديدًا كانوا فيه بالغين أقصى درجات العمران والحضارة بين أمم تلك القرون الخوالي، وكانت سفنهم تتهادى فوق أمواج البحار، وما لغيرهم من سائر الأمم والشعوب خشبة طافية فوق الماء؛ لأن أول سفينة جرت في البحر (بعد سفينة نوح) إنما هي سفينة فينيقية؛ فعُدُّوا لذلك أصحاب اكتشاف٣ الملاحة في البحار، وقد بلغت تجارتُهم مبلغًا من النجاح عظيمًا، وراجت عندهم الصناعة بما كان يتيسر لهم من نقل سلعها إلى غيرهم من الأمم، وقد كثر عدد سفنهم كثيرًا، حتى قِيلَ عن صور إنها مليكة البحار وربة التجارة.

وقد اتَّجر الفينيقيون بصنوف كثيرة، ومما رواه النبي حزقيال تتبين هذه الصنوف والبلدان التي امتدت التجارة الفينيقية إليها، فقد جاء من كلام النبي على صور (والمراد بها مملكة صور؛ أي: فينيقية) في الفصل السابع والعشرين في العدد الثاني عشر منه «ترشيش (يريد إسبانيا) متجرة معك في كثرة كل غنى، وبالفضة والحديد والقصدير والرصاص أقامت أسواقك.» ثم ذكر في العدد الثالث عشر ياوان وتوبل وماشك (وياوان بحسب التقليد العام جد اليونان في آسيا وأوروبا، وتوبل وماشك وَرَدَا في الآثار المسمارية باسم تابالي وماشكي، فمساكن التاباليين — فيما قال يوسيفوس — بين بحر قزبين والبحر الأسود حيث هي كرجستان، وأما مساكن الماشكيين فحسب رأي الأقدمين كانت في الشمال من آشور) فقال: «ياوان وتوبل وماشك متجرون معك وبنفوس الناس، وآنية النحاس أقاموا موسمك.»

وفي العدد الرابع عشر: «آل توجرمة بالخيل والفرسان والبغال أقاموا أسواقك.» والمراد بآل توجرمة الأرمن، فمن تقليدات الأرمن أن جدهم يُسمَّى ترجموس، أو ترجوم.

وفي العدد الخامس عشر: «وبنو ددان متجرون معك، وجزائر كثيرة تجار يدك، وقد أدت قرون العاج والأبنوس قياضًا لك.» والمراد ببني ددان أهل الجنوب من العربية وجزائر البحرين.

وفي العدد السادس عشر: «آرام متجرة معك في كثرة صنائعك، وبالبهرمان والأرجوان والوشي والكتان والمرجان والياقوت أقامت أسواقك.» والمراد بآرام آرام الشمال، وآرام الجنوب بسورية وما بين النهرين.

وفي العدد السابع عشر: «يهوذا وأرض إسرائيل متجرتان معك وبحنطة منيت والحلاوى والعسل والزيت والبلسان أقامتا موسمك.» والمراد بيهوذا وأرض إسرائيل بلاد فلسطين.

وفي العدد الثامن عشر: «دمشق متجرة معك بكثرة صنائعك من أجل كثرة كل غنى لك بخمر حلبون (حلب) وبالصوف الأبيض.»

وفي العدد التاسع عشر: «دان وياوان بالغزل أقامتا أسواقك، وكان في موسمك حديدهما المصنوع وقصب الذريرة.» (وهو يُستعمَل، إما للصبغ وإما للتداوي به) وربما كان المراد بدان لضمها إلى ياوان جزائر البحر المتوسط.

وفي العدد العشرين: «ددان متجرة معك بالنمارق.»

وفي العدد الحادي والعشرين: «العرب وجميع رؤساء قيدار هم تجار يدك بالحملان والكباش والتيوس، فإنهم بهذه اتجروا معك.»

وفي العدد الثاني والعشرين: «تجار شبا ورعمة متجرون معك وبأفضل كل طيب، وبكل حجر كريم، وبالذهب أقاموا أسواقك.» والمظنون أن المراد بشبا قوم استوطنوا على شاطئ بحر عامان، وبرعمة قوم سكنوا على الشاطئ الغربي من خليج العجم.

وفي الثالث والعشرين والرابع والعشرين: «حاران وكنة وعادان وتجار شبا وآشور وكلمد متجرون معك؛ هؤلاء يتجرون معك بالأنسجة الفاخرة بأردية من السمنجوني والوشي وبالنفائس من الثياب المبرمة المشدودة بالحبال المعكومة بين بضائعك.» وقد جاء في أقوال هوميروس أن الفينيقيين كانوا يتجرون بالرقيق كما قال النبي حزقيال.

وقد بحث العلماء في المحال التي ذكرها النبي حزقيال بحثًا طويلًا، وفندوا ذلك تفنيدًا ليس من شأننا استيعابه في هذا المقام؛ فإن الذين كتبوا تأريخ سورية كالعلامة المطران يوسف الدبس وغيره قد استوعبوا ذلك بالتفصيل، وحسبنا أن نقول إن الفينيقيين اتجروا مع أهل آسيا ومع أهل أفريقيا ومع أهل أوروبا تجارة كبيرة في اليابسة والبحار، فقد احتكروا التجارة في مصر مدة أربعة قرون بجزية كانوا يدفعونها إلى الفراعنة، فحمتهم الفراعنة٤ فاتَّسَعَ نطاق تجارتهم البحرية في ظلِّ تلك الحماية، فإن الفينيقيين قد انتفعوا من الفتح المصري خلافًا لسائر الشعوب السورية، ولم يمسهم شيء من الضرر والأذى في أثناء المحاربات؛ لبعد مواطنهم عن ممر العساكر التي كانت تسير من غزة إلى أشدود، فمجدو (وهذه كانت محطة الحروب بين المصريين والسوريين) ومن هنالك إلى قادش الجنوبية، ثم بين اللبنانيين إلى قادش الشمالية، فحماة فحلب حتى كركميش.

وقد لبث سكان جبيل وبيروت وصيدا وصور دائنين لسلطة الأجانب من الفراعنة منذ عصر تطمس الأول إلى عصر رعمسيس الثاني، وكان لهم امتياز أن يتجروا مع مصر، وبواسطة ذلك الامتياز قد تسنى لصيدا بعدما حلت من حيث السيادة بين الفينيقيين محل جبيل إن وسعت في نطاق فن الملاحة وبلغت ذروة المجد والغنى.

لما كان الفينيقيون قد كُلِّفوا بجمع الثروة من أبواب التجارة والصناعة مدفوعين إلى ذلك بمقتضى حال مواطنهم نزعت نفوسهم إلى الاستعمار، ولا سيما في أيام سؤدد صيدا، فكانت جالياتهم في قبرس ورودس، وقد وُجِد في كريت آثار لهم تدل على أنهم استوطنوا هذه الجزيرة مدة من الزمن، وكذلك في بلاد اليونان. فقد قال هيرودوت عن أهل تابس ذات الأبواب السبعة إنهم فينيقيون من القوم الذين صحبوا قدموس إلى بواتسيا، وعلَّموا أهلها حروف الهجاء الفينيقية. وقد ذهب جماعة المؤرخين مذهب هيرودوت، ووافقهم لانورمان، وخالفهم الأب دي كارا؛ فإنه رأى أن الذين أتوا بواتسيا هم حثيون لا فينيقيون. وقد كانت للفينيقيين محال تجارية في شطوط الأبير وجنوبي إيطاليا وفي صقلية وقرطاجنة وبلاد العرب والكلدان وأرمينية، وكانت سفنهم تجتاز بوغاز الدردنيل وبحر مرمرا والبوسفور إلى البحر الأسود، وتسير فيه حتى تبلغ جنوب جبل قاف، فتأتي من هنالك بالمعادن الثمينة ولا سيما الذهب، وقد انتشرت معارف الفينيقيين وآدابهم وعبادتهم في جميع الأماكن التي داستها أقدامهم كما يدل على ذلك ما بقي من آثارهم، أما مدن فينيقية السورية فهي أرواد عاصمة الأرواديين من بني كنعان، وكان موقعها في الجزيرة المعروفة حتى الآن باسم أرواد وماراتوس المعروفة الآن بعمريت٥ وسمييرا عاصمة الصماريين، وقال لانورمان إنها في الجنوب من عمريت بالقرب من مصب النهر الكبير، وعرقة عاصمة العرقيين وهي معروفة باسمها حتى اليوم، وأرتوسيا وهي طرسوس، أو بلدة أخرى تقرب منها، وطرابلس وهي التي سماها اليونان تريبوليس أي المدن الثلاث، وقلموس والمظنون أنها كانت في محل القلمون اليوم، وجيفارتوس وترياريس ولا يُعلم موقعهما حتى الآن، والبترون٦ وجبيل، وهي من أقدم المدن وبانيها بحسب التقليد الإله إيل، وبيروت وهي قد أسسها أهل جبيل وخلدوا، وموقعها يُظَن أنه في محل خلدة الآن، ويورفيريون ويُظَن أن موقعها في المحل المعروف اليوم بالجية، وصيدون القديمة وهي صيدا وسربتا المعروفة الآن بصرفند، وصور وأوس واسمها إسكندرونة كما سماها اليونان، وكيكينا وكان اسمها في أيام السلوقيين اللاذقية والآن تُسمَّى أم العواميد، وأكزيب وهي المعروفة اليوم بالزيب، وعكة وهي التخم الجنوبي لبلاد الفينيقيين. وقد انقسمت هذه المدن على غير تساوٍ بين القبائل على اختلافها، فأفضى الأمر إلى أن تألفت منها ممالك صغيرة، كل مملكة منها مستقلة عن أخواتها؛ فكانت مملكة الصيدونيين ومملكة الجبليين ومملكة العرقيين ومملكة السينيين ومملكة الصمريين، وفي بادئ الأمر كان للجبليين على جميع الفينيقيين سلطة حقيقية، وكان لهم مملكتان مملكة جبيل ومملكة بيروت؛ فجبيل كانت تفتخر بأنها أقدم مدينة في العالم، وأنها قد بناها الإله إيل في صدر الخليقة في مكان غير المكان الذي وُجِدَتْ فيه بعدئذٍ، وقد افتخرت بيروت بأن بانيها الإله إيل أيضًا، وهاتان المملكتان كانتا ضعيفتين لا تستطيعان حفظ استقلالهما؛ فاندرستا وأخذت مدنهما وأراضيهما، وإذ ضعفت جبيل فلم تلبث صيدون أن أصبحت من أعظم المدن الفينيقية مع أنها في أول نشأتها كانت بلدة حقيرة لصيد السمك كما يدل عليه اسمها، وكانت في المنزلة دون صور وجبيل وبيروت، والذي أنشأها بحسب التقاليد إنما هو إيل الذي أنشأ صور؛ وهو أجنور اليونان.

إن الأسباب التي بعثت الفينيقيين على أن يلتمسوا الكسب من أبواب التجارة هي التي بعثتهم على إتقان الصناعة، فبينما كان غيرهم من الأمم يسعى إلى إعلاء شأنه بقوة السلاح في ميادين القتال إذا هم كانوا مشتغلين بإتقان الصناعة والبحث عن محسناتها، فقادهم الاتفاق إلى اكتشاف اللون الأرجواني واستخراج مواده من حيوانات بحرية من ذوات الصدف، مما كان يوجد على شاطئ البحر بين حيفا وصور وعلى بعض الشواطئ اليونانية، فكانوا يستخرجونه لصبغ البرفير الذي رغب فيه القدماء واتخذه ملبسًا كثير من الملوك، ولا سيما ملوك آشور وآرام وبابل وفارس ومدين كما يتبين لنا ذلك مما ورد في نبوات حزقيال وأرميا ودانيال. وكانت الملابس من هذا الصنف يُنفَق في أثمانها أموال كثيرة، حتى قيل إن أحد قياصرة الروم لما سألته زوجه أن تلبس البرفير أبى ذلك عليها؛ لما أن الدولة تتحمل به نفقة كبيرة. وقد مهر الفينيقيون في صناعة الصبغ على اختلاف أنواعها وتوفرت لديهم مواد الصبغ، فكانوا يأتون بنوع من النبات من بلاد العرب لونه كالأرجوان.

ومن أشهر المصنوعات الفينيقية الزجاج، وقد قيل إن المصريين سبقوهم إلى استنباطه، ولكن الزجاج الذي كان يصنعه المصريون لم يكن شفافًا كالزجاج الفينيقي، وأما معامل الزجاج الفينيقي فكانت في صيدا وصرفند، ويوجد في متاحف أوروبا كثير من مصنوعاتها؛ مما يتبين منه مهارة الفينيقيين في هاته الصناعة. وقد اشتهر الفينيقيون بصناعة النقش والحفر وعمل الآنية الخزفية والمصنوعات المعدنية، ولا سيما الصفر (النحاس الأصفر). ويؤيد ذلك ما جاء في الفصل السابع من سفر الملوك الثالث؛ إذ قِيلَ: «وأرسل الملك سليمان، فأخذ حيرام من صور؛ وهو ابن أرملة من سبط نفتالي وأبوه رجل من صور صانع نحاس، وكان ممتلئًا حكمةً وفهمًا ومعرفةً في عمل كل صنعة من النحاس، فوفد على الملك سليمان وعمل كل صنعته.» وما جاء أيضًا في الخطوط الهيروكلفية على عهد الدولتين الثامنة عشرة والتاسعة عشرة في مصر من ذكر آنية النحاس من صنع الفينيقيين موصوفة بكونها بديعة الصناعة مستكملة الإتقان. وجاء في كتاب إسترابون أن الفينيقيين كانت تجارهم تبعث إلى جزائر بريطانيا أسلحة من الصفر وآنية خزفية، وقد وُجِد في جزيرة قبرس وفي تسكانا من أعمال إيطاليا كئوس مصوغة من معادن ثمينة بأيدي الصاغة الفينيقيين. وذكر النبي حزقيال أن الصوريين كانوا بارعين في صنع العاج، ومعلوم أنه لم يكن عسيرًا عليهم استجلاب أسنان الأفيال، وقد بلغوا بتجارتهم الهند وشمالي أفريقيا، وقد اشتهر الفينيقيون بصنع الأطياب أيضًا.

تبيَّن لنا مما تقدم أن أرض الفينيقيين لم تكن خصبة وسهلة المراس مثل أرض غيرهم من أقربائهم الكنعانيين والآراميين، ومع ذلك فإنها كانت متقنة زراعتها. ولم تزل آثار الإصلاح بادية فيما اشتغلت به أيديهم منها، كما يتبين هذا في أرض سواحل لبنان ولا سيما الجنوبية منها، فإنها مقطعة بجدران تقطيعًا يصون ترابها، ويسهل مراسها لنصب الكروم فيها. ومهما غيرت الحوادث الطبيعية من حالتها، وقلبت سيول الأمطار من وجهها المتحدر، وغيرت أشجار الغابات من وضعها فإنه لا يغرب عن الناظر المحقق أثر ذلك التقطيع بتلك الجدران؛ لأنه لم يَعْفُ بل هو باقٍ ينطق بمهارتهم واجتهادهم. وذكر لانورمان كثرة كروم العنب للفينيقيين في ضواحي صور وصيدا وبيروت وجبيل، وأنهم كانوا يعصرون منها ومن عنب لبنان خمرًا جيدة فاقت بشهرتها في أيامها جميع أصناف الخمر، حتى رغب أهل رومة وبلاد اليونان فيها كثيرًا، وقال رنان إنه اكتشف في ضواحي صور آلات للحراثة بالغة في المتانة والإتقان مبلغًا تَفُوق به غيرها من الآلات المستعملة اليوم. وليس بكبير على الفينيقيين أن يُصلِحوا أرضهم ويصنعوا لها مثل تلك الآلات، وقد اشتهروا في فن الكسب من أبواب التجارة والصناعة، ونما فيهم الميل إلى الاقتصاد والتدبير؛ فلا غرو أنهم لم يدعوا شيئًا لهم ربح منه إلا أتوه، واستدروا المنافع منه بقدر ما وصل إليه إمكانهم.

إن الفينيقيين — فيما أجمع القدماء عليه — هم أول من وضع الكتابة بالحروف وجاءوا بها اليونان، وقيل إنهم أخذوها عن الخطوط الهيروكليفية. وأثبت هذا العالم شمبوليون الذي اشتهر بحل الرموز الهيروكليفية. وروى هيرودوت أن الفينيقيين الذين صحبوا قدموس إلى اليونان أدخلوا بين هؤلاء علومًا مختلفة، منها علم حروف الكتابة. وأثبت هذه الرواية ديودور وتاسيت وميلا ويوسيفوس وكلامانس وألكسندريتوس وأوسابيوس. وقال رنان إن حروف الفينيقيين كانت صنفًا في جملة أصناف البضائع التي كانوا يشحنونها، وجاء في كتاب لانورمان أن الحروف الفينيقية هي أم لجميع الحروف، فمن هذه الحروف ما تفرَّع عنها مباشرة، ومنه ما تفرَّع عن فروعها، والسبب في ذلك كله أسفار الفينيقيين للاتجار؛ فإنهم أذاعوا حروفهم في معظم المعمور من الأرض كما نشروا تجارتهم فيه. أما لغة الفينيقيين فسامية وإن كانوا كنعانيين، وهي أخت اللغة العبرانية التي تكلم بها العبرانيون من الساميين وأخت اللغة العربية التي تكلم بها العرب من الساميين أيضًا، أما علوم الفينيقيين فلا شك أنها كانت أوسع نطاقًا من علوم جميع الأمم في تلك الأعصر القديمة؛ لأنه يستحيل أن يبلغ هؤلاء القوم ما بلغوه من إتقان التجارة والصناعة ما لم يكونوا قد برعوا في العلم؛ فإن الحركة الفكرية التي دفعتهم إلى استيفاء معدات الحضارة ساقتهم إلى مباحث العلم. ولكن لم يَبْقَ لنا من آثار علومهم ومن كتبهم شيء يُذكَر إلا ما ترجمه فيلون الجبيلي من كتاب سنكن يتن البيروتي وما نقله أوسابيوس وبرفير والدمشقي من بعض المقاطيع منه، وهو يشتمل على الكلام في أصل العالم وموالد الآلهة ألفه سنكن يتن، وأتحف أبيبعل ملك بيروت به. أما ديانة الفينيقيين٧ فلا يُعلَم من أمرها إلا ما دلت عليه أقوال سنكن يتن وما وجده الباحثون من المسكوكات والأصنام الصغيرة في قبرص.

قال أوسابيوس: «إنه من المعلوم الثابت أن الفينيقيين والمصريين هم أول من جعل الألوهية في الشمس والقمر والكواكب، وصرح بأنها علة للحياة والموت.» أما المصريون فكانوا يسمون معبودهم الشمس رع، أو عمون رع، والكنعانيون يسمونه بعل شمائيم أي رب السماوات، وأما الاسم الذي انتشر أكثر من غيره من جميع الأسماء فهو إيل أي القوي، والأول وهو الذي كان الجبليون يسمون به أخص آلهتهم، وقد جرى هذا الاسم على ألسنة الآراميين والكنعانيين والعرب، ونطق به يسوع المسيح وهو على الصليب؛ حيث قال: «إيلي إيلي لماذا شبقتني؟» يعني: إلهي إلهي لماذا تركتني؟ وهو أقدم من غيره من الأسماء، وربما كان آراميًّا، نطق به الجبليون القدماء قبل سؤدد الفينيقيين. والاتفاق في هذه التسمية بين العبرانيين وسائر قبائل الآراميين وبين الجبليين يدل على وحدة أصلهم من سام. وقد اتخذت العشائر الآرامية والكنعانية أسماء أخرى؛ كل اسم منها يدل على صفة من صفات الألوهية، فالحثيون الشماليون سموا الإله ست أو ستخ، وأرادوا به القدير على كل شيء، وبعض الآراميين هدد وأرادوا به الواحد الأحد، والعمونيون ملوك (ملوخ) وأرادوا به الملك والمتسلط وغير ذلك كثير مثل عليون أي العلي، وبعل أي السيد، وأدوني أي سيدي، وأيون أي الأزلي، وكبير أي الكبير، وقدم أي القديم. أما اليهود فهم وحدهم الذين حفظوا للإله الأسماء بمعانيها الحقيقية المطلقة، خلافًا لجميع القبائل الكنعانية والآرامية؛ فإنهم عددوا الآلهة بتعداد الصفات، وجعلوا منها ذكورًا وإناثًا يتزوجون ويتوالدون، ولم يكتفوا بذلك بل خصصوا الآلهة بالأمكنة؛ فكان مثلًا بعل صيدا وبعل صور وبعل لبنان وبعل حرمون وبعل دامور وبعل فاغور وبعل زبوب وبعل بيريث وبعل ترز وبعل ترسوس وبعل جاد وبعل حامون وبعل شاليشا، وكان كثير منهم يضيفون أسماءهم إلى بعل تبركًا به، كما كانوا يضيفون أسماءهم إلى إيل.

أما الحكايات التي أُذِيعَتْ عن إيل فكثيرة، قال سنكن يتن إن إيل طاف جميع الآفاق ووزع ممالك الأرض على أبناء خاصته كافة، وقد نُسِبَتْ له غزوات كثيرة، وكانت له زوج اسمها سميرام، فوُلِدَ له منها بيك فسمياه زوس (زفس) أي المشتري، فلما بنى إيل أسوار بابل عُهِد بالحكم إلى زوجه سميرام، وسار هو بجيش جرار ليفتح المغرب، وقد كان له ذلك، وأخضع جميع العالم لسلطته، وأنشأ المدن، وأقرَّ السلطات، وهذَّب العالم. ومن أعظم ما بناه من المدن مدينة نصيبين فيما وراء الفرات، ومعناها بالفينيقي الأعمدة، ثم بنى مدينة كرونية وهي المعروفة اليوم بمنبج، وبلغ أرمينية وضمَّ إلى مملكته جزيرة رودس وأكريت، وانتصر على سواحل إفريقية، وتجاوز شطوط إسبانيا حتى بلغ إيطاليا، ثم انتهى إلى صقلية حيث مات ودُفِن. وجملة القول أن إيل الذي كان له المظهر الأول والشأن الأعظم في مدينة جبيل تسلَّط على عالم الأقدمين تسلط الإله والملك. ومن جملة معبوداتهم أدوني، وهو تموز، وله حكاية ذكرها عدة من المؤرخين، وقد سبق لنا أن أثبتناها في ما تقدم؛ فنجتزئ الآن بالإشارة إليها. وقد عبد الفينيقيون عشتروت أيضًا، وهي قد اتخذت لها — فيما رواه سنكن يتن — رأس الثور رأسًا؛ وهذا إشارة إلى ملكها. ولم تنحصر عبادة عشتروت في الفينيقيين، بل سرت إلى غيرهم من الأمم القديمة، فعبدوها بأسماء مختلفة، قيل إن أحد المؤلفين القدماء عد من هاته الأسماء ما ينيف عن ثلاثمائة اسم تداولتها ألسن الشعراء.

يُؤخَذ من أقوال لانورمان أن الفينيقيين كان عندهم نوع من الثالوث، فكان في صور ملكرت٨ وبعل وعشتروت، وفي صيدا بعل وعشتروت وأشمون، وفي قرطاجنة حيث كانت جالية منهم تانيت وبعل حمون وأشمون، وفي جبيل إيل وأدونيس وبعلة جبيل، وكان كذلك في مصر فكان في تاب أمون رع وهو الإله الأعظم، وموت زوجه، وخنسو ابنه. وكان الثلاثة إلهًا واحدًا. ثم إن الفينيقيين قد حفلوا أكثر من سائر الأمم بأمر القرابين، وتغالوا فيها حتى إنهم كانوا يضحون بأبناء نوعهم للآلهة، قال برو في كتاب له في تأريخ الصناعة في القدم: «ليس في آثار المصريين، أو الكلدان ما يدل على أن هؤلاء الأقوام أكرموا الآلهة بالضحايا البشرية، بل انفرد السوريون بذلك، ونقلته جالياتهم إلى قرطاجنة، وكان يُسوَّغ لهم أن يستبدلوا الضحايا البشرية بحيوانات وطيور من الأوالف والدواجن، أو أن يعتاضوا عنها بشيء من النصب أو التماثيل، إكرامًا للآلهة أو بخدمة هياكلها مدى العمر أو شطرًا منه.» وقال بعض الباحثين في أحوال الفينيقيين: «إن العشائر الكنعانية لم يكن لها في أقدم أيامها هياكل ومعابد، بل كانت تعبد آلهتها على قمم الجبال والمشارف، فتنصب عمودًا أو صخرًا تسميه بيت إيل.» والحال أن صناعة إشادة الهياكل قديمة في الفينيقيين بدليل قِدَم عهد الهيكل الذي شادوه في صور، وهو هيكل ملكرت، واستدعاء سليمان المهندسين الفينيقيين إليه لبناء هيكله. وأما إيل وبيت إيل وغير ذلك مما يختص بإيل فلا يبعد أن يكون مأخوذًا أمر العبادة فيه عن الآراميين أسلاف الكنعانيين في بعض المدن الفينيقية مثل جبيل وغيرها، ومما يثبت هذا احتفاء الآراميين بهذا الاسم وتبركهم به أكثر من غيرهم من جميع القبائل، كما يدل عليه إضافة أسماء ملوك الشام إليه وشيوعه بين إخوانهم بني إسرائيل، ثم إنهم — كما أخذوا عن الكلدان وعن المصريين شيئًا من عبادتهم — فكذلك أخذوا عن الآراميين. وقد جاء في سفر الملوك وصف كهنة بعل وعشتروت عند الفينيقيين كيف كانوا في أعيادهم يلبسون ملابس النساء، ويخضبون وجوههم، ويزججون حواجبهم، ويكحلون عيونهم، ويعرون أيديهم إلى الكتف، ويشهرون السيوف، ويتنكبون الحراب، ويتأبطون الدفوف، ويرقصون، ويضجون، ويلوثون شعورهم بالأوحال، ويخدشون جسومهم بالسيوف والحراب، وكيف فتك إيليا النبي في ثمانمائة وخمسين منهم، جمعهم آخاب ملك إسرائيل ليبلوا عبادتهم لبعل، فذبحهم النبي عن آخرهم حذاء نهر قيشون عند الكرمل. وأما ما بقي لنا من آثار الفينيقيين من حيث المباني فهو قليل جدًّا بالنسبة إلى ما بلغوه من الترقي في الصناعة والتقدم في سلم الحضارة، وربما كان السبب في ذلك أمور منها أن هؤلاء الناس لم يكونوا يحفلون كالمصريين وأهل ما بين دجلة والفرات بالمباني الفخمة الضخمة لكثرة الحجر عندهم وندوره عند هؤلاء، والنادر عزيز في كل آنٍ ومكان، أو لأن الفينقيين قوم عملوا على مسالمة الناس لينصرفوا بجملتهم إلى التجارة وجمع الثروة فحصروا افتخارهم في هاته الوجهة، فلم يَقُم فيهم ملوك يطرقون أبواب الجاه بتوسيع نطاق المملكة بالغزوات والحروب وتكليف الأسرى تشييد الأهرام وما شاكلها من المباني الضخمة حفظًا لآثارهم وإحياء لجاههم، وإما لأن المتسلطين على البلاد الفينيقية على اختلاف أجناسهم وتباين مذاهبهم عمدوا إلى تدمير تلك المباني لعلة دينية أو لعلة أخرى؛ كأن الحاجة اضطرتهم إلى إقامة الأسوار من حجار تلك المباني. ومما بعث على قلب الآثار الفينيقية — ولا سيما ما كان منها في المدافن من المصنوعات البديعة — الطمع في الكنوز؛ فقد قال لانورمان: «ليس في جميع الأقوام من يحاكي الفينيقيين في دفن الأشياء النفيسة مع موتاهم. ويتبين مما كُتِب على مدفن ملكين من ملوك صيدا، وهما تبنيت وابنه أشمون عازار، من الدعاء على من يمس قبريهما بأذى. إن سرقة الكنوز من تلك المقابر كانت قديمة العهد، وقد استفحل أمرها كثيرًا في هذه الأيام، ورُبَّ سرقة كنز من تلك الكنوز أفقدت العلم بأحوال الأمم السالفة كنوزًا لا تُقدَّر قيمتها، وأما مدافن الفينيقيين فقد وُجِد منها كثير في صور وصيدا وجون وبرجا، وهما قريتان في إقليم الخروب وبيروت وجبيل وغيرها من المدن والقرى، وهي منقورة في صخور منها ما يشتمل على قبر واحد، ومنها ما يشتمل على أكثر من قبر.»

قد أسهبنا في الكلام على الفينيقيين؛ لأنهم هم الذين عمروا سواحل لبنان في الأعصر القديمة، وكان لهم المقام الأول في الحضارة والتمدن، ولكن لما كان غرضنا مقصورًا على لبنان بحسب تحديده الإداري في الحال الحاضرة، وكان الذين كتبوا تاريخ سورية قد استوعبوا في كتبهم ما يشفي الغليل من بيان أحوال الفينيقيين وما حدث لهم مع الآشوريين والمصريين والفرس واليونان والرومان والعرب؛ رأينا من اللازم أن نتقيد بهذا الغرض وأن لا نخرج عنه إلا لما يلتحم به من المواد التحامًا مكينًا.

لقد عجب بعض المؤرخين كيف أن اسم لبنان بقي من العهد القديم إلى الآن خلوًّا من شوائب التحريف والتبديل مما عرا غيرَه من الأسماء؛ مثل سورية وفينيقية وغيرهما من الأسماء التي أُطْلِقَتْ على ما أُطْلِق عليه لبنان من الأرض، وعندنا أن السبب في ذلك البقاء أمران عظيمان في جملة أمور أخرى أقل عظمًا منهما، أحدهما يتعلق بالأحوال الدينية، والآخر بالأحوال السياسية، أما الدينية فلأن ذكره وارد في الكتاب موارد الأذكار المقدسة؛ فقد جاء في العدد السادس عشر من المزمور ١٠٣: «تروي أشجار الرب أرز لبنان التي غرسها.» وقال النبي حزقيال وغيره من رجال الله في الكتاب أقوالًا يُؤخَذ منها أن لبنان كان يُنظَر إليه بعين التكريم والاحترام، وزِدْ على ذلك أنه كان مظهرًا للإله الذي كان له المقام الأول بين آلهة القدماء، نريد الإله إيل الذي استغاث به يسوع وهو على الصليب، وأما السياسية فلأن دماء الناس بالغزو والفتح لم تغسل بياض لمته الذي أكسبه ذلك الاسم، فإنه كان في غالب الأحيان والأحوال كجزيرة في بحر من الدماء؛ فالاسم الذي وُضِع له إنما وضع لمزية بادية فيه لا يمحوها كرُّ الأيام وتوالي الأعوام، وأيضًا فقد كان لخشبه في عالم الدين وعالم الحضارة أثر ذاع أكثر من غيره من الآثار، وبقي مدى الأدهار مصونًا، فصان بذلك الاسم ووقاه، فلو سكتت الألسنة عن ترديده لنطق به هيكل سليمان ونشرته سفن الفينيقيين في جميع الأقطار.

أما ادعاء بعض اللبنانيين المُسنَد إلى ما لديهم من التقاليد أن مهد الإنسان الأول في لبنان وأن الفردوس فيه؛ فهو مما لم يَقُمْ عليه دليل، ولم يُثبته برهان، ومما ينفيه حكم العقل بداهة؛ لأنه يتعذر التصديق بأن الإنسان في حال الفطرة يستطيع أن يعيش في مكان من مثل ما يدَّعي اللبنانيون أن جنة الفردوس كانت فيه كوادي أهدن المسماة وادي قديشا، ولكن هو الميل إلى المفاخرة بالأصل يحمل الإنسان على ادعاء أمور كثيرة لا تنطبق على الواقع، فإن الهنود يدَّعون أن الفردوس إنما كان بسفح مهاترو من جبال حملايا. وقد قال يوحنا الدمشقي فيما يتعلق بتلك التقاليد: «إن عدنًا الإلهي وُضِع أولًا بنوع غير معروف في مكان مرتفع عن الأرض بأسرها في جهة كثيرة الاعتدال لا يعتريها أدنى تقلُّب في الأزمنة، أو الفصول. أما هواؤه فصافٍ ولطيف، ونوره معتدل، وروائحه ذكية، وربيعه وخضرته دائمان، وأزهاره لا تنقطع، وبالجملة فإنه يفوق بالبهجة والجمال جميع ما يقع تحت الحس، أو يخطر في المخيلة.»

وقِس على ما تقدَّم جميع التقاليد اللبنانية فيما يتعلق بالآباء الأولين من مثل قايين وشيت وهابيل وغيرهم. والذي ذهب إليه غالب العلماء أن الفردوس كان في جوار ما بين النهرين، ولم يُعيِّنوا المكان تعيينًا صريحًا.

وقد سألَنا أحدُ الأفاضل أن نتوخَّى في كتابنا هذا بيان سكان لبنان القدماء من أي الأصول الثلاثة كانوا، أمن سام أم حام أم يافث، وسألنا أن نُبيِّن أيضًا حقيقة سكانه الحاليين أهم من بقايا السكان الأقدمين، فيتبين لنا ممَّا مرَّ حتى الآن أن الذين توطَّنوا لبنان بحسبما كان عليه في تلك الأعصر القديمة من سعة النطاق هم من الأبوين سام وحام، وهم الآراميون سكان دمشق وما حولها وسورية المجوفة، وربما امتدوا إلى شاطئ البحر فتوطنوا جبيل قبل الكنعانيين، والكنعانيون وهم سكان السواحل اللبنانية، وأما سكان لبنان اليوم فهم طوائف مختلفة يعسر إلحاق كل طائفة منها بالسكان الأصليين؛ فإن هذه البلاد كانت قديمًا — كما قلنا — موطن الكنعانيين وغيرهم من نسل سام وحام، ثم أتاها الآشوريون والمصريون وبنو إسرائيل والماديون، ثم استقلت مدة من الزمان، ثم أُضِيفَتْ إلى مملكة مكدونية، ثم إلى المملكة الرومانية، ثم افتتحها العرب، وبعد ذلك غشيتها جيوش الصليبيين، ثم تملكها التتر والدولة العثمانية فصار سكانها من كثرة تعاقب الاستيلاء عليها وحلول الأقوام المختلفة فيها طوائف من أصول مختلفة، كما سيتبين ذلك.

إن أقدم ما اتصل بالمؤرخين من حوادث فينيقية إنما هو استيلاء الآشوريين عليها، فإن ديودورس قال: «إن فينيقية كانت من مملكة نينوس زوج سميرميس الشهيرة وهو ملك آشور في القرن الثاني والعشرين ق.م.» وقيل: في القرن العشرين. ورأى موفرس أن في الآثار ما يدل على اجتياز الآشوريين سورية وفلسطين مرتين؛ مرة قبل المسيح بألفي سنة، ومرة قبل المسيح بألف وثمانمائة سنة، وليس فيما وراء ذلك شيء ذكره المؤرخون أو دلَّت عليه الآثار القديمة، ثم عقب ذلك تسلَّط المصريين على فينيقية من أواسط القرن السابع عشر ق.م إلى آخر القرن الثالث عشر، وقيل: من أواسط الخامس عشر إلى أواسط الثاني عشر، فإن لانورمان يقول: «إن المصريين، وقد اشتدت عليهم وطأة ملوكهم الرعاة٩ وذاقوا تحت نير سلطتهم مرارة القسوة والعنف؛ أتوا آسيا الوسطى بعدما تيسَّر لهم طرد ملوكهم الرعاة الغرباء، وافتتحوها بقلوب ملؤها الحقد ونفوس ميالة إلى الانتقام، وأبلغ تطمس الفتح حتى الفرات. وآثار فراعنة مصر بادية على صخور نهر الكلب، وفي قرية عدلون بالقرب من صور، وفي المتحف البريطاني ورقة بابيروس تتضمن ما يدل على أن مستسفرًا مصريًّا طاف المدن الفينيقية طوفة أرباب الحل والعقد؛ فأتى جبيل وبيروت وصيدا وسرابتا (أي صرفند)، ثم صور، ثم حاصور (وموقعها فيما يُظَنُّ فوق بحيرة الحولة إلى جنوبي جبل الشيخ).» وكانت صيدا في هذا الزمن ذات سلطة على أكثر المدن الفينيقية، وأما جبيل فكانت مستقلة بنفسها منفردة في أعمالها جالياتها في سائر الأقطار منفصلة عن جاليات الصيدونيين، وهي فيما رأى موفرس أقدم منها أيضًا.

وفي الزمن الذي فيه كانت كلمة المصريين نافذة في فينيقية وسيادتهم مستقرة عليهم خرج بنو إسرائيل من أرض مصر، ثم دخلوا أرض الميعاد في منتصف القرن الخامس عشر ق.م وتملَّكوا البلاد، وبعد أن ضربوا إحدى وثلاثين إمارة كنعانية، وكان ما كان من أمرهم في أيام موسى وفي أيام يشوع مما رواه الكتاب المقدس وفصَّله المؤرخون من اليهود من المواقع الحربية التي كان النصر فيها حليفًا للإسرائيليين، وحرَّق يشوع حاصور وغيرها، ونهب مدنًا كثيرة، واستولى على جميع أرض الجنوب وأرض جوشن والجبل والسهل والعربة من الجبل الأقرع الناتئ إلى سعير وإلى بعل جاد في بقعة لبنان تحت جبل حرمون.

وفي أواخر القرن الثالث عشر ق.م هجم الفلسطينيون (وهم قوم أتوا سورية من كريت في أواخر القرن الخامس عشر) على صيدا ودمَّروها وأسروا أهلها؛ فانتقلت السيادة إلى صور. ويظهر أن الفينيقيين في القرن الحادي عشر كانوا مصافين لبني إسرائيل حلفاء لهم حتى إنهم كانوا يُسَرُّون كثيرًا بما كان يناله داود من الفوز على الآراميين والفلسطينيين.

وقد بعث حيرام ملك صور إلى داود بالصناع الفينيقيين والخشب من لبنان، وكذلك أرسل إلى سليمان بن داود من الفعلة والخشب، ومات حيرام سنة ٩٤٤ق.م، وهو في الأرجح حيرام الثاني بن أبيبعل بن حيرام الأول، ثم خلف حيرام ابنه بعل عازار، ثم خلف بعل عازار ابنه عبد عشتروت؛ فتآمر على عبد عشتروت هذا أبناء ظئره الأربعة، فقتلوه نحو سنة ٩٢٨ق.م، وخرج المُلك من يد سلالة حيرام زمنًا يسيرًا عاد إليها على يد عشترتوس بن بعل عازار بن حيرام فتبوأ تخت الملك، ثم مات وخلفه أخوه عشتريم فقتل عشتريم أخوه فالس، واستقلَّ بالملك مدة ثمانية أشهر، فسطا عليه كاهن عشتروت إيتو بعل وقَتَلَه واستبدَّ بالملك، وقد استحكمت للفينيقيين في أيامه السلطة على بني إسرائيل الذين كانوا يومئذٍ منقسمين؛ وذلك لأن امرأة أخاب ملك إسرائيل، وهي إيز بعل ابنة إيتو بعل، قد تسلطت على زوجها وملكت إرادته فجعلته آلة في يدها تديره كيف شاءت، وهي كانت تحب أبناء جلدتها الفينيقين، وتعبد ما يعبدون، فأفسدت عبادة الإسرائيليين، وحملتهم على أن يشركوا بالله آلهة الفينيقيين.

ولبث الحال على هذا المنوال في بني إسرائيل حتى مات يورام سنة ٨٣٠ق.م، وفي بني يهوذا منهم حتى أيام يواش الذي رقي منصة الملك سنة ٨٢٣ق.م، وأما إيتو بعل الذي تقدَّم ذكره فهو الذي (فيما رواه يوسيفوس في كتاب تاريخ اليهود عن مينندر المؤرخ اليوناني الأفسسي) بنى مدينة بتريس (البترون) في فينيقية؛ وهي المدينة التي — فيما قال هذا المؤرخ — لبثت زمانًا طويلًا تَصُدُّ اللبنانيين في غاراتهم على تلك السواحل الفينيقية، وكان ابتداء ملك إيتو بعل فيما رواه لنورمان سنة ٨٣٨ق.م وانتهاؤه سنة ٨٢٩ق.م.

فيتبيَّن مما تقدَّم من حوادث بني إسرائيل أن معظم ذلك إنما كان في الجانب الجنوبي من لبنان والجانب الشرقي منه، وأما مواطن الفينيقيين فلم يُرِد من ذكرها في عرض تلك الحوادث إلا بعض الشيء مما يتعلق بصور وصيدا. ومعلوم أن موسى قسَّم الكنعانيين إلى جنوبيين وشماليين، وجعل صيدا تخمًا شماليًّا للجنوبيين، وجرار وغزة تخمًا جنوبيًّا، كما يتبين ذلك من سفر التكوين (فصل ١٠ عدد ٩)، ويعلم أيضًا أن العرقيين والأرواديين وغيرهم من أهل تلك الأنحاء الشمالية كالصماريين والحماثيين كانوا كنعانيين وهم الشماليون، ثم إنه لم يُذكَر لإحدى عشائر الكنعانيين مقام بين صيدا وعرقا لا في الكتاب ولا في غيره، ويُؤخَذ من الآثار والتواريخ أنه كان بين الكنعانيين والجبليين والبيروتيين محالفة تدل على أن المتحالفين لم يكونوا من قبيلة واحدة. وحيث إن هذه الأنحاء كانت لا تستوعب من السكان إلا الكنعانيين والآراميين، وكان الآراميون — أشهر سكان سورية — منتشرين فيها إلى دمشق، وكانت جبيل فيما يظهر من الآثار والأقاصيص عريقة في القدم وبيروت من مستعمراتها، فالسكان الأقدمون في هذه السواحل سواحل لبنان كانوا آراميين حتى غشيت مواطنهم العشائر الكنعانية فاختلطوا بها، ولا يُعلَم متى كان اختلاطهم ذلك، والمرجح أنه كان عند استفحال أمر الفينيقيين وانتشار سطوتهم وامتداد ظل تجارتهم. ويظهر أيضًا أن العشائر الكنعانية كانت كل واحدة منها منفردة في أمرها مستقلة بتدبير شئونها، لم تكن لتجمع بينها وبين أخواتها نكبة ولا ملمة، ولبثت تلك العشائر كذلك حتى اجتمعت بالجامعة الفينيقية. ومع هذا فقد لبثت غير ميالة إلى التناصر والتكاتف.

إنه في أيام إيتو بعل الأول في أواسط القرن التاسع قبل المسيح استولى على فينيقية ولبنان أَحَدُ ملوك الآشوريين آشور نسير بال، كما يُؤخَذ ذلك مما كُتِب على تمثال له اكتشفه المستر لايرد في أسوار حصن نمرود، وجُعِل في المتحف البريطاني. أما الكتابة، فهي: «آشور نسير بال الملك العظيم الملك القدير ملك البلاد من ضفة دجلة إلى بلاد لبنان (لبنان)، ضرب سلطته على البحار الكبيرة وكل البلاد من مشرق الشمس إلى مغربها.» وقد نقر تاريخ استيلائه هذا في صفيحة من صخر، وبالجملة فإن هذا الملك دوخ بلاد أمانوس (جبل اللكام) وعبر العاصي، ثم سار حتى بلغ لبنان وملك سفحيه إلى البحر وإلى سهل بعلبك والبقاع العزيز، وضرب الجزية على ملوك صور وصيدا وجبيل وأرواد التي في وسط البحر، ومال إلى الصيد في لبنان، فاصطاد خنازير برية وبقرًا وحشية، وأخذ منها بعضًا حيًّا وأرسله إلى آشور، وقتل نمورًا وضباعًا وثعالب، واصطاد أيالًا وغزلانًا ونسورًا وغير ذلك من الوحوش١٠ والطير، وزار المعابد على قمم لبنان، وقدَّم محرقة للآلهة. فيظهر ممَّا تقدَّم أن لبنان لم يكن آهلًا بالسكان؛ بدليل كثرة انتشار الحيوانات فيه وعدم ذكر شيء من مُدُنِه في جملة المدن التي استولى عليها الملك آشور نسيربال، وأنه إنما كان موضعًا للمعابد المشيدة على قممه المحفوفة بالآجام الكثيفة التي أخذ الملك آشور نسير بال منها أخشابًا من السنديان وغيره، وأن العمران إنما كان بسفحيه، ثم مات إيتو بعل١١ الأول سنة ٨٤٤ق.م بعد أن ملك أربعين سنة، ورقي منصة الملك بعده ابنه بعل عازار الثاني سنة ٨٤٤ق.م، ومات سنة ٨٣٨ق.م، فملك ست سنوات وخلفه ابنه موتون فملك تسع سنوات، وفي أيام هذا الملك أتى سلمناصر الثالث (وهو ابن آشور نزير بال) فينيقية وأخذ الجزية من ملوكها بدليل ما وُجِد مكتوبًا على مسلة نمرود؛ حيث قال: «في غزوتي الثامنة عشرة عبرت الفرات المرة الواحدة والعشرين، وسرت بجنودي على مدن حزائل ملك دمشق، وأخذت الجزية من صور وصيدا وجبيل.» فيظهر من كلامه هذا ومن غيره من أقوال المؤرخين أن الحرب أُضْرِمَتْ نيرانها على الدمشقيين، وأما الفينيقيون فاستسلموا لهذا الملك بدون حرب ودفعوا إليه الجزية، وأنه لم يُدرَج في أسماء الملوك السورية الاثني عشر الذين تحالفوا على سلمناصر من أسماء ملوك الفينيقيين إلا اسم ماتينبعل ملك أرواد.
ثم إن موتون لما حضرته الوفاة عهد بالملك إلى ابنه بيكماليون وابنته اليسار على أن يَمْلِكا بالسواء، أما بيكماليون فانفرد بالملك وقتل زوج أخته اليسار؛ إذ أوجس منه خيفةً فانتزحت اليسار إلى ساحل إفريقية وعمرت قرطاجنة١٢ بالقرب من تونس، ولُقِّبَتْ اليسار حينئذٍ بديدو ومعناه الهاربة. وحدث في أيام بيكماليون أن رامان نيرار الثالث أغار على فينيقية، ومن بعد هذا بات الفينيقيون في سكينة ونعومة بال حتى استوى على عرش آشور تجلت فلاصر الثاني سنة ٧٤٥ق.م، وكان ملك صور حينئذٍ حيرام الثالث، فغزا تجلت فلاصر سوريةَ مرارًا، وجاء في آثاره أسماء الملوك الذين أدوا له الجزية، فكان في جملتها اسم حيرام ملك صور وسيبيتي بعل ملك جبيل، ولما نوى تجلت فلاصر أن يعود إلى نينوى بعد غزوته الأخيرة استمثل لديه من أخضع من الملوك، فكانوا خمسة وعشرين ملكًا في جملتهم سيبتي بعل ملك جبيل وماتان بعل ملك أرواد. وفي أواخر القرن الثامن غشي الصيدونيون أرواد وافتتحوها على رضا من ملك صور، وأقروا جالية منهم فيها فسادوا عليها.

ثم خلف حيرام الثالث على عرش صور موتون الأول ولم يحدث في أيام هذا ما هو جدير بالذكر، ثم استوى على العرش الولا سنة ٧٢٤ق.م، وحدث في أيام هذا الملك فيما رواه يوسيفوس عن مينندر أن الشيثيين في قبرس شقوا عصا الطاعة؛ فجهز لهم أسطولًا وسار به إليهم فأخضعهم، وأن شلمناصر ملك آشور تسلَّط على فينيقية كلها، وأن سكان صور القديمة أي صور البرية وعكة وسكان مدن أخرى عديدة ثاروا على الصوريين وعصوهم مستسلمين إلى ملك الآشوريين؛ فجمع ملك آشور ستين سفينة بثمانمائة مجذف وسار بها بالفينيقيين لمحاربة الصوريين، وكان أسطول هؤلاء مؤلفًا من اثنتي عشرة سفينة، فكان الفوز للصوريين. فعاد ملك الآشوريين مخذولًا، وأبقى بعضًا من جنوده يحمي النهر وقنوات الماء لمنع الصوريين من الاستقاء؛ فاضطر الصوريين، وقد لبثت الماء ممنوعة عنهم مدة خمس سنين أن يحتفروا آبارًا للاستقاء؛ فباتت صور منيعة لم يَجِدْ سلمناصر ولا خَلَفُه سرغون إلى فتحها سبيلًا.

وأما سرغون الآشوري بعد سلمناصر فلم يتبيَّن من آثاره أنه تصدى للفينيقيين، وإنما غزا الفلسطينيين جيران فينيقيي الجنوب، وجلا جمًّا غفيرًا منهم إلى بلاده، وجعل في مكانهم جالية من بلاد الكلدان فجاء ذلك مصداقًا لنبوة أشعيا، وقد ضم سرغون قبرص وهي مستعمرة فينيقية إلى مملكته، وكان ذلك نحو سنة ٧١٠ق.م.

وكانت مدن فينيقية ما عدا صور تؤدي إليه الجزية، أما الولا، وقد بدا منه من الثبات في وجه سلمناصر وسرغون ما دلَّ على بسالته وشدة بأسه، فقد لبث مجاهرًا بعصيان ملوك الآشوريين معللًا نفسه بالفوز والنصر، حتى استوى على عرش آشور الملك سنحاريب سنة ٧٠٤ق.م.

وفي سنة ٧٠٠ق.م زحف هذا الملك بجيشه الجرار إلى فينيقية؛ فاستسلمت له المدن الفينيقية بدون محاربة، وأدَّتْ له الجزية فخضع له عبد يليت ملك أرواد، ومناحيم ملك شمرون، وأور ملك جبيل، وكذلك ملوك صيدا وسربتا (صرفند)، وأكو (عكة)، وأكزيب (الزيب) وغيرها من مدن فينيقية.

ولما بلغ سنحاريب صور البحرية وملكها الولا همَّ الولا بتحصين الجزيرة ونوى محاربة سنحاريب غير أنه قد حبط مسعاه هذه المرة، وخانته آماله فغلبه سنحاريب، وافتتح الجزيرة ففرَّ الولا، فأقر سنحاريب في مكانه إيتو بعل الثاني.

وقد تبين ذلك كله مما كُتِب على صفيحة يُقال لها: تيلور، ومما جاء في صفيحة أخرى جُعِلَتْ في متحف القسطنطينية. وصورة سنحاريب بادية على صخر عند نهر الكلب في جملة صور الذين غزوا البلاد الفينيقية، فغشي الضعف بعد ذلك مملكة صور١٣ ولم تَعُد تدفعها النخوة والحماسة إلى الارتقاء إلى ما كانت عليه من السيادة والرفعة، وسَرَت النخوة في عروق مملكة صيدا؛ فهمَّتْ بدفع نير سلطة الآشوريين عن عنقها، وكان ملك الآشوريين حينئذٍ آسرحدون رقي منصة الملك سنة ٦٨٠ق.م، وكان ملك صيدا عبد ملكوت؛ فلما أحس آسرحدون بما نواه ملك صيدا زحف إلى صيدا بجنوده، فحاصر المدينة بحرًا وافتتحها عنوةً، ففرَّ عبد ملكوت وبعض قومه بسفنهم يُعلِّلون أنفسهم بالعود إلى صيدا بعد جلاء الآشوريين عنها؛ فتبعهم آسرحدون بسفن فينيقية، وأدرك الملك فقتله ودمَّر المدينة وجلا بعض أهلها إلى آشور، كما يتبين ذلك مما كُتِب على صفيحة من صفائح آسرحدون؛ وهو: «غزوت مدينة صيدون على ساحل البحر، وأهلكت سكانها، ودمرت أسوارها ومبانيها، وألقيت أنقاضها في البحر، وفرَّ عبد ملكوت ملكها ليختفي من وجه سلطتي، فقبضته إليَّ وجعلت يدي على خزائنه من ذهب وفضة وحجارة كريمة، وجلوت إلى آشور عددًا كبيرًا من الرجال والنساء، وأخذت بقرًا وغنمًا وركائب ودواب للحمل، وأقمت سكان ساحل سورية في أنحاء قاصية، وبنيت في وسط بلاد الحثيين مدينة سميتها دراسرحدون١٤ ووطنت فيها القوم الذين قهرتهم في الجبال التي في جهة جبال مشرق الشمس، وأقمت عليهم أحد عمالي حاكمًا.»

وعدد في أثر آخر الملوك الذين أخضعهم، فكان في جملتهم: بعل ملك صور، وملكي أصاف ملك جبيل، وماتان بعل ملك أرواد. وصورة آسرحدون بادية على صخر عند نهر الكلب.

وفي أواسط القرن السابع خلعت صور سلطة الآشوريين وملكهم حينئذٍ آشور بانيبال، واشترك معها في العصيان بعض مدن فينيقية، فحاصر آشور بانيبال العصاة وقهرهم، ولبث حصار صور مدة سنين حتى اضطر أهلها أن يشربوا ماء البحر لنفاد مائهم، وقد كتب في إحدى صفائحه: «قد ذللت بعلًا (ملك صور)، وجعلتُ نير سلطتي على عنقه، واتخذت بناته وأخوات أخيه إماءً لي، ومثل لدي يا ملك ابنه خاضعًا لي بتقادم لم يسبق إليَّ مثلها، ودفع إلي بنته وبنات إخوته رهينة فعفوت عنه وجعلته ملكًا على البلاد.» أما ويكينلو ملك أرواد فانفرد بالمدافعة، ولكنه غُلِب أخيرًا؛ فانتحر فرارًا من وصمة العار بوقوعه بيد الآشوريين، فأسر آشور بانيبال أبناءه وهم ثمانية فقتل سبعة منهم واستحيى أكبرهم إذ بعل، وجعله على عرش أرواد، فلبثت بعد ذلك فينيقية طائعة لآشور بانيبال سائر مدة ملكه. ثم وقع بعد ذلك ما وقع من المحاربات بين الآشوريين والكلدان؛ مما أدَّى إلى خراب نينوى واستقرار الشوكة لبنوبلاسر الكلداني، وانقراض الدولة الآشورية، واقتسام ملك بابل وملك مادي لها، وكان ملك مادي حينئذٍ شيكسر حليف نبوبلاسر، غير أن نبوبلاسر لما رأى أن ملك مصر نكو قد بلغ بغزواته كركميش وخشي امتداد سلطته إلى ما بين النهرين، كما فعل سلفاؤه الملوك المصريون، ورأى من نفسه ضعفًا عن إدارة الشئون بنفسه ضمَّ إليه في الملك ابنه نبوكدونصر، واسمه عند العرب بختنصر، مستعينًا به على مقاومة نكو ملك المصريين.

وفي سنة ٦٠٦ق.م اجتاز بختنصر فينيقية يقفو أثر المصريين الذين انقلبوا على أعقابهم خاسرين، فاستسلمت المدن الفينيقية للكلدانيين، ثم اجتاز بختنصر سورية لإخضاع ملك يهوذا مرتين مرة في سنة ٦٠٢ ومرة ٥٩٩ق.م، وفي المرتين لم نَرَ في الكتاب ولا في التواريخ ولا في الآثار ما يدل على أنه تصدَّى للفينيقيين، فإنهم فيما يظهر كانوا مستسلمين له. ثم حدث بعد ذلك أن عاد بختنصر إلى سورية سنة ٥٩٠ق.م، وقد أحس بخروج المدن الفينيقية عن طاعته لمحالفتهم ملك مصر وبعض ملوك أُخر من أهل جيرتهم، فحصرت جنوده صور وملكها إيتو بعل مدة ثلاث عشرة سنة، فاضطر الصوريون بعد مقاومة شديدة ظهرت فيها بسالتهم وشدة بأسهم أن يخرجوا من المدينة البرية إلى الجزيرة متحصنين فيها، فخرَّبَت الجنود البابلية المدينة وتركتها قاعًا صفصفًا. وفي سنة ٥٧٤ق.م عاد بختنصر من بابل، وكان قد ذهب إليها فتولى بنفسه أمر محاصرة الجزيرة بعد أن كلَّت جنوده عن افتتاحها، وشدَّد عليها فافتُتِحَتْ، وفي افتتاحها قولان؛ أحدهما: أن بختنصر فتحها عنوةً، والآخر: أن إيتوبعل سئِمَتْ نَفْسُه الحصار لطول مدته، ورأى ما أفضى به ذلك إليه من الإضرار بشعبه لانقطاعه عن الاسترزاق بالتجارة فاستسلم من تلقاء نفسه؛ تخلصًا من تلك الحالة، فأتى بختنصر بإيتوبعل وبكثير من الأعيان الصوريين الذين أسرهم إلى بابل، وأقام في مكانه ملكًا اسمه بعل، وكانت تلك الضربة هي القاضية على صور وعلى مجدها وتجارتها، ولم تَقُم لها من بعدها قائمة، وصارت قرطاجنة في مكانها من السيادة ودانت بقية المدن الفينيقية لبختنصر.

أما حفرع ملك مصر الذي تحالف معه الفينيقيون فلم يدرك السواحل الفينيقية بأسطوله إلا بعد أن كانت صور قد افتُتِحَتْ واستقرَّ الأمر للكلدان على سائر المدن الفينيقية، فأراد أن يستميل الفينيقيين إليه ويُخرجهم عن طاعة الكلدانيين؛ فالتوى عليه القصد إذ جهر الفينيقيون بمعاداته وجهزوا أسطولًا يقاوم الأسطول المصري، فوقعت بين الأسطولين موقعة في أنحاء قبرص شديدة، فانتصر المصريون وتعقبوا الفينيقيين حتى مدنهم؛ فافتتحوا صيدا١٥ عنوة ونهبوها وأخضعوا أرواد وجبيل،١٦ واستسلمت لهم سائر المدن الفينيقية، وقد وُجِد اسم حفرع مكتوبًا على الآثار الفينيقية، ثم عاد بختنصر فأقرَّ سلطته على الفينيقيين. وأما بعل الذي ملكه بختنصر على عرش صور فلم تتجاوز مدة ملكه عشر سنوات، وذلك من سنة ٥٧٣ إلى سنة ٥٦٣ق.م، فثار الصوريون واستبدلوا الحكومة الملكية بحكومة جمهورية يحكمها قضاة كانوا يسمونهم شفط، فكان أول قاضٍ فيهم أكينعل، ثم تولى بعده كالب، ثم آبار عظيم الكهنة، ثم موتون وجيروست، ثم بلاتور، ثم استدعى الصوريون مور بعل من بابل وجعلوه ملكًا عليهم. ثم خلفه أخوه حيرام، وفي أيامه خضعت فينيقية لكورش ملك فارس، ومات حيرام سنة ٥٣١، فخلفه ابنه موتون ونهج في السياسة نهج أبيه، فلبث يؤدي الجزية مع سائر الملوك الفينيقيين إلى الفرس. وقد أحسن كورش إلى اليهود وأذن لهم بترميم أورشليم، فأتى اثنان وأربعون ألفًا منهم كانوا قد جلوا إلى بابل وشرعوا في ترميم أورشليم، فاحتاجوا إلى مساعدة الصوريين والصيدونيين بالأخشاب اللازمة لهم من لبنان، فكانوا لذلك يعطونهم زيتًا ومأكلًا مكافأة لهم على تلك المساعدة.

ولما قضى كورش قتيلًا في حرب وقعت له مع بعض قبائل التتر، وخلفه ابنه كمبيس اجتاز فينيقية لمحاربة مصر، وكان الفينيقيون منقادين لسلطته، ولكنه لما شاء محاربة قرطاجنة والاستيلاء عليها أبى الفينيقيون أن يساعدوه على ذوي قرباهم الذين كانوا مرتبطين معهم بعهد إخاء، فضلًا عن رابطة النَّسَب، معتذرين بأن دينهم يمنعهم من محاربة إخوانهم. ولم يَرَ كمبيس من الحكمة أن يسلك معهم سبيل القسوة والجفاء؛ لأن نخبة جنوده البحرية منهم. ولَبِث الفينيقيون على طاعة الفرس في أيام داريوس (دارا) الذي استوى على عرش الملك من سنة ٥٢١ إلى سنة ٤٨٥ق.م، ولم يثوروا مع من ثار عليه من أهل أقاليم ملكه. ولبثت الأساطيل الفينيقية منقادة بأمر الفرس، وقد استخدمها داريوس في افتتاح الجزر عند ساحل آسيا الصغرى، وجزَّأ داريوس مملكته إلى تسع عشرة ولاية؛ فكانت فينيقية وسورية وفلسطين وقبرس الخامسة من تلك الولايات، ثم إن الفينيقيين أقاموا على طاعة الفرس في أيام كي خسرو (المُسمَّى عند العرب كركس) وهو ابن دارا، تبوَّأ عرش الملك سنة ٤٨٥ق.م، وبعد أن أخضع المصريين حمل على اليونان، فاستخدم لذلك أساطيل الفينيقيين، وقد بدت منهم علائم البسالة وشدة البأس في الحرب التي شبَّتْ بينهم وبين الأعداء، إلا أنهم لما كُسِروا في إحدى المواقع وشى بهم إلى ملك الفرس؛ فتغيظ عليهم وأمر بضرب رءوس كثيرين منهم. فلما رأى الفينيقيون ذلك وأن الدائرة ربما دارت على الفرس، وأوجسوا خيفة من عواقب ذلك من المعرة والإهانة؛ رجعوا بسفنهم إلى مواطنهم ولم يَبْقَ إلا بعض من السفن لنقل الذخائر والمعدات.

وفي أيام أرتحشستا الذي خلف كي خسرو على مملكة فارس، وذلك سنة ٤٦٥ق.م كانت السفن اليونانية تسطو على الثغور الفينيقية منتصرة للمصريين على الفرس، وكان الحكام على فينيقية إذ ذاك ولاة من قبل الفرس، ولبث حال الفينيقيين على هذا المنوال والمحاربات بين الفرس والمصريين مُستعِرة نيرانها، حتى رقي عرش الملك في فارس أرتحشستا الثالث الملقب أوكوس سنة ٣٥٩ق.م، فشرع يُفكِّر في إصلاء الحرب على المصريين؛ فجهز لذلك جيشًا كبيرًا. وكان ملك المصريين نكتابنو، فغلب نكتابنو أوكوس غلبةً شديدة، فأفضى ذلك إلى أن الفينيقيين وغيرهم ممن استقرَّت ولاية الفرس عليهم عمدوا إلى شقِّ عصا الطاعة، وكان والي فينيقية حينئذٍ تيناس فزحف أرتحشستا إليهم بجيش جرار ينوي الانتقام من الفينيقيين ولا سيما الصيدونيين. وكانت مصر قد بعثت إلى تيناس ببعث من اليونان لنجدته يرأسه منتور الرودسي، وأما تيناس فتولَّاه الرعب وتواطأ مع أوكوس على تسليم صيدا، وأما الصيدونيون فجهزوا أسطولهم وتحصَّنوا بسورٍ منيع غير عالمين بخيانة تيناس، فلما دنا أوكوس من المدينة خرج إليه تيناس يقود مائة رجل من أعيان المدينة كانوا سببًا في إثارة العصيان ودفعهم إلى أوكوس، فأمر أوكوس بقتلهم فقُتِلوا، ثم اقترب الفرس من المدينة فمثل لديهم خمسمائة رجل من أهلها يرفعون على أكفهم عرائض التسليم والطاعة، فلم يَنْثَنِ أوكوس عن عزمه من الانتقام؛ فأمر بقتل الخمسمائة. وكان تيناس قد تواطأ مع الجنود المصرية على إخلاء السبيل للفرس حتى يلجوا المدينة، فلما رأى الصيدونيون ما نالهم من الخيانة وما حاق بهم من الخطر آثروا أن يجرعوا كأس الحمام من يد أنفسهم على أن يقعوا في قبضة الفرس، فأحرقوا لذلك سفنهم قطعًا لوسائل نجاتهم بها، ثم أووا منازلهم بنسائهم وأبنائهم وأموالهم وأضرموا بها النيران حتى أصبحت المدينة كلها شعلة من نار فاحترقوا جميعًا، وبلغ عدد الذين أكلتهم النيران أربعين ألف نفس، وأما تيناس وقد كبر عليه أمر الخيانة التي أتاها، فنوى أن يقتل نفسه، فسبقته زوجه إلى ذلك وقتلته، ثم قتلت نفسها بعده.

وبالجملة، فإن الفينيقيين لبثوا تحت نير سلطة الفرس حتى ظهر إسكندر المكدوني، ويلقبه العرب بذي القرنين. قيل إنه لُقِّب بذلك؛ لأنه ملك قَرْنَي الشمس مشرقها ومغربها، وقيل: لأنه كان له جواد رأسه رأس عجل، وقيل: لذؤابتين برأسه. وتبوأ تخت المملكة في مكدونية سنة ٣٣٦ق.م، وتيسر له أن ضمَّ إليه الممالك اليونانية بأسرها، ثم سطا على ملك الفرس، وكان حينئذٍ داريوس الثالث فغلبه، وجعل على البقاع ودمشق عاملًا من رجاله اسمه مانون، وقيل: بارمانيون وسيره إلى عمله، وأما الإسكندر نفسه فأتى الثغور الفينيقية فلقيه في الطريق عشتروت ابن ملك أرواد، ودفع إليه تاجًا من ذهب وسلَّمَه أرواد وضواحيها، وكان ملكها جيرو عشتروت وأنيل ملك جبيل وغيرهما من ملوك فينيقية متغيبين بالأسطول البحري بأمر من دولة الفرس، فلما دنا الإسكندر من جبيل خرج إليه أهلها وملكوه المدينة مستسلمين له، ثم سار إلى صيدا فتملَّكَها بعد أن تملَّك سائر المدن التي كانت في طريقه، ولما بلغ صور خرج إليه جماعة من أهلها يبدون الطاعة، فلأسباب سياسية أبى الإسكندر إلا أن يتملك المدينة تملكًا حقيقيًّا، فأفضى الأمر إلى الحرب فانتصر الإسكندر بعد أن حاصر المدينة مدة سبعة أشهر، وفتك جنده بالصوريين فتكًا ذريعًا، ثم جاء الإسكندر بجماعة من الكاريين وأسكنهم في المدينة، ثم سار إلى غزة فأخذها عنوة.

ولم تلبث سورية أن دانت بجملتها لإسكندر فأصبحت ولاية مكدونية١٧ بعد أن كانت ولاية فارسية، وبعد أن قضى الإسكندر نَحْبَه سنة ٣٢٣ق.م وحدث ما حدث من التنازع بين خلفائه؛ انقسمت ممالكه إلى أربعة أقسام، فخرجت سورية وما يتصل بها من البحر الأسود إلى نهر أندوس في الهند نصيبًا لسلوقس بن ديمتريوس نيقانور أحد قادة الإسكندر، وهو أول الدولة السلوقية التي بعد أن اشتدَّ بأسها وعظم سلطانها ببناء مدينة أنطاكية الحصينة سنة ٣٠٠ق.م على ضفة العاصي، وبناء مدينة سلوقية على الفرات وسلوقية الأخرى على البحر المتوسط؛ طمعتْ في الاستيلاء على فينيقية، فحدث بين السلوقيين وبطالسة مصر ما حدث من المحاربات مما كانت فيه فينيقية ولبنان معتركًا للمتحاربين.

وكثيرًا ما استُخدِمَت السفن الفينيقية للقتال، أما الدولة السلوقية في سورية فقد تسلطت مدة تزيد عن مائتين وثلاثين سنة، وبلغ عدد ملوكها واحدًا وعشرين ملكًا.

ويتبيَّن من تأريخ هذه الدولة أن بعض المدن الفينيقية كان لها بعض الاستقلال بدليل وجود بعض المسكوكات لها، يمتدُّ تاريخها إلى ما قبل المسيح بمائة وست وعشرين سنة بل أكثر من ذلك،١٨ وقد جاء أيضًا في تاريخ السلوقيين أن أرواد كان يلجأ إليها بعض الذين يخشون سطوة الملك عليهم، فإن كليوبطرة زوج ديمتريوس لما خافت على ابنها أنطيوخوس بن أنطيوخس سيدتس أن يمس بسوءٍ أرسلته إلى أرواد، وهذا يدل على أن هذه الجزيرة كانت مستقلة.
ومن أعظم الأمور التي حدثت في أيام السلوقيين مما يتصل بلبنان وتأريخه اتصالًا وثيقًا تشييد مدينة أنطاكية التي سيكون لها فيما سيجيء من تأريخ لبنان شأن ديني عظيم، كما سيتبين ذلك فيما بعد، وأيضًا فإنه في آخر مدة السلوقيين حدث أمرٌ خطير؛ وهو أن الحارث أحد ملوك العرب من آل غسان أتى دمشق وأخذها عنوةً من يد السلوقيين وذلك سنة ٨٥ق.م، ثم إنه بعد أن انقرضت الدولة السلوقية، وكان قبيل انقراضها قد استولى تيغران على سورية حلت أقدام الرومان١٩ في الديار السورية وانتشر لواء سلطتهم على مدنها، فمكثت هذه الديار دائنة لشوكة القياصرة وولاتهم وقناصلهم حتى كان الفتح الإسلامي؛ وذلك مدة سبعة قرون.
ويظهر أن بعض المدن الفينيقية كانت في أيامهم حائزة شيئًا من الامتياز، وقد اشتهرت أيضًا بالعلوم والمعارف، فقد ذكر إسترابون المؤرخ من المعاصرين له من علماء صور وصيدا عددًا كبيرًا، وكانت مدينة بيروت مركزًا للشرائع٢٠ والقضاء.

ومن أعظم ما جاء في صدر السلطة الرومانية في الديار السورية ظهور النصرانية بولادة السيد المسيح في اليهودية، ومن يتتبع تاريخ الرومان في هذه الديار وما وقع لهم من الحروب المختلفة فيها، سواء كان بأسباب سياسية داخلية، أو بما كان ينال البلاد من غزوات البرثيين والعرب والفرس، أو كان بأسباب الاضطهاد الديني بعد ظهور النصرانية يَرَ أنَّ لبنان إنما عمر بجماعات من الناس كانوا يلجئون إليه فرارًا من سيوف النقمة والاضطهاد. وبناءً عليه؛ فإننا سنبدأ من هنا أن نسلك منهاجًا جديدًا في كتابنا هذا، وهو أن نتوخى بيان الطوائف والقبائل التي لجأت إليه.

ربما يخطر ببال من قرأ ما تقدَّم في كتابنا هذا من تاريخ الفينيقيين، ثم السلوقيين، ثم الرومان في سورية ولبنان أننا أتينا في تأريخ الفينيقيين تفصيلًا مملًّا وفي ذكر الباقين إيجازًا مخلًّا، وأنه كان من الواجب أن يكون تناسب في التفصيل في كل الروايات التي تؤدي إلى كشف شيء من حقيقة لبنان الذي أخذنا على نفسنا أن نجمع له تأريخًا خاصًّا به، ولكن الذي حدا بنا إلى التفصيل في الأولين هو الرغبة في استيعاب مواد اكتُشِفَتْ حديثًا من آثار لبنان نفسه ومن آثار البلدان الأخرى، وكانت من قبل مستورة غير مسطورة في التواريخ المحفوظة من تواريخ اليونان والرومان، كما أن الذي حدا بنا إلى الإيجاز في الآخرين هو الاستغناء بما فُصِّل من أحوالهم في كتب ذات شروح مسهبة أدَّى إليها التوغل في البحث فيما يتعلق باليونان والرومان أكثر مما يتعلق بغيرهم من الأقوام؛ لاعتقاد أن مهد الحضارة كان عندهم دون غيرهم، ثم جاءت أبحاث المستشرقين من عهد ليس ببعيد ناقضة ذلك الاعتقاد بما انفتح في وجوه الباحثين من أبواب الغموض والإشكال بمفاتيح الخطوط المسمارية والهيروكليفية.

ليس لنا من الآثار التاريخية ما يمكننا من استقصاء أصل أهل لبنان اليوم إلى زمن متوغل في القدم، وغاية ما يصل إليه الاستنتاج العقلي من سياق الحوادث التاريخية التي مَرَّ ذكرها أن اللبنانيين قوم لجئوا إلى لبنان منفصلين عن قبائل مختلفة مذاهبهم في الدين، فمنهم المسلمون والموارنة والدروز والروم الأرثوذكسيون والكاثوليكيون والمتاولة (الشيعيون) والسريان والبروتستان،٢١ ولما كان الموارنة أكثر عددًا من غيرهم، وكان مردتهم من أقدم الناس عهدًا في لبنان بدأنا بذكر تأريخهم مستندين فيه إلى ما كتبه مؤرخوهم، مثل العلامتين المغفور لهما البطريرك أسطفان الدويهي والسمعاني الشهير وغيرهما.

(٣) الموارنة

إن في تسمية الموارنة بهذا الاسم آراء، منها ما ذهب إليه السريان أتباع يعقوب البرادعي مأخوذًا عن النص الوارد في كتب معتقد اليعقوبية؛ وهو: «لما أغارت ملوك الروم على السريان وقتلتهم، قام مارون فوافق ملك الإفرنج الذي في أنطاكية، وكان اسمه أوجان برنس، وقال له: يا ملك الزمان نحن خائفون على جبل لبنان أن ترده طائفة الملكية إلى أمانتهم؛ لأن يوستنيان قيصر يبغض السريان التابعين ليعقوب وأمانته، فقم إلى الكردينال الذي عندك واحمله على أن يقيمني مطرانًا فأحفظ بعض الناس على الأمانة الإفرنجية، وأما أمانة يعقوب فما أذكرها، فأقامه مطرانًا على البترون، فوجد الملكية قد بلغ تملكهم إلى قرية اسمها أميون، فارتفع مويرين (مارون) وابن أخته بريهيم (إبراهيم) عن الملكية إلى سمر جبيل، فوقى الناس من الجزية التي فرضها الملكية على من لا يتبع دينهم، ووافقه كل السريان ومن في جبل لبنان فاتبعوا مارون.»

ومن ذلك سُمُّوا موارنة، وذهب سعيد بن بطريق (وهو الذي ارتقى إلى الكرسي الإسكندري سنة تسعمائة وإحدى وثلاثين مسيحية) إلى أن الموارنة اتخذوا هذا الاسم من مارون الراهب الذي كان في أيام موريق ملك الروم، فقال في كتاب له: «وكان في عصر موريق رجل راهب يُقال له: مارون، وكان يقول: إن لسيدنا المسيح طبيعتين ومشيئة واحدة وفعلًا واحدًا فأفسد مقالة الناس، وأكثر من تبع مقالته أهل حماة وقنسرين والعواصم (وهما مدينتان كانتا في أنحاء حلب) وجماعة من أهل الروم، فسُمِّي الناس التابعون لدينه والقائلون بمقالته مارونيين أي منسوبين إلى مارون. فلما مات مارون بنى أهل مدينة حماة ديرًا بحماة وسموه دير مارون.»

وذهب بارونيوس الكردينال المؤرخ إلى أن النسبة المارونية إما أن تكون إلى مارون المدينة التي هي متاخمة لأنطاكية، وإما أن تكون إلى البارمارون الذي انتشرت قداسته في صقع جبل قورش، وامتاز رهبان ديره بالمعارف وحسن العقيدة في أنحاء سورية الثانية، وذهب جبرائيل بن القلاعي إلى أن الموارنة اتخذوا اسمهم من البارمارون بطريرك أنطاكية العظمى؛ إذ جاء في سيرة هذا البطريرك أنه ذهب بنفسه إلى مدينة رومية فثبته الحبر الروماني في مقام البطريركية، ولما رجع إلى أنطاكية ردَّ كثيرين من أتباع مقاريوس ومن أصحاب المقالة اليعقوبية إلى معتقده وصدع بحقيقة الطبيعتين والمشيئتين وبشَّر بذلك.

ثم أتى لبنان وعزز شأن البابا فيه فقبله الناس مسرورين ورحبوا به فرحين، وهذا الرأي إنما هو الرأي المعوَّل عليه عند الطائفة المارونية في كنائسها والمقبول من البيعة الرومانية،٢٢ وأما أبو الفرج الملطي فذهب إلى أن الموارنة إنما سُمُّوا موارنة؛ دلالة على أنهم ربانيون (لأن مرن بالسريانية معناها الرب).
أما نسب القديس مارون رأس الموارنة الذي كان اسمه قبلًا يوحنا السرومي؛ فهو كما جاء في رسالة مكتوبة بخط كرشوني في كتاب قديم محفوظ في كنيسة السيدة بدمشق أن مارون كان ابن أغاتون بن اليدبس ابن أخت كارلومانيو البرنس الذي قدم من فرنسا إلى أنطاكية، فاستولى عليها وعلى سورية في دولة الروم، وهاك نص الترجمة: «وكان رأس الأمة المارونية رجل اسمه يوحنا فاضل عالم خيِّر مستقيم كثير الفضائل، وهو من أصل شريف، اسم أبيه أغاتون وأمه أنوهاميا واسم جده اليديبس٢٣ ابن أخت ملك فرنسا.» وكان اسم الملك كارلومانيو،٢٤ فلما قدم إلى سورية واستولى عليها بقي الأمير اليديبس ابن أخته في مدينة أنطاكية فرزقه الله ولدًا سماه أغاتون. وأغاتون وُلِد له يوحنا، فتأدَّب يوحنا بالعلوم الروحية والتفاسير الإنجيلية ومهر في السريانية، وسلك طريق النسك والعفة وأُقِيم بطريركًا على هذه الأمة.» وأما لقب مارون بالسرومي فهو من انتسابه إلى سروم؛ قرية كبيرة بالسويدية قريبة من أنطاكية، كانت موطن أبيه أغاتون أو إقطاعًا له، فلما شبَّ يوحنا ترهَّب في دير مارمارون عند العاصي، فغلب عليه اسم يوحنا مارون، وقد تلقى العلوم اللاهوتية والرياضية في أنطاكية أولًا، ثم في دير القديس مارون، وسار بعد ذلك إلى القسطنطينية ودرس لغة اليونانيين وفنونهم. وكان ليوحنا أخت تزوجت٢٥ فرُزِقَتْ ولدين؛ وهما: إبراهيم، وقورش. وكان إبراهيم شجاعًا سديد الرأي حسن التدبير، فلما علم يوحنا بوفاة أبيه عاد إلى وطنه فأقام ابن أخته إبراهيم على أمور البيت يدبرها، وذهب بقورش إلى دير القديس مارون على نهر العاصي، وتمنطق هناك بمنطقة النسك والعفاف، وصنَّف كتبًا كثيرة وغلب عليه اسم يوحنا مارون.
ولما وقع الشقاق بين الأمم الشرقية، وحدث الخلاف في أمر مذاهبهم اجتمع أوجان البرنس مع سائر الفرنج المقيمين بمدينة أنطاكية، ورأوا أن يختاروا رجلًا بارًّا عالمًا ليقيموه مطرانًا ينتمي إلى كنيسة رومة. وبعد البحث والتروي وقع اختيارهم على يوحنا مارون، فأحضروه حينئذٍ لدى الكردينال الذي هو رسول بابا رومية، فجعلوه أسقفًّا على البترون وجبل لبنان وسواحل البحر؛ ليقوم على حفظ الناس ويضبطهم في طاعة الحبر الروماني، ويعصمهم من تعاليم أصحاب المقالة اليعقوبية معلمًا بسر المشيئتين خلافًا للروم الذين سُمُّوا بعد ذلك ملكية، وكان ذلك في أيام قسطنطين اللحياني نحو السنة ٦٧٦، فاستمال إليه كثيرين من القائلين بالطبيعة والمشيئة الواحدة، ونشر عقيدته في جبل لبنان وفي غير لبنان من الأنحاء بين القدس الشريف وبلاد الأرمن. وقد سعى في تعزيز أتباعه وتأييد حالتهم السياسية؛ فأقام ابن أخته إبراهيم الذي سبق ذكره أميرًا على البلاد، فساس هذا الأمير الناس سياسة المقتدر ووسع نطاق ملكه، كما أثبت ذلك بعض المؤرخين من الروم؛ حيث قيل: «إنه في السنة الثامنة والتاسعة من ملك قسطنطين اللحياني، دخل المردة إلى جبل لبنان وملكوا جميع ما هو من جبل موروس إلى بيت المقدس، واستولوا أيضًا على أعالي لبنان، وفي مدة وجيزة انضم إليهم كثيرون من الأسرى والأغراب والعبيد حتى أنافوا على ألوف عديدة، وكان لأميرهم في أيام السلم اثنا عشر ألف جندي يطوف بهم بلاد العرب والفرس من غير جزع،٢٦ وأما قورش فزهد في دنياه منقطعًا إلى الدين ناهجًا نهج خاله وتتلمذ له. ولما تُوفِّي خاله خلفه على الكرسي الأنطاكي مثبتًا من الحبر الروماني.»
أما يوحنا مارون — وقد كثرت في أيامه البدع واشتد التحزب الديني — أتى طرابلس وتحدَّث مع وكيل الباب في ذلك، فأقنعه الوكيل بأن يسافر معه إلى رومية؛ فاقتنع وسافر كلاهما إلى رومية، وكان البابا يومئذٍ سرجيس٢٧ الأول، وهو أنطاكي الأصل، فأكرم يوحنا مارون ورحَّب به كثيرًا، ثم رقاه إلى مقام البطريركية الأنطاكية وألبسه الدرع٢٨ إيذانًا بكمال الرياسة له، وسلَّمه التاج والخاتم والعصا، وأنعم عليه بجميع الامتيازات المعروفة، فعاد إلى أنطاكية بدرع الرياسة البطريركية، وسعى منذ وصوله في تزييف البدع وتعطيل مقالاتها، وكتب في ذلك عدة رسائل وبثَّ الاعتقاد بالطبيعتين والمشيئتين، ولما اتصل ذلك بأصحاب مقالة المشيئة الواحدة من الأساقفة في القسطنطينية امتعضوا منه وزيَّنوا للملك بوستنيانوس أن يُكْرِه البابا سرجيس والبطريرك يوحنا على تأييد مقالة أصحاب المشيئة الواحدة، فأرسل الملك إليهما يأمرهما بذلك وينهاهما عن مخالفته وتوعدهما بالنفي فآثرا النفي والموت على الارتداد عن عقيدتهما، فأوغر صدر الملك غيظًا وسخطًا فسيَّر إليهما قائدين من قادة جيشه ذكرياء ولاون ليأتياه بهما مصفدين بالأغلال، أما البابا ففيما قال فلاتينا المؤرخ: «لما عرف ذلك أتباعه في إيطاليا ثارت الحمية والغيرة عليه في نفوسهم فتدججوا بالسلاح لوقايته من أعدائه، واندفعوا يطلبون رسول الملك ذكرياء يريدون قتله، فواراه البابا عنهم ووجهه إلى الملك خفيةً، وأما يوحنا مارون فإنه لجأ إلى دير القديس مارون وأخذ يكتب في مسألة الطبيعتين، وبعث برسالة في ذلك إلى أهل لبنان.»

أما الملك فأمَرَ قائده لاون بالمسير إلى أنحاء المشرق ليأتيه بالبطريرك مُقيَّدًا بالسلاسل، فتلكأ القائد معتذرًا أن اللبنانيين لا يدفعون إليه الرجل؛ لأنهم يحبونه كثيرًا وأن دون الوصول إليه أهوالًا، وما تمحَّل لاون ذلك العذر إلا لأنه كان في الباطن يحب اللبنانيين، ويذكر لهم جميلًا صنعوه بنجدتهم له في محاربة العرب، فاستشاط الملك غيظًا وأمر بلاون أن يُسجَن، وأوعز إلى موريق وموريقان أن يقودا الجند إلى سورية لنَيْل تلك البغية. هذا في الباطن، وأما في الظاهر فأشاع أنه وجَّههما لمقاتلة العرب لتتم بذلك مكيدته، ولكن البطريرك لم يَخْفَ عليه وجه المكيدة؛ فكتب إلى إبراهيم ابن أخته يستغيث به، فجاءه إبراهيم باثني عشر ألف مقاتل، وذهب به إلى سمر جبيل، وأما موريق وموريقان فكان من أمرهما أنهما لمَّا بلغا الديار السورية في سنة ٦٩٤ سَطَيا برجالهما على دير القديس مارون ودكَّا مبانيه بعد أن قتلا من الرهبان فيه خمسمائة راهب، ثم تولَّيا عنه وجعلا يقفوان أثر القائلين بالطبيعتين والمشيئتين وسكان تلك الأنحاء مثل أهل قنسرين وغيرها، وفتكا فيهم فتكًا ذريعًا لم يستحييا منهم أحدًا ممن بلت يدهما به وخرَّبا منازلهم. ولم تفتأ سيوفهما تحصد رقاب أولئك الناس، حتى بلغا مدينة طرابلس، فضُرِبَتْ خيام جيوشهما ما بين أميون وقرية في سفح الجبل يُقال لها: الناووس؛ فوفد عليهما أعيان تلك النواحي بقلوب ملؤها الرعب، وجعلوا يلاطفونهما ملتمسين منهما الأمان بعد أن خضعوا لرائهما فأمناهم.

وبينما كان اللبنانيون في جزع شديد من الجيش الرومي؛ إذ وفد على البطريرك يوحنا وعلى الأمير سمعان رسول من القائد لاون الذي كان الملك قد سجنه لتلكئه عن إنفاذ الأمر، وبشرهما أن قد نجا من محبسه، وبلت يده بيوستنيان؛ فاخترم أنفه وتبوأ عرش ملكه بعد أن نفاه، ثم أذن لهما أن يحاربا الجيش الموجَّه عليهما فسُرَّ الجبليون بذلك، وانقضُّوا على الروم دفعة واحدة انقضاض الصواعق؛ فقتلوا أكثرهم وهزموا الباقين شر هزيمة، فكان من نتيجة ذلك كله أن الذين انصاعوا لإرادة جيش الروم وخضعوا لرأيهم سُمُّوا ملكية إشعارًا باتباعهم طريقة ملك الروم حينئذٍ، وأن الذين ثبتوا في طاعة البطريرك مارون سُمُّوا موارنة، وأما العلامة السمعاني فقد ذكر في المكتبة الشرقية مج١ ص٥٠٨ ما يخالف هذا الرأي مؤيدًا ذلك بأقوال بعض المؤرخين، وها نحن نورده بنصِّه قال في المكتبة الشرقية مج١ ص٥٠٨: «رفع آخرون نسبة المليكة إلى مرقيان الملك والمجمع الرابع، وأول من كتب هذا فيما أعلم من السريان هو ديونيس بن صليما نحو سنة ١١٦٠ للمسيح، وذلك في شرح الليتورجية (فصل ١) حيث قال ما معناه: «يُسمَّون ملكية؛ لأنهم لما تركوا إيمان آبائهم اعتنقوا مذهب مرقيان الإمبراطور.»» وارتأى مثل ذلك من مؤرخي اليونان نيقوفور كاليست الذي عاش نحو سنة ١٣٣٠ في تاريخه الكنائسي (كتاب ١٨ صفحة ٥٢)، ونقل كلامه ديمتريوس القوزيقي في مقالته عن بدعة اليعقوبيين (مج٢ صفحة ٦٣).

قال نيقوفور: «إنه في أيام يعقوب هذا الذي تكلمنا عنه والذي كان يعلم البدعة المونوفيزية في سورية ظهر شقاق عظيم. فأما الذين تمسكوا بالرأي المهذب فسُمُّوا بالملكية؛ لأنهم تبعوا المجمع الرابع والإمبراطور نفسه.» غير أني أعرض عن كتبة اليونان والعرب المتأخرين عن نيقوفور وابن صليبا مثل ساويروس أسقف الأشمونيين، وابن الراهب صاحب التاريخ الشرقي وجرجس المكين بن العميد الذي تبعهم بارونيس، ولا أذكر أيضًا أوطيخا الإسكندري الذي أتى مرارًا في تاريخه باسم الملكية، وما أورد مطلقًا أصل تسميتهم فضلًا عن أنه قُدِّر كون هذا الاسم كان قبل عهد مرقيان مرادفًا للفظة أرثوذكسي؛ لأنه قال في صفحة ١٠٠: «وكان مرقيان الملك حسن الأمانة، وكان يدين ويقاتل عن أمانته الملكية، أما توما الحاراني أسقف كفر طاب من الشيعة المونوتولية الذي دار بينه وبين يوحنا بطريرك الملكية سنة ١٠٨٩ جدال في مشيئة المسيح الواحدة، فأثبت أنهم كانوا يسمون بالملكية أولئك الذين بانقيادهم لكلام مكسيموس المعترف اتبعوا مرقيان وأخاه وموريق سالفي هرقل؛ لأن توما المذكور يقول: «إن مكسيموس هذا ذهب إلى المدينة المتملكة وقابل الإمبراطورين مرقيان وأخاه وموريق الذي خلفهما، واستأذنهم أن يعلم السوريين مشيئتي المسيح، أما الذين قبلوا هذا التعليم فدُعُوا ملكية».» إلا أن كلامه هذا هو عارٍ عن كل صحة، وتخالفه آثار جميع التاريخ الكنائسي التي تشهد أن الإمبراطور مرقيان الذي تقدَّم موريق بأكثر من مائة سنة لم يكن له أخ يشاركه في الملك، وأنه في أيامه لم يَجْرِ مطلقًا أدنى جدال في مشيئتي السيد المسيح، وإنما حصل ذلك في أيام هرقل نائب فوقا وموريق نحو السنة ٦٢٨.

وعلى ذلك، فإني أرتئي عن الظن الراجح أن اسمَيِ الملكية والمردة اسمان متضادان وُجِدا في عصر واحد لا للدلالة على اختلاف ديانة أو طقس كما ظن بعض علماء الموارنة، بل للدلالة على اختلاف غرض مدني فقط، ولو أنه أمكن فيما ولي من الزمان أن يدلا على شيء آخر، وذلك بعد أن امتاز كل من الفريقين عن الآخر وانفرد بطقس وكهنة وديانة مستقلة؛ لأن الذين تمردوا قديمًا في سورية على الملك سُمُّوا مردة أي عصاة، وأما الذين لبثوا في طاعة الملك فسُمُّوا ملكية نسبة إلى الملك، وهذا حدث في سورية أيام قسطنطين اللحياني عندما كان المردة كما يشهد تاوفان وشدران مالكين جميع ما هو من حد الجبل الأسود إلى مدينة أورشليم المقدسة.

ويثبت رأيي هذا صَمْتُ جميع الآباء المؤرخين الأقدمين عن الملكية. وإذا راجعت تصانيف آباء القرن الرابع والخامس والسادس والسابع والثامن والتاسع وطالعت تواريخ بركوبيس وأباغايو وثاوفان وشدران وزوناراس وتوفيلكت فإنك لا ترى فيها أثرًا البتة لاسم الملكية، ولا تجد ذلك فيما كتبه بطرس القصار وفيلوكسين البعلبكي وساويروس وغيرهم الذين يدعون الكاثوليكيين مرارًا خلقيدونيين وسيندوسيين ولا يسمونهم ملكيين مطلقًا. وبعكس ذلك ترى تاوفان وشدران يأتيان صريحًا بذكر المردة، ولكن من غير أن يتهماهم بوصمة بدعة، وذلك برهان على أن تسميتهم تشير إلى حزب مدني لا إلى فرقة دينية، ومن ثم فيقرب من الصدق أن أعداء المردة دُعُوا بلغة وطنهم ملكية، وإلا لأتى مؤرخو تلك الأزمنة الذين كتبوا عما جرى في سورية من الحوادث وما نشأ بها من البدع بذكر المردة والملكية بمنزلة خوارج. وكلا الاسمين — ملكية ومردة — سريانيا الأصل، وإنما نشآ في سورية، ويثبته كون طائفتي الملكية والمردة كانتا قبلًا ولن تزالا إلى الآن متكاثرتين في سورية، وأما في غيرهما من الأماكن فوجودهما نادر أو لا وجود لهما أصلًا. ولهذا لا ينبغي تصديق باجيس الزاعم أن اسم الملكية نشأ في مصر على عهد مرقيان الملك بقوله (تاريخ سنة ٦٢٢ عدد ٩) «الملكي كلمة تدل على من يتبع ديانة الملك، وهذا الانقسام لم يزل مشتدًّا إلى الآن في المشرق، نشأ في زمن مرقيان الملك الذي طرد ديوسقورس. ومن ذلك الحين قام بطريركان في مصر ترأس أحدهما على الأرثوذكسيين الذين سُمُّوا بعد الانقسام المذكور ملكيين، والآخر على أشياع ديوسقورس الذين كانوا كثيري العدد وقتئذٍ.»

لأنك أولًا: لا تجد كاتبًا أقدم من ابن البطريق رفع اسم الملكية إلى أيام مرقيان، ثانيًا: لو كانت هذه الكلمة قد نشأت حقيقة في مصر لما كان سُمِّي الكاثوليك ملكية بلفظ سرياني أو عربي، بل لكان ينبغي أن يُسَمَّوا باسيليين بلفظ يوناني، أو بلفظ آخر من اللغة القبطية كما هو ظاهر؛ لأن السريانية لم تُدرَج مطلقًا في مصر، كما أن العربية لم تُدرَج هناك إلا بعد مرقيان الملك والمجمع الرابع بمائتي سنة لما افتتح المسلمون مصر في خلافة عمر بن الخطاب.

أما إطلاق المتأخرين اسم الملكية على الروم المصريين فلا ينبغي أن تتعجب منه؛ لأن اسم اليعقوبيين الذي ظهر بلا مراء في سورية ومن رجل سوري أيضًا تراهم يدعون به المصريين المونوفيزيين؛ لأن أسماء كهذه عرضة للتغيير والتبديل، كما يوضح ذلك اسم الملكية بعينه، فإنهم في القديم كانوا يعبرون به عن الأرثوذكسيين، والآن يُراد به المشاقون السريان والمصريون ذوو الطقس الرومي. وكذا اللبنانيون بعد أن تركوا لقب مردة سُمُّوا موارنة من مارون الذي تشيد ديره الشهير حذاء حماة، ومن هناك اتخذ يوحنا بطريركهم اسم مارون. هذا ما قاله العلامة السمعاني.

وعندنا أن رأيه في المردة والملكية أنهما حزبان سياسيان لا دينيان أوثق من غيره من الآراء؛ فإن معنى الكلمتين يدل على ذلك دلالة واضحة.

ثم إنه في السنة ٦٥ الهجرية الموافقة السنة ٦٨٥ المسيحية بُويِع لعبد الملك بن مروان في الشام، فأمر الناس أن يحجوا إلى بيت المقدس، وكان في ذلك الحين أمير الجبل يوحنا؛ فجهز هذا الأمير اثني عشر ألف فارس ونزل بهم في قب إلياس عند البقاع، وجعل يغزو الجبل الشرقي ويسطو على الحجاج؛ فقطع الطرق. وحدث في تلك السنة نفسها أن تُوفِّي قسطنطين اللحياني وخلفه يوستينيان وله من العمر ١٦ سنة، فأمر يوستينيان قائد الجيش لاون أن يزحف بالجيوش إلى أنحاء المشرق، فلما بلغ القائد عساكر الجبل انضمت هاته العساكر إليه؛ فغزا العرب واستردَّ منهم أرمينية وإيبارية والبانية وهرقانية ومادية؛ فكتب عبد الملك بن مروان إلى يوستينيان يهنئه بالملك، ويسأله تجديد الهدنة متعهدًا له في مقابلة ذلك أن يدفع إليه في كل يوم ألف ذهب وفرسًا ومملوكًا ويقاسمه خراج قبرس وأرمينية وإيبارية، وذلك على شرط أن يُخْرِج اللبنانيين من جبلهم، فأجابه يوستينيان إلى ذلك وأنفذ إليه القائد بولس للتداول في تلك الأمور وتقريرها على وجه ما تكون فيه المصلحة. ولمَّا تمَّ ذلك أرسل يوستينيان إلى يوحنا أمير جبل لبنان ينهاه عن مناوأة عبد الملك والتعرض له بشيء، ويأمره بالمسير بجيشه إلى الغرب، فأبى الأمير أن يسير بجيشه لعلة الشتاء. فغضب يوستينيان من تلك الإباءة وحَسِب الأمير وقومه من العصاة المتمردين؛ فنوى أن يبطش بهم فأمر في الحال بتجهيز الجيوش وتوجيهها عليهم وأشاع احتيالًا أنه يُسيِّر تلك الجيوش لقتال العرب، وأوصى القائد أن يذهب بنفسه إلى قب إلياس يحتال على الأمير يوحنا ويقتله.

فلما بلغت عساكر الروم البقاع تخلَّف عنهم قائدهم وسار إلى قب إلياس بنفر قليل، فخلا بالأمير يوحنا وغرَّه بما دفع إليه من هدية الملك يوستينيان إليه وكتبه، وجعل يحدثه في الزحفة على العرب ويسأله النجدة حتى اطمأنت نفسه، ثم دعاه إلى مؤاكلته، فما راع الأمير إلا نفر القائد قد وثبوا عليه فقتلوه غيلة، فاشتبك جيش الأمير بجيوش الروم فانجلت الواقعة عن انهزام المردة لاغتيالهم، ولما قُتِل الأمير يوحنا خلفه سمعان ابن أخته؛ فسار سمعان باثني عشر ألف مقاتل إلى أنحاء أرمينية فهدم السدَّ النحاسي، ثم اجتاز إلى بلاد ثراكية المعروفة الآن بالروملي، وتوطَّن هو وعسكره بالقرب من الجبل الأسود في أنحاء الأرنابود حيث يوجد قوم هنالك يُدعَون إلى الآن مرديت أي مردة، فمن ذلك الحين قال العلامة الدويهي: «لُقِّب اللبنانيون بالمردة أي العصاة؛ لكونهم عصوا أمر يوستينيان الملك في عدم التعرض للعرب وشخوصهم إلى بلاد المغرب.» وقال شدران المؤرخ: «إن جميع البلاد التي كانت في يد العرب من المصيصة إلى بلاد الأرمن كانت بسبب غزو المردة وسطوهم خالية خاوية، فلما نزع الملك يوستينيان شوكتهم بقتل أميرهم وجلاء عساكرهم جلب بذلك على مملكته الخراب والدمار.» وقال بكنتاب: «وخرَّب يوستينيان المملكة بغروره وسوء تدبيره؛ إذ جلا عن لبنان المردة، وقد كانوا للروم عونًا في كل أمر هام وكانوا يُرْهِبُون بهم العرب.» وقد ذكر المؤلف الرومي تاوفان فيما قال العلامة السمعاني حكاية جلاء المردة عن لبنان، فقال: «إن يوستينيان الملك لما سار إلى أرمينيا أمر معسكر المردة الذي أخرجه من لبنان أن يوجه إليها؛ أي: إلى أرمينيا. وقال أحد ملوك الروم — قسطنطين السابع: إن المردة نُقِلوا إلى بمفيليه وجُعِل قائدهم في مدينة أضالية، وكانوا هناك من عصر يوستينيان إلى عصره أي عصر المؤلف، وذلك في أواسط القرن العاشر. وقال هذا الملك أيضًا: إن الملك القسطنطيني كان يجعل على المردة واليًا منهم في أضالية يُسمَّى قبطانًا، وأن أباه الملك لاون جعل عليهم رجلًا اسمه إستاوراسيوس، وكان يُنصَب لهم — فيما قال العلامة السمعاني — قاضٍ يُسمَّى قاضي أضالية، وفي أيام الملك ميخائيل سنة ١٠٧٤ كان اسم أحد أولئك القضاة مخائيل، ألَّف في القانون كتابًا طُبِع في فرنكفورت سنة ١٤٥٣، وكان في قسطنطينية لكبير المردة مرتبة خصوصية بدليل ما رواه غريغوريوس كوريتوس كوربالات الذي كان في القسطنطينية عندما افتتحها العثمانيون؛ إذ قال: إن كبير المردة كان يحمل عكازًا من الفضة مموَّهًا بالذهب، وبدليل ما أثبته الكاهن الراهب متى جاز في كتابه المتعلق بوظائف القصر القسطنطيني؛ حيث قال: إن كبير المردة كان يجيء في الرتبة السابعة عشرة بعد الملك.»

من أمعن النظر في جميع ما تقدم من الأقوال والحكايات على ما فيها من الاختلاف يَرَ رأي العلامة السمعاني بأن المردة والملكية هما في الأصل حزبان سياسيان، فإن الملامة على يوستينيان من شدران المؤرخ وبكنتاب مسوقة من وجه سياسي؛ لأنهما أظهرا سوء تدبيره وقصر مداركه، ولم يتعرَّضا لذكر الدَّين بشيء ما من ملامتهما، ثم إن قصة قتل الأمير يوحنا تدل بتفاصيلها على ذلك دلالة واضحة، وعلى أن المردة كانوا ممتازين عن بقية الدائنين لسلطة المملكة الرومانية. والحاصل من ذلك كله أنه لا ينبغي أن يُتَّخَذ لفظ المردة بمعنى مرادف للموارنة، كما أنه لا ينبغي أن يُتَّخَذ لفظ الملكية بمعنى مقابل للموارنة في أمر الاعتقاد، وأن الطائفة المارونية إنما اتخذت هذا الاسم من رئيسها يوحنا مارون الذي اتخذ اسم مارون من القديس مارون صاحب الدير الذي على النهر العاصي في بلاد حماة، وأما إطلاق هذين اللقبين على حزبين دينيين فقد كان بعد وضعهما، وذلك مثل كثير من الأوضاع التي بعد وضعها يتناولها التغيير والتبديل لعلة ما.

ثم إن الموارنة لما كانت أحوالهم مرتبطًا سيرها بسير أحوال المردة أمرائهم رأينا من الضرورة أن لا نفصل بينهما في الذكر في هذا الكتاب؛ حفظًا للانتساب في الحوادث التاريخية.

قال العلامة الدويهي في الكلام على أصل المردة ما مضمونه: إن الذين أوقعوا الرعب في قلوب الفرس والعرب وسُمُّوا مردة لا موارنة يتبيَّن أصلهم من قصة يوحنا البطريرك؛ إذ جاء فيها أنه أرسل إلى القسطنطينية ثلاثة من نخبة القوم ليحملوا المظلة فوق رأس الملك، وأنه تناسل من هؤلاء الثلاثة كثير من الملوك، وقد أثبت العلامة المشار إليه شيئًا من أسمائهم وأخبارهم مأخوذًا عن كتاب قديم لم يذكر اسمه، ولكنه يقول إنه تركه له سلفه البطريرك جرجس، وكان قد نسخه داود بن إبراهيم في السنة ١٣١٥ المسيحية، فقال: إنه في ابتداء دولة العرب كان يوسف ملكًا على جبيل وكسرى على الداخلة، ومن اسمه سُمِّيَتْ كسروان، وكان أيوب متوليًا قيصرية فيلبس وبيت المقدس في خلافة عمر رضي الله عنه. وبعد أيوب قام إلياس وهذا أنجد هرقل عند قدومه إلى بلاد الشام (وهرقل ملك الروم بعد فوقا سنة ٦١٠ب.م ومات سنة ٦٤١) ومن بعد هؤلاء تولى أمر جبيل وجبل لبنان الملك يوسف، وهذا سار باثني عشر ألف فارس من الأبطال إلى بلاد أرمينية، وظفر بجيش سابور وقائد هذا الجيش سرجيس الأرمني، فهدم معاقله ودكَّ حصونه وسلب نعمته، ثم أقفل راجعًا. ثم إن عساكر الملك يوسف جازت سواحل البحر والبقاع إلى بلاد معاوية فتشتت أهلها في كل صقع، وقام بعد يوسف ملك اسمه يوحنا استولى على كل الأرض المقدسة، فخرج من جبل لبنان إلى الكرمل وفي صحبته جماعة عظيمة قاصدة المسير إلى أورشليم، فوثب عليه لصوص كثيرون من بلاد الغضبى، وأحاطوا به فوق برج الغرباء وأهلكوا من جماعته ثلاثة آلاف بالسيف؛ فتحوَّل على الغضبى وعلى بلادهم، فقتل منهم تسعة آلاف وسلب الغنائم والبهائم والنساء والأطفال، ثم رجع إلى بلاده وسكن في بسكنتا، وروى ابن القلاعي أن مقر الملك كان بجبيل، وأنه لما كانت بلاد الداخلة يحف بها خطر عظيم من فرضة بيروت ومن الدرزي أمير الغرب اجتمع أربعون أسقفًّا فدهنوا سمعان ملكًا عليها، فهزم الأعداء وجعل سكناه في بسكنتا بين الحدين، فامتنعت بشجاعته ومات شيخًا؛ فخلفه كسرى على كسروان، وكان بطلًا باسلًا أتى ملك الروم بقسطنطينية، فأكرم الملك وفادته ووصله بالعطايا وأقامه ملكًا على بلاد الداخلة، فعدل في حكمه وسُمِّيَتْ كسروان باسمه.

وهذا ما ذكره ابن القلاعي في كتابه، قال: «كان الموارنة عندما دخل المسلمون بلاد الشام يسكنون جبل لبنان يتولون باقتدارهم وسطوتهم الأمر في الجبال وفي السواحل التي تجاورهم، وعقيدتهم عقيدة الكنيسة الرسولية الرومانية، وكانوا قائمين بأداء الطاعة لبطريركهم المقيم بينهم يحامون عن الدين القويم وينتصرون حبًّا بعقيدتهم لكل من لجأ إليهم فرارًا من ظلم أصحاب الكفر وأهل البدع، أما بلادهم فكانت من حدود بلاد الشوف إلى بلاد الدريب. ولخوفهم من الدروز القاطنين في الشوف؛ ابتنوا الحصن المعروف بالقلعة الحجرية في أنطلياس والحصن المشهور في درجة بحرصاف، وأقاموا أسقفًّا لقرية رأس المتن وأسقفًّا لقرية بحرصاف وأسقفًّا لقرية بحنس، ثم سعوا في تجديد قرى وحقول بيروت القديمة وغرسوا بساتين وكرومًا على نهر العرعار، وكان أميرهم يسكن قرية بسكنتا ولكثرة رجاله وأبطاله تعظم بنفسه وانحدر إلى أرض البقاع ونهبها وقتل كثيرًا من أهلها ولبث أيامًا في قرية قب إلياس بسفح الجبل، فلما اتصل خبره بعبد الملك بن مروان سنة ٦٨٥، وذلك في أيام يوستينيان الأخرم أرسل عبد الملك هدية إليه كأنه يريد مصادقته، وكان في الواقع يريد بذلك اصطياده. ولم يزل يمكر به حتى قتله وقتل كثيرين من عسكره وأحرق القرى وأبعد الموارنة من البقاع، وكان ابن أخت الأمير أحد مقدمي العسكر يُسمَّى سمعان، وكان بطلًا شجاعًا ذا مروءة ونخوة، غير راضٍ عن أعمال خاله وفواحشه، وكان لذلك لما وقعت الواقعة قد فرَّ مع جملة من المقدمين، فلم يذودوا عن أميرهم لشدة غيظهم منه، بل رجعوا بعد قتله فدفنوا جسده في قب إلياس وأمروا أن لا يذكر أحد اسمه البتة؛ وذلك لزعمهم أنه عاش ومات مرذولًا، أما العسكر والمقدمون فصعدوا إلى الجبل، وكان المسلمون يضايقونهم كثيرًا وتواقعوا في البقعة المعروفة بالمروج. ولم تزل الحروب منذ ذلك الحين ثائرة بين الفريقين من جميع الجهات إلى نحو ثلاثين سنة، وكان من نتيجة ذلك أن انقطعت الطرق، واستعصت الجبال كلها، وعجز الموارنة عن الإقامة بحصن أنطلياس لأنه طرف البلاد؛ فتركوه وأتوا ناحية نهر الكلب وشادوا فوقه حصنًا. ووقعت أيضًا هنالك موقعة هائلة جدًّا سُمِع صوت البنادق فيها وصراخ الأبطال من قرية بحرصاف، وكان المقدم سمعان يومئذٍ في بكفيا، فلما سمع ضجات الحرب انحدر بنحو ألف وخمسمائة رجل لمساعدة رجاله.»

ثم انطلق المقدم سمعان يزور يوسف أمير مدينة جبيل فتلقاه البطريرك غريغوريوس الحالاتي الذي كان في عهد البابا إينوشنس الثاني الجالس يومئذٍ (سنة ١١٣٠) بالقرب من المدينة، ودعاه إلى ضيافته، وبعد تمام الوليمة سار معه إلى المدينة، فخرج الأمير لملاقاتهما في خارج السور، وبعد أن قدم واجب الاحترام للسيد البطريرك اعتنق سمعان وساروا جميعًا ماشين إلى دار الأمير، ثم أُرْسِلوا فجمعوا أساقفة البلاد من عكار إلى حدود الشوف، وكانت عدتهم نحو أربعين أسقفًا وثبتوا سمعان أميرًا على العاصية المسماة اليوم كسروان، وحدودها من نهر بيروت إلى نهر إبراهيم؛ فباركوه ودعوا له وانصرفوا، ثم إن أمير جبيل وهب للأمير سمعان عدة من الخيل والجمال، فودعه الأمير سمعان وخرج يحارب الأعداء، ولم يزل في طلب من هرب وصدَّ من اقترب حتى مات ودُفِن في بسكنتا بشيخوخة مكرمة، وخلفه كسرى خال سمعان أخي المقتول في قب إلياس، وكان ذا سطوة وبأس، وجرت له وقائع عديدة مع أعدائه، وذهب إلى قسطنطينية وقابل ملك الروم وصادف منه أحسن قبول، ووهب له هبات جليلة وأقره على بلاد كسروان، وصرفه بسلام وعاد راجعًا في البحر إلى مينا طبرجا؛ فلاقاه أهل البلاد وهنئوه بما لقي من الحظوة عند ملك الروم وسموا بلادهم كسروان باسمه، ثم بلغه عن كامل مقدم قرية لحفد أنه رجل شجاع يغزو أعداءه في ناحية بعلبك، فأحبه ورغب في مصادقته وأرسل له هدية مع بعض غلمانه، أما المقدم كامل فتريب منه؛ ولذلك بعد أن أكرم الرسل اعتذر لهم أنه لا يستطيع أن يقبل الهدية بسبب مولاه يوحنا أمير جبيل، ثم صرفهم من عنده بكلام لطيف وعادوا إلى الأمير مولاهم وأعلموه بحقيقة الحال؛ فازداد رغبة في مصادقته، وأرسل إليه ثانية يخطب إليه ابنته لابنه، فاستشار كامل أمير جبيل بذلك؛ فأذن له فعقد عقد الزواج. ومن ذلك الحين تمكنت المحبة بين أهالي جبيل وكسروان واستمروا على الولاء زمنًا غير قليل. ا.ﻫ. مأخوذًا عن الدويهي.

إننا بعد البحث والتنقيب عن أحوال المردة في ما اتصل بنا من أقوال المؤرخين القدماء عنهم، وما وقع لدينا من تفصيل الحديثين لإخبارهم رأينا من المتعذر علينا تنسيق تلك الأحوال تنسيقًا يصلح أن يُركَن إليه؛ لما أن في ذلك شيئًا من المباينة في رواية الحوادث وضعف الإسناد، واختلاف الأزمنة عما أُريد التطبيق عليه من أزمنة الملوك المعاصر لهم أولئك الأمراء، سواء كان أولئك الملوك من ملوك الروم أو من سواهم.

ومن أمعن النظر فيما نقلناه يَرَ في الأمر رأينا؛ فلا يجد إلا أشتاتًا من المعلومات يتعسَّر ربطها بروابط الترتيب التاريخي، وأيضًا فإننا لم نَرَ في تواريخ فتوح الإسلام ما مكننا من ذلك؛ ففي فتوح بيروت الأول قال محمد بن صالح في كتابه تاريخ بيروت: «ذكر النويري بإسناده إلى أبي الحسن بن الأثير في حوادث سنة ثلاث عشرة للهجرة (٦٣٥ للمسيح) قال: لما استُخْلِف أبو عبيدة يزيد بن أبي سفيان على دمشق، سار يزيد إلى بيروت وجبيل وعرقة وعلى مقدمته أخوه معاوية، ففتحها فتحًا يسيرًا وخلَّى كثيرًا من أهلها، وتولى فتح عرقة معاوية بنفسه في ولايته، ثم غلب على بعض هذه السواحل في آخر خلافة عمر وأول خلافة عثمان٢٩ رضي الله عنهما، ففتحها معاوية ثم رممها وشحنها بالمقاتلة، وقد رأينا في كتاب فتوح الشام أنه في سنة ست عشرة عند استيلاء المسلمين على السواحل وتقرير الجزية عليهم دخل أهل بيروت في التقرير» (مجلة المشرق عدد ٣ ص١٣١).

وها نحن مثبتون في هذا الباب ما جاء في الدر المنظوم من ذكر أولئك الأمراء على حسب الترتيب الذي وضعه المغفور له صاحب الدر خلوًّا من الإسناد، أو مع إسناد ضعيف، قال: «وأما أمراء المردة فأولهم يوسف، ثم كسرى الذي سُمِّيَتْ بلاد كسروان باسمه، وقد كانت تُسمَّى قبلًا العاصية والداخلة، ثم خلف الأميرين المذكورين أيوب، ثم إلياس الذي ساعد هرقل الملك في محاربة الفرس في سورية سنة ٦٢٨ وخلفه يوسف، ثم يوحنا الذي حارب العرب وكسرهم سنة ٦٧٥ وسنة ٦٧٦، وكان حكمه ممتدًّا من حدود أنطاكية سورية إلى القدس الشريف، ثم إبراهيم ابن أخت القديس يوحنا مارون الذي فيما قيل بنى جسر نهر أدونيس بالقرب من مصبه في البحر المتوسط إلى الجنوب من مدينة جبيل؛ فنُسِبَ النهر إليه، ثم يوحنا الذي قُتِل عند قب إلياس أي قبة أو قبر إلياس، ثم سمعان، ثم غيره من الأمراء بالتتابع، ومنهم الأمير سمعان الذي كان لما قدم لويس التاسع ملك فرنسة بجيوشه الوافرة إلى جزيرة قبرس، ثم إلى عكة سنة ١٢٢٩، ثم في أواخر سنة ١٣٠٠ اشتهر المقدمون الموارنة في بلاد كسروان وبلاد جبيل والبترون، ثم في جبة بشرة في سنة ١٣٨٨، ثم ظهر المشايخ الموارنة ذوو الإقطاع في جبل لبنان، ثم الأمراء الشهابيون واللمعيون ونواب الأمراء اللمعيين الذين قدموا الشوف في القرن الثاني عشر وانقرضوا سنة ١٦٩٧، وبيت عساف الذين توطنوا بغزير سنة ١٥١٥ وانقرضوا سنة ١٥٩٠، والشهابيون الذين خلفوا بيت معن سنة ١٦٩٧.»

وقد ذكر الخوري يوسف الطرابلسي في رسالة له كتبها في أصل الموارنة أن الأمير موسى من أمراء المردة انتهت ولايته سنة ٨٩٠، وإن جاء بعده الأمير جرجس والأمير يوحنا والأمير يعقوب، فلبثت ولايتهم إلى سنة ١١٩٠؛ أي: إلى أواخر مدة صلاح الدين الذي تُوفِّي بدمشق سنة ١١٩٣.

لما كانت حوادث المردة، كما قلنا غير منتسقة انتساقًا يصلح أن يكون سلسلة تاريخية، وكان ذكرها لا يخلو مع ذلك من الفائدة؛ رأينا أن نثبت ما عثرنا عليه منها مما ورد في كتب المؤرخين على علاته.

في سنة ٧٥٢ / ١٣٥ﻫ زحف المقدم إلياس برجاله إلى البقاع العزيز ونهب قراه وقتل أهلها، ثم قتله صاحب الشام؛ فسُمِّي المكان الذي قُتِل فيه قبر إلياس وهو المعروف اليوم بقب إلياس، وخلف المقتول ابن أخته سمعان مقدمًا على الجيش، فحارب سمعان جيوش الشام في قرية المروج شرقي قرية الشوير، وفاز بالغلبة عليها (تاريخ الموارنة للدويهي ص٩٧).

وفي خلافة أبي جعفر المنصور العباسي سنة ٧٥٨ قدم إليه من المعرة، وهو في دمشق، الأمير أرسلان والأمير منذر بجماعة من عشيرتهما، ولما كان قد بلغه شدة بأس مردة لبنان وقطعهم الطرق المجاورة بلادهم على أبناء السبيل ومبلغ غزواتهم إلى حمص وحماة وغيرهما، ورأى أن يجعل فيما خلا من البلدان المجاورة لهم أناسًا ذوي بأس يخضدون من شوكتهم ويكبحون جماحهم؛ أوعز إلى الأميرين أن اسكنا بعشائركما البلدان الخالية من الجبل، فكان ذلك كما سيتبين تفصيله في آنه.

وما انقضت مدة حتى استوطن الأمير أرسلان في سن الفيل والأمير منذر في حصن سرحمور، وسكن بقية الأمراء في البلاد الواقعة عند حدود كسروان، فجعلوا يشنون الغارة على المردة في كسروان، ووقعت بين الفريقين مواقع عديدة، منها واقعة نهر الموت، وقيل لهذا النهر نهر الموت لكثرة القتلى من الفريقين في تلك الواقعة، ومنها واقعة أنطلياس التي تجاوز فيها عدد القتلى من الفريقين ثلاثمائة رجل، ثم انجلت عن انتصار الأمير أرسلان وأخيه؛ فانقطعت شوكة المردة عن ساحل بيروت، وأمن بذلك أبناء السبيل (أخبار الأعيان ص٦٤٦).

وفي سنة ٧٩١ سطا المردة على الأمير مسعود ابن الأمير أرسلان وهو في سن الفيل، فخرج إليهم إلى ظاهر القرية وصدمهم صدمات عنيفة، فأزاحهم عن القرية بعد أن قتل منهم عددًا كبيرًا، وقفا أثرهم فأحرق بعضًا من قرى كسروان السفلى (تاريخ الموارنة للدويهي ص٢٨١).

وفي سنة ٨٠٤ / ١٨٩ﻫ أرسل الخليفة هارون الرشيد ببغداد منشورًا إلى الأمير ثابت بن نصر الخزاعي أمير الثغور الشامية ومناشير أخرى إلى سائر عمال الشام أن يحضوا الناس على الرحيل إلى لبنان تعضيدًا لأمرائه على أهل العاصية (أخبار الأعيان ص٦٥٠).

وفي سنة ٨٢٠ أتى الأمير تنوخ الملقب بالمنذر ومعه بعض من أمراء قبيلته فسكنوا جنوبي لبنان في الجبال الخالية من السكان بالقرب من كسروان وابتنوا لهم في الغرب مباني وكانوا أعوانًا لبني أرسلان، وفي سنة ٨٤٥ وقع بين الأمير هاني وبين المردة مواقع عديدة كان فيها النصر للأمير هاني؛ فاتصل ذلك بالخليفة المتوكل على الله، فبعث إليه يحثه على مواصلة الحرب لقهر المردة (تاريخ الموارنة للدويهي ص٩٧).

وذكر العلامة الدويهي أيضًا أنه في سنة ٨٧٥؛ وهي السنة التي دخل فيها المتوكل على الله الشام، وقع بين الأمير النعمان أمير بيروت وبين المردة عند نهر بيروت موقعة شديدة، لبثت أيامًا ثم انجلت عن انهزام المردة.

وجاء في تاريخ بيروت لمحمد بن صالح (مجلة المشرق عدد ٤ ص١٦٧ و١٦٨) أن المؤرخين ذكروا أنه في سنة ٤٤٨ﻫ / ١٠٥١م أقطع المستنصر بالله خليفةُ مصر عكة وبيروت وجبيل لمعز الدولة (وهو أبو علوان ثمال بن صالح بن مرداس، كان أبوه صالح من أمراء العرب، فلما تُوفِّي سنة ٤٣٣ / ١٠٤٤م الدزبري صاحب حلب سار ابنه أبو علوان إليها وتملكها) عوضًا عن حلب وأخذ حلب منه.

وفي سنة ١٠٩٩ لما كان الإفرنج سائرين إلى القدس الشريف بعد أخذهم مدينة أنطاكية، وكانوا قد بلغوا أرض عرقة (وهي فيما ذكره ياقوت بلدة في شرقي طرابلس بينهما أربعة فراسخ) أتاهم قوم من المردة من جبل سير «وهي من أمهات قرى الضنية» والضنية وبلاد جبيل، وسار معهم جماعة منهم يدلونهم على الطرق والمسالك حتى القدس وكانوا ينجدونهم في مواقعهم مع أعدائهم ويمدونهم بالميرة والذخائر والسلاح (تاريخ الموارنة للدويهي ص١٠١ و١٠٢).

وفي سنة ١١٠٠ حدثت موقعة بين الصليبية ومعهم المردة وبين المسلمين عند نهر الكلب، وذكر صاحب الغرر الحسان أنه في سنة ١١١٠ جمع بغدوين٣٠ أحد أمراء فرنسة جيوشه، وحاصر بيروت وفيها الأمير شجاع الدولة الأرسلاني وجماعة من ذوي قرباه محاصرة من جهتي البحر والبر، ولما تعذَّر عليه فتحها استعان بفرنج السواحل وأمراء المردة فأنجدوه، فانضم فرنج الشمال والمردة في جبيل واجتمع فرنج الجنوب في مرج الغازية، ثم زحف الفريقان في يوم واحد الشماليون من طريق الجبل والجنوبيون من طريق الساحل، وسطوا على الغرب صباحًا، فنهبوه وأحرقوه وقتلوا وأسروا من بلت يدهم به، ولم يَنْجُ من أهله سوى الغائبين والمنهزمين والمختبئين، فقُتِل من الأمراء: الأمير موسى بن إبراهيم بن أبي بكر بن المنذر وأولاده الصغار، والأمير القاسم بن هشام بن أبي بكر وولده الأمير إدريس، والأمير مورود بن سعيد بن قابوس وولداه الأمير أسد والأمير زهير، والأمير مالك بن مصطفى بن عون، والأمير عبيد بن معضاد بن حسام، والأمير يحيى بن الخضر بن الحسين بن علي وأخوه الأمير يوسف، والأمير علي بن حليم بن يوسف بن فارس الفوارسي وأولاده وإخوته وبنو عمه. فانقطعت بهم سلالة بني فوارس.

وفي سنة ١١١١ انضم أمير المردة إلى بغدوين الملك وبلتران صاحب طرابلس مع أصحاب بقية البلدان لمقاومة جيوش كثيرة زاحفة إلى بلاد الشام من أنحاء العجم وبغداد، فلما رأت هاته الجيوش كثرة عدد المقاومين قفلت راجعة من دون حرب.

لم يذكر محمد بن صالح في فصل فتوح الفرنج لبيروت من كتابه تاريخ بيروت المطبوع في مجلة المشرق مساعدة الأمراء المردة للفرنج على فتوح بيروت، واكتفى بذكر الواقعة؛ إذ قال: «ولم تزل بيروت في أيدي المسلمين من الفتوح الأول (وهو الفتوح الذي جرى على يد معاوية) تنتقل من دولة إلى دولة والمسلمون بها على أحسن حال وأسرِّ بال، حتى نزل بها بغدوين الفرنجي الذي ملك القدس وكثيرًا من مدن الساحل في جموعه وحشوده، وحاصرها حصارًا شديدًا حتى فتحها عنوة بالسيف في يوم الجمعة الحادي والعشرين من شوال سنة ثلاث وخمسمائة (١١١٠م) واستولى عليها قتلًا وأسرًا ونهبًا.» ثم تطرق إلى بيان الأسباب التي أفضَتْ إلى انتزاع الفرنج البلاد من أيادي المسلمين، فذكر ما صارت إليه حال الخلافة ببغداد من الضعف عندما قويت دولة بني سلجوق المالكين في العجم، وما وقع من اضطراب في ممالك الشرق بسبب الشقاق؛ ذلك من جهة ومن الجهة الأخرى ما بدا من الآمر بأحكام الله وهو المنصور (ولد المستعلي) في أيام خلافته من وهن العزيمة والتغافل عن أحوال الخلافة. ثم ذكر استيلاء الفرنج على أنطاكية، فقال إنه كان في جمادى الأولى سنة إحدى وتسعين وأربعمائة (١٠٩٨م)، وعلى القدس، فقال: «أخذوها في شعبان سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة (١٠٩٩م) واستولوا في طريقهم من أنطاكية إلى القدس على أماكن كثيرة بعد قتال شديد.»

ثم بعد ذلك تزايد مدد الفرنج من البحر إلى السواحل، وانضموا إلى الفرنج الذين حضروا من البر، واستولوا على مدينة بعد أخرى حتى أتوا على ساحل الشام جميعه وعلى غيره من البلاد، فكانت بيروت في جملة ما أُخِذ.

هذا ما وقفنا عليه من أصل الطائفة المارونية وأمرائها المردة بلبنان أثبتناه مأخوذًا عن كتب القوم، وسنثبت فيما يلي ما بقي من الأحوال متعلقًا بهم وبغيرهم من المقدمين والمشايخ مما سيجيء في عرض الكلام على غيرهم من أهل الطوائف الأخرى في لبنان، ونسوق الكلام الآن على الطائفة الدرزية في هذا الجبل، مستندين في ذلك إلى ما أثبته العلامة الشهير المغفور له بطرس البستاني في كتابه «دائرة المعارف» وإلى ما رواه آخرون من المحققين العارفين.

إلا أنه يليق بنا قبل الدخول في هذا المبحث الجديد — مبحث الطائفة الدرزية — أن نبدي ما عنَّ لنا من الملحوظات فيما يتعلق بالطائفة المارونية وغيرها من الطوائف النصرانية التي عمرت لبنان.

إن السواد الأعظم من أهل هذه الطوائف من السريان؛ لأننا لو نظرنا إلى أسماء القرى التي لم يَرِد لها ذكر في التواريخ إلا بعد ظهور النصرانية بمدة غير يسيرة لرأينا غالبها أسماء سريانية، وكانت لغة القوم كذلك في معاملاتهم وعباداتهم، وما فُقِدت هذه اللغة إلا بعد تغلب العربية عليها وارتفاع شأن أصحابها في البلاد، ومع ذلك فقد بقيت في العبادات. ثم حصل تغيير فيها عند بعض الطوائف ليس من شأننا أن نستوعب تفاصيله الآن، فمن أراد ذلك فعليه بالكتب التي كُتِبَتْ في الشقاق الديني بين الطوائف المسيحية، وبقيت كذلك في المعاملات إلى زمن غير قديم في بعض الأماكن التي لم تتغلغل إليها غلبة اللغة السائدة لأسباب ربما كانت سياسية؛ وذلك مثل قرية بشرة وحصرون.٣١ كما بقيت محفوظة حتى الآن في بعض الأماكن كجبال بلاد السريان والكلدان، وفي بعض المحلات الواقعة إلى الشمال الشرقي من دمشق؛ كمعلولا، وجب عيدين، ونجعة، وعين التينة. فإن أهل هذه القرى يتكلمون بالسريانية والعربية.
وأيضًا فإن في اختلاف سحنات بعض الناس من أهل تلك الطوائف ما يجيء مصداق قول شدران في تأريخه عن دولة قسطنطين اللحياني؛ إذ قال: «في السنة الثامنة والتاسعة من ملك قسطنطين اللحياني دخل المردة إلى جبل لبنان وملكوا جميع ما هو من جبل موروس٣٢ إلى بيت المقدس، واستولوا أيضًا على أعالي لبنان، وفي مدة وجيزة انضم إليهم كثير من الأسرى والأغراب والعبيد حتى أنافوا على ألوف عديدة.»

(٤) الدروز

طائفة من طوائف سورية، ولا يوجد طائفة بهذا الاسم إلا في هذه البلاد. واحد الدروز درزي، بضم الدال وتسكين الراء أو بتحريكهما بالفتح؛ وذلك فيما قيل نسبة إلى محمد بن إسماعيل الدرزي، الذي ابتدأ ببث هذه الدعوة في بر الشام، وقيل: نسبة إلى طيروز في بلاد العجم، وقيل: بل هو الطرزي أي الخياط.

وفي كلا النسبتين تحريف، أما الدروز فإنهم ينكرون الدرزي ويكفرونه ويلعنونه ويتبرءون من مذهبه وينسبون الكتب الموجودة بأيدي غيرهم إليه، وهم لا يحبون أن يُلقَّبوا دروزًا بل أحب الألقاب إليهم لقب الموحدين. يُقال إن الدروز فرقة من الفرق الباطنية؛ إذ لا يخفى أنه لما تُرجِمَتْ كتب الحكمة من اليونانية لعهد الخلفاء العباسيين وذاعت مبادئ الفلسفة؛ دخلت الشكوك في العقائد وكثرت البدع، ووقع الخلاف وتعددت الفرق، وكثر التأويل للكتب المنزلة؛ تطبيقًا لها على مبادئ الفلاسفة، فانقسم الناس إلى قسمين: أهل الظاهر، وأهل الباطن.

وهذا الباطن أولد فرقًا كثيرة في الإسلام، ذكرها محمد بن عبد الكريم الشهرستاني في كتاب الملل والنحل الشهير، وقال: «إن الباطنية لقب لزم هذه الفرق؛ لحكمهم بأن لكل ظاهر باطنًا ولكل تنزيل تأويلًا، ولهم ألقاب أخرى؛ فبالعراق يُسمَّون الباطنية والقرامطة والمزدكية.» إلى أن يقول: «والباطنية القديمة قد خلطوا كلامهم ببعض كلام الفلاسفة وصنفوا كتبهم على ذلك المنهاج.» وذكر الشهرستاني بعض مقالاتهم المذكورة، ثم ذكر أقوالهم في الفرائض والسنن وأحكام الشرع من بيع وإجارة وهبة ونكاح وطلاق وجراح وقصاص ودية.

ثم تطرق إلى ذكر أصحاب الدعوة الجديدة منهم، فذكر الحسن بن الصباح وعرَّب فصوله الأربعة التي بدأ الدعوة بها وكتبها عجمية، ومرجعها في كل مقالة منها إلى إثبات العلم في معرفة الباري تعالى، وأن التوحيد هو التوحيد والنبوة معًا، وأن النبوة هي النبوة والإمامة معًا حتى يكون نبوة، وقد منع صاحب هذه الدعوة العوام عن الخوض في العلوم، وكذلك الخواص عن مطالعة الكتب المتقدمة إلا من عرف كيفية الحال في كل كتاب ودرجة الرجال في كل علم، ولم يتعدَّ بأصحابه في الإلهيات عن قوله: إلهنا إله محمد، قال: وأنتم تقولون: إلهنا إله العقول؛ أي ما هدى إليه كل عقل، فإن قيل لواحد منهم: ما تقول في الباري تعالى؟ وإنه هل هو؟ وإنه واحد أم كثير؟ عالم قادر أم لا؟ لم يجب إلا بهذا القدر: إن إلهي إله محمد، وهو الذي أرسل رسوله بالهدى، والرسول الهادي إليه.

فالدروز على رأي بعض هم فرقة من هذه الطائفة المسماة بالباطنية، وقيل خلاف ذلك، ويُقال أن ليس يوجد منهم إلا في سورية، وهم يقولون إن منهم في جميع الآفاق، فأما في سورية فأكثرهم في جبل لبنان في قضاء الشوف، ثم في قضاء المتن، وبعد لبنان أكثرهم في جبل حوران وبلاد البثينة واللجاة وصرخد ونواحيها، ثم في وادي التيم الأعلى والأسفل أي قضاء حاصبيا وقضاء راشيا، وقسم من قضاء وادي العجم وقضاء القنيطرة، ثم في غوطة الشام؛ إذ منهم هناك عدة قرى، فجبل صفد وساحل عكة وجبل الكرمل وشفا طبرية، ثم الجبل الأعلى في جهة حلب، وعددهم يقارب مائة وخمسين ألف نسمة في أصل الأقوال، منهم خمسون ألف نسمة في جبل لبنان ومثلها في جبل حوران ومثلها في سائر النواحي كلها.

والظاهر من التواريخ والمشهورات أن عدد الدروز كان أكثر جدًّا في سورية، وأنه تناقص برجوع عدد كثير منهم إلى الإسلام؛ وذلك لأنه كان في حلب ومرعش وأنطاكية خلائق من هذه الطائفة اختفت آثارها بتوالي الأيام وتعاقب المحن، خصوصًا محنة أنطاكية الشهيرة عند الدروز، ولم يَبْقَ من هذه الخلائق كلها في شمالي سورية سوى نحو ألفي نسمة إلى ثلاثة آلاف ساكنين في الجبل الأعلى من ديار حلب، وقد كان لعهد الأمير بشير الشهابي أن رحل منهم جملة غير قليلة إلى جبل لبنان لم تزل أعقابهم هنا بسبب محنة شديدة نالتهم هناك، كذلك في الشام وغوطتها؛ حيث يظهر أن الدروز كانوا كثيرين ولا سيما في محلتي باب المصلى وباب السريجة وفي الشاغور، ويُقال إنهم كانوا ألوفًا فلزم أكثرهم مذهب السنة والجماعة ورحل الباقون ولم يَبْقَ في نفس الشام أكثر من ثلاثمائة نسمة، وإنما في غوطة الشام فمنهم أهل قرية جرمانا والأشرفية وصحنايا ودير علي وغيرها.

ويُحكَى عن كثير من قرى جبل صفد والكرمل أنها كانت تلقت الدعوة في أول الأمر، ثم رجعت إلى السُّنَّة بعد مدة طويلة؛ ولذلك لم يَبْقَ إلا أهل يركا وجولس وحي من شفا عمرو في الساحل، وأهل بيت جن وحرفيش في جبل صفد، وأهل الرامة والمغار في شاغور عكة وشفا طبرية وأهل الدالية وعسفيا في جبل الكرمل فوق حيفا، ويُقال لدروز جبل لبنان: آل عبد الله، ولدروز وادي التيم: آل سليمان، ودروز جبل صفد: آل تراب.

وقد تكاثر الدروز في جبل حوران بعد أن لم يكن منهم أحد هناك منذ قرنين؛ وذلك أنه سنة ١٧٠٧ لما كانت الفتنة بين القيسية واليمانية وظهر القيسية على اليمانية في واقعة عين دارة، وانكسرت شوكة اليمانية وتأثرهم القيسية في كل مكان قتلًا وتعذيبًا، وتمادوا في إعناتهم اختار هؤلاء الرحيل عن أوطانهم، فجلا في البداية بنو حمدان من قرية كفرة الغرب بقرب عيناب، وتبعهم أهل تلك القرية وخربت كفرة من ذلك الوقت ولم تزل آثارها، ثم تبعهم جم غفير من سائر الجهات التي فيها يمنية وقصدوا جميعهم لجاة حوران، وأخذوا ينسلُّون إلى تلك الجهات مشاة وعلى كل ضامر، حتى صاروا إلى ما صاروا إليه اليوم من القوة والكثرة.

فأصل دروز حوران يمانية؛ ولذلك باقية لهم اصطلاحات وعوائد مأخوذة من تلك الفرقة، والظاهر أن ابن حمدان الذي كان مقدم القوم كان رجلًا حسن السياسة في قومه؛ فإن أمورهم استتبت في أيامه حربًا وسلمًا، وصارت تلك الجهة مقصودة من الدروز، وساعد على عمارتها بهم خصب أراضيها المفرط.

وتقوى الدروز هناك وبعدت سطوتهم، ومع هذا فلم يشتهر أمرهم في حوران إلا منذ أيام إبراهيم باشا — ابن محمد علي — وذلك حين عصاه الدروز في أكثر الجهات؛ فوجَّه إليهم قوة عظيمة لمحاربتهم، وبعث إلى دروز حوران عسكرًا فاعتصبوا مع عرب السلوط واعتصموا باللجاة، فتوغل العسكر في اللجاة فقاتلوه وكسروه وقتلوا منه خلقًا كثيرًا، فأرسل إليهم قائدًا يُسمَّى محمد باشا بعسكر وافر؛ فقاتلوه وقتلوه وقتلوا من عسكره خلقًا كثيرًا، فكتب إبراهيم باشا إلى محمد علي أبيه يخبره بحكاية الدروز ويطلب منه عسكرًا من الأرناووط؛ لأن العسكر النظامي يتعذَّر عليه الحرب في الوعر، فأرسل العزيز أربعة آلاف أرناووطي يقودهم قائد اسمه مصطفى باشا، فانضمَّ إلى الجيش الذي كان يحاربهم، فكسروهم هذه المرة أيضًا وملأوا أخاديد اللجاة من قتلى العساكر المصرية، وكان ذلك سببًا لطمع بقية أهل سورية في قوة إبراهيم باشا لما رأوا أن ثلاثة آلاف من الدروز هزمت هذه الجيوش العديدة من عسكر إبراهيم باشا الذي كادت لا تنهزم له راية.

ومع ثورة دروز حوران ثار دروز لبنان ووادي التيم وأَصْلَوه حربًا عوانًا حضر إبراهيم باشا بعض وقائعها بنفسه. وأشهر هذه الوقائع وقعة وادي بكا التي قاوم فيها خمسمائة من الدروز بضعة عشر ألفًا أطبقوا عليهم من كل جانب تحت قيادة إبراهيم باشا ومصطفى باشا الأرناووطي، وذلك منذ الصباح إلى غياب الشمس حتى لم يَنْجُ منهم سوى عشرين رجلًا اخترطوا السيوف واخترقوا الصفوف وكانت نجاتهم إحدى الغرائب، ومن ذلك الوقت خصوصًا اشتدت هيبة الدروز في القلوب، وكانت قبائل العرب من قبل تعبث في نواحي المعمورة وتضرب عليها الجزى، فلما استفحل شأن الدروز خضدوا شوكة العرب وأراحوا الحضر من عيثهم.

ثم لما كان الدروز أهل حراثة وزرع طبقوا ذلك الجبل بالعمل، بحيث صار إيراده اليوم ثلث إيراد لواء حوران بأسره، ولواء حوران هو أنباء سورية، وعليه فأكثر دروز حوران أصلهم من لبنان، ثم من وادي التيم وعلى الخصوص من راشيا، ثم من جهات حلب، ثم من جهات صفد، وقد زاد نُموُّهم هناك بطيب البقعة وخصب الأرض ونقاوة الهواء؛ فتجد أجسامهم على جانب عظيم من الصحة والقوة، وقلما يوجد عشيرة أو أسرة في جهة من جهات الدروز إلا وُجِد لها أنسباء في الجهات الثانية؛ وذلك لكونها طائفة منحصرة ولكون عددها قليلًا بالنسبة إلى الطوائف الكبرى، وإن كان لها شأن في تاريخ سورية فلعصبية أفرادها وشدة بأسها وتوفر صفاتها الأدبية.

واختلفت الأقوال في هل يوجد في غير سورية من هم على مذهب الدروز أم لا، والظاهر أنه يوجد طوائف عديدة خارجًا عن سورية إن لم تكن على مذهب الدروز فهي تشابهها في المعابد، وفي بعض الفروع وتدين بحب آل البيت، ويُقال إن في الهند وجبال هندكوش أيضًا مئات من الألوف يكتمون معتقدهم كالدروز، ويجتمعون للعبادة ليلة الجمعة، وهم هناك في غاية الصولة والشدة، وفي حروب دائمة مع مجاوريهم من المجوس، ومن الذين يشبهون الدروز في بعض الأحوال المذهبية خارجًا عن بر الشام قبيلة عرب بني لام في العراق والله أعلم.

والدروز في الغالب أهل حراثة، لا يشتغل بالصناعة والتجارة إلا النذر القليل منهم، وكان في الماضي ذلك فيهم أقل؛ إذ كانوا لا يتعاطون إلا القتال، على أنهم الآن أخذوا يقتدون بأبناء وطنهم، وعندما انفتح باب المهاجرة في طلب الرزق إلى أميركا وأصقاع الغرب رحل منهم جماعة وافرة نظير غيرهم، ولا سيما في هذه السنوات المتأخرة.

وعندهم قابلية غير قليلة للتعلم، وقد أخذ أعيانهم منذ مدة يعتنون بتربية أولادهم في المدارس، فتجد منهم الآن عدة من أرباب القلم ومن العارفين باللغات الأجنبية، وهم يزدادون إقبالًا على العلم اقتداءً بغيرهم، على أن طلب العلم فريضة عند الدروز، والقراءة والكتابة لازمتان بحكم الدين للذكور والإناث؛ فالأميون منهم قد خالف آباؤهم النصوص الدينية في عدم تعليمهم. وعليه، فيكون قد سبقوا أشد الأمم أخذًا بأسباب التمدن والحضارة إلى فرض التعليم، وهم ينقسمون إلى طبقتين: عقال، وجهال. فالجهال من جهلوا أسرار الدين، والعقال — ويُقال لهم أجاويد — من عرفوها، وهؤلاء من الورع والتقوى والمعرفة في الدين درجات، وللنساء العقل في الدين كالرجال، وليس لجاهل أن ينتظم في سلك العقال إلا بعد التماسه ذلك مرارًا من شيوخ قريته العقلاء، وليس لهم أن يسلموه الدين إلا بعد أن يروا بأعينهم زكاء سيرته، وكلما صلحت أحواله كانت طبقته في العقل أعلى، وكلما تجافى العاقل عن أمور الدنيا وأشيائها ازدادت الثقة به وشُدَّت الرحال إليه، وكلما استرسل في الاشتغال بها سقطت منزلته وضعفت الثقة فيه، وقيل عنه إنه جسماني. ولذلك يرفض كثير من أهل الورع فيهم المناصب والأحكام حتى المناصب الدينية نفسها؛ لما تقضي من المداخلة بين الناس ومعاشرة الحكام.

وبالإجمال، فإن رجال دين الدروز هم أقل الناس تداخلًا بأمور الدنيا والسياسة، وفي ليلة كل جمعة ينضمون إلى مجالس خلواتهم لاستماع قراءة الكتب الدينية، وانصرافهم من تلك المجالس يكون بحسب درجاتهم في الدين، فمنهم من يُبكِّر في الانصراف، ومنهم من ينصرف في وسط السهرة، ومنهم من ينصرف في آخرها، وليس للجهال أن يحضروا مجالس الدين إلا ليلة العيد، والعيد عندهم هو عيد الأضحى، وفي منع الجهال عن حضور هذه المجالس انطباق على ما ذُكِر عن الحسن الصباح من منع العوام عن الخوض في العلوم، وكذلك الخواص عن مطالعة الكتب القديمة إلا من عرف كيفية الحال في كل كتاب ودرجة الرجال في كل علم.

ولا شك أنه إن كانت الدرزية فرعًا من الباطنية فقد خالفتها في كثير من العقائد وانفردت بعدة خصائص وباينت أصلها في أكثر من واحد من المنازع التي تخالف السنة والجماعة.

ثم إن العقال يجب عليهم التأني والرزانة والعفة وصون اللسان من كل شتم وسباب وطعن، وعدم المبالغة في الكلام وعدم التهور في الأعمال والأقوال، والتزام الصدق في اللفظ والبساطة في المأكل والمشرب والمفرش، واجتناب المسكرات والتدخين والسحت؛ أي: المال الحرام، والمال الحرام هو ما اكتُسِب بالحيلة والظلم والكذب؛ ولذلك يتجنَّب الأجاويد أن يأكلوا من بيوت من يشتبهون أن في أمواله ما لم يحصل بطرق شرعية، وإذا التزموا أخذ مال ظنوا فيه مدخلًا للحرام بدلوه بمال يعتدونه حلالًا أو صرفوه في غير المصاريف الضرورية، وقيل إنه لا يجوز أن يُنفَق في الغذاء، وإنما يجوز أن يُنفَق في الكساء، وفي العقال من آثار الأدب والحشمة وحسن السلوك ما يدل على أنهم مسوقون إلى ذلك بحكم الدين.

وأما الجهال فلا يتناولون من الأحكام الدينية إلا العامة منها وليست تكاليفهم كتكاليف العقال، فلا يُؤاخَذون فيما يُؤاخَذ فيه هؤلاء ولكنهم من حيثيات عديدة تكاليفهم واحدة، وجميع الدروز لا يجمعون بين الزوجين ولا يردون طالقًا وليس عندهم الرقيق، والعقال يتعممون بالعمامة البيضاء ويلبسون القبأ والعبأة ويطلقون العذار، ويُسوَّغ ترك ذلك لذي منصب قضت عليه أحوال منصبه بتغيير زي العقال هذا. وأما النساء فلهن النقاب وثوب يُقال له: صاية، وفي أكثر الأماكن يغطين أوجههن بمنديل، ولا يتركن سوى إحدى العينين لرؤية الطريق.

وأكثر العقال يحلقون رءوسهم، ومن خالف منهم هذه القواعد فإن المتشددين في الدين منهم ينكرون ذلك منه، وللدروز كافة رؤساء في الدين في كل مكان، فلهم في لبنان رئيسان يُعرَفان بشيخي العصر؛ أحدهما جنبلاطي والآخر يزبكي، وربما كان ذلك مراعاة لحزبين مشهورين في الجبل، وهما الجنبلاطية وعمادهم آل جنبلاط، واليزبكية وعمادهم آل عماد. ومقام الرئيسين في الشوف يقضيان في الأمور الدينية الكبرى، وتُستأنَف عندهما أحكام قاضي مذهب الدروز، ولهما الملاحظة العليا على الخلوات والمجالس والأمور الدينية وتزكية العقال وتجريحهم، وانتخابهما يقع باتفاق أكابر القوم من الأكفاء لمثل هذا المنصب بالنظر إلى التقوى والورع في الدين، واستقامة المسلك والمعارف الدينية والآداب خالية من شائبة النفج والمفاخر الظاهرية.

وفي القرى أشياخ عقل يقومون بإدارة شئون الدين ويديرون الأوقاف، وأشياخ خلوات يقومون بإدارة أمور الخلوات، والخلوات عندهم أماكن الاجتماع الديني ولها أوقاف كثيرة، وهي على قسمين: قسم منها لاجتماع أهل القرى وهي المجالس العمومية التي يغشاها العقال كل ليلة جمعة، وقسم آخر وهو وإن أيضًا مباحًا الدخول فيه لكل العقال فإن أصحابه انقطعوا فيه إلى العبادة بمثابة الأديار عند النصارى.

والقرى أنواع في الاجتماع، فمنها ما يجتمع عقالها كلهم في مجلس واحد، ومنها ما ينقسم عقالها إلى مجلسين أو مجالس متعددة، إما لكثرة عدد الحضور أو لوجود انشقاق بين العيال.

وأشهر خلوات الدروز هي خلوات البياضة في ظاهر حاصبيا وأمور الدين، والخلوات راجعة إلى أشياخ العقل في كل قرية، وهؤلاء يرجعون إلى الشيخين الكبيرين اللذين ذكرناهما، وهما الآن في جبل لبنان: الشيخ محمد حمادة من بعقلين، والشيخ محمد طليع من جديدة الشوف. وفي جبل حوران الشيخ أحمد الهجري والشيخ حسين طربية والشيخ خطار الحناوي، وفي بلاد صفد الشيخ طريف المحمد، وفي غوطة الشام الشيخ صالح الجرماني، ويوجد أشياخ آخرون لكن شيخَي الشوف هما أعلاهم كلمة؛ لأن الدروز يعتقدون أن مركزهم الأول هو في الشوف وأن أكابرهم هم في جبل لبنان، ورؤساؤهم في كل محل يعترفون بسيادة رؤسائهم في لبنان.

وليس في منهاجهم الديني ما ينقض أسباب ائتلافهم مع غير أهل مذهبهم ولا الانقياد إلى الحكام، بل هو بعكس ذلك يمهد سبيل الارتباط بين الجماعات وينافي التحزب الديني، كما يظهر ظهورًا واضحًا من سير أشياخ العقل فيهم ومعاملة كبرائهم لمن ساكنهم من النصارى وغيرهم، فإن كثيرين من نصارى الأنحاء الشمالية في لبنان جلوا عنها في أوائل القرن السابع عشر فرارًا من بعض المظالم، ولجئوا إلى الأنحاء الجنوبية التي كانت في يد أكابر الدروز، فشاد لهم هؤلاء الأعيان الكنائس وعاونوهم في أمور دينهم ووقوهم من التعدي وآسوهم بالأموال. وذلك لسببين؛ أحدهما: أن الدروز كانوا لا يعتنون إلا قليلًا بالزراعة والفلاحة والصناعة، فاحتاجوا إلى النصارى لأجل عمارة بلادهم. والثاني: وهو الأهم في ما يُقال، انتهاء الدعوة الدينية عندهم، وإغلاق أبواب الآمال دون الاستزادة في عدد أبناء طريقتهم، فحفظوا دينهم لأنفسهم وسلكوا مع غيرهم السبيل الذي يسلكونه في معاملة بعضهم بعضًا إلا فيما ندر من الأمور المنصوص عليها عندهم؛ ولذلك قلَّما تجد عاقلًا من عقال الدروز يجادل في الدين مع شخص خارج عن ملتهم، فإن هذا ممنوع عندهم منعًا قطعيًّا.

كذلك هم مأمورون دينًا بالجهاد وإطاعة الحكام؛ عملًا بقوله تعالى: وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ الآية؛ ولأجل ذلك كان لهم في المجاهدات قدم الصدق، وبالإجمال فإن منهاجهم يحظر عليهم الخروج على الحكام والعداوة مع بقية الطوائف، وما صدر من أفعال بعضهم خلافًا لذلك هو مخالف لأصول دينهم، ومَنْشؤه إما الغباوة وقوة النفوس الغضبية، وإما أسباب أخر حدتهم إلى الأخذ بالثأر، ولا يُنكَر أن الأخذ بالثأر عندهم أمر غريزي يشابهون فيه أهل البادية، ولكن قلَّ فيما بينهم الآن عندما انتظمت أمورهم مع أمور غيرهم بحكومة نظامية، وهذا الميل فيهم عام سواء مع أبناء دينهم أو مع غيرهم.

والظاهر أن قلة عددهم دعتهم إلى الدفاع عن أنفسهم بشدة وحزم، فإنهم مع انقسامهم في أكثر الأماكن إلى فئتين إذا تعدَّى عليهم متعدٍ من الخارج اتفقوا عليه، وإذا كانت الأسرة الواحدة منشقَّة، فإذا طرأت عليها خصومة من أسرة ثانية انضمَّت كلها يدًا واحدة ضد من ناوأها، وما حدث بينهم وبين النصارى في الحوادث الثلاث من سنة ١٨٤٠ إلى سنة ١٨٦٠ إنما حدث لأسباب سياسية بين الفئتين، وكانت الحادثة الأخيرة حادثة الستين التي نشأ عنها تداخل أوروبي، فوضعت الفتنة أوزارها عن نظام لبنان الحالي، وزالت بعد ذلك الأحقاد من القلوب وتراجعت مياه الصفاء إلى مجاريها، وعاد الفريقان إلى ما كانا عليه من الائتلاف، والدروز موصوفون بالشجاعة والإقدام، ولهم غرام بذكر الحروب والوقائع وميل عظيم إلى الفتوة، وشدة اعتقادهم بالقضاء والقدر مع انقيادهم إلى رؤسائهم، وطاعتهم لكبرائهم تمهد لهم في الغالب سبيل الفوز.

ومما ينبغي أن يُذكَر لهم أنهم في حروبهم لا يتعرضون أصلًا لما يمس الآداب، وما سُمِع أنهم سطوا على العرض ولا قتلوا النساء ولا الأطفال، وربما احتمى نساء أعدائهم ببيوتهم بعد قتل بعولتهن، ورائين منهم غاية الرفق والإنسانية؛ وذلك لأن الدروز شديدو التمسك بالناموس الأدبي، فلا يسطون على أعراض غيرهم وعندهم احترام للحريم.

وإذا بحث الباحث في عامة أخلاقهم لم يجد منها ما ينكر، بل رأى الناموس سائدًا فيها وألفى كثيرًا من الآداب الحسنة والفضائل، ومن داخلهم وجد بينهم في كل محل أناسًا من أهل الورع الحقيقي والنزاهة التي لا ريب فيها.

ومما يُذكَر في تواريخهم أن فرقة منهم اسمهم السكينية، وهم من أتباع الدرزي السابق الذكر، خرجت في نواحي وادي التيم وخالفت جماعتهم في بعض العقائد وأتت بعض الأعمال المنكرة؛ فقاموا عليها جميعًا وما زالوا يضربونها بحد السيف حتى استأصلوها عن بكرة أبيها ولم يَبْقَ منها أحد الآن.

ومما يُوصَف به الدروز مزية الكرم والاحتفاء بالضيف، ولا غرو فهذه من العادات الشرقية التي يفتخر بها أهل الشرق جميعًا، وحيث كان الدروز أصلهم من العرب كانت هذه العادة فيهم كعادة حب الثأر واقتضاء الأوتار.

وقد كان بين الدروز انقسام قديم تناول ما جاورهم من الطوائف، وهو إلى قيسي ويمني، فكان من القيسية الأمراء التنوخية والمعنية، وكان من اليمانية الأمراء آل علم الدين، وكان الأمراء الأرسلانيون أميل إلى اليمانية منهم إلى القيسية، ومثل هذا الانقسام كان في عرب الأندلس، وسبَّبَ حروبًا كثيرة هناك وأسال جداول من الدماء بين القيسية أو المضرية واليمانية أو القحطانية.

وقد نشأت عن هذا الانشقاق فتن كثيرة في لبنان وأطراف سورية، وانتهى ذلك في واقعة عين دارة، حيث اضطرب حبل اليمانية ورحل قسم منهم من البلاد فتلاشى الانقسام، ولما كان الحكام في ذلك الوقت لا يمكنهم الحكم بغير الانقسام أخذوا يهيئون أسباب انقسام آخر، ولم يزالوا إلى زمن الشيخ علي جنبلاط والشيخ عبد السلام العماد، وكانا في عصرهما حائزين نفوذًا تامًّا، فانقسمت البلاد إلى قسمين، سُمِّي أحدهما بالجنبلاطي والثاني باليزبكي، فالجنبلاطي يرأسه آل جنبلاط واليزبكي يرأسه آل عماد منذ ذلك الوقت.

ومن العشائر المعدودة في رؤساء اليزبكية آل تلحوق وآل عبد الملك، وبقي هذا الانشقاق مشتدًّا والحكام في لبنان يقاومون هذا الحزب بذلك الحزب، حتى إذا اشتدَّتْ شوكة هذا رجعوا إلى مصالحة ذاك وعكسوا القضية حتى فشا انقسام آخر بين عامة الدروز وهو الصمدي والشقراوي؛ وذلك أنه يوجد عشيرتان في قرية عماطور يُقال للواحدة منها: بنو عبد الصمد، وللثانية: بنو أبي شقرا. وهما متكافئتان في القوة وفي أكثر الأحوال، وقد حصلت بينهما فتن ومشاغبات، ولا تزال المناظرة بينهما، فانقسم الأهالي بهذا السبب إلى قسمين شقراوي وحمدي، وتغلَّب هذا الانقسام على اليزبكي والجنبلاطي، ولكن عاد الانقسامان إلى واحد تقريبًا؛ لأن أكثر الحزب الصمدي هم يزبكية وأكثر الحزب الشقراوي هم جنبلاطية.

ولم تنحصر هذه الفِرَق في الدروز وحدهم، بل تتناول من جاورهم من المسلمين والنصارى، فتجد هذا الميل في كل محل من جنوبي لبنان وأواسطه، وفي وادي التيم شيء منه، أما دروز حوران وصفد فلا يعلمون هذا الانقسام.

وللدروز محافظة عظيمة على الأنساب والدرجات؛ فتجدهم طبقات، كل طبقة لا تزوج الطبقة التي دونها، ولم ينحصر هذا في مشايخهم بل تراه في عامتهم. فقد يمضي مئات من السنين على عائلتين متساكنتين في محل واحد ولا تزوج إحداهما الأخرى، والسبب في ذلك كون إحداهما أشرف أصلًا من الأخرى، وإذا خالف أحد أفراد تلك العائلة مشرب أهله وأنكح من ليس من طبقتهم تبرءوا منه ولم يعتبروه واحدًا منهم، كذلك التقدم في الاجتماعات والمشي والتوقيع. وكتابة الأسماء في الدفاتر السلطانية له قواعد عندهم مرعية أكثر من غيرهم لا يتسامحون فيها، فتجد كل فيئة عارفة حقَّها لا تعتدي على من فوقها، ولا تدع من تحتها يعتدي عليها، والتقدُّم بعد الأمراء هو للمشايخ الجنبلاطيين، ثم إلى المشايخ العماديين، ثم للنكديين، ثم للتلاحقة، ثم للملكية، ثم لبني العيد — وهؤلاء هم أصحاب المقاطعات. ثم يبتدئ المشايخ الذين ليسوا بأصحاب عهدة أي إقطاع وهم طبقات أيضًا، وينتهي ذلك إلى العامة، وقد أُلْغِيَت امتيازات أصحاب الإقطاعات بحسب نظام لبنان، وقد صار الحكم للقانون، وأما في حوران فلا عبرة بالأنساب في الغالب، والدروز هناك تقريبًا كلهم أكفاء؛ فتجد ابن الأطرش من أعظم مشايخهم يتزوج من العامة ويزوجهم، والسبب فيه عدم قدمية عيال الدروز في حوران وأن مركز مشايخهم الاجتماعي إنما حصل من عهد قريب بالتغلب والقوة. وأشهر عشائر الدروز في حوران: بنو الأطرش، ثم بنو عامر، ثم بنو أبي عساف، ثم بنو هنيدة، ثم بنو نصار، ثم بنو عزام … إلخ.

أما ديانة الدروز فقد اختلفت فيها الأقوال، والراجح أنها طريقة من طرق أهل الشيعة، والدروز يعترفون أنهم خرجوا من الشيعة، ويُقال: من الشيعة السبعلية؛ أي: أصحاب الأئمة السبعة. ولا شك أن هذا المذهب فرع من التشيع؛ لأنه ما ظهر إلا في أيام الخلفاء الفاطميين في مصر، وأن روحه هو التعظيم لآل البيت النبوي، وعلى الخصوص فاطمة الزهراء رضي الله عنها. وقال بعضهم إنها طريقة احتوت على بعض آراء فلسفية وأصول حكمية امتزجت بعقائد إسلامية، وبالإجمال فهذه الفرقة متشعبة من الدرجة الإسلامية التي تعدَّدت أغصانها وكثرت فروعها، وقد نال الدرزية في بداية ظهورها اضطهاد كبير، وتعقَّب الحكامُ أبناءَ دعوتها في كل مكان. والظاهر أن ذلك الاضطهاد في ذلك الوقت اضطر أبناءها إلى الاعتصام بالجبال واتخاذها مساكن لها، وكان هو السبب في كتمان مذهبها حتى صار الكتمان عند أبنائها قاعدة دينية، ويُقال لهم: بنو معروف، وهم يقرون بالشهادتين ويقولون: نحن مسلمون. ويكرهون عبادة الأصنام كراهة شديدة، ونسبة عبادة العجل إليهم خطأ فاحش؛ فإنهم يؤمنون بأن الله إله واحد لا بداية له ولا نهاية، ويؤمنون باليوم الأخير وبالقدر خيره وشره، وأن الله تعالى عَدْل في أفعاله متصرف في مِلكه ومُلكه، يفعل ما يشاء ويحكم كما يريد، ويعتقدون بأن القرآن الشريف قديم مُنزَّل، ولكنهم يخالفون أهل السنة في تفسير بعض آياته. وهم يحثون على العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى والمسكين، ويُحرِّضون على نيل المعارف وحسن السلوك والألفة، وللعقال فيهم فضائل بادية. وهم مأمورون باجتناب الكذب والقتل والفسق، والزنا والسرقة والكبرياء، والربا والغش، والغضب والحقد والنميمة، والفساد والخبث والحسد، وشرب الخمر والغيبة، وجميع الشهوات والمحرمات والشبهات، والتجافي عن الهزل والسخرية والهزء وجميع المضحكات، والامتناع عن الحلف بالله صدقًا أم كذبًا، والسب والقذف والدعاء على الناس بالمضرة. ومن قتل منهم قتيلًا في غير حرب شرعية أو ارتكب الزنا فلا يمكن قبوله في المجالس أصلًا إلا إذا تأكدت توبته، وتحققت ندامته، وزكت سيرته.

وليس لعاقل أن يخلو بامرأة ولا أن يرد تحيتها ما لم يكن بينهما ثالث، وكل عاقل أتى منكرًا عُزِل عن مجلس العقال وبقي معزولًا حتى تحققت توبته وندامته، وإذا مات أحد الجهال لا يجوز للعقال أن يزكوه علنًا على المقبرة، ولا أن يستمطروا عليه الرحمة، وإذا مات عاقل مشتبه في تقواه أيضًا امتنع العقال المتشددون عن طلب الرحمة له جهارًا، وذلك كله فيما يظهر لأجل تحريض الناس على اجتناب المعاصي والتزام السيرة المَرْضية، وهم يؤمنون بالأنبياء وبالسيد المسيح منفيًّا عنه الألوهية والصلب. ومن جملة عوائدهم أنهم يوصون بأموالهم وأملاكهم إلى من شاءوا؛ ولذلك منحتهم الدولة العلية أن ينفذوا وصاياهم بقاضٍ نُصِّب لهم وهو الآن في لبنان الشيخ سعيد حمدان، وفي حاصبيا الشيخ حمد قيس، أما الوصية فالمصطلح عليه فيها أن يُتلَى صكُّها عند القبر بعد دفن الموصي على مسمع جميع الحضور، وهم في الغالب يوصون للذكور من أولادهم وأعقابهم، أما الإناث فيوصون لهن براتب يُدفَع إليهن إذا خَلَوْن من الزوج؛ ومن أجل ذلك يندر أن تكون امرأة منهم ذات ثروة عظيمة. وشعائرهم في الزواج والطلاق والصلاة على الجنائز والختان كشعائر المسلمين، ولكن جَرَت العادة عندهم أن لا يَرُدُّوا طالقًا، ولا يَجْمَعوا بين زوجين، وقد أُمِروا بالصلاة والصيام وحفظ القرآن الشريف، وهذا ملخص ما نعلم من خبرهم. ولما كان الأمراء التنوخيون هم أشهر أمراء هذه الطائفة نبتدئ بذكرهم، فنقول …

(٥) الأمراء التنوخيون القيسيون

إن الأمراء التنوخيين القيسيين في جبل لبنان يُنسَبون إلى تنوخ بن قحطان بن عوف بن كندة بن جندب بن مذجح بن سعد بن لحي٣٣ بن تميم بن النعمان بن المنذر٣٤ بن ماء السماء اللخمي، وتنوخ اسم كان قد أُطْلِق في الزمن القديم بحسب أقوال المؤرخين على قبائل من العرب، ثم على ثلاث من العرب المتنصرة بهراء وتغلب وتنوخ، ثم خُصَّتْ به قبيلة النعمان بن المنذر ملك الحيرة؛ لتقدُّمها على بقية القبائل في السؤدد والشرف.

وواقع الحال في ذلك، كما رواه المؤرخون، أنه لما كثر ولد معد بن عدنان ونَمَت القبائل التابعة لهم وأضرَّت بهم الحروب ضررًا بليغًا خرجوا يطلبون الريف في ما يليهم من اليمن ومشارف الشام، وأفلت منهم قبائل حتى نزلوا بالبحرين وبها جماعة من الأزد، وكان الذين أقبلوا من تهامة مالكًا وعمرًا ابني فهم بن تيم الله بن أسد بن وبرة بن قضاعة ومالك بن زهير بن عمرو بن فهم في جماعة من قومهم، والحيقاد بن الحنق بن عمير بن قبيصة بن معد بن عدنان في قبيص كلها، ولحق بهم غطفان بن عمرو بن الطمثان بن عوذ مناة بن يقدم بن أقصى بن دعمي بن إياد بن نزار بن مسعد بن عدنان وغيره من إياد، فاجتمعت هذه القبائل بالبحرين، وتحالفت على التنوخ وهو المقام، وتعاقدت على التناصر والتساعد؛ فصارت يدًا واحدةً مضمومة باسم واحد وهو تنوخ، والتحم بها بطون من نمارة بن لخم وجذيمة الأبرش بن مالك بن فهم بن غنم (والصواب: عمم، كما في كتاب الاشتقاق لابن دريد) بن أوس الأزدي.

وتزوج لميس أخت مالك بن زهير، فأجمعوا على المسير إلى العراق طامعين أن يغلبوا على الأعاجم في ما يلي بلاد العرب، أو يشاركوهم فيه، فطلع الحيقاد بن الحنق في جماعة من قومه وأخلاط من الناس فألفوا الأرمانيين يقتتلون مع الأردوانيين، ثم طلع مالك وعمرو ابنا فهم بن تيم الله وغيرهم من التنوخ إلى الأنبار على ملك الأرمانيين، وطلع نمارة وقبيله على ملك الأردوانيين ففازوا بالغلبة على تلك البلاد، فنزلت تنوخ من الأنبار إلى الحيرة في الأخبية، فأقروا لنفسهم الملك.

فكان أول من ملك منهم مالك بن فهم، ثم أخوه عمرو بن فهم، ثم جذيمة الأبرش الذي كان أبرص ودعته العرب أبرش لكرهها أن تدعوه أبرص، ثم ملك بعده عمرو ابن أخته رقاش التي خطبها عدي بن نصر بن ربيعة بن عمرو بن الحارث بن مسعود بن مالك بن نمارة بن لخم إلى أخيها جذيمة الملك عندما كان متوليًا مجلس شربه فسقاه عدي صرفًا حتى أخذت الخمرة فيه، ثم خطبها إليه فأملكه إياها، وعمرو ذلك كان أول من اتخذ الحيرة منزلًا في ملوك العرب، وقد طال ملكه فبلغ أيام أردشير بن بابك وابنه سابور، ثم سرى الملك في ولده إلى أن كان آخرهم النعمان بن المنذر إلى أيام ملوك كندة.

ففي أيام أردشير بالعراق خرج من تنوخ من كان من قضاعة إلى الشام كرهًا للمقام تحت نير سلطة أردشير، ودان له أهل الحيرة والأنبار، ثم إن الملك كسرى أوجس في ما يظهر خيفة من اتساع سلطة النعمان الأكبر، ونما قبائله فعمل على إذلالهم؛ فوقع بينه وبينهم خصام شديد أدى بهم إلى العصيان عليه فسيَّر إليهم ابنه شيرازان بجيش جرار لمعاقبتهم، فطلع عليه الملك النعمان بأبطاله وحدثت بين الفريقين معركة هائلة كان الفوز فيها للنعمان، فانهزم الفرس شر هزيمة، وقُتِل شيرازان.

ولما نُمِّيَ الخبر إلى كسرى اضطرب وخشي سوء العاقبة، ولكنه عقد النية على أن يثأر لابنه؛ فأرسل إلى النعمان سفيرًا في الصلح، واستقدمه إليه لإبرام معاهدة التحالف والمصادقة، فقدم إليه بهدايا فاخرة وتحفٍ نفيسة مخدوعًا بما رأى وسمع، ولما صار بين يديه أمر به فطُرِح للفيل فداسه بقدميه حتى أماته، وفرح كسرى لنيل أمانيه.

ولما سمع قوم النعمان بما حل به ملَّكوا عليهم المنذر بن النعمان واستأنفوا القتال أخذًا بثأر ملكهم فلم يفلحوا، ثم اتفقوا على ترك الديار فذهب فريق منهم إلى الموصل وما بين النهرين وأقام هناك، وسار الملك النعمان بن المنذر باثنتي عشرة قبيلة إلى نواحي حلب، وسكنوا البرية التي بين حلب ومعرة النعمان.

وبعد ذلك بنحو مائتي سنة أي عند ظهور الإسلام قدمت القبائل التي سكنت فيما بين النهرين وانضموا إلى إخوانهم بجوار حلب، وسكنوا جبلًا في ظاهر المعرة يُقال له: الجبل الأعلى، وهناك اشتهر منهم قبيلتا بني تنوخ وبني ربيعة اللتان نبغت منهما الأمراء التنوخيون والأمراء المعنيون الذين ملكوا لبنان زمنًا طويلًا.

فتوطَّنَتْ تلك القبائل في ذلك الجبل، وزرعت أراضيه، وأتقنت صناعة البناء فيه، وبنت الحصون والمعاقل. ولما تُوفِّي ملكهم النعمان الأصفر شادوا له حجرة عظيمة فوق ضريحه لم تزل باقية إلى اليوم، وعلى توالي الأيام نَمَتْ تلك القبائل نموًّا عجيبًا، وامتدَّتْ سلطتهم، ووقعت هيبتهم في قلوب مجاوريهم، وحدث أن والي حلب في تلك الأيام أرسل جابيًا من ذوي قرباه إلى تلك القبائل العربية لجمع مال الجزية المرتب عليهم، ولما صار الجابي بينهم أبصر فتاة عربية بارعة الجمال، فافتُتِن بها وأجاب داعي الهوى فقضى منها وطرًا، ولما عرف الأعراب بذلك ثارت في رءوسهم سورة الغيظ، وهم على ما هو معروف من أمرهم في شدة الذود عن الحريم، فاستلَّ أحدهم الأمير نبا سيفَه وضرب عنق الجابي فقطعه، ثم خاف الأمير نبا عاقبة الأمر فجمع عياله وأصحابه وهرب بهم إلى شمالي لبنان؛ فأحسن أهله استقباله واحتمى عندهم، وشاد هناك قرية عُرِفَتْ به وسُمِّيَتْ قصر نبا،٣٥ وأما والي حلب فأرسل، فقبض على كثيرين من قبيلته وساقهم إلى السجن مكبلين بالحديد، وضرب على أصحابهم مالًا يؤدونه؛ فاضطر باقي الأمراء أن يبسطوا لهم يد الرفد حتى رضي الوالي عنهم.

ثم وقعت بعد ذلك النفرة والشقاق بين العرب وصاحب حلب؛ فكره العربُ المقامَ في تلك الأنحاء وجعلوا يستعدون للرحيل. ولما كانت السنة التالية من ذلك، وهي سنة ٨٢١ب.م، رحل أكثر تلك القبائل العربية من جوار حلب والمعرة إلى نواحي لبنان، وكان القسم الشمالي من لبنان في يد المردة الذين غلب عليهم لقب الموارنة، كما تقدم ذكر ذلك في محله، وكانت لهم شوكة قوية وصيت بعيد، وأما القسم الجنوبي وهو المشتمل على سلسلة الجبال الممتدة فوق مدينتَي بيروت وصيدا، فكان خاليًا من السكان إلا من بعض النصارى الذين فرُّوا إلى بعض الأماكن فيه أيام الفتح الإسلامي؛ وذلك أنه في السنة الثالثة عشرة من الهجرة الموافقة سنة ٦٣٤ب.م جهز أبو بكر الصديق العساكر من مسلمي العرب لفتح بلاد الشام وجعلهم فرقًا؛ فكان عمرو بن العاص لفلسطين، ويزيد بن أبي سفيان لحمص، وشرحبيل بن حسنة للبلقاء، ورئيسهم أبو عبيدة بن الجراح. ثم أرسل خالدَ بن سعيد بن العاص إلى سماوة، فالتقى بالرومان على الطريق فهزمهم إلى دمشق، وكانت دمشق في ذلك الحين مدينة حصينة جدًّا قد وضع بها ملوك الروم معظم قواتهم لصدِّ هجمات الفاتحين، فلبث الحرب بينهم مدة طويلة. وفي السنة الثالثة من الفتح أخذ المسلمون دمشق، فدخلها أبو عبيدة من جهة وخالد بن الوليد من جهة أخرى، وقد عاهد أهلها على حمايتهم ثلاثة أيام على أن يخرج منهم من لا يرغب في أداء الجزية، ويبقى من رغب في أدائها، فبقي من بقي وأدى الجزية وتمتع بحريته الشخصية، وخرج بعض إلى لبنان وتوطَّن فيه لعدم بلوغ سيف الفاتحين إليه، وبعد الاستيلاء على دمشق عزم المسلمون على توسيع نطاق سلطتهم في كل البلاد؛ فقاومهم أهل لبنان مقاومة شديدة — كما مرَّ بك ذلك في بعض أخبار المردة — ولم يتمكن العرب من دخول لبنان وامتلاك بعض جهاته حتى سنة ٨٢١ب.م والمظنون أن القبائل العربية التي دخلت لبنان هي من أصل واحد وإن اختلفت أسماؤهم وتباينت ألقابهم فجميعهم من بني حمير الذين كان الملوك منهم، وكان لهم في التاريخ العربي ذكر عظيم. وقد اشتهر في هذه القبيلة امرأة بارعة في الجمال واللطف والفضيلة يقال لها: ماء السماء، وكان لها ابن يُقال له: النعمان، فلما شبَّ فاق على أقرانه في الذكاء والسطوة والبسالة والفتوة فسموه ملكًا، وعظمت القبيلة في أيامه وامتدت شوكتها، وكان بنو حمير مثل أكثر القبائل العربية يفاخرون بالأنساب ولهم جداول أنساب مكتوبة على رقوق؛ لِيُستدَل منها أن نسبهم يتصل بنوح صاحب الفلك، وحدث بين النعمان وبين كسرى ما حدث مما تقدَّم ذكره.

وكان أول من رحل من تلك القبائل العربية إلى لبنان الأمير فوارس تنوخ بقبيلته، وكانت هذه القبيلة أشرف القبائل جميعها وأكثرها رجالًا وأعظمها سطوة، ثم رحل بنو أرسلان ثم بنو شويزان، فسارت هذه القبائل في السهول المحاذية نهر العاصي حتى وصلوا بعلبك فحلوا فيها وانبثوا في سهل البقاع حتى بلغوا زحلة، ثم رقوا سلاسل الجبال إلى عين دارة فرأوا ماءً غزيرًا، فبنى بنو فوارس وبنو أرسلان هاته القرية٣٦ وسكنوا فيها، وسار بنو شويزان يقصدون الماء؛ فبلغوا نهر الصفا ونهر الباروك وبنوا قرية عين زحلتا.٣٧
ولبثت تلك القبائل في أماكنها بضع سنين، وكان بعد ذلك أن كثر عددهم، فضاقت الأرض بهم وبمواشيهم ورأوا أن البرد القارس في تلك الأماكن يؤذيهم؛ فطلب بعضهم السواحل، فسار بنو شويزان إلى الكنيسة وراء دير القمر، وهناك نشأ منهم فرع المشايخ بني عبد الملك الذين بنوا بتاتر وسكنوها، وأما بنو أرسلان فساروا إلى سن الفيل على مقربة من بيروت وملكوا الأراضي الممتدة من هناك إلى خلدة، وبنوا الشويفات وسكنوها، وسار بنو فوارس وهم أكثر القبائل التنوخية عددًا إلى المتن وسكنوا هناك بضع سنين إلى أن قام منهم الأمير أبو اللمع الشهير وهو رأس الأمراء اللمعيين، فصارت القبيلة تُنسَب إليه. وسار بقية بني تنوخ تحت قيادة ثلاثة من أمرائهم؛ وهم: الأمير فوارس، والأمير عبد الله، والأمير هلال إلى جبل الشوف٣٨ وبنوا قرى كثيرة؛ منها: البنية، وكفر متى، ورمتون، وتردلا، وعرمون، وعين كسور، وعبيه. وسكنوها، ثم انفصل أحد هؤلاء الأمراء الثلاثة عن أخويه، وجاء قرية سرحمور، فبنى فيها حصنًا منيعًا وسكنه.

ولما استوطن الأمراء وعشائرهم في الأماكن التي اختاروها وجهوا همهم وصرفوا عنايتهم إلى العمران، ومحوا آثار الهمجية والبداوة؛ فابتنوا القرى وشادوا القصور والحصون، وغرسوا الأشجار وأقاموا الحدائق الغنَّاء، وسكنوا في أرضهم آمنين؛ فبرز لبنان الجنوبي إلى مقام العمران، وأصبح في وقت قصير يفاخر في الترقي والنجاح لبنان الشمالي الذي كان قد سبقه إلى العمران من زمنٍ ليس بقليل.

وبنى الأمير فوارس تنوخ في عبيه قصرًا منيعًا لم تزل آثاره باقية إلى الآن، وقد أصبح هذا القصر بعد قليل مقرَّ ولاية الأمراء التنوخيين، ثم انبثَّ روح الحسد في نفوس بقية الأمراء، فجعلوا يتنافسون في بناء القصور والقلاع وانتقاء الأبطال والفرسان ورشق الجريد على ظهور الخيل؛ حنانًا في نفوسهم إلى ما رضعوه مع الألبان من العادات من ثدي البداوة، فامتاز بذلك الأمير فوارس تنوخ وبنوه الأحد عشر، فاتخذوا في عبيه ميدانًا فسيحًا؛ لذلك كانت تقصده الأمراء من سائر الأنحاء، ولم يكن بينهم من كان يستطيع أن يثبت في الميدان أمام الأمير فوارس وبنيه.

ومن سوء الحظ أن هؤلاء القبائل التنوخيين الذين حلفوا عند المقام التنوخي على التعاون والتناصر لم يغنهم الحلف عن التحزب الموروث من أسلافهم شيئًا، فأتوا لبنان حزبين قيسيًّا ويمنيًّا. وكثيرًا ما أدَّى هذا التحزب إلى إراقة الدماء بسبب العداء، ولم تخف وطأته وتتناسَ آثاره حتى حلَّ محله غيره كالتحزب المعروف بالجانبلاطي واليزبكي في لبنان عمومًا والأعوري والهلالي في قضاء المتن خاصة، وقد علمنا في الكلام على المردة بشمالي لبنان ما ألمَّ بهم من التحزب المعروف بالملكي والمردة كأن كُتِب للبنان أن لا تجتمع فيه كلمة أهله مع ما هو عليه من ضيق النطاق والحاجة إلى التعاون لنيل البغية من المصلحة.

وما أقبلت تلك القبائل على لبنان إلا بعد أن كانت امتدت سلطة الدولة العربية الإسلامية؛ فدخلت هذه الدولة بلاد الشام وافتتحت دمشق بعد أن خرج الروم منها، وضربت سلطتها على كل البلاد من دمشق إلى بغداد التي جعلتها مقر الخلافة. ثم استفحل أمرها وعظمت سلطتها وامتدت كثيرًا، فامتلكت كل المدن القائمة عند البحر، وشادت المباني العظيمة والآثار الدالة على الهيئة ورسوخ القدم في الأماكن التي افتتحتها.

ولما استقرت أقدام الفاتحين في هذه البلاد واستأثروا بالسلطة المطلقة وصفا لهم الزمان؛ عكف الخلفاء على العلوم والمعارف، فنبغ بينهم علماء أفاضل في كثير من الفنون، وساد العلم والأدب، وانتشرت أنوار المعارف حتى شملت جميع البلدان التي خضعت للدولة الإسلامية.

أما أمراء لبنان الأولون فلم تنلهم سيوف الفاتحين كما تقدَّم ذكر ذلك، بل لبثوا ساكنة نفوسهم مستقرة خواطرهم يتقلبون بين خيرات أرضهم ما شاءوا، حتى قدم الإفرنج للحرب الصليبية الأولى تحت قيادة كودفري دي بوليون؛ وذلك لاستخلاص القدس من أيادي المسلمين. وتحرير ذلك أنه كان كثيرون من المسيحيين يعتقدون أن القبر المقدس في أورشليم معروف مكانه معرفة حقيقية؛ ولذلك كانوا منذ الجيل الرابع يأتون القدس لزيارته، وقد أُبِيحَ لهم ذلك في أيام دولة الإسلام، ولم يصدَّهم عنه أحد حتى ارتقى إلى كرسي الخلافة بمصر الحاكم بأمر الله أبو علي المنصور بن العزيز بالله سنة ١٠٢٠ فصدَّ الزائرين عن تلك الزيارة مبيحًا — في ما قيل — دماءهم، كما صدَّهم بعض السلجوقيين سلفاؤه من قبل، وأساءوا معاملة النصارى من أهل البلاد، فجاء بطرس الناسك من أوروبا زائرًا، وخلا بالبطرك سمعان فقص البطرك عليه ما كان من بلايا قومه، فعاد بطرس إلى بلاده واجتمع بالبابا أوريانوس الثاني، وأكبَّ على قدميه يسأله إثارة حرب يكون الغرض منها استخلاص القبر المقدس من أيادي المسلمين.

ولما شاعت هذه الأمور في أوروبا هاج القوم وماجوا، فاجتمعت كلمتهم على المسير إلى القدس لاستخلاصها مهما سامهم ذلك من المشقة وكبَّدهم من الخسارة والعناء؛ فجعلوا يتواردون على القسطنطينية أفواجًا أفواجًا من جهة البر ومن جهة البحر، حتى احتشد فيها خلق كثير لا يبلغه عد ولا إحصاء، وما بلغت هذه الجيوش تلك المدينة إلا وكان قد هلك منها نحو مائة ألف نفس.

ولما اكتمل عددهم في تلك المدينة وعَدُوا مَلِكَها ألكسيوس كومنوس باسترجاع كل المدن اليونانية إلى حكمه؛ فأذن لهم بالمسير إلى آسيا، فلما بلغ الجيش نيقية أحصوه، فكان مائة ألف فارس وثلاثمائة ألف راجل يرأسه كثير من أشهر قوَّاد الفرنجة في ذلك الزمان؛ مثل: كودفري دي بوليون، وبلدوين أخيه، وروبرت النورمندي ابن وليم الفاتح، وإستفانوس دي بلوا الذي قيل فيه إنه فتح قلعًا بعدد أيام السنة، والكونت رايمون الفرنسي، وغيرهم. فبعد أن حصروا نيقية وافتتحوها ساروا في سهول تلك البلاد وهي في قبضة السلجوقيين؛ فلم يتقاعد هؤلاء عن قتالهم في السهول والجبال، ولكن بدون أن يفوزوا بصدهم. وكان الإفرنج قد قلَّ زادهم وتمرَّد بعضهم، فعاد كثيرون منهم إلى أوطانهم، وتوغَّل آخرون في داخلية البلاد وأنشئوا لهم حكومة مستقلة عند ضفة الفرات. وأما بقية الجيوش فأصرَّتْ على الجهاد، وثبتت على عزمها؛ فتوغلت في الفتح شيئًا فشيئًا. وفي سنة ١٠٩٧ بلغت تلك الجيوش مدينة أنطاكية، وأقامت تسعة شهور تحت أسوارها تقاسي صنوف الويل والبلاء، حتى تمكَّن أحد قوادها — بوهيمون — بالاحتيال على أحد الخفراء من فتح أبواب المدينة؛ فدخلها الإفرنج وأباحوا دماء أهلها، فأعملوا السيف في رقابهم، وأجروا من المظالم ما ترتعد منه الفرائص. ولما كان لهم في المدينة ثلاثة عشر يومًا — في ما قال ابن خلدون — زحف إليهم صاحب الموصل السلجوقي وحصرهم، حتى كادوا يموتون جوعًا لنفاد زادهم، فدفعهم اليأس إلى تثبيت القدم وتشديد البأس، فاقتحموا صفوف المحاصرين فكسروهم، وأقروا سلطتهم في المدينة.

ثم ساروا من هناك وهم يحاربون من عرض لهم في السبيل، ويمتلكون ما وقع في أيديهم من المدن والقرى، حتى بلغوا بيت المقدس فحصروه، وقد عسر عليهم اقتحامه لمناعته وبسالة رجال الدولة المتسلطة عليه، وخصوصًا لأنه لم يكن معهم من معدات الحصار وأدواته ما يمكنهم من افتتاحه، وقد قاسوا من الظمأ والحر ما فتك فيهم أكثر مما فتكت فيهم سيوف أعدائهم، ولكن رؤساءهم لم ينقطعوا عن تثبيت جأشهم وتشديد عزائمهم معلِّلين آمالهم بامتلاك المدينة، فثبتت أقدامهم في ميدان الحرب حتى تحقق لهم الفوز، وافتتحوا المدينة بعد أن مكث حصارهم لها تسعة وثلاثين يومًا؛ فكان افتتاحها في ١٥ تموز سنة ١٠٩٩ب.م، وقد أتوا فيها من الفظائع قتلًا ونهبًا ما تقشعر منه الأبدان، وكانت قسوتهم على اليهود أكثر من غيرهم؛ إذ هاج في نفوسهم تذكار ما ألمَّ بالسيد المسيح من هؤلاء فأرادوا الانتقام منهم.

وبعد افتتاح مدينة القدس انتُخِب كود فري دي بوليون ملكًا عليها، ولما كان شهر آب سنة ١٠٩٩ حدثت بينه وبين سلطان مصر موقعة في عسقلان؛ فانهزمت جيوش مصر. وفي السنة التالية مات كود فري وخلفه أخوه بلدوين وأصبح فتح الصليبيين واسع النطاق، ولكنه بسبب هجمات الإسلام العنيفة عليهم وانقطاع المدد عنهم من أوروبا أصبح محفوفًا بالخطر من الضياع.

ولما بلغ أهل أوروبا ما أحدق بإخوانهم الصليبيين من الخطر استنهضوا الهمم لبعث جديد، فكان ذلك سنة ١١٤٩، وكان البعث من رجال الفرنسيس والإنكليز وقادتهم من الروم، فهاجم فريقًا منهم قوم من الأتراك في الطريق، وقتلوا عددًا كبيرًا، وحل بالباقين الذين ساروا في الساحل كل نوع من المصائب والرزايا، ولم يبلغوا القدس إلا بعد عناء طويل، ولم يُجْدِهم بلوغُهم إياها نفعًا كبيرًا؛ لأنه كان قد نبغ في ذلك الحين بطل اشتهر بالبسالة والإقدام، وهو صلاح الدين بن أيوب الكردي، وكان قد استولى على مصر وبسط سلطته على ما بين القاهرة وحلب من البلاد، مستخلصًا عدة من المدن من أيدي الصليبيين، ولكنه لم يخرجهم منها معاهدًا إياهم على الهدنة؛ فاتفق أن واحدًا من فرسان الصليبيين جاز حد العهد، واغتنم السانحة بمرور والدة صلاح الدين بحاشيتها، فعرض لها في الطريق، وسلب منها الجواهر والحلي، وقتل بعضًا من بطانتها؛ فهاج ذلك غضب ابنها، فزحف بجيش جرار وحارب الإفرنج عند طبرية وكسرهم، وأسر ملكهم (كاي اللوسياني) وكثيرًا من الوجوه والأعيان، واستولى على يافا وصيدا وعكة، ثم على بيت المقدس، وكان ذلك سنة ١١٨٧.

ولما كانت سنة ١١٨٩ تألَّف في أوروبا بَعْث ثالث من جنود كثيرة، وقادة هذا البعث كانت من أعاظم القادة في أوروبا في تلك الأيام؛ فكان فردريك برباروس قيصر ألمانيا، وفيليب أوغوست الثاني ملك فرنسا، وريشارد كوردوليون ملك إنكلترة، وقد غرق فردريك وهو يقطع نهرًا صغيرًا عند قونية من آسيا الصغرى، فوقع الفشل في قومه؛ فارتدَّ منهم من ارتد إلى وطنه، وسار الباقون مع ابنه فردريك دوسوابيا، فتعاون هذا مع ملك فرنسة وملك إنكلترة على حصار عكة حتى أخذوها، ووقع نزاع بين ملوك الإفرنج أدى إلى تفريق الكلمة والعجز عن الاستيلاء على أورشليم، فعاد ملك فرنسة إلى بلاده وعاهد ريشارد الإسلام على أن يتجاوزوا للصليبيين عما بين صور ويافا من الثغور، وأن تبقى الأماكن المقدسة في بيت المقدس وغيره مصونة لا تُمَس بأذى البتة. وفي سنة ١٢٠٣ جُهِّز بعث رابع ولكنه لم يتعدَّ تخوم القسطنطينية، وكان من نتائج أعماله أَنْ آلَ أمرُ الصليبيين إلى الانحطاط والوهن. ثم في سنة ١٢٢٨، بلغ فردريك الثاني ملك ألمانيا فلسطين وسورية، وكان ناصر الدين بن سيف الدولة يقاتل صاحب دمشق، فعاهد ناصر الدين فردريك على أن يكون بيت المقدس وغيره في يد النصارى، وأن النصارى والمسلمين يقومون فيه بأمر عبادتهم بلا ممانعة ولا اعتراض، ولكن فردريك كان قد غشيه حرم البابا، فلبس بيد نفسه تاج الملك على بيت المقدس بدون احتفال في الكنيسة؛ فأنكر ذلك عليه النصارى وقسيسوهم وكرهوه من أجل الحرم، فلما رأى نفسه من المغضوب عليهم من أبناء دينه عاد إلى بلاده.

ونبغ في ذلك الحين جنكز خان، وسطا على الأعراب والتتر والأعاجم، فدوَّخ البلاد وأقلق العباد؛ ففر من وجهه كثيرون، وكان في جملتهم قبائل خوارزم، فغشوا سورية بالمضرة والأذى، وفتحوا بيت المقدس وسلبوا ما فيه من ذخائر النصارى واستحقروها. وحدثت معركة شديدة بينهم وبين الإفرنج عند غزة، فلم يَبْقَ بيد النصارى إلا عكة وبعض الثغور، ولما ذاع ذلك في أوروبا ثارت النخوة في نفس لويس التاسع ملك فرنسا فأتى بحرًا إلى مصر، ولكنه أُسِرَ هناك مع كثير من رجاله؛ فافتدى نفسه وافتدى كبار قومه، ثم سار بالباقين إلى فلسطين ومنها عاد إلى أوروبا.

ولما استأثر المماليك بالسلطة على الدولة الكردية زحف الملك الظاهر بيبرس البندقداري بجيش جرار على فلسطين، وكان أمر الإفرنج قد وهن فيها، فاستولى على المدن وفتك بالنصارى فتكًا ذريعًا وأسر منهم، ووقعت أنطاكية في قبضة يده، ثم أتى الملك الناصر محمد بن قلاوون في جيش كبير من مماليك مصر يبلغ عددهم نحوًا من مائتي ألف مقاتل، وشدَّد على الإفرنج في مرج بن عامر فكسرهم، ودانت سورية بجملتها للإسلام.

إننا قد أثبتنا ما تقدَّم من أعمال الصليبيين وغيرهم من الأقوام في أراضي سورية إثباتًا مجملًا، مراعاة للانتساق التاريخي من تسلسل الحوادث وارتباطها، فإن القبائل العربية التي عمرت القسم الجنوبي من لبنان قد عززها خلفاء الإسلام وعمالهم لمقاومة الصليبيين ومحاربتهم وحماية الثغور منهم، وكذلك عززوا من كان في شمالي لبنان من تركمان وأكراد. قال المغفور له صاحب الدر المنظوم في صفحة ٢٤٥: «وسنة ١٢٩٩ تولى التتر دمشق وغزة والقدس وبلاد الكرك وجميع البلاد الشامية، وكان ملكهم قازان بن راغون بن أبغا بن هولاكو المسيحي صاحب المغول، ثم ارتحلوا عنها إلى بلدانهم، فرجع إلى ولايتها الملك الناصر ناصر الدين محمد بن قلاوون، الذي تولى الملك سنة ١٢٩٣ بعد أخيه الملك الأشرف المذكور، وسنة ١٣٠٢ ترك الإفرنج رواد، وهي السنة التي فيها حارب مقدمو الموارنة جيوش الإسلام عند جبيل وما يليها لما بلغهم قدومهم إليها وانهزام يوحنا أميرها ليلًا مع أهلها بحرًا في السفن — كما قال ابن القلاعي في تاريخه — وقتلوا حمدان قائد جيوشهم وهزموهم وغنموا أمتعتهم، وكان حينئذٍ عدد المقدمين ثلاثين مقدمًا، وعسكرهم أربعة وثلاثين ألفًا على عهد الناصر محمد بن قلاوون الذي في زمانه حاصر جمال الدين أقوش الأفرم٣٩ نائب دمشق بلاد كسروان سنة ١٣٠٧ بخمسين ألفًا، وفتحها من جهتها الشمالية فدُعِيَتْ فتوحًا، وأخربها وهدم كنائسها وأديارها وجعلها قاعًا صفصفًا، وأحلَّ التركمان بأمرائهم بيت عساف في سواحلها محافظةً عليها من الإفرنج الذين كانوا حينًا فحينًا يأتون بحرًا ويغزون ثغور بر الشام، وأيضًا فإن السلطان سليمًا وضع الأكراد في الكورة سنة ١٥٥٨.

يتبيَّن مما مرَّ أن القسم الشمالي من لبنان كان في صدر حكم الرومان أسبق إلى العمران من القسم الجنوبي الذي لم يكن العمران فيه إلا بعد قدوم بعض القبائل العربية إليه ممَّن تقدم ذكرهم وغيرهم ممن لم يُذكَروا، وقد انضمَّ إلى هاته القبائل بعض الجماعات من أصول مختلفة، كما سيتبيَّن ذلك عند الكلام على أصول اللبنانيين قبيلةً قبيلةً وبيتًا بيتًا.

إن قحطان بن عوف بن كندة بن جندب بن مذجح بن سعد بن لحي بن تميم بن النعمان بن المنذر بن ماء السماء بن امرئ القيس المحرق بن عمرو بن امرئ القيس بن عمرو بن نمارة بن مالك — الملقب بلخم — بن فهم بن أوس بن الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيدان بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن عمرو — المسمى قحطان — بن عدي المسلسل من إياد بن نزار بن معد بن عدنان بن أد بن أدد بن اليسع بن الهميسع ابن سلامان بن نبت بن حمل بن قيذار بن إسماعيل. قد ارتفع شأنه بين قبيلته، ووُلِد له ولد فسمَّاه باسم قبيلة أجداده تنوخ.

ولما مات قحطان صارت الإمارة إلى ابنه تنوخ من بعده، وإلى تنوخ هذا نسبة الأمراء التنوخيين القيسيين في لبنان، فتنوخ — فيما رواه صاحب أخبار الأعيان — ولد جمهر٤٠ وجمهر وَلَدَ عيسى، وعيسى أحمدَ، وأحمدُ عليًّا، وعليٌّ محمدًا، ومحمدٌ إبراهيمَ، وإبراهيمُ الحسينَ، والحسينُ عليًّا، وعلي وَلَدَ بحترًا وعرفَ الدولة، وبحتر وَلَدَ كرامة وعليًّا، وكرامة وَلَدَ أربعة أولاد مات منهم ثلاثة بلا عقب.
وأما الرابع وهو حجي الملقب جمال الدين فولد محمدًا وعليًّا، ومحمد وُلِد له اثنان: حجي وخضر، وحجي وَلَدَ خمسة: محمدًا وأحمد وعبد الرحمن وعبد الله وعبد الحميد، فمحمد وَلَدَ أربعة أولاد: إبراهيم ويوسف وإسماعيل ومحمودًا،٤١ فإبراهيم ولد خليلًا، وخليلٌ إبراهيمَ

وأما يوسف فولد حسينًا، وإسماعيل وَلَد حسنًا، وحسنٌ وَلَدَ أحمدَ، ومحمودٌ وَلَدَ حسنًا ومحمدًا، ومن سلالتهما محمود وعز الدين وقوام الدين وأولادهم؛ فمحمودٌ وَلَدَ ولدَيْن — منهما عبد الباسط — وعبدُ الباسط وَلَدَ اثنين، وأحمدُ بن حجي وَلَدَ ثلاثةَ أولاد: عبد القاهر، وحجي، وعبد الحميد. فعبدُ القاهر وَلَدَ محمدًا، وعبدُ الحميد وَلَدَ أحمدَ، وأحمدُ وَلَدَ محمدًا. ومنه جاء حسام الدين الذي مات بلا عقب وانقطعت به سلالة فخذه، وأما عبد الرحمن بن حجي فوَلَد حسينًا، وحسينٌ وَلَدَ ثلاثةَ أولاد: حجي، وعبد الرحمن، وعبد الحميد.

وعبد الله بن حجي أخذته الإفرنج من الدامور، وعبد الحميد بن حجي مات قتيلًا بلا عقب، وخضر بن محمد وَلَدَ ستةً: الحسين، والحسن، وعبد الله، ويوسف، ومحمدًا، وسليمان. فالحسين وَلَدَ اثنين: صالحًا، وإبراهيم. والحسنُ وَلَدَ خضرًا، وخضر مات بلا عقب وعبد الله مات بلا عقب، ويوسف وَلَدَ فرجًا ومحمدًا، ففَرَجٌ مات بلا عقب، ومحمد وَلَدَ سليمانَ وعثمانَ.

وسليمانُ وَلَدَ عبدَ الله المعروفَ بالسيد عبد الله، وعند العامة بالأمير السيد، وله القبة المشهورة في عبيه، ومحمد وَلَدَ حمزةَ وإسماعيلَ، فحمزة وَلَدَ محمدًا ويوسف، وإسماعيلُ وَلَدَ عبدَ الرحمن، وقضى عبدُ الرحمن قتيلًا بلا عقب، وسليمانُ وَلَدَ محمدًا وعلاءَ الدين، ومات علاء الدين بلا عقب، وإبراهيمُ بن الحسين وَلَدَ الحسينَ، وصالحُ بن الحسين وَلَدَ خمسةً: محمدًا، وعليًّا، وأحمد، وموسى، ويحيى. فمحمد وَلَدَ محمدًا، وسُمِّيَ كذلك لأنه وُلِد بعد موت أبيه، ومحمد هذا مات بلا عقب.

وعلي بن صالح وَلَدَ حسنًا، وحسنٌ وَلَدَ محمدًا وإسماعيلَ، ويحيى بنُ صالح وَلَدَ عثمانَ وصالحًا، فعثمان وَلَدَ يحيى، ومات يحيى بلا عقب، وأحمدُ بن الحسين وَلَدَ ثلاثةَ أولاد: سليمان، وعيسى، وأبا بكر. فسليمانُ وَلَدَ داودَ، وداودُ وَلَدَ علمَ الدين ومات هذا بلا عقب، وعيسى وَلَدَ أربعةً: محمدًا، وصدقة، وعمر، وموسى. فمحمد مات بلا عقب، وصدقة وَلَدَ حسنًا وزنكيًّا، فحسن وَلَدَ محمدًا، ومحمد مات صغيرًا، وزنكيٌّ وَلَدَ محمودًا وأبا بكر، فمحمودٌ وَلَدَ حسنًا، وأبو بكر وَلَدَ ثلاثةً: صالحًا، ويحيى، ومحمدًا.

فصالح مات بلا عقب، ويحيى وَلَدَ أحمدَ وصالحًا، وأبو بكر بن أحمد مات بلا عقب، وعمر بن عيسى وَلَدَ خالدًا، وخالدٌ ظاهرًا ومات هذا بلا عقب، ثم وُلِد لخالد ولدٌ آخرُ فسمَّاه ظاهرًا باسم أخيه ومات هذا أيضًا بلا عقب، وموسى بن عيسى وَلَدَ أربعةً: محمدًا، وأحمد، وعبد القادر، وحجي. فمحمد وأحمد ماتا بلا عقب، وعبد القادر مات مجذومًا بلا عقب أيضًا، وحجي وَلَدَ عليًّا، وعلي بن بحثر وَلَدَ صالحًا جد أمراء عرمون الغرب، وصالحٌ وَلَدَ ثلاثةً: بحترًا، وعليًّا، ويوسف. فبحتر وَلَدَ كرامة، وعليٌّ حسينًا، ويوسفُ مفرجًا وموسى، فمفرجٌ وَلَدَ أربعةً: محمدًا، وأحمد، وعليًّا، وخليلًا. وموسى بن يوسف وَلَدَ اثنين: محمدًا، وحسنًا.

وحسين بن علي وَلَدَ عليًّا ويوسف، فعليٌّ وَلَدَ ناهضَ الدين، ومحمد بن مفرج وَلَدَ عليًّا، وأحمد بن مفرج وَلَدَ مفرجًا، ومات علي بن مفرج بلا عقب، وخليل بن مفرج وَلَدَ أحمدَ، وأحمدُ وَلَدَ مفرجًا، ثم روى صاحب أخبار الأعيان أن ممَّن تأخر من بني الصالح أحمد بن صلاح الدين، وأن أحمد هذا وَلَدَ محمدًا، ومحمدٌ وَلَدَ ولدًا قد جهل اسمه، وقال أيضًا: إن الأمير علم الدين بن سليمان بن غلاب بن معن بن معتب بن أبي المكارم بن عبد الله بن عبد الوهاب بن هرماس بن طريف المنسوب إلى آل تنوخ وَلَدَ أربعةَ أولاد: غلابًا، وجوادًا، وداود، ومحمدًا.

فجواد وَلَدَ عليًّا، وعليٌّ غلابًا، وغلابٌ وَلَدَ أولادًا من سلائلهم الشيخ مظفر، ومظفر وَلَدَ عليًّا، وعلي وَلَدَ محمدًا ومنصورًا، فمحمد وَلَدَ موسى. وقد انفصل الأمير علم الدين بمن جاء به من الأمراء من نسله عن القيسيين، كما انفصل عنهم جمال الدين أحمد بن خليل بن مفرج بن يوسف بن صالح بن علي بن بحتر بن علي بن الحسين بن إبراهيم بن محمد بن علي بن أحمد بن عيسى بن جمهر بن تنوخ، وانضموا إلى اليمنيين وصاروا أمراء عليهم.

تقدَّم لك فيما مرَّ أن علي بن الحسين بن إبراهيم بن محمد بن علي بن أحمد بن عيسى بن جمهر بن تنوخ وَلَدَ اثنين؛ وهما: بحتر، وعرف الدولة. أما بحتر — وقد كان يُلقَّب بناهض الدين ويُكنَّى بأبي العشائر — فقد اشتهر في الأمراء التنوخيين كثيرًا، وسكن في حصن سرحمور، وسكن أخوه عرفُ الدولة في قرية عرمون، وفي سنة ١١٤٧ كتب السلطان مجير الدين آبق٤٢ صاحب دمشق إلى الأمير بحتر يؤيِّده في الإمارة على القرى التي جعل بيده وبيد أبيه من قبله زمامَها، ويأمره بسياسة الناس فيها كما كانوا يُساسون لعهد أبيه. وفي سنة ١١٦٠ أقطع الملك نور الدين٤٣ كرامة بن بحتر القنيطرة وثعلبايا٤٤ في البقاع والظهر الأحمر من وادي التيم وبرجا والمعاصر الفوقية٤٥ والدامور وشارون ومجدل بعنا وكفر عميه، وخصه بأربعين فارسًا بنفقتهم؛ وذلك لمحاربة الإفرنج ومقاومتهم.

ثم مات كرامة وله أربعة أولاد، فحدث أن والي بيروت من الإفرنج في تلك الأيام نصب للثلاثة الكبار من هؤلاء الأولاد مكيدةً، فقتلهم ليلًا في قلعة بضواحي المدينة، وفي صباح اليوم التالي سار بجماعة من الإفرنج إلى حصن سرحمور ودكَّ الحصنَ وأَحْرَقَ القرى المجاورة له، وأَسَرَ مَنْ بلت يده بهم من الناس.

وأما الأصغر من أولئك الأولاد جحى، ولقبه جمال الدين، فقد فرَّتْ به أُمُّه من وجه الإفرنج إلى خربة الدوير، وكان عمره حينئذٍ سبع سنين، وأقام ولد عمِّه علي بعرمون.

ولما كانت سنة ١١٨٧ أتى الملك صلاح الدين يوسف الأيوبي مدينةَ بيروت يَرُوم فَتْحَها وإخراجَ الإفرنج منها، فلَقِيَه الأميرُ جحى في الطريق عند خلده وانضمَّ معه، ولما تم للملك فتحُ المدينة طيَّبَ الملكُ نفسَ الأمير جحى وأقرَّه في مكان أبيه وإخوته من الإمارة؛ جزاءً له على الصدق في الموالاة.

وفي سنة ١١٩٣ كتب الملك نور الدين الأيوبي إلى الأمير جحى يأمره بالمحافظة على الطاعة ويحضه على الجهاد، وأقطعه أنحاء الغرب جميعها. وفي سنة ١٢٤٦ قُتِل الأمير نجم محمد بن جحى وأخوه الأمير علي في ثغرة الجوزات بكسروان، وكان للأمير محمد وَلَدان — جمال الدين جحى، وسعد الدين خضر — فالأمير جمال الدين وَلَدَ خمسةَ أولاد منهم الأمير نجم الدين محمد؛ فهذا عَقَّ أباه وطلع عنه إلى عيناب، ومن سلالته أمراء هذه القرية. ولما كانت سنة ١٢٤٩ كتب الملك الصالح أيوب إلى الأمير زين الدين بن علي، فأقطعه القماطية وبمكين وشملال وبتاثر وكفر عميه وما يتبع هاته القرى من المزارع؛ كل ذلك ترغيبًا له في حماية الثغور الموكول إليه حمايتها في الأنحاء الغربية، وثبت في يده ما جرى عليه وعلى أبيه من قبله من الإقطاعات؛ كبيصور ومجدليا والدوير وثُلُث عرمون وكيفون والبيرة، وما يتبع هذه القرى من المزارع.

وفي سنة ١٢٥٦ استحصل الأمير جمال الدين جحى من الملك الناصر صلاح الدين يوسف على عهد يُقِرُّه في عدة إقطاعات؛ منها: عرمون، وعين درافيل، وطردلا، وعين كسور، ورام طون، وقدرون، ومرتغون، والسباحية، وسرحمور، وعيناب، وعين عنوب، والدوير. وفي سنة ١٢٥٧ بعث المعز أيبك ملك مصر إلى الأمير سعد الدين خضر بن محمد عهدًا في قرى من دون قرى الغرب التي كانت في يد أخيه الأمير جحى، فاشتمل ذلك العهد من الشوف الحيثي على المعاصر الفوقية ونيحا وبعذران وعين ماطور وبتلون، ومن الشوف السويجاني على عين وزية وكفر نبرخ وبريح وغريفة، ومن وادي التيم على تنورا والظهر الأحمر، ومن إقليم الخروب على برجا وبعاصير وشحيم.

وفي هاته السنة نفسها حدثت موقعة كبيرة بين الأمراء التنوخيين وبين ولاة بعلبك والبقاع الذين زحفوا إلى الأمراء حتى التقى الفريقان عند عيتات من قرى الغرب، فاقتتلا هناك اقتتالًا شديدًا كان الفوز فيه للتنوخيين، فانهزم الولاة شر هزيمة، ونُهِب ما كان معهم.

وفي سنة ١٢٥٩ وفد الأميرُ جمالُ الدين جحى بن محمد والأمير زين الدين بن علي على كتبوغا نائب هولاكو ملك التتر في دمشق بعد أن باتت هذه المدينة تحت سلطة التتر، وأَبْدَيَا الطاعةَ له، ولكن لما اتصل بهما نبأ قدوم الملك المظفر قطز بالعساكر المصرية ولم يدريا لأي منهما يكون النصر؛ اتفقا على أن أحدهما الأمير زين الدين ينضمُّ إلى العساكر المصرية وأن الآخر الأمير جمال الدين يُقِيم عند التتر بدمشق. ولما وقعت بينهما الواقعة عند عين جالوت انهزم التترُ فتحصَّن فريقٌ كبير في ذروة الجبل، فحاصرهم مماليك سلطان مصر، وكان فيهم الأمير زين الدين بارعًا في رماية النبال، حتى أعجب المماليكَ إصابتُه؛ فجعلوا يُمئِنون قوسه من جعبهم، ولكن لما ذاع أنه سبق لهذا الأمير أن وفد على التتر بدمشق أمر بضرب عنقه ولم يَنْجُ إلا بشهادة المماليك أنه شهد معهم حصار التتر في ذروة الجبل، وكانت له فيه النبال الصائبة لقلوب الأعداء.

وفي سنة ١٢٦٠ جدَّد الملك الظاهر بيبرس للأمير جمال الدين جحى بن محمد العهدَ في قرية عالية، ومجد لبعنا، وشارون، وعرمون، وعين درافيل، وطردلا، ودفون، وعين كسور، وقدرون، وشملال، ومرتغون، والسباحية، وسرحمور، وبطلون، وعيناب، والدوير، وبتاتر، وبيصور، وكفر عميه، وعيتات.

وفي سنة ١٢٧٠ كتب نائب دمشق أقوش النجيبي إلى الأمير زين الدين علي والي الأمير جمال الدين جحى يثني عليهما، وأيَّد ذلك ما كتبه إليهما الملكُ الظاهرُ بيبرس مادحًا لهما وواعدًا إياهما بجزاءٍ عن صدقهما في الخدمة، غير أنه لم يلبث أن تغيَّظ عليهما بسبب ما وُشِيَ إليه فيهما، فسجن الأمير زين الدين في مصر، والأمير جمال الدين في الكرك، وأخاه الأمير سعد الدين في قلعة عجلون، ثم ضمَّ الثلاثة في سجن مصر فلبثوا فيه إلى أن تُوفِّي الملك الظاهر، وقام بعده الملك السعيد فأخرجهم من السجن، وكتب إلى نائب الشام كتابًا يقول فيه بعدم رضاه عما حلَّ بالأمراء من الأذى، ويأمر بردِّ المسلوب منهم إما عينًا وإما قيمته — إن كان المسلوب قد هلك — ووجَّه الأمير جمال الدين إلى الديار الشامية، ثم كتب إلى نواب الديار الشامية والصفدية والأكراد والبعلبكية والحمصية يلومهم على ما أتوه في بلاد الأمراء التنوخيين في الغرب، ويأمرهم بردِّ المسلوب، ويُحذِّرهم من المخالفة، ثم عاد أرباب الفتنة فوشوا فيهم وشاية من مثل الوشاية الأولى؛ وهي أنهم متَّحِدون سرًّا مع إفرنج الثغور، غير أنه لم يفلح الوشاة؛ إذ ظهر كذبهم بشهادة عدة من الشهود.

وفي سنة ١٢٨٩، وهي السنة التي فتح فيها ملكُ مصر طرابلسَ نُزِعت من يد أولئك الأمراء إقطاعاتهم، ولم تُرَدَّ إليهم إلا في أيام الملك الأشرف خليل قلاوون وأخيه الملك الناصر، ففي سنة ١٢٩٣ كتب الملك الناصر محمد بن قلاوون إلى الأمير سعد الدين خضر بن محمد، فأقطعه عالية وعين اللبانة والدوير والسباحية وبعضًا من العمروسية ومن المغيثة، وكتب أيضًا إلى الأمير زين الدين بن علي يُعِيده إلى خدمته.

وفي سنة ١٢٩٥ مات الأمير زين الدين صالح بن علي بن بحتر في عرمون ودُفِن فيها، وكان مشهورًا، وقد بنى الدار المجاورة للعين ودار الرأس. وفي سنة ١٢٩٧ مات الأمير جمال الدين الكبير جحى بن محمد بن جحى بن كرامة بن بحتر، وفي سنة ١٣١٣ مات الأمير سعد الدين خضر بن محمد بن جحى، وفي هذه السنة نفسها كتب الأمير ناصر الدين الحسين كتابًا إلى نائب دمشق أمير الأمراء الأمير تنكز يقول فيه إنه هو وذوو قرباه آخذون على أنفسهم وقاية بيروت وباذلون الجهد في خدمة الدولة، وإنَّ غالِبَ ما في يدهم من الإقطاعات مِلكٌ ثابتٌ لهم بحق شرعي، وإنها لهم بعدة واحد وثلاثين فارسًا، وكانت لآبائهم بثلاثة رماح. ثم التمس منه الرفق بهم، فكتب أمير الأمراء إلى السلطان في مصر يخبره بذلك، ويذكر له قِدَم أملاك الأمراء في الغرب؛ فأمر السلطان أن تبقى في أيديهم وأن يُزاد لهم من الجند بقدر ما زِيدَ لهم من الإقطاعات، فبلغت الزيادة النِّصفَ فضُوعِف عدد الجند حتى بلغ اثنين وستين فارسًا.

وأما تفصيل بيان الإقطاعات للأمراء بحسب اللائحة التي كُتِبَتْ في ديوان ناظر الجيش؛ فهي أن للأمير ناصر الدين الحسين ابن الأمير سعد الدين خضر أمير الغرب ولعشيرته وذويه عرمون وصير وبشالا وكيفون وبيصور وثلث عين عنوب وثلث عيناب وشمشوم وثلث كفر عميه وثلث بثاثر وبركة شطرا ومرتغون وثلث حصة الملك في خلدة ومغدلا ومن الفريديس فدان، وللأمير عز الدين الحسن بن سعد الدين أمير الغرب ولذويه وخمسة خصيان نصف عاليه ونصف الخريبة وعيثا ونصف الدوير ونصف السباحية ونصف المغيثة وربع قدرون ونصف قطع أرض في قرتيه وربع طردلا وربع رمطون وربع عين كسور، وللأمير عز الدين حسين بن شرف الدين علي ولذويه وعشرة خصيان نصف عيتات ونصف دقون ونصف مجدليا ونصف شملال وثلث عين عنوب ونصف سرحمور ونصف عين درافيل وثلث بثاثر وثلث عيناب وقطع أرض في العمروسية وثلث حصة الملك في خلدة وثلث كفر عميه ومن الفريديس فدان، وللأمير سيف الدين مفرج بن بدر الدين يوسف بن زين الدين صالح ولذويه وعشرة خصيان نصف عيتات ونصف دفون ونصف مجدليا ونصف شملال ونصف عين درافيل وثلث بثاثر ونصف سرحمور وثلث عيناب وقطع أرض في العمروسية وثلث كفر عميه وثلث حصة الملك في خلدة ومن الفريديس فدان، وللأمير علم الدين سليمان بن غلاب ولذويه وخمسة خصيان نصف الخريبة وعيثا ونصف الدوير ونصف السباحية ونصف درب المغيثة وربع قدرون ونصف قطع أرض في قرتيه وربع طردلا وربع رمطون وربع عين كسور، وللأمير سيف الدين إبراهيم بن نجم الدين محمد بن جحى ولذويه وخمسة خصيان ربع بطلون وربع الطفرانية ونصف القبي ونصف محوارة ونصف معيستون وربع الدوير وربع أقطو، وللأمير شمس الدين عبد الله بن جمال الدين جحى ولذويه وأربعة خصيان نصف قدرون ونصف رمطون ونصف طردلا ونصف عين كسور، وللأمير عماد الدين موسى بن مسعود بن أبي الحبيس ولذويه وثلاثة خصيان له نصف دفون ونصف الفساقين ونصف شطرا ونصف دير قوبل ونصف عين حجية.

وقد اجتمع هؤلاء الأمراء فانقسموا في المحافظة على بيروت مناوبة إلى ثلاث فئات لكل فئة منهم نوبتها. وفي سنة ١٣٠٢ أتى الإفرنج الدامور، وكان بها الأمير شمس الدين عبد الله وأخوه الأمير فخر الدين عبد الحميد ابنا جحى، فقتلوا الأمير فخر الدين وأسروا أخاه الأمير شمس الدين عبد الله، وأسروا خمسة رجال معه، ولبث في أسرهم خمسة أيام، فاستخلصه الأمير ناصر الدين الحسين بثلاثة آلاف دينار صورية. وفي سنة ١٣٢٣ وقعت في بيروت بين الإفرنج وبين واليها عز الدين البيسري وأمراء عرمون معركة شديدة؛ فجُرِح بعض الأمراء، وكان الفوز للإفرنج فاستقدم تنكز أمير الأمراء إليه وهو بدمشق الأمراءَ التنوخيين والتركمان من كسروان، وتسخَّط عليهم وسجنهم فشفع لديه فيهم الأمير ناصر الدين الحسين؛ فأطلقه ثم أطلق بقية الأمراء لثبوت براءتهم لديه، ثم أمرهم بالإقامة ببيروت، فبنى الأمير ناصرُ الدين دارًا على شاطئ البحر.

وفي سنة ١٣٤٢ صدرت منشورات إلى جميع الولايات قاضية بتجهيز الجنود وبعثها على الكرك، فجهَّز الأمير ناصر الدين الحسين أخاه الأمير عز الدين الحسن إلى الكرك في جماعة من قومهما، فلما بلغ هذا الأميرُ الكركَ أَمَرَه رئيسُ العساكر حالًا أن يزحف برجاله على القلعة، فزحف بهم وقاتل راجلًا قتالًا شديدًا، فولَّى أصحابه عنه هاربين فأدركه الأعداء فقتلوه، وكان شجاعًا ثابت الجأش وله بعض المباني في عبيه. وفي سنة ١٣٤٥ أمر الأمير يلبغا الأتابكي نائب دمشق أمراء الغرب أن يسكنوا بيروت، وفي سنة ١٣٥٠ مات الأمير ناصر الدين الحسين بن خضر بن محمد بن جحى بن كرامة بن بحتر وله من العمر ثمانون سنة، وكان مهيبًا شاعرًا رقيقًا سريع الخاطر وله مبانٍ كثيرة في بيروت والغرب، وقد اشتهر الأمير عز الدين جواد بن علم الدين سليمان الرمطوني بجودة الخط، حتى قيل عنه إنه كتب آية الكرسي الشريفة على حبة الأرز مرات، وقد تُوفِّي هذا الأمير في سنة ١٣٥٦ وله من العمر ثلاث وخمسون سنة.

وحدث في سنة ١٣٧٣ أن الأمير يلبغا الأتابكي أنفذ إلى بيروت الأمير بيدمر الخوارزمي، فقدَّم إلى هذا الأمير تركمان كسروان، وأخذوا على أنفسهم أن يسيروا إلى قبرص في ألف رجل طلبًا للحرب، وسألوا هذا الأمير أن يُزوِّدهم بكتاب إلى يلبغا فيسيروا به إلى مصر ويستحصلوا إقطاعات أمراء الغرب، فلما أحس بذلك الأمير سعد الدين خضر بن الحسن بن خضر والأمير سيف الدين يحيى بن صالح سبقاهم إلى مصر، ثم وصل التركمان فأمر يلبغا أن يكتب لهم لوائح في إقطاعات أمراء الغرب، فكشف الأميران أمرهما للقاضي علاء الدين كاتب سر الأمير يلبغا، فقال القاضي للأمير في حضرتهما أن أمراء الغرب من غرس الملوك الأوائل، فحاشا لسيدي الأمير أن يقطع عنهم في أيامه السعيدة ما أولاهم إياه الملوك الأوائل من النعم فأمر إذ ذلك يلبغا بإبطال تلك اللوائح، وأقرَّ الأمراء في إقطاعاتهم. ولما همَّ الأميران بالعود إلى بيروت أوعز إليهما القاضي أنْ عمِّرا خان الحصيني؛ فأُنِيطَ تعميره بالأمير زين الدين صالح، ووقف على ذلك المزرعة المعروفة بجرن الدب غير أن الأمراء أولاد الحمرا اغتصبوها لأنفسهم.

وحدث في سنة ١٣٨٢ أن قدم الإفرنج بسفنهم إلى بيروت، فخرجوا إلى المدينة، وحدثت فيها موقعة كان النصر فيها لهم، فلما رأى الأمير سيف الدين يحيى شرذمة منهم عند خرائب القلعة القديمة هجم بجماعته عليهم، واندفع على صاحب العمل منهم، فتناولوه برماحهم، فكبا به جواده، ثم نهض وكرَّ على صاحب العلم فأسقط العلم من يده، فلما شهد الإفرنج سقوط علمهم فروا منهزمين إلى البحر يطلبون العود إلى سفنهم، وقد غرق بعضهم في الماء عند الازدحام طلبًا للنجاة، وكان السبب في انكسارهم ذلك الأمير سيف الدين.

ثم وصل بيدمر نائب الشام قادمًا منها، فلما مثل لأمير لديه أغلظ له النائب الكلام لكراهيته له، فقال: أنت مائل بقلبك إلى الإفرنج وموالٍ لهم سرًّا. فقدم له الأمير فرسه وجوادًا آخر فاقتبلهما منه، ولكن لم يزل متغيظًا عليه؛ فنزع عنه الإقطاعات، فكتب الأمير إلى صديق له عند الملك الظاهر بمصر يستشفعه في أمره، وسعى هو إلى دمشق يلتمس من كبار القوم فيها شفاعتهم فيه لدى بيدمر فلم يُجْدِه ذلك كله نفعًا.

وحدث في أثناء ذلك أن قُتِل بيدمر، فعاد الأمير يلتمس من حاجب الحجاب أن يشفع فيه لدى الملك فكتب إليه كتابًا وسيَّره به إلى مصر، فصدر الأمر أن تُعاد إلى الأمير إقطاعاته، ومات هذا الأمير في سنة ١٣٨٨ وله ولد يُسمَّى الأمير فخر الدين عثمان. وحدث في هذه السنة نفسها أن الملك الظاهر برقوق قدم لحصار دمشق، فبعث إلى الأمراء يستقدمهم إليه، وأمرهم أن يأتوا معهم بنائب بيروت دولة باتر وأن يسوقوهم قسرًا إذا امتنع، فأتى دمشق الأمير فخر الدين عثمان بن يحيى، والأمير عماد الدين إسماعيل بن فتح الدين، والأمير عز الدين حسن بن ظهير الدين، والأمير سيف الدين أبو بكر، والأمير ناصر الدين بن جمال الدين. ولما مثلوا لدى الملك الظاهر أمرهم أن يأتوه من بيروت بشيء من الرصاص للمنجنيق، فسيَّروا في ذلك أحدهم — الأمير عز الدين — فأتى بالمروم، ثم سار الملك الظاهر إلى شقحب لمقاتلة تمريغا، فهزمت ميسرة تمريغا ميمنة الظاهر؛ فانهزم بذلك الأمراء، فضم الملك الظاهر عساكره في الحال واندفع بها على تمريغا فكسره، وأما تمريغا فأنفذ إلى بيروت من لدنه نائبًا عليها اسمه أرغون، فانضم إلى أرغون هذا تركمان كسروان مع الأمير علي والأمراء ذوي قرباه من ولد الأعمى، والتحمت معهم جماعة من المنطاشية، وزحفوا جميعًا بأقوامهم على الغرب؛ فلقيهم أمراء الغرب برجالهم عند الساحل، واشتبك الفريقان مقتتلين اقتتالًا شديدًا؛ فكانت الغلبة لأصحاب تمريغا، وقتلوا من أعدائهم تسعين رجلًا، وأسروا بعضًا منهم — الأمير شرف الدين عيسى بن أحمد، والأمير علاء الدين بن شمس الدين من عرمون — فأرسلوهما إلى زوق ولد الأعمى ونهبوا ما بلت يدهم به من أموال الأمراء ببيروت، أما الأمراء المنهزمون من شقحب فعادوا حينئذٍ.

وكان قد تحقق انتصار الملك الظاهر وتوجهه إلى الديار المصرية؛ فأطلق المنطاشية الأميرين من الزوق، وقد تبع أولئك الأمراء الملك الظاهر إلى مصر فأجرى عليهم الوظائف كالعساكر؛ إذ حسب أنهم جاءوا مع عساكره إلى مصر، فاغتنم الأمراء ولد الأعمى تلك السانحة، وجمعوا التركمان من كسروان، وزحفوا بهم إلى الغرب، وقاتلوا أهله وهزموهم، وقتلوا منهم أربعين رجلًا، ونهبوا عدة من قراه، فهاج ذلك جماعة الملك الظاهر فدهمت العساكر الظاهرية أولئك التركمان تركمان كسروان، وقاتلوهم فقتلوا الأمير عليًّا من ولد الأعمى، ونهبوا زوق تركمانه، ثم تسنى لهم بعد ذلك أن قبضوا على أخيه الأمير عمر وعذبوه عذابًا أليمًا مات به.

ولما صارت نيابة دمشق إلى يلبغا الناصري استقدم يلبغا إليه الأمير فخر الدين عثمان وبعضًا من ذوي قرباه، ثم جرت موقعة مع منطاش قُتِل فيها الأمير شجاع الدين عبد الرحمن بن إسماعيل وبعض من أصحاب الأمير فخر الدين عثمان، ثم تُوفِّي هذا الأمير في سنة ١٣٩٣ غير متجاوز الرابعة والعشرين من عمره، وكان شاعرًا مجيدًا عزيز النفس بعيد الهمة. ولما كانت السنة ١٤٢٤ سيَّر الملك برسباي أسطولًا إلى قبرص يريد فتحها، وأمر أمراء الغرب أن تسير مع جماعة الأسطول فسار الأمير صالح بن يحيى بن صالح بن الحسين بن خضر في مائة رجل؛ فنزلت العساكر في بر الماغوصة، وأتت فيه ما أتت من سبي ونهب، ثم حدثت مواقع بينهم وبين الإفرنج في البر والبحر، وكان الفوز فيها لعساكر الملك؛ فأسَرَتْ هذه العساكرُ سبعمائة أسير، وغنمت شيئًا كثيرًا من أدوات القتال، ثم سارت إلى مصر، فحبا الملك الأمير صالح بمائتي دينار وأكرمه إكرامًا كبيرًا، ووهبه جوادًا وفروةً، ثم عاد الأمير إلى بلده.

وفي سنة ١٤٤٤ جهز ابن الحمراء جماعة كبيرة وسطا بها على الأمير عز الدين صدقة بن عيسى بن أحمد وهو في داره في بيروت، فقتل بعضًا من أصحاب هذا الأمير، وفرَّ الأمير نفسه بأثواب النوم، واختبأ في مكان على شاطئ البحر، وقد مرَّ به أعداؤه مرارًا ولم يدروا، وحدث بعد ذلك أنه قطع رأس ابن الحمراء وأرسله إلى دمشق فأرسله نائب دمشق إلى الأمير عز الدين، ثم اتفق في ذات يوم أن الأمير عز الدين قبض على واحد من بني الحمراء كان مختبئًا بين أفنان شجرة إلى جانب غرفة الأمير وهو يحاول أن يرميه بسهم، ولكنه لم يلبث أن أطلق سبيله ولم يمسه بأذى، وقد تُوفِّي هذا الأمير في هذه السنة نفسها، وكان مهيبًا وقورًا حسن السياسة شديد الحزم كبير الجاه نافذ الكلمة لدى الملوك والعمال، وكانت ولايته من حد طرابلس إلى حد صفد، وبيده زمام خفارة بيروت. وفي سنة ١٥٢٠ مات الأمير شرف الدين يحيى بن أبي بكر بن زنكي، وقد كان بمكانة من الشجاعة والبسالة ومن الفطنة والذكاء، وفد على الملك الأشرف قانصوه الغوري بقلعة الجبل في مصر، ونال منه بغيته، ووفد على المغفور له السطان سليم بدمشق فصدق له على ما بيده من المناشير، وحدث أن الأمير ناصر الدين محمد بن الحنش صاحب صيدا والبقاعين خرج عن طاعة السلطان سليم، وفرَّ من وجه سلطته فاتهم الأمير شرف الدين بالميل إلى العاصي فقبض عليه وعلى الأمير زين الدين والأمير قرقماز والأمير علم الدين سليمان من الأمراء المعنيين، وأرسلوا إلى قلعة صفد، ثم إلى قلعة دمشق، ثم سار بهم السلطان سليم إلى قلعة حلب، ولما قتل العاصي خلَّى السلطان سبيلهم، فقصد الأمير شرف الدين الفرات، ونال بغيته عند الوزير الأكبر هنالك، ثم عاد إلى بلده. وحدث في سنة ١٥٨٤ أن إبراهيم باشا والي مصر قدم إلى عين صوفر من لبنان لمعاقبة أمراء الجبل بما اتُّهِموا به من نهب الخزينة السلطانية عند جون عكة، فمثل بين يديه الأمير محمد بن جمال الدين وابن عمه الأمير منذر مستسلمين له، فاقتادهما معه إلى إسلامبول حيث برئت ساحتهما، وأُطْلِقا وأُقِرَّا على ما كانا عليه في ديارهما.

وفي سنة ١٦١٢ سيَّر الحافظ إلى قرية عبيه الشيخ مظفرًا في فرقة من الجند العثماني لمعاقبة الأمير ناصر الدين، فدهمه الأمير في داره، فاقتتلا، فقُتِل عدة من الفريقين، وأحرق الشيخ القرية، ثم استسلم الأمير له، وصحبه إلى دير القمر، فطيَّب الحافظ نفسه وولَّاه الشوف. وفي سنة ١٦٣٣ أتى الأمير علي علم الدين والي الشوف قرية عبيه، وقد كان من اليمنيين، فدعاه أمراء القرية — وهم: الأمير يحيى العاقل، والأمير محمود، والأمير سيف الدين — ليتناول الطعام عندهم، وبينما كانوا يأكلون إذ اندفع عليهم بأصحابه فقتلهم، ثم قتل أبناءهم؛ فانقرضت بهم سلالة بني تنوخ.

(٦) الأمراء الأرسلانيون

إن كلمة أرسلان ليست عربية ولكنها فارسية، سُمِّي بها جد طائفةٍ من الأمراء التنوخيين الدرزيين في جبل لبنان، كما سُمِّي غيره من الأمراء الذين هم من قبائل عربية بأسماء أعجمية؛ مثل قرقماز وغيره، وهذه العادة مألوفة بين الجماعات من الناس، وإن كان يترتب عليها في الغالب إخلال في معرفة النسب، وضعف في التقاليد غير محمود العواقب. وقد سرى هذا الاسم إلى هذه القبيلة العربية التنوخية أيام كانت في جوار الفرس؛ إذ إنها قدمت مما بين النهرين وسكنت جبلًا في ظاهر المعرة يُقال له: الجبل الأعلى. كما تقدم ذكر ذلك.

فأرسلان بحسب ما علمناه من أقوال المؤرخين وما تبيَّن لنا من كتب مسجلة في المحاكم الشرعية الإسلامية محكمةً محكمة، متضمنة نسبة الأمراء الأرسلانيين، هو ابن الأمير مالك بن الأمير بركات المنذري، فقد جاء في الكتاب الأول منها الذي كتبه في اليوم الثاني من شعبان سنة ١٤١ هجرية محسن بن حسين بن زيد الطائي متولي فصل دعاوى المسلمين في مدينة المعرة، وشهد فيه علي بن رفاعة المعري، وسليمان بن فضالة بن عميرة المعري الطائي، ومسلم بن عدي بن قاسط التغلبي، ويزيد بن سلام الكلابي، وخزام بن فند الكلابي، ونصر بن راشد بن طالب التنوخي، وإسحاق بن ميمون، وأبو حذيفة بن هشام، وأبو الوليد راشد بن رباح بن حراش اللخمي، وجذيلة بن سعدة بن رحمة اللخمي؛ أن حضر إلى القاضي المتقدم ذكره الأمير منذر وأخوه الأمير أرسلان — ولدا الأمير مالك بن الأمير بركات المنذري — وطلبا منه أن يكتب لهما وفيات آبائهم في رقٍّ ليحفظاه عندهما؛ خوفًا من حوادث الأيام، وتحفظًا من السهو والنسيان؛ لأنهما قد عزما على الرحيل إلى جبال بيروت بأمر أمير المؤمنين المنصور، فاستشهد من حضر، فحدَّثه داود بن المظفر بن زياد التنوخي عن أبيه عن جده، قال: لما قدم خالد بن الوليد المخزومي من بلاد العراق قدم معه الأمير عون بن المنذر المغرور ابن الملك النعمان أبي قابوس، وإن الأمير عونًا حضر مع المسلمين فتح بصرى، وظهرت بها شجاعته، وإنه قُتِل بوقعة أجنادين من جرح أصابه في آخر يوم من المصاف، فتُوفِّي منه بعد أيام قلائل، فحزن عليه أهله ولخم وخالد وأمراء الإسلام كثيرًا؛ لأنه كان فارسًا من فرسان العرب رحمه الله.

قال: وإن الأمير عونًا كان له ولدان: الأمير مسعود وهو المشهور بقحطان، والأمير عمرو. فكان الأمير علي لخم بعده الأمير مسعود، وأخبرني رضوان بن هلال اللخمي عن غلاب بن هاشم التنوخي عن أبيه قال: حكى لي رافع بن عميرة الطائي قال: قدم معنا من الحيرة الأمير عون بن المنذر بن النعمان بن ماء السماء، فلم أَرَ أشدَّ منه صبرًا على السفر، فلما قاتلنا رجال الروم على بصرى رأيت منه من الشجاعة ما لم أَرَه من أحد، ثم حضر معنا — رحمه الله — واقعة أجنادين وجُرِح في صدره، فتوفي بعد أيام، وتوليت بنفسي دفنه رحمه الله، وحدثني همام بن رفاعة الطائي عن شديد بن آوى قال: أخبرني سليمان بن قيس النحفي قال: قال لي عوف بن مالك الأشجعي: استشهد الأمير عون بن الملك المنذر الذي سمته العرب المغرور ابن الملك النعمان أبي قابوس ممدوح نابغة بني ذبيان وهو قاتل عبيد بن الأبرص العامري داهية العرب، وهو ابن الملك المنذر ابن الملك المنذر ابن ماء السماء في أجنادين، فصار أمير لخم بعده ولده الأمير مسعود، وهو من أشد شجعان العرب، حضر فتح دمشق، وهو أول من دخلها وفتح بابًا شرقيًّا لخالد بن الوليد حتى دخل بجيوش المسلمين منه، ثم حضر واقعة مرج الديباج ووقائع اليرموك، فو الله لقد قاتل هو ومن معه من لخم وجذام وكانوا زهاء ألف وخمسمائة فارس قتالًا شديدًا، وصبروا صبرًا حسنًا. وأخبرني همام بن رفاعة المذكور قال: أخبرني قيس بن جروان عن شديد بن عدي التنوخي بمثل ما رُوي عن عوف قال: وإن الأمير مسعودًا وأخاه الأمير عمرًا حضرا فتح بيت المقدس، وقابلا بفتحه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، فانحطَّ منهما ومما بلغه من شجاعة الأمير مسعود، وأمر أبا عبيدة بأنه متى فتح الله عليه المعرة وبلادها يضعه بأهله وقبائله بها، وإن الأمير مسعودًا لما تمَّ فتح بيت المقدس سار مع أبي عبيدة لفتح حلب، والأمير عمرو وابن عمه الأمير همام ابن الأمير عامر ابن الملك المنذر سارا بأهلهما وجمع كبير من لخم وجذام مع عمرو بن العاص لفتح قيسارية، فلما تمَّ فتحها أراد الأمير عمرو أن يلحق بأخيه؛ فمنعه عمرو، ثم أخذه معه لفتح مصر وتوطَّن هنالك.

وأخبرني جابر بن هاني بن زيد بن عبيد التنوخي عن أبيه عن جده قال: أخبرني كعب بن ضمرة الضمري قال: لما أرسلني الأمير أبو عبيدة بن الجراح أمين الأمة لاكتشاف أمر صاحب حلب سار معي أبو النعمان مسعود بن عون اللخمي المنذري بجماعةٍ من لخم، وحضر معي حرب قنسرين، فرأيت منه شجاعة عجيبة لم أرها من غيره في ذلك اليوم على شدة من العدو.

قال: ولما نصرنا الله وفتحنا حلب، وطلب أبو الهول من أبي عبيدة رجالًا أشداء ليصعد بهم إلى القلعة؛ كان أولَ من قال: أنا. الأميرُ مسعود، وصعد مع أبي الهول إلى القلعة بجماعةٍ من قومه، قال: ولما تم فتح حلب أرسله أبو عبيدة في أول جيش أُرْسِل لغزو الروم بأنطاكية وفتحها، قال: ولما تم فتح الشام أقام بأهله في بلاد المعرة التي اختارها له أمير المؤمنين.

وحدَّثني عبد القادر بن عقيل بن تامر المعري، قال: أخبرني والدي عن أبيه، قال: لما تُوفِّي الأمير مسعود بن عون تولى إمارة لخم بعده ولده الأمير منذر الملقب بالتنوخي، فأكثر الغزو، وبلغ شهرة عظيمة. قال: وكان الأمير المنذر أصغر من أخيه الأمير النعمان سنًّا إنما كان أنجب منه، قال: وإن الأمير مسعودًا تُوفِّي في سنة ٤٥ للهجرة، وحضرت دفنه رحمه الله، وكان شاعرًا لبيبًا من أكرم الناس وأعقلهم.

وأخبرني أبو عمرو بن حاتم اللخمي وأبو الجماهر ابن الهيثم اللخمي، قالا: حدثنا أبو الميمون راشد بن سهل اللخمي، وكان من المعمرين وأهل الصلاح والدين، قال: حضرت وفاة الأمير مسعود بن الأمير عون وأنا ابن ثماني عشرة سنة؛ فو الله لم أَرَ على لخم أشد من ذلك اليوم، قال: ولما تُوفِّي أقامت لخم أميرًا عليها ولَدَه الأمير المنذر لنجابته وفراسته، قال: وأنا أحسب وفاته فأرى أنه تُوفِّي في سنة الخمس والأربعين للهجرة.

ويتبيَّن من هذا الكتاب أن الأمير المنذر لما تولى الإمارة بلغت غزواته أقاصي بلاد الروم، وإن وفاة الأمير النعمان ابن الأمير مسعود كانت في سنة أربع وستين للهجرة، وإنه كان صاحب إقدام وشجاعة، وإن أخاه الأمير المنذر التنوخي كانت وفاته في سنة ٧٨ للهجرة وعمره ثمانٍ وستون سنة أو دونها، وولي الإمارة بعده ولده الأمير بركات، وتُوفِّي الأمير بركات بعد وفاة أبيه بثمانٍ وعشرين سنة، وصار أميرَ لخم بعده ولدُه الأمير مالك، وهو أكبر من الأمير قابوس سنًّا. والأمير مالك هو الذي بايع للعباسيين وقتلهم مروان بن محمد الأموي، وتُوفِّي الأمير مالك في سنة ١٣٤ هجرية وعمره ثمانٍ وستون سنة، ووُلِد له حسان والنعمان والمنذر وعبد الملك وأرسلان؛ فالأمير حسان تُوفِّي قبل وفاة أبيه بثماني سنين وولد الأمير خالدًا، أما الأمير النعمان وهو الذي صار أمير لخم بعد والده، فتوفي في سنة ١٣٩، وولد الأمير عبد الله وتولى الإمارة بعده أخوه الأمير المنذر، والأمير عبد الملك تُوفِّي في سنة ١٣٧ وولد له الأمير فوارس.

ويتبين من الكتب الأخرى أنه في سنة ١٤٢ للهجرة قدم إلى جبال بيروت الأمير المنذر بن مالك وأخوه الأمير أرسلان وأولاد إخوتهم: الأمير خالد ابن الأمير حسان، والأمير عبد الله ابن الأمير النعمان، والأمير فوارس ابن الأمير عبد الملك.

وكان قدومهم بأمر أمير المؤمنين المنصور الخليفة العباسي، وكان أول نزولهم بحصن وادي تيم الله بن ثعلبة، ثم بالمغيثة، ثم نزلوا المضارب وتفرقوا بالبلاد، وأول من مات منهم الأمير خالد ابن الأمير حسان تُوفِّي في طردلا في شعبان سنة ١٦٤، وقام بعده ولده الأمير عمرو، وكان عمره اثنتين وأربعين سنة، ثم تُوفِّي الأمير أرسلان ابن الأمير مالك في سنة ١٧١ للهجرة، وكان شجاعًا بعيد المدارك. وأما أولاده فكانوا: مسعودًا، ومالكًا، وعمرًا، ومحمودًا، وهمامًا، وإسحاق، وعونًا. وقد قرأ على الشيخ الأوزاعي عليه السلام، وتُوفِّي الأمير منذر بن مالك، ولم يكن له سوى ابنة تزوج بها الأمير مسعود ابن الأمير أرسلان، فولد له منها الأمير هاني والأمير عيسى، ولما تُوفِّي جدهما سلمهما والدهما تركته وانتقل إلى حصن سلحمور، وأبقى عنده ولده الكبير الأمير محسن وهو من بنت الأشعث بن الغامر الداري.

وتُوفِّي الأمير المنذر في حصن سلحمور الذي بناه في سنة ١٤٧، وكانت وفاته في سنة ١٨٤ وهي السنة الثانية من انتقال الأمير مسعود إلى الشويفات وسكناه بها. ولما تُوفِّي الأمير المنذر اجتمع الأمراء والشيوخ وولوا عليهم ابن أخيه الأمير مسعودًا ابن الأمير أرسلان، وتُوفِّي الأمير عون ابن الأمير أرسلان في الشويفات، ولم يُولَد له أحد، ولما تُوفِّي الأمير مسعود ابن الأمير أرسلان في سنة ٢٢٣ للهجرة ودُفِن في الشويفات، اتفق الأمراء أن يولوا أخاه الأمير مالكًا ابن الأمير أرسلان لحسن تدبيره وجودة عقله؛ فأبى ابن أخيه الأمير هاني ابن الأمير مسعود قبول ذلك، وطلب الإمارة لنفسه. وما زال الأمر بينهما على غير استواء حتى جمع كل منهما جماعة وتقاتلا في أراضي خلدة، فكانت الهزيمة للأمير مالك وأصحابه، فاضطر حينئذٍ إلى الرحيل، ورحل بأولاده إلى اللجون من أعمال فلسطين فلم يستقم أمره هنالك، فانتقل إلى مصر وتوطَّنَها.

وتُوفِّي الأمير عمرو ابن الأمير أرسلان وهو الذي أسره الروم من قرب ضريح الإمام أبي عمرو الأوزاعي، وكانت مدة غيبته بالأسر أربع سنين، ولما رجع كره الإقامة بعين التينة التي كان سكنها، وكانت وفاته في سنة ٢٠٠ للهجرة، وولد الأمير زيدًا والأمير جعفرًا، وتُوفِّي الأمير جعفر ولم يعقب ولدًا، وتُوفِّي الأمير محمود ابن الأمير أرسلان في خلدة وله الأمير الحسين، وكانت وفاته في سنة ٢١٥ للهجرة، وهي السنة التي اختلف فيها الأمير هاني وأخوه الأمير عيسى على تركة جدهما، ثم اقتسماها ورحل الأمير هاني إلى عرمون. وبعد سنتين بنى بها دارًا كبيرة وجعله أبوه نائبًا عنه لما سار مع الخليفة المأمون إلى مصر، وفي سنة ٢٣٤ تُوفِّي الأمير محسن ابن الأمير مسعود ابن الأمير أرسلان ولم يعقب أحدًا، وفي سنة ٢٣٨ تُوفِّي الأمير هاني ابن الأمير مسعود، ولم يُولَد له سوى الأمير عامر، وكان يُلقَّب بالغضنفر أبي الأهوال؛ لشدة شجاعته.

حارب المردة أهل العاصية حروبًا عظيمة، وربما لُقِّب بالغضنفر لما أتاه في تلك الحروب، وقد اتصل أمره بالأمير خاقان التركي فكتب فيه كتابة حسنة، ولما تُوفِّي اجتمعت الأمراء، وأقاموا عليهم إبراهيمَ ابن الأمير إسحاق أميرًا عليهم؛ لأنه كان أكبرهم وأسمى عقلًا منهم، ولما قدم أمير المؤمنين المتوكل على الله إلى دمشق سار إليه فأقره على الإمارة، وعقد له لواءً، وكتب له توقيعًا بخطه. وبعد ذلك بسنتين تُوفِّي الأمير عيسى ابن الأمير مسعود، ودُفِن بتربة جده لأمه في سلحمور، ووُلِد له الأمير غانم والأمير مسعود، وتُوفِّي الأمير زيد ابن الأمير عمرو ابن الأمير أرسلان في سنة ٢٤٩ وولد الأمير شدادًا، وفي هذه السنة سار الأمير النعمان ابن الأمير عامر ابن الأمير هاني إلى الشام في طلب العلم، ومنها سافر إلى بغداد، وقرأ على أبي العباس المبرِّد وغيره من العلماء، وتُوفِّي الأمير غانم ابن الأمير عيسى ابن الأمير مسعود في سنة ٢٥٣ وعمره أربع وثلاثون سنة، وكان صاحب شجاعة وحذق يُتقِن رمي السهام، وولد الأمير إياسًا والأمير كندة، وفي السنة الثانية من وفاته تُوفِّي الأمير فهم ابن الأمير همام ابن الأمير أرسلان بلا ولد، والأمير النعمان دخل جبل بيروت وأعماله في ربيع سنة ٢٥٧، وحدث بينه وبين المردة حروب شديدة فاز بها عليهم فوزًا عظيمًا، وبلغ خبرها أمير المؤمنين المعتمد على الله، فكتب له كتابًا بخطه يُقِرُّه على إمارته، وتُوفِّي الأمير شداد ابن الأمير زيدان ابن الأمير عمرو في سنة ٢٦٦، وولد له الأمير خالد والأمير أسعد والأمير أرسلان، ثم تُوفِّي الأمير خالد بلا ولد، وتُوفِّي الأمير عامر والد الأمير النعمان سنة ٢٧٢، والأمير إبراهيم وهو الذي كان أمير الغرب توفي سنة ٢٨٠ وعمره خمس وتسعون سنة، وفي السنة الثالثة من وفاته اختلف ولداه الأمير محبوب والأمير هلال مع الأمير النعمان فقدما للشكاية عليه بدمشق، فلما وافيا وادي عين الحرير من أعمال البقاع سلط الله عليهما من قتلهما، ثم قتل أولادهما، وانتقل إلى دارهما في الفيجانية الأمير إياس ابن الأمير غانم ابن الأمير مسعود، وتُوفِّي الأمير إياس بعد إقامته بالفيجانية سبع سنين، فكانت وفاته سنة ٢٩١ وولد الأمير عدوان والأمير نصرًا والأمير غانمًا، وكان يُلقَّب بأبي الفوز.

وفي هذه السنة نفسها تُوفِّي الأمير عون ابن الأمير عمرو في طردلا بلا ولد، وانقطعت به ذرية الأمير خالد، وفي هذه السنة أيضًا تُوفِّي الأمير شداد ابن الأمير زيد، وتُوفِّي الأمير معتب ابن أمير الدولة النعمان سنة ٣٠٣، وفي سنة ٣١٢ مرَّ بالسواحل أحمد بن محمد بن أبي يعقوب بن هارون الرشيد العباسي ومعه زوجه وبنوه، فلما وافى بيروت استقبله الأمير النعمان ودعاه لمنزله؛ فأقام عنده في بيروت والغرب زمنًا غير قليل، ثم خطب منه النعمان ابنته السيدة كلثوم لولده الأمير المنذر فأزوجه منها، وأقامت معه زمنًا طويلًا وهي والدة الأمير تميم، وتُوفِّي الأمير نصر ابن الأمير إياس ابن الأمير غانم سنة ٣١٩، ووُلِد له الأمير عامر والأمير همام، فأما الأمير همام فإنه تُوفِّي وهو دون البلوغ، وتُوفِّي الأمير عامر بلا ولد.

وتُوفِّي بعد ذلك أمير الأمراء أبو حسام بن النعمان ابن الأمير عامر وعمره ثمانٍ وتسعون سنة، وكانت وفاته سنة ٣٢٥، وكان ينظم الشعر ويكتب جيدًا متمكنًا في النحو والحديث والفقه، أعلم أهل زمانه بفقه الأوزاعي ومالك، وله من التآليف «تيسير المسالك إلى مذهب مالك»، وله «الأقوال الصحيحة» في أصول مذهب الأوزاعي، وديوان شعر جامع. وقد امتدت شهرته ومدحته الشعراء، وجرت له وقائع كثيرة مع الأعداء المردة، ومنع الفرنج من الانتشار في السواحل، وكانوا قد نزلوا برأس بيروت وتلك النواحي سنة ٣٠٣ فقاتلهم وأسر منهم ثمانية نفر، ثم فادى بهم بمن أسروه من الإسلام، وبسبب ذلك استقدمه إليه أمير دمشق وخلع عليه، وولد الأمير حسامًا والأمير المنذر والأمير معتبًا، فتولى الإمارة بعده ولده الأمير المنذر، ثم تُوفِّي الأمير غانم ابن الأمير إياس سنة ٣٣٣، وكان حسن الحظ سريعه يحسن صناعة الصب وجملة صنايع، ووُلِد له الأمير طالب والأمير يعقوب، ثم تُوفِّي الأمير أبو محمود داود ابن الأمير أسعد ابن الأمير شداد سنة ٣٥٠، ووُلِد له أولاد أكبرهم الأمير محمود إلا أنه تُوفِّي وإخوته جميعًا، ولم يتخلف وراءهم أحد، وفي هذه السنة الموافقة لسنة ٩٦١م بنى الأمير سيف الدولة المنذر في العمروسية من الشويفات دارًا كبيرةً وجامعًا، ثم تُوفِّي الأمير أبو الصمصام عدوان ابن الأمير إياس بن الأمير غانم سنة ٣٥٤، وكان فصيحًا إلا أنه لا ينقاد لرأي أحد، ولم يُولَد له سوى الأمير هلال، وقيل: وُلِد له ولد سماه الأمير صمصامًا تُوفِّي صغيرًا وبه تَكَنَّى، ثم تُوفِّي الأمير مفرح ابن الأمير زيدان ابن الأمير أرسلان سنة ٣٥٨، وهي السنة التي قدم فيها جعفر بن فلاح الكتامي، واستولى على الرملة وطبرية، وكتب إلى الأمير سيف الدولة يدعوه لبيعة مولاه المعز؛ فبعد أن استشار الأمير قومه وعشيرته أجابه جوابًا لطيفًا ليرى ما يكون، فلما استولى على دمشق سار إليه فخلع عليه وولاه بلاده، ولكن لم تَطُل بعد ذلك مدته؛ إذ تُوفِّي سنة ٣٦٠ وولد من كلثوم الأمير تميمًا والأمير مسعودًا، وكان يحب العلم والعلماء مولعًا بالنحو والفلك والحديث، فولي الإمارة بعده على أعماله ولده الأمير تميم، وتُوفِّي الأمير زيدان سنة ٣٦٠ وولد له الأمير طلحة والأمير مفرج، وفي هذه السنة استقل الأمير درويش ابن الأمير عمرو ابن الأمير الحسين ابن الأمير محمود بإمارة الجبل من قبل هفتكين التركي المستولي على دمشق، وسار الأمير تميم ابن الأمير المنذر مع الأمير ظالم بن مرهوب وابن شيخ من بيروت في البحر إلى القاهرة، وكان أمراء الغرب قد اقتسموا بينهم الغرب قبل ذلك بسنة عندما اختلفت الأحوال بسبب الحروب التي جرت بين هفتكين والقرامطة وبين القائد جوهر في عساكر مولاه المعز، وتحزَّب الأمراء الأرسلانيون كل قسم منهم لفريق.

وفي السنة الثانية قدم الأمير تميم مع أمير المؤمنين العزيز، ولما أُسِر هفتكين ردَّ الأمير تميمًا إلى عمله، وتُوفِّي الأمير يعقوب ابن الأمير غانم ابن الأمير إياس في سنة ٣٧٢، ولم يُولَد له سوى الأمير ربيعة، وفي هذه السنة تظاهر الأمير فخر الدولة درويش بعد اختفائه، فأمَّنَه الأمير تميم، ثم تُوفِّي في السنة الثانية، وقِيلَ: تُوفِّي مسمومًا وعمره سبع وسبعون سنة، ووُلِد له منصور وسليمان ومراد ومذحج وزهير وعمرو ومالك، ثم تُوفِّي الأمير هلال ابن الأمير عدوان ابن الأمير إياس سنة ٣٧٧، وكان يُكنَّى بأبي الغيث، وأعقب كعبًا وأحمد، وتُوفِّي الأمير ربيعة ابن الأمير يعقوب في سنة ٣٨٣ مجذومًا، وكان قبل ذلك شديد الذكاء. وفي هذه السنة ولَّى الأمير منجوتكين الأمير ناصر الدولة منصورًا بيروت وجبل لبنان، وأخاه الأمير مذحجًا صيدا، وسيَّر أخاه الأمير زهيرًا بكتب إلى القاهرة، وتوجَّه الأمير منصور مع منجوتكين التركي لمحاربة بني حمدان، ولما رجع منجوتكين عن بني حمدان جهز الأمير منصورًا بجيش إلى الجبل، ففرَّ تميم إلى بني حمدان، واستقل منصور بالإمارة، ثم لما هزم منجوتكين الأمير سليمان الكتامي قدم إليه تميم من حلب إلى دمشق فأكرمه وولاه طرابلس، وولى ولده الأمير مطوعًا الغرب وبيروت، وولى الأمير غالب بن مسعود بن المنذر صيدا، وولى الأمير هارون ابن الأمير حمزة ابن الأمير سعيد ابن الأمير الحسين صورًا، واختفى الأمير ناصر الدولة عند ابن الجراح بالرملة، ثم تُوفِّي الأمير عز الدولة تميم أبو مطوع ابن الأمير المنذر في سنة ٣٨٧، وذلك بعد صرفه عن طرابلس بسنة، ولم يُولَد له سوى الأمير مطوع من زوجته سعدى ابنة الأمير إبراهيم ابن الأمير إسحاق ابن الأمير محمد ابن الأمير إبراهيم التنوخي اللاذقي. وفي سنة ٣٩٠ / ٩٩٩م تُوفِّي الأمير مسعود ابن الأمير المنذر عن تسع وأربعين سنة، وأعقب غالبًا وتميمًا وحامدًا ومحمودًا، وفي سنة ٣٩٣ / ١٠٠٢م وقع القتال بين الأمير ناصر الدولة منصور والأمير مطوع؛ وذلك لأن الأمير بكارًا كان أرسل فوعد الأمير ناصر الدين بالإمارة فحزب الأمير الناس إليه، وآل الأمر إلى القتال في مرتغون بالقرب من اليابس؛ فانهزم أصحاب الأمير منصور، وقُتِل هو وأخواه الأمير زهير والأمير عمرو، وجُرِح الأمير العباس ابن الأمير زهير فتُوفِّي بعد أيام.

ووُلِد للأمير المنصور عقيل وناصر وفاتك من عائشة ابنة الأمير صالح ابن الأمير هاشم ابن الأمير الحسن الفوارسي، وخارجة من صفية ابنة الأمير مفرج ابن الأمير دغفل بن الجراح الطائي الرملي، أما الأمير مطوع فاستقل بالإمارة وآمن بقية الأمراء فأقاموا بمحلاتهم، وخالف الأمير مطوع بن بكار فحنق عليه، وكتب فيه إلى الخليفة، ثم تُوفِّي ابن بكار بعد أشهر فتولى دمشق مفلح اللحياني، فاستقبله الأمير مطوع إلى جاسم من حوران فأكرمه مفلح، وكتب فيه إلى الخليفة، فصدر الأمر بالعفو عنه. وفي سنة ٤٠٠ / ١٠٠٩م تُوفِّي الأمير فاتك ابن الأمير منصور، وله أربعة أولاد: عدي، وعمارة، وغازي، ونصر. وفي سنة ٤٠٢ / ١٠١١م تُوفِّي الأمير أبو بكر ابن الأمير حسام، وأعقب حسامًا وبه كُنِّي، وعامرًا وجذيمة. وفي سنة ٤٠٨ / ١٠١٧م تُوفِّي الأمير طعمة ابن الأمير غالب ابن الأمير مسعود وله علي وعثمان، وفي سنة ٤١٠ / ١٠١٩م تُوفِّي الأمير أبو الفضل مطوع ابن الأمير تميم ابن الأمير المنذر وله امرؤ القيس وهاني وموسى وبركات، وكان شجاعًا مقدامًا غزير المعارف بالفقه والنحو والمنطق وحسن الخط، عاقلًا كبير الدهاء؛ فتحزب أهل الغرب بعد وفاته حزبين: حزب طلب إمارة عماد الدين موسى ابن الأمير مطوع، والآخر إمارة أبي الفوارس معضاد ابن الأمير همام ابن الأمير صالح ابن الأمير هاشم الفوارسي، فآل الأمر إلى استواء موسى على الإمارة، وبعد سنة تنازل عنها للأمير أبي الفوارس. وفي سنة ٤١٥ / ١٠٢٤م تُوفِّي الأمير مرة بن سليمان بن درويش وله المنذر وحمزة، ثم تُوفِّي الأمير أبو إسحاق إبراهيم ابن الأمير عبد الله ابن الأمير عمرو في سنة ٤٢٠ / ١٠٢٩م، وله أولاد منهم الأمير محمود، تُوفِّي قبل وفاة أبيه بثلاث سنين وعمره عشرون سنة. وفي سنة ٤٢٠ أيضًا تُوفِّي الأمير أبو بكر ابن الأمير المنذر ابن الأمير مرة ابن الأمير سليمان، وكان يتقن الصياغة، وله الأمير هشام والأمير إبراهيم. وفي تلك السنة نفسها تُوفِّي الأمير امرؤ القيس ابن الأمير مطوع، ووُلِد له خزاعة وطعمة ومطوع، فتُوفِّي خزاعة بلا ولد، ووُلِد للأمير مطوع ولد تُوفِّي صغيرًا، ثم تُوفِّي الأمير عامر بن أبي بكر بن حسام في سنة ٤٢٣ وله سليم وسليمان، فتُوفِّيا ولم يلدا أحدًا. وفي هذه السنة نفسها تُوفِّي الأمير عدي بن فاتك بن منصور، ولم يُولَد له سوى ولد تُوفِّي صغيرًا، وتُوفِّي الأمير حمدان ابن الأمير محمود ابن الأمير مسعود ابن الأمير المنذر قبل ذلك بثلاث سنين. وفي سنة ٤٢٨ تُوفِّي الأمير موسى الملقب بعماد الدين ابن الأمير مطوع وعمره اثنتان وثلاثون سنة، وأعقب عيسى وعونًا، وفي سنة ٤٣٢ تُوفِّي الأمير هارون بن حمزة بن سعد بن محمود وله سليم، ثم تُوفِّي الأمير سليم بلا ذكر، وفي هذه السنة تُوفِّي الأمير أبو الفوارس معضاد الفوارسي أمير الغرب، فتولى الإمارة بعده الأمير أبو الفضائل معروف بن علي بن عبد الله بن مذحج بن درويش، وأقام بالإمارة حتى تُوفِّي سنة ٤٣٩، ثم انتقلت الإمارة إلى أبي الغارات شجاع الدولة عمر بن عيسى بن عماد الدين موسى، ووُلِد للأمير معروف: امرؤ القيس، وغسان، وجعفر. وولد امرؤ القيس عمروًا فتُوفِّي عمرو، ولم يعقب أحدًا، والأمير غسان وَلَدَ ولدًا واحدًا فولَدَ ولدُه عدة أولاد تُوفُّوا جميعًا بلا عقب، وتُوفِّي الأمير أبو عدي حمزة بن مرة بن سليمان في سنة ٤٣٥ وله عدي وطي، وفي هذه السنة تُوفِّي الأمير أبو سعد درويش بن مالك بن درويش عن ثلاثة وأربعين سنة، ولم يُعقِّب أحدًا، وتُوفِّي الأمير عبد القادر بن نسيم بن مسعود والأمير سهل بن عقيل بن منصور والأمير هاني بن نصر بن منصور في سنة ٤٤٠؛ توفوا جميعًا بالطاعون فلم يعقبوا أحدًا، وفي هذه السنة تولى المستنصر العبيدي ناصر الدولة بن حمدان أمير دمشق، وتجهز لقتال شمأل بن مرداس في حلب، بعث إلى الأمير عمر يستقدمه إليه فقدم بجماعته وصحبه إلى حلب، فحاربا ابن مرداس ورجعا خائبين، فقلَّد المستنصر بالله المذكور الأمير مظفرًا الصقلي إمارة دمشق، وأمره بالقبض على ابن حمدان وأصحابه، فقبض عليه وعلى الأمير عمر وصادرهما واعتقلهما في صور ثم في الرملة، وولى الأمير مظفر الأمير شرف الدولة أبا سعيد قابوس بن فاتك بن منصور إمارةَ بيروت والغرب، وفيها صحب الأمير شرف الدولة هو ورجاله الخادم المأمور بحرب بني مرداس، وأقام نائبًا عنه بالإمارة ابن عمه الأمير سعد الدولة طي بن حمزة بن مرة. وفي السنة التالية، قُتِل الأمير قابوس بحرب بني مرداس، وكان له ولد يُسمَّى سعيد، فأفرج أمير المؤمنين عن ابن حمدان، وأرجع الأمير شجاع الدولة عمر إلى إمارته.

وفي سنة ٤٤٢ تُوفِّي الأمير عبد العزيز ابن الأمير هلال، ثم تُوفِّي الأمير عيسى بن الأمير موسى سنة ٤٤٤، وكان ورعًا في الدين كثير التصدق، ووُلِد له الأمير عمر والأمير حسان والأمير حسين، وفي سنة ٤٤٨ تُوفِّي الأمير معضاد ابن الأمير حسام ابن الأمير أبي بكر، وله الأمير عبيد والأمير طريف، وفي هذه السنة أتمَّ الأمير عمر بناء دار العين والحمام بالقرب منها في قرية عرمون، وتزوَّج بالسيدة زينب ابنة الشريف علي؛ أزوجه منها أخوها الشريف أحمد، والشريف علي هو ابن محمد بن الحسين بن عبد الله بن الحسين بن إبراهيم بن علي بن عبيد الله بن الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليه، ثم تُوفِّي الأمير أبو المجد عبد الكريم ابن الأمير مفرج ابن الأمير زيدان سنة ٤٥٢، وله الأمير زيدان، فتُوفِّي زيدان بعده بقليل، وفي هذه السنة نفسها تُوفِّي الأمير طلحة ابن الأمير امرئ القيس ابن الأمير مطوع، ووُلِد له: الأمير مطوع، والأمير عثمان، والأمير صدقة. وتُوفِّي الأمير سعد الدولة طي ابن الأمير حمزة ابن الأمير مرة، تُوفِّي وله ولد صغير تُوفِّي بعده بقليل، وكانت وفاته في سنة ٤٥٨، وكان عالمًا فاضلًا غزير المعرفة بالنحو والفرائض، ألَّف كتابًا في النحو سمَّاه المورد الصافي. وفي سنة ٤٦٣ تُوفِّي الأمير علي ابن الأمير طعمة ابن الأمير غالب ووُلِد له الأمير طعمة، والأمير عبد الرحيم، والأمير عبد الحليم من السيدة تقية ابنة الأمير فوارس ابن الأمير معضاد الفوارسي، ابتنى بها الأمير علي، وأزوج أخته السيدة زهرة بالأمير يوسف ابن الأمير فوارس.

وفي سنة ٤٦٧ تُوفِّي الأمير أبو زيد حسان ابن الأمير عيسى ابن الأمير موسى وله الأمير زيد، وتُوفِّي هذا صغيرًا، وفي سنة ٤٧٠ تُوفِّي الأمير أبو الفوارس رشد الدولة زنكي ابن الأمير صالح ابن الأمير محمود ابن الأمير مسعود وعمره ثمان وأربعون سنة، وكان بعيد الهمة شديد الحظوة لدى الملوك، وَلِيَ الأعمال الكبيرة، مثل اللجون وبعلبك وصفد، ثم تُوفِّي الأمير فوارس ابن الأمير عبد الله ابن الأمير مفرج في سنة ٤٦٩، ولم يُولَد له أحد، وتُوفِّي الأمير خزاعة ابن الأمير امرئ القيس ابن الأمير مطوع في سنة ٤٧٠، ووُلِد له أولاد توفوا جميعًا بحياته، وتُوفِّي الأمير شجاع الدولة عمر ابن الأمير عيسى في سنة ٤٨١ وعمره اثنتان وستون سنة، ولم يُولَد له سوى الأمير علي؛ سماه باسم جده الشريف علي، وقبل وفاته بعشرة أشهر تُوفِّي الأمير عمرو بن الأمير امرئ القيس ابن الأمير معروف بلا ولدٍ، وكان ورعًا كثير التهجد، قضى غالب عمره بالسياحة، وتُوفِّي الأمير أبو عون مصطفى ابن الأمير عون ابن الأمير موسى عن ولدين؛ وهما: الأمير عون، والأمير مالك. فالأمير عون تُوفِّي بتولًا في سنة ٤٩٣، وفي سنة ٤٩٤ جهَّز الأمير عضد الدولة علي رجالًا وسيَّرهم إلى مفارة نهر الكلب يكمنون للأمير بلدوين الفرنسي أخي جوفروا ملك بيت المقدس؛ إذ كان قادمًا إلى القدس في ألف رجل لِيرث تاج أخيه، ولما التقى بالمكمنين حاربهم وظفر بهم، وظل سائرًا في طريقه. وفي السنة التالية جمع الأمير عضد الدولة علي رجالًا من بيروت وصور وصيدا وعكة، وسار بهم إلى نهر الكلب ليقطع الطريق على الأمير ريمون أمير طولوسا، فاستنجد الأمير ريمون بالملك بلدوين فحضر من القدس بعسكره، ولما بلغ نهر الكلب انهزم عضد الدولة برجاله إلى بيروت، وحاصر فيها، ورجع بلدوين ومعه ريمون إلى القدس، وإذ بلغ شمس الملوك رقاق ملك الشام ذلك ولَّى الأميرَ عليًّا صيدا، وأمره بتحصينها وبتحصين بيروت؛ فحصنها. وأرسل إلى صيدا نائبًا عنه الأمير مجد الدولة محمد ابن الأمير عدي ابن الأمير سليمان ابن الأمير عبد الله من الأمراء بني عبد الله.

وفي سنة ٥٠٤ / ١١١٠ جمع بلدوين جيوشه وحاصر بيروت برًّا وبحرًا، وكان فيها الأمير شجاع الدولة وجماعة من ذوي قرباه، ولما تعذَّر على بلدوين فتحها استنجد بإفرنج السواحل وأمراء المردة على ما مرَّ في تاريخهم فيما سبق؛ فأنجدوه، فتجمع من في الأنحاء الشمالية في جبيل، ومن في الأنحاء الجنوبية في مرج الغازية، ثم هبَّ الفريقان في يوم واحد، الشماليون على طريق الجرد والجنوبيون على طريق الساحل، ودهموا الغرب صباحًا فأحرقوه بعد أن نهبوا ما فيه، وقتلوا وأسروا من بلت يدهم به، ولم يَنْجُ إلا الذي لم تقع عينهم عليه من المختبئين والفارين، فقُتِل من الأمراء الأمير موسى بن إبراهيم بن أبي بكر بن المنذر وأولاده الصغار والأمير القاسم بن هشام بن أبي بكر وولده الأمير إدريس، والأمير مودود بن سعيد بن قابوس وولداه الأمير أسد والأمير زهير، والأمير مالك بن مصطفى بن عون، والأمير عبيد بن معضاد بن حسام، والأمير يحيى بن الخضر بن الحسين بن علي، وأخوه الأمير يوسف، والأمير علي بن حليم بن يوسف بن فارس الفوارسي وأولاده وإخوته وبنو عمه؛ فانقطعت بهم سلالة بني فوارس، وأُسِرَ الأمير ثابت بن معروف بن علي وحفيده الأمير عبد الرحمن بن فراس بن ثابت، ثم قُتِلا مع المأسورين في بيروت، ولم يَبْقَ من الأمراء الموجودين في الغرب سوى الأمير بحتر ابن الأمير عضد الدولة علي؛ إذ أخفته أمه في عرمون حتى جلت الإفرنج عنها، ثم انحدرت الإفرنج إلى بيروت وشددوا عليها الحصار، ففتحوها بالسيف بعد حصرها شهرين فقُتِل من الأمراء: الأمير الكبير عضد الدولة علي؛ وكان شجاعًا كريمًا عاقلًا صبورًا بعيد الهمة، والأمير سالم بن ثابت بن معروف، والأمير عبد الحليم بن علي بن طعمة وولده الأمير ساعد وأخوه الأمير عبد الرحيم بن علي. وأُسِرَ ثلاثة منهم: الأمير الخضر بن علي بن الحسين، وولده الأمير الحسين، والأمير علي بن طعمة بن علي. وجماعة غيرهم، وفي اليوم الثاني أخرج بلدوين الأسرى جميعًا خارج المدينة وضرب أعناقهم كافة، وسار بجيوشه برًّا وبحرًا، ونازل صيدا، وكان فيها الأمير مجد الدولة — كما تقدَّم — فشدَّد عليها الحصار، ولما يئس الأمير ومن فيها من السلامة عقدوا مع بلدوين صلحًا على عشرين ألف درهم، فخرج الأمير مجد الدولة سالمًا مسلمًا البلدة لبلدوين، وأتى الغرب فألفاه قاعًا صفصفًا لا يُسمَع فيه إلا البكاء والعويل، ثم شرع في الترميم واسترجاع السكان واستقلَّ بالإمارة. وفي سنة ٥٣١ كتب إليه ملك دمشق طغتكين كتابًا يُولِّيه الإمارة ويُقطعه قرى معينة، ولما اشتدَّ ساعده جعل يغزو الإفرنج فندموا على إطلاقه، وما زال كذلك حتى قُتِل في سنة ٥٣٢ في أرض البرج وله الأمير عبد الله فولي الإمارة بعد الأمير بحتر المعروف بناهض الدين أبي العشائر بن عضد الدولة علي، وهو الذي تخلف من أمراء الغرب؛ إذ أخفته أمه وكان صغيرًا، وما زال بحتر بالإمارة إلى أن تُوفِّي سنة ٥٦١ وله الأمير علي. وكان الأمير بحتر صادق المقال كريم الفعال، جرى له وقائع كبيرة مع الإفرنج، من أعظمها واقعة رأس التينة، جرت في سنة ٥٤٦ عند نهر الغدير، قُتِل فيها من الإفرنج خلق كبير، وانهزم الباقون إلى بيروت وتحصَّنوا فيها، ولما تُوفِّي الأمير بحتر أقطع الغرب الملك نور الدين محمود بن زنكي الأمير كرامة المعروف بأمير الغرب التنوخي، أو زهر الدولة. وفي سنة ١١٦٢ مسيحية، كتب الملك المنصور الضرغام ملك مصر إلى الأمير علي يطلب منه أن يسعى جهده في إخراج أمراء الشام عن نور الدين ونجدة شاور الذي كان رئيس الوزارة في مصر، وأن يكاشف هذا الرئيس بأحوالهم وأخبارهم؛ فبلغ نور الدين ذلك فتغيَّر عليه، ثم تُوفِّي الأمير كرامة وله أربعة أولاد، فقتلهم الإفرنج، ثم ساروا إلى عرمون فلقيهم الأمير عرف الدولة علي فاقتتلا، وكان الأمير وأعوانه على تلٍّ عالٍ فرموا الإفرنج بالحجارة والنبال وانحدروا عليهم انحدار السيل من قمم الجبال، فهزموهم وشتتوهم، واستقل الأمير بالإمارة. ولما بلغ ذلك الملك الصالح بن نور الدين كتب إلى الأمير علي كتابًا يثني به عليه ويوليه الغرب على نحو ما كانت آباؤه وأجداده.

وفي سنة ١١٨٦ مسيحية وقعت نفرة بين الأمير عرف الدولة علي وبين الأمير جمال الدين حجي بن كرامة التنوخي؛ وذلك لأن صلاح الدين يوسف لما فتح بيروت ولَّى جمال الدين الغرب وأقطعه ما كان لأبيه، ولبثت تلك النفرة حتى حاصرت الإفرنج بيروت في سنة ١١٩٥ مسيحية، وانهزم عامل بيروت الأمير عز الدين أسامة الكناني صاحب حجي، واستولت الإفرنج عليها فخاف الأمير حجي على نفسه، وصالح عليًّا، وارتحل إلى طردلا، وكان لكلٍّ إقطاعه، وتُوفِّي الأمير عرف الدولة قوام الدين علي ابن الأمير ناهض الدين بحتر ابن الأمير عضد الدولة علي سنة ٦٢٧ ودُفِن في عرمون، وكان فصيح اللسان عادلًا بالرعية، ووُلِد له أولاد لم يَعِش منهم سوى الأمير زين الدين صالح، فوُلِد للأمير زين الدين الأمير أبو اليمن عضد الدولة بحتر، ثم وُلِد له الأمير قطب الدين مفرج، ثم وُلِد له الأمير بدر الدين يوسف، ثم علا صلاح الدين مسعود، ثم الأمير الأفضل أبو البشر شاكر، ثم الأمير شرف الدين علي وأمهم جميعًا جميلة ابنة الأمير أنجم الدين محمد ابن الأمير جمال الدين حجي بن كرامة التنوخي، ووُلِد للأمير قطب الدين مفرج الأمير تقي الدين نجا، ولبدر الدين يوسف سيف الدين مفرج، ولعلاء الدين مسعود عماد الدين موسى، وتُوفِّي الأمير زين الدين أبي الجيش صالح في سنة ٦٩٥ / ١٢٩٥م وله من العمر سبعون سنة ونيِّف، ودُفِن في عرمون الغرب، وكان شجاعًا وله عدة آثار منها ترميم المسجد والحمام ودار عرمون التي كان أحرقها الإفرنج، وتُوفِّي ولده الأمير أبو اليمن عز الدولة بحتر قبل وفاته بإحدى عشرة سنة وولده الأمير بدر الدين يوسف قبل وفاته بخمس سنين.

وفي سنة ٧٠٤ / ١٣٠٤ تزوَّج الأمير سيف الدين مفرج بالشريفة نفيسة ابنة الشريف زين الدين محمد بن عدنان؛ أزوجه لما توجَّه للغرب في السنة المذكورة للصلح بين أهل كسروان والجبل وبين أمراء الغرب مندوبًا لذلك من أقوش الأخرم نائب دمشق؛ فدعاه الأمير المذكور وأنزله بداره، وخطب منه ابنته نفيسة لنفسه، ابتنى بها، فوُلِد له منها الأمير نور الدين صالح، وتُوفِّي الأمير شرف الدين علي ابن الأمير أبي الجيش في سنة ٧١٥، وله الأمير بدر الدين يوسف، ثم تُوفِّي الأمير تقي الدين نجا ابن الأمير قطب الدين مفرج ابن الأمير أبي الجيش زين الدين صالح في سنة ٧٢٢، وكان حسن الخط متمكنًا في النحو، وله الأمير نور الدين عثمان والأمير عز الدين حمدان. وفي سنة ٧٣٠ تُوفِّي الأمير عماد الدين موسى ابن الأمير علاء الدين مسعود، وكان بعيد الهمة شجاعًا حكيمًا، وله الأمير فيض الدين عمر من زوجته السيدة عصمة الدين عفيفة ابنة الأمير ناصر الدين الحسين ابن الأمير سعد الدين خضر ابن الأمير نجم الدين محمد التنوخي. وفي سنة ٧٤٠ تُوفِّي الأمير سيف الدين مفرج، ولم يُولَد له سوى الأمير نور الدين صالح، ثم تُوفِّي في سنة ٧٧٢ الأمير أبو الفيض مجد الدين إسماعيل ابن الأمير أبي العز صدر الدين إبراهيم ابن الأمير أبي البشر شاكر، ووُلِد له من زوجته عدلا ابنة الأمير شرف الدين علي ابن الأمير عز الدين جواد ابن الأمير علم الدين سليمان من الأمراء بني عبد الله الأمير سعد الدين طاهر، فتُوفِّي بلا عقب في سنة ٧٧٢، وفي هذه السنة نفسها تُوفِّي الأمير عز الدين مفرج وهو ابن تسع سنين، وفي سنة ٧٨٨ تُوفِّي من بني أبي الجيش الأمير علم الدين سليمان ابن الأمير فيض الدين ابن الأمير عماد الدين موسى، ولم يعقب أحدًا. وفي سنة ٧٨٩ تُوفِّي الأمير صلاح الدين صدقة ابن الأمير أبي الجود زين الدين عبد المحسن ابن الأمير صدر الدين إبراهيم، ثم في سنة ٧٩٠ / ١٣٨٨م كانت وقعة الغرب بين الأمير أرغون نائب منطاش وتركمان كسروان وأنصاره الأمراء أولاد الأعمى وبين أمراء الغرب أصحاب الملك الظاهر؛ فانهزم أمراء الغرب، ونُهِبَتْ بيروت، وأُحْرِق من قرى الغرب: عيناب، وعين عنوب، وشملال، وعيتات، وما دونها. وقُتِل من الأمراء من بني أبي الجيش الأمير نور الدين صالح ابن الأمير سيف الدين مفرج جد الأمير جمال الدين عبد الله، وقُتِل الأمير عز الدين حمدان ابن الأمير تقي الدين نجا، وقُتِل الأمير جمال الدين عبد الله بن الأمير نور الدين عثمان، وقُتِل ولده الأمير شجاع الدين عماد، وأُسِر الأمير ناصر الدين بشير ابن الأمير بدر الدين يوسف ابن الأمير شرف الدين علي والأمير قطب الدين خزاعة ابن الأمير علاء الدين مسعود، وأخوه الأمير نجم الدين أسعد والأمير عز الدين الحسين ابن الأمير بدر الدين يوسف أخي الأمير ناصر الدين بشير.

وبالجملة، فإنه لم يَنْجُ من الأمراء بني الجيش سوى الأمير سيف الدين يحيى ابن الأمير نور الدين صالح والد الأمير جمال الدين عبد الله؛ فإنه نجا هو وبعض من أصحابه، وقد تبعه أعداؤه وهو يقاتلهم مقاتلة الأسود، وما زالوا في أثره حتى قُتِل جواده، وجُرِح هو جرحًا مثخنًا، وتفرَّق عنه أعوانه، فمال عن وجه أعدائه إلى دار في الغرب يريد الاختفاء بغية النجاة، فألفى أمه مختبئة مع بعض النساء في كهفٍ هناك، فضمَّتْه إليها وشدت جراحه، واختبأ حتى جلا القوم، ولُقِّبَ ذلك الكهف بمغرام سيف الدين حتى الآن، ولما برئت جراحه أخذ يجمع إليه رجاله. وفي أثناء ذلك حدث أن الملك الظاهر برقوق زحف على باكيش نائب غزة وقتله، فسار الأمير إليه برجاله، وشهد المواقع التي جرت بينه وبين جنتمر وأصحابه وحصار دمشق، فبدت من الأمير هناك شجاعة ولا شجاعة عنتر، وكانت هجماته كهجمات الأسود فسُرَّ الملك الظاهر من شجاعته وثبات جأشه، ثم استعان الأمير بالملك على أعدائه تركمان كسروان والأمراء بني الأعمى، وسأله أن يُمِدَّه بالرجال فأمدَّه، فأتى الأمير كسروان برجاله ودهم التركمان ليلًا، فاصطدم الفريقان في جورة منطاش بالقرب من زوق ميكائيل واستَعَرَت بينهما نار الحرب، وقاتل الأمير قتال الأبطال فهزم أعداءه وقتل منهم عددًا كبيرًا، وقُتِل الأمير علي بن الأعمى وسار الأمير يقفو آثار المنهزمين، ونهب زوق التركمان وضواحيه، وتحصَّن الأمير عمر وأخوه الأمير علي ابنا الأعمى في غزير، فحاصرهما الأمير سيف الدين، ثم دخل القرية عنوة، وقبض على الأخوين، وعذَّبهما عذابًا أليمًا، ثم قتلهما، ثم عاد فأخبر الملك الظاهر بما كان من أمره؛ فأقرَّه الملك أميرًا على بيروت والغرب، ولقبته عشيرته بمفرج الكروب، ومدحته الشعراء، ولما خرج الصالح حاجي ومنطاش من مصر لمحاربة الظاهر انضمَّ إلى الظاهر الأمير سيف الدين بجماعة من أمراء لبنان، وحضر الحرب فأبلى فيها بلاءً حسنًا فازدادت بذلك شهرته، فلما تمَّ للظاهر النصر على أعدائه وهب الأمير فرسين من الخيل الجياد، وأقطعه عدة إقطاعات، وأنعم على جميع الأمراء أصحاب الأمير سيف الدين.

وفي سنة ١٤١٣ مسيحية تصدَّى الأمير سيف الدين للإفرنج الذين خرجوا من البحر إلى البر عند الدامور، وجعلوا يعيثون في الساحل أسرًا وقتلًا، فصدَّهم عن الامتداد في السواحل حتى نهض الملك المؤيد شيخ المحمودي الخاصكي من دمشق بجيش جرار لقتالهم، فلقيه الأمير سيف الدين إلى البقاع، واستخلف على رجاله ولده الأمير جمال الدين عبد الله، فعرض على الملك رأيه في قتال الإفرنج كيف ينبغي أن يكون، ودعاه لأن ينزل عنده فأجابه، ونزل هو وحاشيته بدار الأمير بالشويفات، وأما الجيش فنزل على ماء الغدير، وأقام الملك وجيشه ثلاثًا والأمير ينفق عليهم، ثم قام الملك بالجيش إلى الناعمة حيث كان رجال الأمير، وهجموا على الإفرنج فهزموهم، ورجع الملك إلى الفريديس فبات بها، ثم انتقل إلى البقاع حيث ودعه الأمير فخلع عليه خلعة سنية، ولقبه بملك الأمراء، وضمَّ إليه جميع الولايات الساحلية؛ فعظمت صولة الأمير، وانتشر صيته، وما زال كذلك حتى تُوفِّي سنة ٨٢٧ / ١٣٢٤ في الشويفات وعمره ثمانٍ وخمسون سنة، وله ثلاثة أولاد: جمال الدين عبد الله، وصلاح الدين مفرج، وفخر الدين عثمان؛ وكان طويل القامة عريض الصدر جميل الطلعة، نال شهرة لم ينلها غيره من الأمراء.

وفي سنة ٨٥٠ / ١٤٤٦ تُوفِّي الأمير جمال الدين عبد الله بن الأمير سيف الدين يحيى وله سيف الدين يحيى، وفي السنة الثانية من وفاته ولي أخوه الأمير صلاح الدين مفرج إمارة جبل لبنان، وبقي بالإمارة إلى أن تُوفِّي في سنة ٨٨٨ / ١٤٧٢ ووُلِد له الأمير زين الدين صالح والأمير بهاء الدين خليل، ثم تُوفِّي الأمير فخر الدين عثمان ابن الأمير أبي المكارم يحيى في سنة ٨٩٠ وله الأمير صلاح الدين يوسف وهو سبط الأمير عز الدين صدقة ابن الأمير شرف الدين عيسى التنوخي، وفي سنة ٩٠٠ تُوفِّي الأمير صدر الدين إبراهيم ابن الأمير سيف الدين يحيى ابن الأمير جمال الدين عبد الله، ولم يُولَد له ذَكَر، ثم تُوفِّي الأمير بهاء الدين خليل ابن الأمير صلاح الدين مفرج في سنة ٩١٦، وله الأمير جمال الدين أحمد والأمير نور الدين محمد.

وحدث في سنة ٩٢١ / ١٥١٥ أن وقعت موقعة في مرج دابق بين السلطان سليم خان العثماني وبين الملك الأشرف قانصوه الغوري الجركسي، وكان من أتباع الأشرف جان بردوي الغزالي وخير بك الجركسيان، فمالَ هذان إلى خيانته لوحشة بينهما وبين متبوعهما، فمالآ السلطان سليمًا. وكان الأمير جمال الدين وجماعته من أمراء لبنان إلا بني كرامة التنوخيين يميلون إلى الغزالي، فلما التقى الجيشان فرَّ الغزالي ورفيقه خير بك إلى السلطان سليم، وانضمَّا إلى معسكره ومعهما الأمير جمال الدين وبقية الأمراء والأعوان، وإذ قُتِل الغوري في تلك الموقعة واستقرت السلطة على الديار الشامية للسلطان سليم ولى الغزالي عليها، فولى الغزالي الأمير جمال الدين بلاد الغرب والمتن والجرد، وولى الأمير قرقماز المعني الشوف والأمير عسافًا التركماني كسروان، ثم خرج ابن الحنش عن طاعة السلطان سليم؛ فقدم الغزالي لقتاله، فوافاه الأمير جمال الدين برجاله؛ فاستولى الغزالي على صيدا، وفر ابن الحنش من وجهه. ثم أتى الغزالي ومعه الأمير جمال الدين الشوف، وقبض على بني معن والأمير شرف الدين يحيى التنوخي لممالأتهم ابن الحنش، وضمَّ الشوف لولاية الأمير جمال الدين بحيث أصبح هذا الأمير أميرًا على سائر جبل لبنان الجنوبي، ولكن الأمير فخر الدين المعني أصلح أمره لدى السلطان بدمشق فولَّاه الشوف، فوقعت إذ ذلك النفرة بين الأميرين، فدعا بنو معن أنفسهم قيسية معاكسة للأمير جمال الدين وذويه؛ لأنهم كانوا يمنيين، وقد استحكم الخلاف بينهما استحكامًا كبيرًا.

وفي سنة ٩٢٤ / ١٥١٨ لجأ بالأمير جمال الدين الأمير قايتباي بن عساف التركماني خوفًا من أخويه الأمير حسن والأمير حسين، فأمَّنَه، ثم أصلح بينه وبين أخويه، ولكن قُتِل الأخوان بعد ذلك، واستفحل الأمر بين القيسية واليمنية، فأدَّى إلى انتشاب الحرب بين الفريقين. ومما جرى للأمير جمال الدين أنه في سنة ١٥٣٨ مسيحية سار في مائتي رجل من بيروت إلى قبرس بحرًا، وحضر مواقع عساكر الدولة العثمانية فيها، فخلع عليه وزير الدولة، وكتب إلى إياس باشا والي دمشق يوصيه بقضاء حاجاته؛ فعاد فرحًا مسرورًا، ثم جعل الأمير الولاية في آخر أمره بيد ولده الأمير محمد. وفي سنة ٩٥٧ / ١٥٥٠ تُوفِّي الأمير نور الدين محمود ابن الأمير بهاء الدين خليل، ثم تُوفِّي الأمير شرف الدين علي ابن الأمير صلاح الدين يوسف ابن الأمير فخر الدين عثمان في سنة ٩٦٠، وكان شجاعًا وله من زوجه شقيقة الأمير مظفر ابنة الأمير صلاح الدين يوسف ابن الأمير ظهير الدين الحسن ابن الأمير نور الدين إسحاق علم الدين الأمير فارس والأمير سعيد والأمير سعد الدين، فتُوفِّي الأمير سعد الدين في سنة ٩٧٥، ثم تُوفِّي الأمير عز الدين ابن الأمير نور الدين صالح ابن الأمير بهاء الدين خليل في سنة ٩٨٣ ووُلِد له الأمير محمد، ثم تُوفِّي الأمير جمال الدين أحمد في سنة ٩٩٤ وعمره مائة سنة، ثم تُوفِّي الأمير عثمان بن الأمير سعيد وهو دون البلوغ، ووُلِد للأمير سعيد ولد آخر بعد وفاته فسماه عثمان أيضًا، فتوفي بعد وفاة أخيه بثماني سنين، وكانت وفاته في سنة ١٠١٠. وفي سنة ١٠٠٦ تُوفِّي الأمير مفرج ابن الأمير فارس، وله: الأمير حمدان، والأمير هاني.

وفي سنة ١٥٥٧ مسيحية تزوج الأمير محمد بن جمال الدين ابنة الأمير علم الدين سليمان بن محمود التنوخي وأزوج شقيقته جليلة من الأمير منذر ابن الأمير علم الدين المذكور، ولما كان سنة ١٥٧٠ مسيحية سار الأمير محمد في جماعة من رجاله من بيروت إلى قبرس، وحضر المواقع التي أجراها الوزير مصطفى لالا باشا لفتح قبرس، ولما تم فتحها خلع الوزير على الأمير خلعة، وكتب إلى أحمد باشا والي دمشق يوصيه بالأمير؛ فعاد الأمير مسرورًا، ثم تُوفِّي الأمير محمد ابن الأمير جمال الدين محمد في سنة ١٠١٤ هجرية وعمره سبعون سنة وله الأمير مذحج من زوجه جميلة ابنة الأمير علم الدين سليمان ابن الأمير محمد التنوخي، وكان الأمير محمد سريع الخاطر عالمًا ببعض الفنون الأدبية شجاعًا كريمًا فصيحًا، ثم تُوفِّي الأمير محمد ابن الأمير عز الدين ابن الأمير زين الدين صالح، وهو سبط الأمير طرباي ابن الأمير علي الحارثي، وكانت وفاته في سنة ١٠٢٠ وله الأمير مراد والأمير قايتباي، ثم تُوفِّي الأمير سعيد ابن الأمير شرف الدين علي في السنة نفسها وله الأمير ظاهر. وفي سنة ١٦١٥ مسيحية حدثت موقعة في الناعمة بين الأمير يونس والأمير علي المعنيين زعيمي القيسية وبين الشيخ مظفر علم الدين والأمير مذحج بن محمد — وهما زعيما اليمنية — فانهزم اليمنية، وقُتِل منهم مائتا رجل من القيسية، ثلاثون رجلًا، واختبأ الأمير مذحج، ثم أرسل الأمير علي المعني رجال الشوف، فنهبوا الغرب والجرد والمتن وأحرقوا قراها، وأمر بهدم دارَيْ خاله الأمير محمد جمال الدين في الشويفات وعرمون، وكانتا متقنتين جدًّا.

ثم تُوفِّي الأمير مذحج ابن الأمير محمد في سنة ١٠٢٦، وله: الأمير يوسف، والأمير عز الدين، والأمير يحيى من زوجه صفية ابنة الأمير منصور ابن الأمير حسن العساف التركماني، ثم تُوفِّي ولده الأمير يوسف في سنة ١٠٣٥، وله الأمير سليم والأمير قاسم، ثم تُوفِّي أخوه الأمير يحيى في سنة ١٠٤٢، وله: الأمير فخر الدين، والأمير محمود من زوجه السيدة نفيسة ابنة الأمير يوسف باشا بن سيفاء، ثم تُوفِّي الأمير مراد ابن الأمير محمد ابن الأمير عز الدين في سنة ١٠٤٥، وله الأمير صالح والأمير قرقماز والأمير غازي. ثم تُوفِّي الأمير عز الدين ابن الأمير مذحج، ووُلِد له الأمير عبد اللطيف، وكانت وفاته في سنة ١٠٥٠، ثم تُوفِّي الأمير فخر الدين ابن الأمير يحيى وعمره ثمان وثلاثون سنة، وكانت وفاته في سنة ١٠٦٣ وله الأمير سليمان والأمير غصن وأمهما سلمى ابنة الأمير علي علم الدين، ثم تُوفِّي الأمير قايتباي ابن الأمير محمد وله الأمير عساف، وكانت وفاته في سنة ١٠٦٦، ثم تُوفِّي أخوه الأمير غازي في سنة ١٠٧٢ وله الأمير نجم. وفي أواخر هذه السنة نفسها تُوفِّي الأمير عبد اللطيف ابن الأمير عز الدين، وله الأمير جمال الدين والأمير ناصيف، وفي هذه السنة أيضًا تُوفِّي الأمير محمود ابن الأمير يحيى وله الأمير سليم، ثم تُوفِّي الأمير عبد الله ابن الأمير هاني ابن الأمير مفرج في سنة ١٠٧٥ بلا عقب، ثم تُوفِّي الأمير حسين ابن الأمير قاسم ابن الأمير ظاهر في سنة ١٠٨٣، ثم تُوفِّي الأمير سليم ابن الأمير محمود في سنة ١٠٩٢ وله الأمير فارس والأمير موسى فتُوفِّيا بلا عقب، ثم تُوفِّي الأمير غصن ابن الأمير فخر الدين ابن الأمير يحيى في سنة ١٠٩٥ / ١٦٨٣، وتُوفِّي الأمير حسن بن الأمير قرقماز ابن الأمير مراد في سنة ١١٠٠ / ١٦٨٨ وله الأمير فهد، ثم تُوفِّي الأمير نجم بن عبد الله بن قاسم بن يوسف في سنة ١١٠١ / ١٦٨٩ ودُفِن في قرية بشامون وهو دون البلوغ، فبنى له جده القبة المعروفة به، ثم تُوفِّي الأمير فارس ابن الأمير محمود ابن الأمير يحيى في سنة ١١٠٥، ولم يُولَد له ذَكَر، ثم تُوفِّي الأمير سليمان ابن الأمير فخر الدين ابن الأمير يحيى في ١١٠٧ وعمره خمسون سنة وله الأمير حيدر، وكان فصيحًا كريم الأخلاق كلفًا بالعلم والاطلاع على السِّيَر.

وفي هذه السنة نفسها تُوفِّي الأمير جمال الدين ابن الأمير عبد اللطيف ابن الأمير عز الدين بتولًا، ثم تُوفِّي الأمير عز الدين بتولًا، ثم تُوفِّي الأمير عساف ابن الأمير قايتباي ابن الأمير محمد في سنة ١١١٣ وله الأمير محمد والأمير نعمان، ثم تُوفِّي الأمير سليمان ابن الأمير مذحج في سنة ١١٢٠ وعمره مائة سنة، ودُفِن في عين عنوب، وله الأمير يوسف من زوجه ابنة الأمير ملحم معن شقيقة الأمير أحمد معن آخر والٍ من بني معن على جبل الشوف، ثم تُوفِّي الأمير موسى ابن الأمير سليم ابن الأمير محمود ابن الأمير يحيى بلا عقب في سنة ١١٢٤، ثم تُوفِّي الأمير عبد الله ابن الأمير قاسم ابن الأمير يوسف في قرية بشامون في سنة ١١٢٥، ثم تُوفِّي والده الأمير قاسم المذكور في سنة ١١٢٨ وله الأمير علي، ثم تُوفِّي الأمير شديد ابن الأمير يوسف ابن الأمير سليم في ريعان شبابه، وذلك في سنة ١١٣٢، وكان ذا منزلة سامية. وفي سنة ١١٣٥ تُوفِّي والده الأمير يوسف، ودُفِن في قرية عين عنوب وعمره سبع وثمانون سنة، وكان جليلًا حكيمًا بعيد الهمة حزومًا، ولي إمارة جبل لبنان باتفاق من أهله في سنة ١١٢١، وفرَّ الأمير حيدر الشهابي إلى كسروان، ثم بعد أشهر أرسل بشير باشا والي صيدا إلى الجبل الشيخ محمودًا أبا هرموش، وكان قد استحصل له رتبة مير ميران مع لقب باشا، فلم يتفق مع الأمير يوسف والتمس من والي الإيالة أن تكون ولاية الجبل للأمير يوسف علم الدين وابن عمه الأمير منصور، فصدر أمره بذلك، وعاد الأمير يوسف أرسلان إلى بيته؛ ولهذا اعتزل هو وعشيرته واقعة عين دارة التي كانت في سنة ١١٢٢. ولما تمكن الأمير حيدر من الولاية وقهر اليمنية انتزع الشحار وثلث الغرب من ولاية الأمير يوسف المذكور، وعهد بولاية ذلك إلى من أعانه على قتال ابن هرموش وحزبه، وجعل ذلك للأمير يوسف مجازاة له على ما بدا منه في أول الأمر وقصدًا لإضعافه في المستقبل، ثم لم يَزَل الأمر بينهما على غير استواء حتى تُوفِّي الأمير يوسف وتولَّى الغرب بعده الأمير إسماعيل. وفي سنة ١١٣٥ / ١٧١٢ تُوفِّي الأمير حيدر ابن الأمير سليمان ابن الأمير فخر الدين، وله: الأمير منصور، والأمير محمد، والأمير حسين، والأمير فخر الدين. ثم تُوفِّي الأمير محمد ابن الأمير غصن ابن الأمير فخر الدين في سنة ١١٣٦ وله الأمير بشير، ثم تُوفِّي الأمير عز الدين ابن الأمير زين الدين ابن الأمير صالح ابن الأمير مراد في سنة ١١٣٨ وله الأمير يحيى والأمير صالح، ثم تُوفِّي الأمير علي ابن الأمير قاسم ابن الأمير يوسف بلا عقب، وكانت وفاته في سنة ١١٤٢، ثم تُوفِّي الأمير سليمان ابن الأمير غصن ابن الأمير فخر الدين بلا عقب، وكانت وفاته في سنة ١١٤٦.

وفي سنة ١١٥١ / ١٧٣٣ تُوفِّي الأمير علي ابن الأمير نجم ابن الأمير مراد وله الأمير فارس والأمير منصور، وفي سنة ١١٥٢ تُوفِّي الأمير نعمان ابن الأمير عساف ابن الأمير قايتباي بلا عقب، وفي هذه السنة نفسها تُوفِّي أيضًا الأمير منصور ابن الأمير حيدر ابن الأمير سليمان وله الأمير حيدر والأمير قاسم، فالأمير حيدر قُتِل في سنة ١١٦٥ / ١٧٥١، وتُوفِّي الأمير عساف ابن الأمير قايتباي وهو شاب في سنة ١١٧٠ / ١٧٥٦، وتُوفِّي الأمير محمد ابن الأمير حيدر ابن الأمير سليمان في سنة ١١٧٢ وله الأمير حمد والأمير بشير. وفي هذه السنة أيضًا تُوفِّي الأمير يحيى ابن الأمير عز الدين ابن الأمير زين الدين بلا عقب، وتُوفِّي أخوه الأمير صالح ابن الأمير عز الدين سنة ١١٧٥ بلا أولاد أيضًا، وفي سنة ١١٧٨ تُوفِّي الأمير بشير ابن الأمير محمد ابن الأمير غصن وله الأمير محمد، وفي سنة ١١٨٣ تُوفِّي الأمير حمد ابن الأمير محمد ابن الأمير حيدر، ولم يُولَد له ذَكَر. وفي سنة ١١٨٤ / ١٧٧٠م تُوفِّي الأمير إسماعيل ابن الأمير يوسف ابن الأمير سليم أمير الغرب وعمره ست وثمانون سنة ودُفِن في عين عنوب، ولم يُولَد له سوى ابنة، وكان حليمًا عادلًا مفرطًا في كرمه إلى حد أن كاد أن ينفق جميع ماله مع ما كان عليه من السعة؛ إذ كانت أملاكه ممتدة من نهر الدامور إلى نهر الكلب، وكان قد تزوج بالأميرة زليخا الشهابية، ولم يُولَد له منها ولد، ثم تزوَّج بابنة عمه بدر السماء ابنة الأمير حمد بن محمد فوُلِد له منها بنت تزوجها الأمير أفندي ابن الأمير بشير، وادعى الأمير يوسف الشهابي بعد موت الأمير إسماعيل أن أملاك المتوفى موصى له بها، وساعدته زليخا على ذلك لأنها من ذوات قرباه فنال مرامه، وخصوصًا لأنه كان حاكمًا تُعِينه سطوتُه على بغيته، فاستولى على جميع تلك العقارات، وأعطى بعضًا منها لأقاربه وبعضًا لابنه الأمير إسماعيل. وفي سنة ١١٨٦ تُوفِّي الأمير محمد ابن الأمير بشير ابن الأمير محمد ابن الأمير غصن وهو شاب، ثم تُوفِّي الأمير قاسم ابن الأمير منصور ابن الأمير حيدر في سنة ١١٧٢، ثم تُوفِّي في سنة ١١٩٥ الأمير فخر الدين ابن الأمير حيدر ابن الأمير سليمان، وله الأمير عباس والأمير يونس من زوجه السيدة سعود الشهابية. وفي سنة ١١٩٧ تُوفِّي أخوه الأمير حسين ابن الأمير حيدر بتولًا، وفي سنة ١٢٠٥ تُوفِّي الأمير علي ابن الأمير بشير ابن الأمير محمد ابن الأمير حيدر وعمره خمسون سنة وله الأمير بشير، وكان شجاعًا كريمًا فصيحًا. وفي السنة نفسها تُوفِّي أخوه الأمير أفندي ابن الأمير بشير وعمره خمس وأربعون سنة، وولد الأمير يوسف والأمير قاسمًا، فتوفي ابنه الأمير يوسف في ١٢٠٩، وفي هذه السنة نفسها تُوفِّي قبل وفاته الأمير أسعد والأمير أحمد ابنا الأمير عباس في ريعان الشباب بمرض الطاعون.

وفي سنة ١٢١٠ تُوفِّي الأمير بشير ابن الأمير محمد ابن الأمير حيدر وعمره نحو مائة سنة، وفي سنة ١٢١٦ تُوفِّي الأمير حمود ابن الأمير يونس بن فخر الدين بن حيدر شابًّا وذلك في قرية كفر قاهل من كورة طرابلس، وكان نجيبًا ذكيًّا. وفي سنة ١٢٢٤ تُوفِّي الأمير عباس ابن الأمير فخر الدين بن حيدر بن سليمان بن فخر الدين بن يحيى بن مذحج وعمره ثمانٍ وخمسون سنة، ودُفِن في الشويفات وله أربعة أولاد: منصور، وحيدر، وأحمد، وأمين. وكان طويلًا أبيض حسن الخَلْق والخُلق، عاقلًا فطنًا فصيحًا، حضر وقائع الجزار سنة ١٢٠٦ وبدت فيها شجاعته، واتحدَّ مع الأمير بشير عمر حين قدم واليًا سنة ١٧٩٧. ولما دهمت عساكر الجزار الشويفات في سنة ١٨٠٠ وذلك لتولية ابني الأمير يوسف الشهابي التقاهم الأمير عباس وأخوه الأمير يونس مع الأمير حسن عمر الشهابي، وكانوا نحو عشرة آلاف مقاتل، فهزمهم الأمراء وتولت الأمر بعد وفاة زوجها الأميرة حبوس؛ وذلك لذكائها وصغر أولادها. واشتهرت بسداد الرأي في السياسة والإغاثة للناس، ولكنها كانت شديدة مع ذلك على من لم يكن من حزبها، وكانت تُغلِظ له المعاملة. وفي سنة ١٢٣٧ / ١٨٢٠ تُوفِّي الأمير يونس بن فخر الدين أخو الأمير عباس وله من العمر ستون سنة، وقد وَلَد حسنًا، وكان شجاعًا يحب مطالعة التواريخ، وفي سنة ١٨٢١ مسيحية حضر الأمير أحمد أخو منصور وحيدر وأمين — وهم ولد الأمير عباس — وقعةَ المزة مع الأمير بشير عمر الشهابي، فامتاز بالشجاعة. ولما عاد الأمير بشير من مصر واليًا جعله على المقاطعة، وكان ذلك في سنة ١٨٢٢ مسيحية، فانتقلت والدته بولديها إلى بشامون، وصادرها الأمير المذكور بمال لها فتُوفِّيَتْ في تلك الأثناء. وفي سنة ١٢٣٩ / ١٨٢٣ تُوفِّي الأمير منصور ابن الأمير عباس بن فخر الدين بداء الجذام وله سليم، وكان طويل القامة أبيض اللون عريض الصدر شديد البأس، فارسًا مغوارًا، ماهرًا بإطلاق الرصاص والمثاقفة. واشتهر الأمير أمين والأمير أحمد في عدة مواقع جرت مع العرب شهرة عظيمة، وكان الأمير حيدر باللجاة فارًّا من وجه عسكر وزير دمشق. وفي سنة ١٢٤٩ / ١٨٣٣ تُوفِّي الأمير قاسم بن أفندي بن بشير بن محمد بن حيدر بن سليمان بن فخر الدين وعمره سبع وأربعون سنة وله محمد.

وفي سنة ١٨٤٠ ولي الأمير أمين بأمر من عباس باشا على الغرب الأسفل والساحل، وكان للأمير أحمد وللأمير أمين في حروب النصارى والمدافعة عن الشويفات في عدة وقائع فعال مشهورة. وفي سنة ١٢٥٤ تُوفِّي الأمير علي بن الأمير بشير بن علي بن بشير بن محمد بن حيدر بن سليمان بن فخر الدين بتولًا أيضًا، وانقطعت بوفاتهما سلالة الأمير بشير المعروف بأبي علي، وبعد سنة من وفاة الأمير خليل تُوفِّي والدهما الأمير بشير المُكنى بأبي علي، وكانت وفاته في سنة ١٢٥١ / ١٨٤٢، وفي هذه السنة نفسها قُبِض على الأمير أحمد وأُرْسِل إلى الآستانة، واتهم الأمير أمين بالممالأة على عمر باشا المعروف بالمجري، فذهب إلى الآستانة لتبرئة ساحته وتخليص أخيه، وعاد في سنة ١٨٤٣ مسيحية، وفي سنة ١٢٦٤ / ١٨٤٧ تُوفِّي الأمير أحمد ابن الأمير عباس بن فخر الدين في الغدير من أرض الشويفات بالداء المعروف بالريح الأصفر، ودُفِن في مقام الأمير عمرو الأوزاعي وله خليل، وكان طويلًا أسمر مهيبًا باسلًا حزومًا رءوفًا محبًّا للسلامة سريع الرضا عالي الهمة مقدامًا، خاض بحر السياسة والأحكام منذ صبائه، واقتحم الأخطار منذ نعومة أظفاره. وفي سنة ١٢٦٩ / ١٨٥٢ تُوفِّي الأمير حسن ابن الأمير يوسف بن فخر الدين بن حيدر في الشويفات فجأة، ودُفِن في القبة وعمره أربع وخمسون سنة وله أربعة أولاد: سعيد، ومسعود، وحمود، ومحمود. وفي سنة ١٢٧٥ تُوفِّي الأمير أمين ابن الأمير عباس بن فخر الدين بن حيدر وله محمد ومصطفى، وفي سنة ١٢٧٩ تُوفِّي الأمير محمد ابن الأمير قاسم بن أفندي بن بشير بن محمد منفيًّا في مدينة بلغراد قاعدة بلاد الصرب مع مَنْ نُفِيَ من سراة جبل لبنان على أثر الحوادث المعروفة بحوادث سنة ستين، وله من العمر خمس وخمسون سنة، وكان كريمًا جدًّا ذا بسالة ومروءة، وقد تزوَّج بابنة الأمير حيدر بن عباس فلم يُعقِّب ولدًا. وفي سنة ١٢٨٥ تُوفِّي الأمير محمد ابن الأمير أمين بن عباس بن فخر الدين في الآستانة العلية بتولًا، وله من العمر إحدى وثلاثون سنة، وفي سنة ١٢٨٨ تُوفِّي الأمير فريد بن ملحم بن حيدر في الرابعة عشرة من سنه، وفي سنة ١٢٩٢ تُوفِّي الأمير حيدر بن عباس بن فخر الدين في بيروت وعمره خمس وثمانون سنة، وفي سنة ١٢٩٤ تُوفِّي الأمير سعيد بن حسن بن يونس بن فخر الدين في بيروت وله أفندي وعمره ثمانٍ وخمسون سنة، وفي سنة ١٢٩٦ تُوفِّي الأمير ملحم بن حيدر بن عباس وعمره إحدى وستون سنة وله مجيد ورشيد، وفي سنة ١٣٠١ تُوفِّي ولده الأمير رشيد بداءٍ عصبي في عين عنوب وهو بتول وعمره ثمانٍ وثلاثون سنة، وفي سنة ١٣٠٥ تُوفِّي الأمير حمود بن حسن بن يونس بن فخر الدين في الشويفات وله من العمر ثمانٍ وخمسون سنة وله أربعة: نسيب، وشكيب، وحسن، وأحمد عادل. وكان عاقلًا كريمًا جسورًا ذا همة ومروءة ومعرفة، قرأ العربية على المرحوم الشيخ الإمام محيي الدين بن عمر اليافي، وتعلم التركية، وكان يحسن الإنشاء ويقرض الشعر، وفي ١٣٠٧ تُوفِّي الأمير هاني بن عباس بن سليم بن منصور في عين عنوب في الثانية عشرة من عمره.

أما الذين اشتهروا في المتأخرين من أمراء آل أرسلان فهم:

السيدة حبوس

ابنة الأمير بشير بن محمد بن حيدر بن سليمان بن فخر الدين بن يحيى بن مذحج بن جمال الدين أحمد الذي شهد وقعة مرج دابق بين السلطان سليم وقانصوه الغوري، وُلِدت في الشويفات من قرى لبنان سنة ١١٨٢، وكانت بمنزلة سامية من سداد الرأي وشدة الذكاء وصفاء الإدراك وعلو الهمة وكرم اليد والنفس، تزوجت بالأمير عباس بن فخر الدين، وكانت تجالس الرجال وتسطو عليهم بفصاحتها فتقودهم بأفكارها، وكانت شديدة النصرة لمن لجأ إليها فتعينه على قضاء حاجاته، ولا تضن بالنفقة عليه إذا مست الحاجة إلى بذلها، وأما من خالفها في المشرب، وتحيَّز لضدها فكانت تبالغ في الانتقام منه حتى تفقده كل حق له بما كان لها من الكلمة النافذة عند الحكام. وفي سنة ١٢٠٨ ولاها الأمير بشير مقاطعة الغرب، فسلكت في الأعمال سلوكًا يدل على ذكائها وحذقها، فلما دخل الأمير بشير وأخوه الأمير حسين والشيخ بشير جانبلاط سجن أحمد باشا الجزار بعكة أمدت الأمير بشيرًا بالمال، وسخت بالنفقة على أهل بيته، وبذلت ما في وسعها لاستمالة الناس إليه، ثم عندما ولَّى عبدُ الله باشا على الجبل الأميرَ حسنًا والأميرَ سلمان من بني شهاب بعد أن أخذ منهما ميثاقًا أن يزيدا له في الضريبة على الجبل؛ رحلت هي مع الأمير بشير والشيخ بشير إلى حوران، وكانت تتحدث معهما في أحوال البلاد، وحاربت — فيما يُقال العرب — لتعدِّيهم على دروز حوران، واستظهرت عليهم. ولما رجع الأمير بشير إلى ولايته أعادها إلى منصبها، ولكنها في سنة ١٢٣٧ شاقَّت الأمير بشيرًا؛ إذ سار إلى مصر ليشفع في أمر عبد الله باشا الذي اعتُقِل، ثم عاد ظافرًا بمرغوبه واتحدت مع الشيخ بشير في مقاومة الأمير؛ فصادر الأمير الشيخ على أمواله، وعمل على قهره حتى تحققت له أمانيه بالغلبة عليه سنة ١٢٤٠، فسارت هي عند ذاك إلى بشامون، فأوعز الأمير بشير المذكور إلى الأمير بشير قاسم أن يصادرها على أموالها فشدد هذا عليها، فلم تلبث أن ماتت بدسيسة وكان عمرها ثمانٍ وخمسون سنة، ودُفِنَتْ ببشامون ولها الأمير منصور، والأمير أحمد، والأمير حيدر، والأمير أمين. كما تقدم ذكر ذلك.

الأمير أحمد

وُلِد سنة ١٢١٣ في بشامون، ولكنه نشأ في الشويفات، وكان بصيرًا بالأمور شجاعًا وديعًا صبورًا طويل القامة أسمر مهيبًا، وكان لما ظفر الأمير بشير بالشيخ بشير من أحزاب الشيخ، ففرَّ مع أخويه الأمير حيدر والأمير أمين إلى حوران؛ حيث مكث سنة ثم رجع فصُودِر على مالٍ أدَّاه، ولبث مضطرب البال حتى إنه اضطر أن يفر ذات ليلة إلى طرابلس لائذًا بواليها علي باشا الأسعد المرعبي؛ استنادًا إلى ما بينهما من الصداقة من قبل. وقد صحبه إلى برِّ الأناضول عندما فصل عن طرابلس، ثم رجع إلى عكة ولاذ بعبد الله باشا، فأجرى هذا عليه وظيفة كانت تُدفَع إليه في كل شهر، وجعله في قرية من أعمال صفد؛ فبقي في القرية حتى جلت العساكر المصرية عن سورية، وكان ذلك سنة ١٢٤٧ فردَّ إلى الجبل حاكمًا. ولما قدم إبراهيم باشا بدت من الأمير أحمد بسالة عظيمة، ولما انتصر إبراهيم باشا عاد الأمير إلى قونية، ثم سار منها إلى الآستانة لانتصار العساكر المصرية في قونية أيضًا، وفاز بالمثول لدى الصدر الأعظم، فأثنى الصدر عليه، وشكر له همته وبلاءه الحسن في الحرب، وجعل له راتبًا قدره ألفا غرش في كل شهر، ثم صحب العساكر المصرية، ثم رجع إلى بيته بعد تغيبه عنه مدة لا تنقص عن سبع عشرة سنة، ثم لما كان ما كان من أمر الحادثة الأولى في الجبل — وذلك في سنة ١٢٥٧ — اعتقله عمر باشا المجري في جملة من اعتُقِل وسُجِن في بيروت، فثارت الناس بعمر باشا فعُزِل، ثم فُصِل الجبل إلى شطرين بطريق الشام وذلك في أيام ولاية أسعد باشا سنة ١٢٥٩، فنصبه أسعد باشا في منصب قائمقام على الدروز — وهو أول قائمقام عليهم — ولبث في ذلك المنصب حتى جرت حوادث ١٢٦٠، فحضر شكيب أفندي منفذًا من لدن الدولة العلية لإطفاء ثائرة الثورة، فخلعه وجعل أخاه الأمير أمينًا مكانه، وكان ذلك سنة ١٢٦١ فأتى بيروت واستوطنها حتى غشيها الوباء الأصفر سنة ١٢٦٤، فأتى بأهله الغدير حيث تُوفِّي بالوباء نفسه، وكان عمره إحدى وخمسين سنة فدُفِن في مقام الإمام الأوزاعي، وكان ابنه الأمير خليل طفلًا فأسِفَ القوم عليه واحتفلوا بجنازته ورثَتْهُ الشعراءُ، وقال فيه شاعر العصر الشيخ ناصيف اليازجي تاريخًا حُفِر على ضريحه؛ وهو:

لقد ناحت رُبى لبنان حزنًا
على من كان في يده الزمامُ
أمير من بني رسلان كانت
تذل له الجبابرة العظامُ
كريم قد توارى في ضريحٍ
تحف به الملائكة الكرامُ
فصادف أرخوه مقر مجدٍ
تجاور فيه أحمد والإمامُ
سنة ١٢٦٤

الأمير أمين

هو ابن الأمير عباس بن فخر الدين بن حيدر بن سليمان بن يحيى بن مذحج بن جمال الدين أحمد، وُلِد بالشويفات ١٢٢٤، وتُوفِّي أبوه وعمره سنتان فاعتنَتْ به أُمُّه السيدة حبوس أكثر من إخوته بما رأت فيه من مخايل النجابة، وكان الأصغر بين إخوته، ولما تُوفِّيَتْ أمه رحل مع أخويه الأمير حيدر والأمير أحمد إلى عكة؛ فرارًا من الأمير بشير، ولجأ معهما إلى علي باشا الأسعد، ثم أتوا الشيخ بشير جانبلاط في راشيا، وعادوا معه إلى مواطنهم، ثم صحبوه إلى حوران، ثم إلى عكار، ثم عادوا إلى الجبل، وكان ذلك سنة ١٢٤١. وفي سنة ١٢٤٢ شهد المواقع الثلاث التي وقعت بين الأمير بشير والدروز بالمختارة، فلما فاز الأمير بشير فرَّ الأمير أمين إلى حوران. وفي سنة ١٢٤٣ أتى دمشق لملاقاة علي باشا الأسعد، وقد أوشك أن يقع في يد أعدائه لو لم يُبْدِ من الشجاعة ما مكَّنه من النجاة، ثم صحب علي باشا إلى بر الأناضول فجعله مهردارًا وقرَّبه إليه كثيرًا، وعوَّل عليه في أموره، ثم قدم الأمير أمين دمشق مع أخويه، وشهدوا ما وقع بين العرب والشمري من المواقع، وقد بلغت ثلاثًا وثلاثين موقعة في شهرٍ واحد، فاشتهر الأمير ببسالته؛ فأحبه الشمري وجعله قائدًا على مائة. وفي سنة ١٢٤٧ تولى المحافظة على جبة فرعون وطريق الحاج، وفي سنة ١٢٤٨ رجع إلى وطنه، وانضم إلى العساكر المصرية في محاربة عبد الله باشا، وقد حضر حصار عكة، ولما فُتِحَتْ رجع إلى وطنه، وفي سنة ١٢٤٩ صحب الأمير بشيرًا إلى دمشق لفتحها، ثم عاد إلى الجبل، وفي سنة ١٢٥١ سار معه إلى صفد لمحاربة أهلها فاشتهرت هناك بسالته وارتفع بذلك قدره، وفي سنة ١٢٥٦ أرسله الأمير بشير إلى صيدا، ثم أتى مع العسكر المصري إلى بيروت، وانضم إلى عباس باشا الذي جاء لمحاربة اللبنانيين، ولبث معه حتى انتهت الحرب فأعجبته بسالته، وأمر الأمير بشير أن يُولِّيه مقاطعة الأرسلانيين؛ فولَّاه الغرب الأسفل والساحل، ثم جاء بيروت ودخل في طاعة قائد العسكر العثماني عزت باشا فوجَّهَه القائد مع زكريا باشا إلى يافا.

ولما كانت سنة ١٢٥٧ أمره مصطفى باشا — سرعسكر الدولة — حين قدم لبنان لتمهيد أحواله أن يصحب عمر باشا المجري إلى بيت الدين، وأوعز إلى عمر باشا أن يعوِّل عليه، ولكن الأمير لم يلبث أن عاد إلى الشويفات.

وفي سنة ١٢٥٨ جعله السرعسكر قائدًا لسبعمائة جندي، ثم اتُّهم بعد رجوع السرعسكر إلى الآستانة أنه زين للدروز محاربة عمر باشا فقصد الآستانة بطريق بغداد وسطا عليه العرب في الطريق مرارًا، ووقعت له معهم واقعات كثيرة ذاق فيها ألوانًا من الأهوال، فوصل بغداد في أحد عشر رجلًا ممن يُركَن إليهم؛ فأكرم والي المدينة نجيب باشا وفادته، وسأله أن يكون رئيسًا للجند فأبى، واستأذنه في المسير إلى الآستانة فأذن له وسلَّحه بكتبٍ إلى بنيه يوصيهم به.

ولما كانت السنة التالية سنة ١٢٥٩ رجع الأمير إلى موطنه ومعه كتب مؤذنة بالرضا عنه، وفي سنة ١٢٦١ ولَّاه شكيب أفندي قائمقامية الدروز في القسم الجنوبي من لبنان وذلك بعد أخيه الأمير أحمد، فلبث في منصبه حتى توفاه الله. وفي سنة ١٢٦٦ أحسن إليه برتبة إصطبل عامره مع نيشان مرصع، وسنة ١٢٧٠ ذهب إلى الآستانة حيث أقام نصف سنة، ثم عاد وقد صفا له الكأس وراق العيش، فتنافست في مدحه الشعراء، ومِنْ أحسن ما قيل فيه من المديح منظومات الشيخ ناصيف اليازجي فيه التي طُبِعَتْ في ديوان الشيخ «نفحة الريحان»، وكان الأمير كثير البر بالشيخ وبغيره من الشعراء الذين مدحوه. وفي الأيام الأخيرة من سنة ١٢٧٤ أُصِيب بذات الرئة فأُتِي بعائلته إلى مقام الإمام الأوزاعي رغبة في تبديل الهواء، فتُوفِّي ليلة عيد الفطر سنة ١٢٧٥، وكان عمره خمسين سنة ونيفًا، ودُفِن هناك. وأما مدة ولايته فكانت ثلاث عشرة سنة، وكان شجاعًا مهيبًا حليمًا كريمًا فصيحًا شديد الذكاء يحب العلم وأهل العلم، ويبالغ في إكرامهم ويكثر لهم الحباء؛ ولذلك كثر فيه مدحهم. الأمير حيدر أخو الأمير أمين وُلِد سنة ١٢١١ بالشويات ونشأ بها، وكان كلفًا بطلب العلم، قرأ علم الفلك والإصطراب، وبرع في المنطق والفقه والصرف والنحو، وكان ورعًا في الدين حسن السريرة سخيًّا في المعيشة. ولما قُبِض على الشيخ بشير، وكان الأمير من حزبه، التمس هذا الأمر من الأمير بشير الشهابي بالعود إلى وطنه، وذلك سنة ١٢٤١ فسُمِح له، ولكن على شرط أن يؤدِّي أربعين ألف غرش، فباع قسمًا من أملاكه ودفع إليه ثمنها. وإذ بلغ الأمير بشيرًا أنه أمدَّ أولًا الشيخ بشير بالمال صادره على عشرين ألف غرش، فأيقن إذ ذلك أن لا تصفو له المعيشة في لبنان؛ ففرَّ مع أخويه الأمير أمين والأمير أحمد وصحبهما أينما كانا؛ فناله ما نالهما، ثم عاد الأمير بشير، فأمر أن تُرَدَّ إليه أملاكه ومتَّعه بالراحة والأمان؛ فرجع وأقام بالشويفات. ولما كانت سنة ١٢٥٩ استقدمه إليه أسعد باشا وقرأ عليه بعض الفنون، وكان يحترمه كثيرًا، وفي سنة ١٢٨١ جعله داود باشا — وهو رأس المتصرفين للبنان — مديرًا للغرب الأقصى، وفي سنة ١٢٨٤ أحسن إليه بالوسام المجيدي من الدرجة الرابعة. ولما عُزِل ابنه الأمير ملحم عن قائمقامية الشوف أتى بعياله بيروت واستوطنها حتى تُوفِّي فيها سنة ١٢٩٣ عن اثنتين وثمانين سنة، فنُقِل إلى الشويفات ودُفِن فيها بما يليق به من التجلة والإكرام، ولم يعقب من الولد إلا الأمير ملحمًا، وكان يحب العلم وأهل العلم، ويرتاح إلى المحاضرة والمناظرة، وقضى أيامه الأخيرة بالرفاهية والراحة، وكان حلو الحديث لطيف العشرة حسن الطية كثير الصدقات، وكان له شعر رقيق.

الأمير ملحم ابن الأمير حيدر

وله بالشويفات سنة ١٢٣٦، ونشأ فيها طلب العلم، فكان له إلمام بالفرائض والنحو والحساب وغير ذلك من العلوم، وأما الفقه فأخذ منه نصيبًا كبيرًا ونظم فيه أرجوزة حسنة ضمَّنها أحكام السَّلَم، ونَظَم رقيقَ الأشعار، ولما كانت حادثة الجبل الأخيرة المعروفة بحادثة سنة ستين لم يكن له فيها يد إلا في مساعدة المصابين ووقاية أهل وطنه — ولا سيما النصارى منهم — فأحبه الناس وازدادت ثقتهم به، ولما قدم المغفور له فؤاد باشا إلى هذه الديار منفذًا من لدن الدولة العلية لإطفاء نيران الثورة استحضره في جملة من استحضر إلى بيروت فسُجِن أربعة أشهر، ولكن النصارى جهروا بالمحاماة عنه فخُلِّي سبيله ورُدَّت إليه أملاكه، ولما قدم المغفور له داود باشا متصرفًا على لبنان نصبه مديرًا على ناحية الشوف بعد أن وثق من شهادة القوم فيه أنه حسن التصرف كفؤ لذلك، فقام بأعباء منصبه خير قيام، وأحبه المتصرف وقرَّبه إليه وعوَّل عليه، ثم أحسن إليه برتبة إصطبل عامره مع وسام مجيدي من الدرجة الرابعة مكافأة له على صدق خدمته، وكان ذلك سنة ١٢٨٠، فازدادت بذلك رغبته في تحسين إدارة الأحكام فوجهت إليه الرتبة الثانية المتمائزة مع الوسام المجيدي من الدرجة الثالثة سنة ١٢٨٤، ولما قدم المغفور له فرانقو باشا متصرفًا على لبنان خلفًا لداود باشا أقره في منصبه. وفي سنة ١٢٧٦ أحسن إليه بالرتبة الأولى من الصنف الثاني، ولما ولي المغفور له رستم باشا متصرفية الجبل عزله عن قائمقامية الشوف، وجعل الأمير مصطفى ابن الأمير أمين في منصبه، وكان ذلك سنة ١٢٨٩، وكانت مدته في خدمة الحكومة اثنتي عشرة سنة، وأتى بعياله إلى بيروت، ثم تُوفِّي بالشويفات ودُفِن بها، وكان ذلك عام ١٢٩٦.

الأمير محمد هو ابن الأمير أمين

وُلد بالشويفات سنة ١٢٥٤، وطلب العلم مشغوفًا به، فاعتنى أبوه بأمر تعليمه وتثقيفه للأحكام منذ نعومة أظفاره بما رأى فيه من الاستعداد، فقرأ العربية، وأتقن معرفة اللغة التركية، ثم درس الفرنسية فأجاد فيها، ونال شيئًا من فن تصوير اليد وتصوير الشمس، ونظم في صبائه أشعارًا لطيفة. ولما أدرك الخامسة عشرة من عمره تولى إدارة الغرب الأقصى تحت سيطرة أبيه، وفي سنة ١٢٦٨ أُعطِي رتبة قبوجي باشي، وفي سنة ١٢٧٤ عُهِد إليه أن يكون وكيلًا للقائمقامية لاعتلال أبيه، ولما تُوفِّي أبوه في السنة التالية صار هو في المنصب أصيلًا، وأحسن إليه برتبة إصطبل عامره، وبعد أن وقعت الفتنة الأخيرة في لبنان بين الدروز والنصارى أتى بعياله بيروت واستوطنها وانقطع للمطالعة والتأليف، ولما كانت سنة ١٢٨٥ أنشأ الجمعية العلمية السورية ببيروت، ثم وُجِّهَتْ إليه في هذه السنة نفسها الرتبة الأولى، وجُعِل عضوًا لمجلس شورى الدولة، فسار إلى الآستانة ونال بواسطة أصدقائه اعتبار رجال الدولة العلية وسفراء الدول له، فصار بذلك نافذ الكلمة مرعي الجانب، ولكنه أُصِيبَ هناك بمرض في قلبه تُوفِّي به، وكانت وفاته في رمضان سنة ١٢٨٥ وعمره إحدى وثلاثون سنة وبضعة أشهر، ودُفِن في تربة السلطان أيوب، وكان بعيد المدارك حكيمًا متوقد الذهن حازمًا في أعماله بارعًا في العلوم، وله من التآليف اختبار الأخبار في أحوال التاريخ، وتشحيذ الأذهان في المنطق، والكلمة في الصرف والنحو، وحقائق النعمة في طول الحكمة، والمسامرة في المناظرة، وبديع الألباب في التصريف والإعراب، وتعديل الأفكار في تقويم الأشعار، وتوجيه الطلاب في علم الآداب، وسر الأفكار في النحو، والأجل في الإعراب، ورواية فرح بن سرور، والتحفة الرشدية في اللغة التركية، وتماثيل الأحوال في مبادي الأعمال، وعظمة وسقوط العرب. ولكن المنية أدركته قبل استيفاء الآخِرَيْن من تأليفه وهما من أحسن ما كتب في التاريخ والآداب، ولم يُطبَع من هذه التآليف إلا التحفة الرشدية.

(٧) الأمراء اللمعيون

ذكرنا فيما تقدَّم التنوخيين، ثم الأرسلانيين منهم، وها نحن الآن مثبتون ذكر اللمعيين عملًا بانتساق المطلوب في التواريخ؛ وذلك لأن هؤلاء الأمراء من قبيلة اشتهرت بين القبائل التنوخية التي جاءت من أنحاء حلب كما تقدم تفصيل ذلك في موضعه، وهذه القبيلة هي قبيلة بني فوارس. قدم هؤلاء في سنة ٨٢١ بعد المسيح من أنحاء حلب إلى لبنان، فجاءوا المتن ونصبوا فيها خيامهم، ثم توطنوا ذلك المكان واستعمروا الأرض ونموا؛ فصاروا خلقًا كثيرًا، ثم علا شأنهم وعظم جاههم، فانضم إليهم أعوان كثيرون، ووقعت مهابتهم في قلوب مجاوريهم فاتخذوا لأنفسهم لقب مقدمين. وفي أواسط القرن السادس عشر استوطن أحد هؤلاء المقدمين المكنى بأبي اللمع قرية كفر سلوان وبنى على تل فيها دارًا حسنة، ووُلِد له ولدان — علم الدين وقايد بيه — فعلم الدين ولد حسينًا، وحُسينٌ وَلَدَ محمدًا، ومحمدٌ وَلَدَ مرادًا وفارسًا؛ فصار قايد بيه ومراد وفارس رؤساء أسر كبيرة، كل منهم رئيس أسرته. ثم ذهب مراد إلى المتين فاستوطنها وبنى فيها قلعة، وبنى أولاده قلعتين في قرنايل وفالوغا وأتى قايد بيه صليما، وبنى فيها قلعة وبنى أولاده قلعة برمانا، وأما فارس فأتى إلى زوق الخراب أولًا، ثم إلى بسكنتا وتوطَّنها، وأما أبو اللمع فوقعت بينه وبين مقدمي الشبابية بني الصواف عداوة أفضت إلى تغلُّبه عليهم حتى انقرضوا.

وفي سنة ١٦٥٢ تُوفِّي فدُفِن في المتين، ثم تُوفِّي بعده ابنه المقدم علم الدين فدُفِن هناك، وفي سنة ١٦٥٦ ولَّى والي طرابلس محمد آغا الطباخ المقدم فارسًا على جبة بشري، وفي سنة ١٦٥٩ جعل قبلان باشا المقدم فارس مراد على عكار، وفي سنة ١٧١١ قدم الأمير حيدر الشهابي من أنحاء نيحا بقضا الشوف يريد أن يقاتل محمود باشا أبا هرموش الدرزي الذي تولى مكانه، فنزل الأمير على المقدم حسين من سلالة المقدم علم الدين اللمعي في رأس المتن، فوفد عليه أحد أحفاد المقدم مراد والمقدم عبد الله اللمعيان في جمهور غفير من رجالهما وسائر أحزاب القيسيين، فشاورهم الأمير في الأمر؛ فرأى المقدم مراد الانصراف من وجه عساكر الوزراء إلى كسروان؛ لأن محمود باشا كان قد احتشد عسكره بعين دارة ووافاه وزير دمشق بعسكره إلى قب إلياس ووزير صيدا بعسكره إلى ضواحي بيروت، فأنكر الباقون هذا الرأي، ووطنوا نفوسهم على النهوض إلى عين دارة، فدهموها ليلًا فدخلها المقدم عبد الله والمقدم حسين أولًا، فظفر المقدم حسين بابن الصواف صاحب المتن اليمني عدوه، فقتله وقتل ثلاثة من أمراء اليمنية، وانتصرت القيسية على اليمنية انتصارًا عظيمًا وقبضوا على محمود باشا، واتُّفِق بعد انتهاء القتال أن دخل رجل على المقدم حسين وخاطبه جريًا على العادة بلقبه — لقب المقدم — فغضب حسين عليه غضبًا شديدًا، ويده إلى سيفه وهو يقول: أأقتل ثلاثة أمراء ويُقال لي مقدم؟ وفي ذلك الحين أطلق الأمير حيدر على المقدمين اللمعيين لقب أمير، وتزوج منهم وأزوجهم، فتزوج ببنت الأمير حسين فوُلِد له منها الأمير بشير الملقب بالسمين، وأزوج بنته من الأمير عساف ابن الأمير حسين، وأقطعه قاطع بيت شباب وبكفيا، ثم تزوج من أم الأمير مراد وأقطعه نصف المتن وبسكنتا فوُلِد له منها الأمير عمر جد الأمير بشير الكبير الوالي الذي سيجيء تفصيل حياته فيما بعد عند ذكر الأمراء الشهابيين، وأزوج بنته من الأمير عبد الله، وأحبه كثيرًا بما شهد منه يوم وقعة عين دارة من البسالة وشدة البأس.

إن الدروز قد أحرقوا في الحروب التي انتشبت بينهم وبين النصارى سنة ١٨٢٥ غالب القلاع التي بناها الأمراء اللمعيون، ولما تمكَّنت العداوة بين الطائفتين طلب بعض النصارى من الأمراء اللمعيين أن يتَّحِدوا معهم لمحاربة الدروز حربًا شديدة، وكان الأمير موسى حينئذٍ رأس اللمعيين، فأجابهم هذا الأمير: إنني لا أشترك في حرب تفضي إلى خراب البلاد وليس من داعٍ يدعو إليها إلا الاختلاف في المذهب، وهذا ليس من حدود البشر أن يتصدوا له. فألحَّ القوم عليه أن يتَّحِد معهم، وعرضوا عليه أن يستلم القيادة فيهم، فأبى إباءةً شديدة ولم يذعن لهم في شيءٍ؛ فسخطوا عليه سخطًا شديدًا وخرجوا من مجلسه وهم يقذفون عليه الشتم والسباب، وملأوا داره تهديدًا ووعيدًا مُقْسِمين أن ينتقموا منه؛ فأوجس الأمير خيفة وذهب في جماعةٍ من رجاله إلى قرنايل حيث كان الباشا العثماني، وأطلع هذا الباشا على دخيلة الأمر، وسأله أن يُمِدَّه بعدد من الجنود ليصد هجوم الثائرين، فأجاب الباشا سؤله وجهزه بعدد من جيشه فسار بهم، ولكن لم يَبْغِ بهم ضواحيَ قرية المتين حتى رأى بعينه الدخان متصاعدًا من قلعته ودوره؛ لأن المنتقمين كانوا قد أضرموا فيها النار، وأركنوا إلى الفرار. ثم مال النصارى بعد ذلك إلى الأمير حيدر من سلالة المقدم قايد بيه اللمعي، وقد تنصَّر هذا الأمير وهو في الثانية عشرة من عمره، وتلقى في مدارس الرهبان المارونيين العلوم اللاهوتية والأدبية وأحبَّه الناس كثيرًا؛ لأنهم زعموا أنه ينتقم لهم من الدروز، ولكن الأمير لم يكن ميالًا للحروب وسفك الدماء، فجاء بكفيا وبنى فيها قلعةً ودارًا عظيمة، وكان جوادًا كريمًا محبًّا للسلام كارهًا للفتن والدسائس، فاكتسب ثقة عددٍ كبير من الناس به، ولكن البعض من المولعين بسفك الدماء لم يرضوا عنه، فوشوا به إلى الأمير بشير عمر الشهابي الوالي الملقب بالكبير، ولم يكفوا عن السعاية فيه لديه حتى أوغروا صدره عليه، ولما حدثت الفتنة المعروفة بفتنة سنة ١٨٤٠ اعتقد الأمير بشير أن الأمير حيدر كان البادئ بها والمسبب لها؛ فأرسل ليستقدمه إليه بكتاب لطيف مملوء من عبارات المجاملة والملاطفة، فلما قرأ الأمير حيدر تلك الرسالة سار للحال في عدد من أعوانه إلى بيت الدين لمقابلة الأمير بشير، فلما بلغها أمر به فقيدوه بيديه ورجليه، ثم نفاه في الحال في جملة غيره من المنفيين إلى مصر، ولما دنا المنفيون من صيدا أمر بهم الضابط المصري فوُقِفوا بين يديه وجُعِلوا على شاطئ البحر صفًّا واحدًا، ثم أمر الضابط جنوده فجعلوا بنادقهم إلى أكتافهم مصوِّبة أفواهها إلى رءوس المنفيين وصدورهم، فأثَّر هذا المنظر المخيف في الأمير حيدر أثرًا كبيرًا، وذلك فوق ما عانى في الطريق من المشاق والعذاب وآلام القيود. ثم سار الضابط وجنده بالأسرى إلى مصر ومنها إلى سنار، ولبثوا أكثر من شهرين ينتقلون ارتحالًا على ضفاف النيل، وقاسى الأمير حيدر من المهانة وضرب السياط وأثقال القيود والآلام ما لا يُوصَف، وسطت عليه أخيرًا حمى خبيثة كادت تذهب بحياته، وإذ بلغ الحكومة الإنكليزية في تلك الأيام ما حلَّ بالأمير سَعَتْ جهدها لإخلاء سبيله وإرجاعه إلى دياره، فكان لها ذلك وعاد الأمير.

وفي أوائل سنة ١٨٤٢ استقدم أسعد باشا الأمير حيدر إليه وولَّاه على نصارى لبنان من نهر إبراهيم إلى غاية الأعمال الجنوبية، ودعاه قائم مقام النصارى وجعل على بلاد جبيل وما يليها ويتبعها من القرى والأنحاء واليًا مسلمًا، وجعل الأمير أحمد عباس الأرسلاني قائم مقام على الدروز، ثم وقع اختلاف بسبب المختلطين من النصارى بالدروز ومن الدروز بالنصارى في كل من القائمقاميتين، فرفع الوزير أمر ذلك إلى الدولة، فأمرت بقسمة البلاد؛ فجعلت سكة دمشق فاصلة بينهما بحيث كل قائممقام منهما يدير أمر من اشتملت قائممقاميته عليهم من دروز ونصارى، وأما دير القمر فأنفذ إليها حاكمًا من الدولة ودُعِيَ مسلمًا، ولكن ذلك لم يُسكِّن الخواطر الثائرة ولا سيما من النصارى الذين لم ينفكوا عن الاستعداد ليثأروا من الدروز عما نالهم منهم؛ فجعلوا على كل قرية رأسًا، وفي بعض الأماكن أكثر من رأس، وسموا هؤلاء الرءوس شيوخ شباب، وجعلوا يشترون الأسلحة والذخائر لها متربصين بإخوانهم شر الوقيعة؛ فكثرت أسباب القتل والسلب.

ولما كانت سنة ١٨٤٤ ضُمَّتْ بلاد جبيل إلى قائمقامية الأمير حيدر، ثم التمس نصارى هذه القائمقامية من الدولة العلية أن تأمر بإجراء المساحة على البلاد؛ وذلك لأن بعض الولاة من آل شهاب كانوا قد بدلوا في الأموال المضروبة على العقارات، فحوَّلوا بعضًا منها عن عقار إلى عقار، فأجابت الدولة العلية التماسهم وأمرت بإجراء المساحة؛ فاجتمع رجال الديوانين ووكلاء البلاد في بيروت وانتخبوا مقومين وكتبة ونظارًا، وعينوا لكل منهم راتبًا عشرين غرشًا عن كل يوم تُؤخَذ من القرى على أن تكون فرضًا مما عليها من الأموال الأميرية، وقسم عمال المساحة هؤلاء إلى ست فئات كل فئة ثمانية عمال ووجهوهم إلى البلاد لإجراء المساحة؛ فاستوفوا ذلك الإجراء في مدة ثلاثة أشهر، ولكن المساحة كانت فاسدة. ولما بلغ المساحون جبة بشرة طلع عليهم أهلها وطردوهم، فأرسل الأمير يسترضي هؤلاء القوم حتى امتثلوا لأمره في مسألة المساحة، فرجع إليهم المساحون ومسحوا أرضهم، ولما تحقق لدى أهل المعرفة أن الدفاتر التي دُوِّنَتْ فيها المساحة مختلة نبذوها.

وفي تلك السنة نفسها اتفق بعض الأمراء من الشهابيين ومن اللمعيين مع بعض الشيوخ من شيوخ الدروز على أن يستخلصوا البقاع من والي دمشق، فجهزوا رجالًا وسيَّروهم إلى قب إلياس، فلما بلغ ذلك الوزير وجَّه عليهم قائدًا في مائتي فارس، وكان القائد يُقال له السيناوي، وربما كان السيد ناوي فالتقاه اللبنانيون ببر إلياس، وجرت هناك موقعة شديدة هُزِم بها السيناوي ففرَّ إلى دمشق، وقُتِل من عسكره سبعة عشر فارسًا، فغضب الوزير وجهز سبعمائة فارس وجعل عليها قائدًا يُدعَى بوزو الكردي، فأرسل الأمراء الشهابيون الأمير إسماعيل علي واللمعيون أرسلوا أربعة منهم، وسار كذلك الشيخ خطار العماد وبعض من الشيوخ، فاجتمعوا في قب إلياس، ولكنهم لم يتفقوا على مقاتلة ذلك القائد بل اكتفوا أن استحصل كل منهم على غلات من غربي البقاع، ومن أكثر السهل أخذوها عنوةً، ثم عادوا إلى موطنهم. ولما كانت سنة ١٨٤٥ أخذت الفتن أن تجري مجراها بين الدروز والنصارى، ووقع السلب والقتل وقطع الطريق، وكان إذ ذلك قد عزل أسعد باشا وجعل وجيهي باشا في مكانه، فكان كلما رُفِعَتْ إليه شكوى من الدروز على النصارى أرسل عسكرًا لمعاقبة المعتدين والاقتصاص منهم، فجعل في قرية عبيه مائة جندي وبكفرشيما مائة وبالحدث خمسين، ولما عقد النصارى عزمهم على إضرام نيران الحرب أنفذ التلاحقة إلى الأمير ملحم رسولًا يصدفه عن الحرب فأبى، فلما كان آخر نيسان لقي بعض النصارى من أهل المعلقة شرذمة من الدروز عند الناعمة يخفرون ذخيرة لأبناء قومهم؛ فقاتلهم النصارى وهزموهم، واستصرخ كل من الفريقين أصحابه، فبلغ الصوت المعلقة وبلغ دروز الغربين، وظل النصارى في أثرهم حتى بلغوا ضواحي عرمون، وقُتِل من الدروز ثمانية رجال فالتقتهم دروز الغربين هنالك، فحميت نار القتال فانهزم النصارى إلى الناعمة، وقُتِل الأمير أسعد حمود وثلاثة نفر، فدخلت الدروز دير الناعمة ونهبوا ما به؛ فانحدر إليهم فريق من نصارى عبيه وهزموهم واستخلصوا منهم ما نهبوا وقتلوا منهم رجلين، فانكفأت الدروز إلى عرمون. ولما بلغ أهل الساحل صوت البارود هبَّ بعض النصارى منهم إلى إعانة أبناء مذهبهم، وبينما هم في الطريق إذا قايد في شرذمة من الجند النظامي والأمير بشير أحمد اللمعي والأمير أمين أرسلان أدركوهم فصدوهم عن المسير عنوةً، وقبض القائد على ستة عشر رجلًا منهم، فانتزع سلاحهم من أيديهم وعاد بهم إلى بيروت، فجُعِلوا في السجن؛ ففشا لذلك الرعب في النصارى من أهل الساحل.

وفي ذلك اليوم نفسه بعث رئيس الجند الذي في عبيه خمسين نفرًا إلى عين كسور في طلب الأمير عبد الله قاسم ومن معه من النصارى؛ ليمسكهم عنده في عبيه عن مقاتلة الدروز، ثم إن عشرين رجلًا خرجوا في أول آذار من دير القمر يريدون إصلاء الحرب على الدروز، وجعلوا يلقون الهياج في قلوب النصارى؛ فانضم إليهم جماعة من الجرد، واضطرمت نيران الحرب بينهم وبين الدروز في معصريتا، فانهزمت الدروز إلى بتاتر، فأحرق النصارى بعض معصريتا، ثم تجمعت الدروز فارتدت على النصارى فهزمتها، وأحرقت دير سير وشوريت وقفت أثر النصارى حتى رشميا فلجأ بعضهم إلى الحصار في القرية، وولَّى الباقون منهزمين إلى دير القمر؛ فأحرقت الدروز بعض بيوت من رشميا، وكانت جملة القتلى ثلاثة عشر رجلًا من النصارى وأربعة عشر رجلًا من الدروز، وأما أهل المناصف والشحار من الدروز، فلما نما إليهم ذلك خفوا لمساعدة أصحابهم فوصلوا كفر قطرا، ولما اتصل واقع الحال بقائد العسكر في دير القمر سيَّر من عسكره فرقتين لمنع الحرب، وإذ كان المنهزمون قد بلغوا كفر قطرا التقوا عندها بتلك النجدة لأعدائهم الدروز؛ فشبَّتْ نار الحرب بين الفريقين فقُتِل من النصارى سبعة رجال، وكان إذ ذلك قد وصلت إحدى فرقتي القائد المذكور؛ فقبضت على خمسة وخمسين رجلًا من المنهزمين، ونزعَتْ منهم سلاحهم عنوةً وجرحت بعضهم بالحراب، ثم عادت بهم إلى دير القمر، فزجَّهم القائد في السجن، ونزع منهم سلاحهم ودفعهم إلى الدروز جزاءً لهم بما ألقوه من الهياج بين أهل البلاد طلبًا للمحاربة، إلا أنه في اليوم الثاني خلَّى سبيلهم، ويومئذٍ سار النصارى من أهل الساحل الأعلى إلى الغرب الأعلى يريدون مقاتلة الدروز من أهله، فأدركهم القائد الذي كان بكفرشيما عند جمهور وصدَّهم عن بغيتهم، فعند ذلك كتب الدروز إلى الشيخ نصيف أبي نكد بحوران يخبرونه بواقع الحال من طلوع النصارى عليهم وسألوه أن ينجدهم بالرجال، وكتبوا مثل ذلك إلى الشيخ خطار العماد، وفي اليوم الثاني اجتمعت دروز المتن وسطوا على النصارى بحمانا والشبانية ورأس الحرف وبعض أنحاء المتن وهزموهم، ثم أحرقوا مساكنهم وقتلوا بعضًا منهم وأحرقوا دير الكحلونية بعد أن قتلوا ثلاثة من رهبانه، ونهبوا ما بالدير من الأشياء، ويومئذٍ سار الأمير قيس ملحم لمحاربة دروز الغرب الأعلى في مائة وخمسين رجلًا من بعبدا وبعض من أهل الجرد، وكان معه أخوه الأمير حيدر.

ولما بلغ الأمير سلمان ذلك سار لمعونته في مائة رجل من أهل الحدث، وكان معه ولده الأمير قاسم والأمير فارس سعد، وإذ أحس أهل كفرشيما بانطلاق الرجال للمحاربة تَفَلَّت منهم البعض خفية عن القائد وساروا لمقاتلة دروز عين عنوب، وتوجه كذلك لمحاربتهم الأمير أحمد سلمان في جماعة من قومه، فلما بلغ الأمير قيس خان الكحالة وجَّه الجرديين إلى عين الرمانة ليلهو بهم دروز عاليه، ثم طلع بمن معه جبل الكحالة فالتقاه الشيخ محمود تلحوق وأخوه الشيخ ناصيف في أهل عاليه من الدروز والنصارى، فاضطرمت بينهما نار الحرب، فولى الدروز منهزمين، وكان الأمير قيس في مقدمة الهاجمين عليهم؛ فلعبت برأسه النخوة، فأوغل في الهجوم عليهم حتى أصبح فريدًا وعندئذٍ لمَّ الدروز شعثهم متجمعين، وأما الأمير سلمان فبلغ وادي شحرور واستنهض أهلها فلم يجيبوه، بل أركنوا إلى الفرار بعيالهم، ومن تفلَّت من أهل كفرشيما قد التقوا بدروز عين عنوب عند بسابا، فاقتتلوا هنالك والأمير أحمد سلمان بلغ محلة جمهور وأهل الساحل اللويزة.

وأما دروز عاليه فلما رأوا الأمير قيسًا منقطعًا عن قومه هجموا عليهم وهزموهم وقفوا أثرهم حتى خان الكحالة، وأما الجرديون فوقفوا في وجه الدروز عند عين الرمانة وقاتلوهم قتالًا شديدًا، ولبثت الحرب مستعرة نارها والغلبة مرة لهؤلاء ومرة لهؤلاء حتى فشل النصارى وانهزموا إلى بيروت، فنهبت الدروز الوادي وبعبدا والحارة، وأحرقوا بعض بيوت من القرية بعبدا، فمنع الشيخ حسين تلحوق الناس عن الحريق، أما الأمير قيس ففرَّ بفارسين من جماعته إلى عاريا فالحازمية، ثم عاد إلى الحدث وسار في نفر منها إلى بعبدا، ولم يستقر بها حتى أقبل قائد الهوارة بجماعته ليكف الدروز، فلما أحس الدروز به انقلبوا إلى الغربين، وأما الهوارة فسلكوا سبيل النهب والسلب. أما القتلى من النصارى فكانوا الأمير قاسم علي وأربعة عشر رجلًا، وأما من الدروز فخمسة رجال، وأما نصارى إقليم جزين فأتوا الشوف حيث وافاهم أبو سمرا البكاسيني في جماعة من نصارى غربي البقاع والأمير حسن أسعد من أنحاء صيدا في جماعة من النصارى، وقاتلوا دروز الشوف فهزموهم، وفرَّ بعضهم إلى بيت الدين يستغيثون بداود باشا؛ فأغاثهم وصحبهم بعسكر، وكانت النصارى قد أحرقت من قرى الشوف: باثر، ومرستا، ومعاصر الفخار، وجباع، والخريبة، وحارة الجنادلة، وعارية، وبعذران، ونيحا. وبينما كانوا بعين ماطور، وقد أحرقوا بعضها إذا بالعسكر العثماني يتبعه الشيخ سعيد جنبلاط ورجاله، فلما رآهم النصارى ولوا من وجوههم؛ فأمسك قائد العسكر أربعين رجلًا من النصارى، ونزع منهم سلاحهم وأرسلهم ليُسجَنوا بدير القمر؛ فانصرف كل إلى مكانه.

وأما الدروز فحنقوا مما أتاه النصارى في الشوف، وبعثوا إلى الأمير أحمد أرسلان يخبرونه بما جرى لهم ويسألونه أن يستغيث بالوزير في بيروت، وفي أثناء ذلك أتى مائتا رجل من أهل زحلة إلى حمى كفر سلوان ففر الدروز من أهلها، ثم انضمَّ إلى الزحليين بعض نصارى المتن؛ فانقسموا فرقتين فرقة منهم سارت إلى فالوغا بعد أن أحرقت حارة المقدم الدرزي في حمانا، ففرَّ الدروز من أهل فالوغا إلى القلعة؛ فنهبها النصارى وأحرقوها وساروا في أثرهم إلى القلعة، ففروا منها إلى بتخنيه فتبعوهم بعد أن أحرقوا القلعة؛ ففروا من هذه أيضًا فأحرقها النصارى، وأما الفرقة الثانية فنهبت كفر سلوان وأحرقتها، وبينما كان النصارى مشتغلين بالنهب والسلب لمَّ الدروز شعثهم وهجموا عليهم وهزموهم، وتجمعت الدروز في قرنايل، وأرسلوا يستغيثون بالدولة العلية فوطَّن الوزير في بيروت نفسه عندئذٍ على النهوض إلى المتن لإطفاء نار الحرب، وكتب إلى أرباب المناصب أن يوافوه إلى خان الحصين للمداولة في اتخاذ التدابير اللازمة لنيل تلك البغية.

وأما دروز الشويفات وضواحيها فقصدوا حارة حريك، وانضم إليهم المتاولة هنالك، ثم هجموا على نصارى هاته القرية وانتشبت بين الفريقين نيران القتال، وكان غالب نصارى الساحل الأعلى مجتمعين عند الشياح الأعلى خاملين؛ فثارت الحماسة والنخوة في رأس فارس منهم من أهل بعبدا، فاندفع في نفر من جماعته على الدروز؛ فالتقته فوارسهم، فحمل على كبير منهم فجندله فتفرقوا، ولكن أُصِيبَ هذا الفارس برصاص فعاد إلى قومه، فلما رأوه راجعًا انهزموا وولى كل إلى محله، فقُتِل يومئذٍ من الدروز أربعة رجال ومن النصارى ثلاثة، وكان المتاولة يحرقون أكواخ دود الحرير، أما الوزير فوجَّه شرذمة من عسكره إلى حارة حريك، وسار بمعظم العسكر إلى خان الحصين، وأما الأمير موسى نصر اللمعي وأخوه الأمير سلمان فبرحا داريهما في المتين إلى قرنايل واعتصبا مع الدروز؛ فنهبت النصارى داريهما وأحرقتهما، أما الوزير فتقدَّم إلى أرض المديرج، وأرسل ثلاثمائة رجل من عسكره إلى قرنايل ليكونوا عند الدروز من أهلها فيمنعوا هجوم النصارى عليها، وأرسل أيضًا فريقًا من عسكره إلى عين دارة وإلى قب إلياس يصد النصارى عن المحاربة، ثم إن الشيخ حمود أبا نكد سيَّر جماعة من الدروز ليلًا إلى عبيه لمحاربة الأمراء والنصارى فيها فدخلوها وكمنوا عند إخوانهم الدروز من أهلها، وقد أجمع رأيهم على أنهم يأخذونهم بالمكيدة؛ وذلك بأن يقتلوا واحدًا منهم في ظاهر القرية فيخرج النصارى إليه فتقع القرية إذ ذلك في يدهم، وكمن الشيخ المشار إليه في كفر متى فلم تنفذ المكيدة في النصارى، ولما يئس الدروز من إخراجهم إلى ظاهر القرية اندفعوا عليهم بإطلاق الرصاص من كل صوب، فخفَّ النصارى إلى أخذ سلاحهم من دور الأمراء؛ لأن قائد العسكر كان قد منع عنهم السلاح.

ولما رأوا أن المفاجئين لهم كثيرون وأنهم قد دهموهم من جميع الأنحاء آثروا الاحتشاد في دور الأمراء والتحرز فيها، وكان عددهم لا يزيد عن اثنين وستين رجلًا وعدد الدروز زهاء ثلاثة آلاف ومعهم نزر من النصارى، وأطبقوا على الأمراء والنصارى من كل صوب، فثبت هؤلاء في موقف الدفاع يطلقون الرصاص بنخوة شديدة حتى ردُّوهم بعد أن أصابوا برصاصهم بعضًا منهم، فاضطر الدروز أن ينقلبوا إلى ما وراء الجدران والأشجار متحرزين، ثم جعلوا يحرقون بيوت الموارنة في القرية ومعهم جماعة من النصارى، ثم إن أهل معلقة الدامور قدموا إلى عبيه ومعهم أربعون رجلًا من الموارنة العبيهيين كانوا في المعلقة، فلما بلغوا دقون قصد الأربعون بعورتا فأحرقوها بعد أن بددوا شمل من كان بها من الدروز، ثم أتوا دقون فالتقاهم فريق من الدروز؛ فاشتعلت نيران الحرب بين الفريقين، فانهزم النصارى بعد أن كان قد قُتِل منهم ثمانية رجال؛ فمنهم من ذهب إلى صيدا، ومنهم من ذهب إلى بيروت، وأما الحرب في عبيه فلبثت اثنتي عشرة ساعة، ثم ورد على الدروز من أبنائهم بأن نصارى المتن قد كسروا الدروز إلى قرب عاليه، وفي أثناء ذلك وصلت رسل من لدن الوزير وداود باشا فسكنت الحرب، أما عدد القتلى فكان ثمانية رجال من النصارى وثمانية وعشرين من الدروز، وقد نهبت الدروز دير الكبوجية وأحرقوه، وقتلوا واحدًا من الآباء الفرنسيين كان مقيمًا به، وأحرقوا جثته وقتلوا معه شماسه وتلميذه وقسيسًا مارونيًّا كان قد لجأ إلى ذلك الدير.

وبينما كان الدروز في عبيه مقيمين على حصر الأمراء والموارنة أتى قائد عسكر من دير القمر فأمر بإطراح الحرب، فسأله الأمراء أن يكف الدروز عن الحصار؛ فكفهم وأرسل ليستحضر لديه الأمير أسعد والأمير عبد الله، موعزًا إليهما بأنهما إن لم يمثلا لديه عاون الدروز عليهما، فخرج الأميران إليه مسلمين فأخذ أسلحة جماعتهما.

وبعد يومين من ذلك أرسل القائد الأمراء وجماعتهم إلى صيدا مخفورين بنفرٍ من عسكره، وما خرجوا من القرية حتى التقوا بالجنرال روز الإنكليزي قادمًا إليهم من بيروت يتبعه بعض الشيوخ من الدروز، فسألهم أن يسيروا معه إلى بيروت فساروا، وبعد ذلك ببضعة أيام انحدر الأمير موسى اللمعي من قرنايل إلى العربانية في جماعة من الدروز، وأحرق بعض البيوت من هاته القرية إلا أن أهلها من النصارى ثبتوا في موقف الدفاع حتى أتتهم نجدة من نصارى بعبدات، فاشتدت إذ ذلك الحرب بين الفريقين، فانهزمت الدروز إلى صليما؛ حيث تجمعوا وعادوا إلى المحاربة، فانهزموا أيضًا ولجئوا إلى قرنايل ليحتموا بها، فلما رآهم النصارى المجتمعون حول هاته القرية من أهل العرقوب وكسروان هجموا على القرية هجمة عنيفة ففر الدروز منها، وقد قُتِل منهم عدد ليس بقليل، وتعقَّبهم النصارى حتى العبادية وأحرقوا مساكنهم في صليما والرأس وأرصون وقرنايل، ولما أيقن الدروز أن قوة النصارى في المتن كبيرة ذهبوا إلى المختارة، فقصد بهم الشيخ سعيد جانبلاط قرية سغبين، وحارب النصارى هنالك فانهزموا إلى زحلة بعد أن قُتِل منهم ثمانية رجال، وأما الدروز فلم يُقتَل منهم إلا أربعة، فأحرقت الدروز قرية سغبين وعادوا إلى المختارة، ثم ذهب بهم الشيخ سعيد المشار إليه إلى بكاسين وجزين، حيث جرت لهم عدة مواقع مع النصارى، وهنالك انتصروا فيها فهزموهم ونهبوا مساكنهم وأحرقوها، وقُتِل من النصارى الأمير حسن أسعد وثلاثون رجلًا من أصحابه، فلجأت النصارى إلى الجبال فتبعتهم الدروز، وقتلوا منهم مائة رجل، وأما هم فلم يُقتَل منهم إلا ثلاثون رجلًا، وبددوا شملهم، وأحرقوا كنائسهم.

وأما الشيخ ناصيف أبو نكد فأتى في ألفَيْ مقاتل من أهل حوران إلى بانياس لينجد بهم أصحابه من الدروز، ولما بلغ خان حاصبيا لقيه هنالك الأمير سعد الدين الشهابي والي حاصبيا ومعه ولده الأمير أحمد، وفي تلك الليلة أتى جانب من رجال الشيخ حاصبيا ففرَّت النصارى يقصدون دمشق، وكانوا تسعمائة رجل وعليهم الأمير بشير علي من أمرائهم فدخل الدروز البلدة ونهبوها، وتعقَّب الشيخ ناصيف الأمير بشير علي، وبينما كان الشيخ في الطريق قدم ثمانون فارسًا من الأكراد لمعونته، فاضطرمت نيران الحرب بينهم وبين النصارى فانهزم الأكراد، فبلغ ذلك الشيخ فزحف بعسكره على النصارى؛ فانهزموا إلى قرية القرعون فحوصروا هناك، ولما نفد زادهم وذخيرتهم عند المساء أركنوا إلى الفرار، فتبعهم العسكر وقتل منهم مائتين وخمسة وثلاثين رجلًا، وأما العسكر فلم يُقتَل منه إلا ثمانية رجال. وذهب الشيخ برجاله إلى البقاع، ولم يجرؤ أن يدخل جبل لبنان لخوفه من إلقاء القبض عليه.

ثم إن أهل دير القمر لما أحسوا أن الدروز عازمون على مفاجأة القرية المعروفة بالدبية من قرى إقليم الخروب — وسكانها البستانيون أقرباء البستانيين في دير القمر — التمسوا من داود باشا أن يأذن لهم، إما بأن يذهبوا فيدافعوا عنهم وإما أن يوجه إلى القرية عسكرًا يقيها، فأتى نفر من عسكر تلك القرية وباتوا فيها، وفي صبيحة اليوم التالي تركوها وما خرجوا منها حتى أحاطت الدروز بهم من كل صوب، وعدد أهلها البستانيين لا يتجاوز الثمانين مقاتلًا ولكنهم شديدو البأس رابطو الجأش مشهورون بالإصابة بالرصاص، حتى إن الواحد منهم يستطيع أن يضع رصاصة موضع ما يريد، فهُوجِموا وهم في القرية فخرجوا إلى ظاهرها، ولم يكن بينهم وبين المحيطين بهم إلا أقل من مرمى الرصاص، فاضطرمت النيران بين الفريقين اضطرامًا شديدًا، ولكنهم لقلة عددهم اضطروا أخيرًا أن يخرجوا إلى مكان خارج القرية لا يبعد عنهم خمس دقائق مكتنف بالصخور ليتحصنوا فيه، وقد أدرك الدروز واحدًا منهم في وسط القرية تأخر عن رفاقه الخارجين منها فقتلوه، ولم يقتلوا في تلك الوقعة من أهل القرية غير هذا الرجل، ثم أُعِيدَ القتال بأشد مما كان في الوقعة الأولى ولبث حتى الغروب، وهذه الفئة اليسيرة ثابتة في وجوه مئات.

ومن الغريب أنه كان في هذه الفئة شيخ من مشايخ بني نكد الدرزيين، يُقال له الشيخ نجم، كان قد خرج عن ذوي قرباه قبل انتشاب الحرب؛ وذلك لعداوة وقعت له معهم، فأتى إلى تلك القرية وأقام بين أهلها، فلما كان ما كان بقي معهم يقاتل قتالًا شديدًا، ولما خرجوا إلى ظاهر القرية خرج معهم أيضًا، وكان دائمًا يُحرِّك النخوة ويستنهض الهمم، وكانوا حرصين عليه حرصهم على واحد منهم يحذرونه دائمًا مواقع الإصابة ويقذفون نيرانهم دفاعًا عنه، وقد أُصِيبَ برصاصة في غير المقاتل جرحه جرحًا بليغًا. ولما فرغت الذخيرة اضطروا أن يخرجوا من معقلهم، ولم يستطيعوا أن يعودوا إلى القرية؛ لأنها كانت قد أضرمت النيران فيها، وبالجملة فإنهم قاتلوا قتالًا كبيرًا على فئة قليلة مثلهم أن تقاتل قتالًا مثله، حتى إن الذين كانوا يهاجمونهم اعترفوا لهم بشدة البأس وثبات الجأش في مواقف القتال، ثم إن النصارى الذين كانوا في دير القمر من غير أهلها التمسوا من داود باشا أن يخفرهم بعسكر يبلغهم صيدا فصحبهم بنفر، ولما كانوا ما وراء نهر الحمام بالقرب من قرية يُقال لها عانوت من إقليم الخروب؛ نكص عنهم الخفراء، فدهمهم أهل هذه القرية من المسلمين، وقتلوا منهم أربعة وثلاثين رجلًا، ولم يَنْجُ منهم إلا اثنان أحدهما فر إلى صيدا والثاني رجع إلى دير القمر. وانحدرت فئة من النصارى المجتمعين في كفر سلوان إلى المتن فأحرقوا بيتين للدروز، فلما وقعت عين الوزير على الدخان غضب وأمر من لديه من الهوارة بإطلاق المدافع كفًّا للقتال، وأما النصارى المجتمعون في الرأس فعندما قرع آذانهم صوت البارود سار الأمراء ولد الأمير شديد بجماعة منهم لنجدة أولئك، وخرج بعض من النصارى الذين كانوا في الرأس لمقاتلة الدروز الزاحفين من العبادية إلى نهر الرأس، فانتشبت الحرب بين الفريقين فانهزمت النصارى وتبعتهم الدروز إلى بعبدات، فأحرقوا مساكن النصارى فيها، ثم رجعوا إلى العبادية وأتى الشيخ خطار العماد العرقوب فاشتد الدروز أزرها به، وفرَّ مَنْ بقي في مقاطعته من النصارى إلى المتن وزحلة.

وأما الوزير فجمع بعضًا من وجوه الدروز والنصارى وأمرهم بالتصالح فامتثلوا أمره، ثم استكتبهم عهدًا باتقاء الفتن ففعلوا، وانصرف المقاتلون من الفريقين كل في سبيله، واستقدم الوزير الشيخ ناصيف النكدي إليه لأداء الطاعة، فمثل الشيخ بين يديه، وطيب الوزير نفسه فعاد إلى محله، وجعل الوزير عسكرًا يحجر بين النصارى والدروز، ثم عاد إلى بيروت.

ثم إن خليل باشا عندما بلغ الآستانة أقنع الصدر الأعظم بأن الفتن في لبنان إنما هي ناشئة عن وجود الأمير بشير المعروف بالكبير في الآستانة؛ ففي الحال أَمَر بنفيه إلى زعفران بول.

وفي أول تشرين الأول من تلك السنة، وهي سنة ١٨٤٥، قدم من الآستانة شكيب أفندي مأمورًا بتنظيم أحوال لبنان، وحل في بيروت فطلب من قناصل الدول أن ينذروا التابعين لهم من الإفرنج وأبناء العرب بأن يخرجوا من الجبل، وإلا فلا يسأل عما يلحق بهم من الضرر من العسكر ففعلوا وخرج المنذرون. وفي أثناء ذلك قدم السرعسكر نميق باشا من دمشق إلى زحلة في أربعة آلاف جندي نظامي، ثم أتى ببعض العسكر إلى حمانا، وكتب إلى شكيب أفندي أن يوافيه إلى المنصورية فالتقيا هنالك وتذاكرا في الأمر، ثم رجعا كل إلى مكانه.

أما الوزير شكيب أفندي فاستقدم إليه ببيروت وجوه لبنان؛ ليتحقق قضية الشيخ حمود الذي كان قد قُبِض عليه بأمر من الدولة العلية وجُعِل في سجن بيروت لقتله أحد الآباء الأجانب، فشهد شهود من الدروز ببراءة الشيخ من تهمة القتل؛ فأطلق سبيله، فأرسل القنصل الإفرنسي يخبر السفير بذلك، ثم سار نميق باشا بفريق من عسكره إلى بيت الدين، وأتاها شكيب أفندي ومعه الأمير حيدر اللمعي والأمير أحمد الأرسلاني وبعض من أربا المناصب، وأُمِرَتْ كل مقاطعة أن تنتخب وكيلًا عنها وتوجهه إلى بيت الدين؛ فاجتمع فيها بعض وكلاء، وأما الشيخ خطار العماد والشيخ ناصيف النكدي فقد أوجسا خيفة من الإلحاح في استقدامهما إلى بيت الدين فاختبآ، والشيخ سعيد جنبلاط اعتذر بعدم تمكنه من الحضور، ولجأ أخوه الشيخ نعمان إلى الجنرال روز الإنكليزي محتميًا عنده، أما شكيب أفندي فاعتقل أرباب المناصب ببيت الدين، وانتزع منهم سلاحهم وأبعد عنهم خدمتهم، وأرسل إلى المختارة يستحضر الشيخ سعيدًا قسرًا، فاختبأ الشيخ في الشوف فنهب العسكر داره، ثم أمر شكيب أفندي بوجوه دير القمر أن يحضروا إليه ويدفعوا إليه أسلحة بلدتهم ففعلوا، وأمر الأمير حيدر والأمير أحمد الواليين أن يرسلا فيجمعا الأسلحة من أهل البلاد ففعلا، وسار أيضًا لذلك جماعة من العسكر فسلكوا سبيل التضييق والتعنيف وأتوا بعض الشيء من السلب والنهب فكتب القناصل في ذلك إلى السفارات، أما الأمير ملحم حيدر وأولاده فغشيهم الخوف، فأتى الأمير قيس إلى بيروت سرًّا وتبعه والده والأمير أسعد قعدان وولده الأمير أفندي والأمير عبد الله قاسم، فسيَّر القنصل الفرنسي الأمير قيسًا إلى الإسكندرية ثم بقية الأمراء إلى هنالك أيضًا، وحلوا في دار القنصل الجنرال بها، وقد اختبأ غالب أرباب المناصب من النصارى ووجوههم.

وحدث أن إبراهيم باشا بينما كان بزوق ميكائيل يجمع الأسلحة ضرب واحدًا من أبناء المدور وسجنه؛ لأنه قال إنه من أبناء الحماية الإفرنسية، فلما نما ذلك إلى قنصل فرنسا ببيروت وجه إلى جونيه سفينة أفرنسية كانت يومئذٍ في مياه بيروت، وأمرها أن تأتيه بابن المدور عنوة، فسارت السفينة وأخرجت عسكرها إلى سهل جونيه، فلما رأى إبراهيم باشا ذلك اضطرب باله وفرَّ عسكره إلى جبل بكركي فأتى بابن المدور إلى بيروت، وقد التمس الشيخ نعمان جنبلاط من الجنرال روز أن يرسله إلى الإسكندرية، فأرسله، وسار نميق باشا بعسكره إلى العاقورة ومعه الأمير بشير أحمد اللمعي. وفي أثناء ذلك، قدم أحد رجال الدولة العلية من الآستانة مأمورًا بأن ينهى نميق باشا عن التثقيل على الناس، فأرسل نميق باشا ورد ما كان قد نهبه العسكر من غزير وأخذ الأسلحة من العاقورة، ثم سار إلى تنورين يريد الذهاب إلى جبة بشري، فلقيه أهل الجبة إلى حد تنورين وراموا دفعه بالقوة؛ فوقعت له معهم مناوشة ارتدوا فيها منهزمين إلى الحدث، ثم عندما أحسوا باقترابه منهم فروا إلى بشري، فشفع فيهم البطريرك يوسف الخازن لدى الباشا على أنهم يدفعون أسلحتهم إلى الباشا في الحدث بدون أن يدخل العسكر سائر المقاطعة، فقبل نميق باشا بذلك، ولما فرغ من عمله جمع الأسلحة وسار بعسكره إلى طرابلس ثم إلى بيروت، وقد ورد يومئذٍ على نميق باشا أمر من الآستانة بأن يقبض على الشيخ حمود المتقدم ذكره ويبعث به إلى الآستانة؛ فأنفذ الأمر، وبعد ذلك انتشر الأمان وظهر المختبئون من مخابئهم، وعادت الأعمال إلى مجاريها.

ثم أمر شكيب أفندي بأداء القسط الأول من قيمة المسلوب من النصارى، فاستحضر لديه وكلاءهم؛ فوزَّع عليهم، وقد بلغ ألفي كيس أي ألف ألف غرش، ثم استحضر لديه جميع وكلاء النصارى من جميع المحلات المختلطة سكانها من نصارى ودروز، فنصب لكل مقاطعة وكيلًا إلا المتن فإنه يجعل لها وكيلين درزيين؛ لأنها في ولاية النصارى، وجعل راتب الوكيل النصراني مائتي غرش في كل شهر، وأناط به أمور نصارى مقاطعته عند صاحب المقاطعة الدرزي، وأناط أمر الأحكام بصاحب المقاطعة الدرزي على أن يكون ما يجريه منها يعلمه الوكيل، وكذلك جعل شأن وكيل الدروز في المتن. وفي تلك الأيام ظهر الشيخ سعيد جانبلاط بعد أن كان متنكرًا، ومثل لدى شكيب أفندي بعد أن مهد له الجنرال روز السبيل، فطيَّب شكيب أفندي نفسه وسلَّمَه زمام مقاطعته، ثم أقال الأمير أحمد الأرسلاني من ولاية مقاطعته، وجعل عليها أخاه الأمير أمينًا بدلًا منه، ثم قسم البلاد بين الأمير حيدر اللمعي والأمير أمين الأرسلاني، وجعل طريق دمشق حدًّا فاصلًا بينهما، وضمَّ إلى الأمير أمين نصف ساحل بيروت، فلم يقبل الأمير حيدر بذلك؛ لأن السكان كانوا من النصارى، وكانوا قد خُصُّوا بوالي البلاد منذ خمس وسبعين سنة؛ فغضب شكيب أفندي وأمر أهل الساحل أن يكونوا خاضعين لولاية الأمير أمين، فاجتمع غالبهم والتمسوا منه أن ينضموا إلى ولاية الأمير حيدر فلم يقبل ملتمسهم، فاعترضته القناصل في ذلك فعاد وقسم الساحل على حسب رأيهم؛ فجعل للأمير حيدر الساحل الشرقي وللأمير أمين الساحل الغربي، وجعل طريق دير القمر حدًّا فاصلًا بينهما، وجعل لكل منهما ديوانًا من اثني عشر رجلًا من كل طائفة اثنان، وراتب كل واحد من أهل الديوان خمسمائة غرش في كل شهر، ثم وقع خلاف بين الأميرين الواليين على الشياح ووادي شحرور الفوقية، فادعى كل منهما أن هاتين القريتين من ولايته، ولم يتفقا على ذلك حتى جعل وزير الدولة يده على القريتين وضمهما إلى ولاية بيروت.

وفي سنة ١٨٤٧ أَمَر كامل باشا الذي خلف وجيهي باشا أن يجتمع أرباب مناصب البلاد وأعيانها في بيروت لترتيب الأموال الأميرية فاجتمعوا، وكان من رأي الأمراء الشهابيين ومن رأي العماديين والنكديين والوجوه أن تُقاس مساحة البلاد، وخالفهم الباقون، فكتب الوزير يعرض واقع الحال على الحضرة السلطانية، وفي تلك السنة أقبل كامل باشا وولي في مكانه مصطفى باشا الأرناووطي، فاستحضر وكلاء النصارى إلى بيروت، وأمر وكيله أن يُجْري عليهم مبلغ القسط الثاني من قيمة المسلوب وقَدْرُه ألفا كيس أي ألف ألف غرش، فرأى رؤساء الوكلاء أن تُعدَّل قوائم الأسلاب المصدق عليها في ديوان أسعد باشا؛ فعُدِّلَتْ بشيءٍ من الزيادة والنقصان تعديلًا لا يخلو من الغش، ثم أخذ كل وكيل ما أصاب وكالته ودفعها إلى أربابها. وقد قدم في تلك السنة نفسها إلى لبنان اثنان مندوبين من دولة فرنسا للبحث عن أحوال أهله، فجابا القرى قرية قرية، وبعد استيفاء البحث والتنقيب رجعا إلى بلادهما.

وفي السنة التالية دُفِع القسط الثالث من قيمة المسلوب وقدره كالقسطين الأولين، وبُوشِر إجراء المساحة ولم يتم أمره.

وفي سنة ١٨٤٩ أمر السلطان عبد المجيد أن يعد الذكور بلبنان، فبلغ عدد الذكور من النصارى ٨٧٧٢٧ ومن الدروز ١٢٠٢٣ ومن الإسلام والمتاولة ٦٧٤٤.

وفي سنة ١٨٥٤ تُوفِّي الأمير حيدر إسماعيل في صربا من كسروان مفلوجًا بدون عقب وله من العمر سبع وستون سنة، ودُفِن في كنيسة اليسوعية ببكفيا، وقد احتفل بمأتمه احتفالًا عظيمًا، وكان ربعًا حنطي اللون كريمًا فصيحًا ورعًا وديعًا سريع الانقياد، وقد جعل الوزير في مكانه ابن أخيه الأمير بشير عساف وكيلًا حتى يجيء الأمر من الآستانة بتعيين الأمير بشير أحمد الذي التمس الوزير الولاية له، ثم صدر الأمر فولي الأمير بشير.

(٨) الأمراء المعنيون

إننا راعينا في تاريخ أمراء لبنان من حيث التقديم والتأخير في ذكرهم وإثبات أخبارهم ما يراعيه كل مؤرخ في ترتيب الأزمنة من ذكر الأقدم في البلاد من أصحابها، ثم القديم، ثم الذي بعده تدريجًا على التوالي، وعليه فإننا مثبتون الآن بحسب الاتساق تاريخ الأمراء المعنيين الأيوبيين.

إن هؤلاء الأمراء ينتسبون إلى الأمير معن من العرب الأيوبيين من ربيعة الفرس بن نزار بن معد بن عدنان، نبغ من بني ربيعة رجل اسمه أيوب، كان فارسًا مغوارًا سلابًا، مات وله أحد عشر ذكرًا وكلهم شجعان، فلما استفحل أمرهم حسدهم جميع بني ربيعة، وحملوهم على الرحيل فأتوا جزيرة الفرات ونزلوا بها فنموا نموًّا كبيرًا، واتخذوا نسبة الأيوبية نسبةً إلى أيوب، ورحل أحدهم من تلك الجزيرة إلى الديار الحلبية، وتُوفِّي بها عن ولد اسمه معن.

فمعن هذا أرسله الأمير غازي أمير الترك في سنة ١١١٩ب.م لمحاربة الإفرنج في أنطاكية، فانهزم من وجه الملك بلدوين الفرنسي وعساكره في جملة المنهزمين ولجأ إلى طغتكين في الديار الحلبية، وفي سنة ١١٢٠ب.م أمره طغتكين أن يمضي بعشيرته إلى البقاع، ثم إلى لبنان المشرف على الساحل لينزل به ويتخذه حصنًا؛ ليرصد منه الغارة على الإفرنج الذين بالساحل فرحل الأمير معن بعشيرته إلى الشوف، وقد كان قفرًا فنزل بصحراء بعقلين ووادد آل تنوخ أمراء الغرب، وكبيرهم يومئذٍ الأمير بحتر، فتحالف الأميران على الإفرنج، وآثر الأمير معن سكن الأقبية على المضارب، فأرسل إليه الأمير بحتر أناسًا بنوا له ولأصحابه أقبية يسكنونها، ثم كثرت المباني واتسع العمران فانضمَّ إلى الأمير معن خلق كثير لجئوا إليه من جميع البلاد التي استولى الإفرنج عليها من حوران ودمشق وحلب ومن الأماكن المجاورة للبنان ومن أطرافه وعاش الأمير معن هناك ثلاثين سنة، وتُوفِّي سنة ١١٤٩ وخلفه ولده الأمير يونس.

وفي الأيام الأخيرة من أيام الأمير يونس كان قدوم الأمراء الشهابيين إلى وادي التيم حيث اكتسحوا الإفرنج وحلوا محلهم، وفي سنة ١١٧٥ب.م بعث الأمير يونس إلى الأمير منقذ الشهابي يدعوه إليه بعد أن كانا قد تحالفا على المودة والإخاء، فقدم إليه هو وولده الأمير محمد فلقيهما الأمير يونس إلى نبع الباروك حيث مكثوا ثلاثة أيام، ثم أتى بهما بعقلين.

وحدث ذات يوم أن الأمير محمدًا بينما كان في دار الأمير يونس لاحت منه التفاتة، فوقعت عينه على طيبة بنت الأمير يونس وهي بإحدى النوافذ، فاستُلِب لبه بحسنها البديع وجمالها الباهي؛ فوقعت حبة الحب في قلبه، ولكنه كتم أمره حتى خرج ذات يوم مع أبيه والأمير يونس إلى ضواحي القرية ترويحًا للنفوس، وجلسوا إلى منهل ماء من حوله أزهار، فقال الأمير منقذ: إن المياه هذه لعذبة. وقال ابنه محمد: والأرض لطيبة. فقال الأمير يونس: وأنت طيب يا محمد. فقال الأمير محمد: الطيبون للطيبات. مشيرًا بالآية إلى مرامه بأن يعقد له على طيبة ابنة الأمير يونس، ولكن الأمير يونس لم يدرك مغزاه، ولما جلسوا إلى الطعام أخذ الأمير يونس لقمة وناولها إلى الأمير محمد، فقال الأمير محمد: إن كانت طيبة أخذتها. ثم تناولها من يده فأكلها، ولم ينكشف هذه المرة أيضًا مقصده للأمير يونس، وبعد الطعام جعل الأمير يونس يجاذبه أطراف الحديث والأمير محمد يحوم دائمًا بكلامه حول مقصده لعله ينكشف شيء منه، فلما يئس محمد وخشي أن يكون يونس قد علم وتجاهل طوى كشحًا على أمره واعتذر إليه عما إذا كان قد فرط منه إليه شيء من القول لم يعجبه؛ فأجابه قائلًا: طِبْ نفسًا؛ فإنك قد أحسنت في كل ما أتيت. ولكن كيف تطيب نفسه، ولم يفز بالوعد بطيبة؟! فلم يلبث أن عاد يبتغي وسيلة لإبلاغ مرامه، فسأل الأمير يونسًا: كيف تفسر قوله تعالى: وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ؟ فانفتح إذ ذلك على الأمير يونس باب فهم المراد، فتبسم وقال: أزوجناك يا محمد. فتم أمر الخطبة بالرمز، ثم سأل الأمير يونس الأمير محمدًا أله أخت، فأجاب أبوه: نعم؛ وهي أصغر منه واسمها سعاد، وقد أزوجتها من ولدك الأمير يوسف. فصرح الأمير يوسف بالقبول، وتم العقدان في ذلك المجلس. ولما آب الأمير منقذ وولده محمد إلى حاصبيا زُفَّت الأميرتان في وقت واحد.

ولما كانت سنة ١٢٣٨ استنجد الأمير عامر الشهابي الأمير عبد الله بن سيف الدين بن يوسف بن يونس المعني على ابن عم الكونت أور الإفرنجي الذي بقي أن يثأر من الشهابيين لابن عمه، فنجده وزحف الأميران برجالهما إلى مرج الخيام، حيث التقى الفريقان وشبَّت بينهما نار الحرب؛ فانهزمت الإفرنج في اليوم الرابع من شبوبها، ثم تُوفِّي الأمير عبد الله وله الأمير علي وجرت بعد ذلك أمور للأمراء المعنيين يتعذر علينا سردها مرتبة؛ لأن المعلومات التي وقفنا عليها في هذا الشأن غير منسوقة، ومجمل ما علمناه من «أخبار الأعيان»؛ وهو الكتاب الذي أخذنا عنه أكثر من غيره لاستيعابه من تفاصيل أحوال أمراء لبنان ما لم يستوعبه غيره من المؤرخين هو أنه في الربع الأخير من القرن الرابع عشر تُوفِّي الأمير يوسف المعني أخو الأمير عثمان ابني الأمير ملحم ابن الأمير أحمد ابن الأمير عثمان ابن الأمير سعد الدين ابن الأمير محمد ابن الأمير بشير ابن الأمير علي، فتولى الإمارة بعده ابن أخيه الأمير فخر الدين ابن الأمير عثمان، وقد قال صاحب «أخبار الأعيان» عنه: «إنه أشهر الأمراء المعنيين وإن أشرقت شمس الإمارة المعنية به وغابت شمس الإمارة التنوخية.» وهو قولٌ أَحْرِ به أن يكون عن حفيده الأمير فخر الدين الثاني ابن الأمير قرقماس، كما سيتبين ذلك.

وغاية ما ذكر لنا المؤرخ من فعال الأمير فخر الدين ابن الأمير عثمان هو أنه في أيام الملك قانصوه الغوري، وقد شبت بين هذا الملك وبين ساكن الجنان السلطان سليم نيران القتال في مرج دابق، وكان الأمير فخر الدين قد استقدمه الغزالي نائب قانصوه على دمشق لنجدة الملك؛ ففر الأمير مع الغزالي نفسه عندما اشتد قتال خائني الملك متحيزين للسلطان سليم. ولما دخل السلطان دمشق دخل عليه الأمير، فأكرمه وفوَّض إليه جميع أمور الشام، وجعله في أسمى مرتبة بين أصحاب المراتب، وكان ذلك في سنة ١٥١٥، وفي سنة ١٥٤٤ تُوفِّي الأمير فخر الدين وخلفه ابنه الأمير قرقماس، وهذا تُوفِّي في مغارة عند جزين، إذ لجأ إليها فرارًا من وجه إبراهيم باشا والي مصر الذي أمره السلطان مراد أن يبطش بآل سيفا وأمراء لبنان؛ لسلبهم أموال الخزانة السلطانية عند جون عكار، وكان للأمير قرقماس ابنان صغيران فخر الدين ويونس، فخبأهما الحاج كيوان الماروني الديراني عند ابنَيْ سركيس الخازن إبراهيم ورياح، وكانت أمهما أخت الأمير سيف الدين التنوخي معهما، ولما سكنت الأحوال في لبنان دعا الأمير سيف الدين التنوخي الأمير فخر الدين وأخاه الأمير يونس إليه وضمهما إلى عياله حتى بلغا أشدهما فدفع إليهما زمام ولايتهما على الشوف، واندفع الأمير فخر الدين إلى ميدان الحروب منذ أول ولايته فحارب يوسف باشا والي طرابلس سنة ١٥٩٨ عند نهر الكلب وكسره وحاربه في سنة ١٥٠٦ أيضًا عند جونيه وكسره، وشهد مواقع أخرى كان النصر في غالبها إلى جانبه، وما انهزم إلا عندما ظاهر نصوح باشا في حرب اضطرمت نيرانها عند مدينة كلس، وفي سنة ١٦٠٧ عاون علي باشا جانبلاط في مواقع كثيرة، وكانت الغلبة فيها كلها على يده، ولما كان علي باشا قد خرج من طاعة السلطان أحمد، وأرسل السلطان الصدر الأعظم مراد باشا في فيالق من الجنود فقهرته؛ أبدى الصدر غيظه من الأمير لما كان قد سبق له من المشايعة لعلي باشا، فاضطر الأمير أن يسترضي الصدر؛ فأرسل إليه ابنه الأمير علي وبعث إليه معه بثلاثمائة ألف غرش، فأنعم الباشا على الأمير الصغير بسنجقية صيدا وبيروت وغزير، ولم يكن عمره حينئذٍ متجاوزًا التاسعة من السنين، ولما تُوفِّي مراد باشا في سنة ١٦١١ وارتقى إلى منصب الصدارة نصوح باشا سعى أعداء الأمير فيه لدى الصدر الجديد وشرع أحمد باشا حافظ دمشق في إثارة الفتن.

وكان الأمير قد اتسعت سطوته وامتدت مهابته وبلغ ببطشه الأماكن القاصية، مثل حوران وعجلون وغيرهما، فبعث أصحاب الحافظ بدمشق يشكون للسلطان وهو يومئذٍ السلطان سليم من اتساع سطوة الأمير وتعاظم أمره إلى حد أنه حاصر دمشق، وكانوا مدفوعين إلى تلك الشكوى من الحافظ نفسه؛ فحلَّت الشكوى لدى السلطان محل القبول، فأرسل من إسلامبول جيشًا كبيرًا ومعه عدة من الكبراء من أصحاب الباشا؛ وذلك للفتك ببني معن وقطع دابرهم وجعل البعث كله في أمر الحافظ، ولما علم بذلك الأمير كتب إلى الحافظ يسترضيه بالمال فلم يَنَلْ بالكتابة بغيته، ولم يزل الحافظ يضيق عليه ويبعث عليه البعوث حتى دفعه إلى الفرار والالتجاء إلى العرب، ولكن الحافظ سدَّ في وجهه جميع المسالك؛ فآل به الأمر أن سافر إلى بلاد إيطاليا عملًا برأي الحاج كيوان، وذلك بعد أن فوَّض أمر الولاية إلى أخيه الأمير يونس، وأوعز إليه أن ينتقل من بعقلين إلى دير القمر ويتخذ الدير مقرًّا له، وأما الحافظ فبقي عاملًا على التضييق على رجال الأمير ومحاربتهم في كل مكان ومحاصرة من كان منهم في قلعة شقيف أرنون وقلعة بانياس، وبعث بعثًا على الأمير يونس أخي الأمير فخر الدين؛ فاضطر الأمير يونس أن يسترضيه بمبلغ من النقود قدره مائة ألف غرش ليكفه عن المحاربة والمحاصرة، ولكنه لم يلبث أن عاد إلى ما كان عليه؛ لأنه لم يستكمل قبض المبلغ المشروط فجَرَتْ بينه وبين المعنيين محاربات أدَّتْ إلى فشل المعنيين بعد أن كاد يكون النصر في جانبهم؛ فاضطر الأمير يونس أن ينضم إلى الأمير علي ابن أخيه وهو محاصر في قلعة بانياس؛ فغشي الحافظ دير القمر وأكثر فيها من النهب والسلب، وأحرق مساكن بني معن، ووجَّه أحد أعوانه الشيخ مظفر الدين إلى عبيه فأحرقها وقتل جماعة من أهلها، واقتاد الأمير ناصر الدين التنوخي منها أسيرًا إلى دير القمر حيث كان الحافظ، فأكرم الحافظ هذا الأمير وولَّاه على الشوف وما خرج الحافظ من لبنان عائدًا إلى دمشق إلا بعد أن أجرى عدة مواقع وأحرق ونهب وقتل كثيرًا، ولما بلغ الأمير يونس خبر خروج الحافظ من لبنان عاد إلى دير القمر واستقر بها، ولما كانت سنة ١٦١٤ عزل أحمد باشا الحافظ عن دمشق وخلفه جركس باشا، وقدم من إسلامبول والٍ على صيدا وصفد وبيروت وغزير وعلى جميع ما كان من الأماكن داخلًا في منطقة ولاية الأمير فخر الدين، واستقرَّ ذلك الوالي في صفد، وكان مُدبِّره مصطفى مدبر الأمير فخر الدين، وفي تلك السنة نفسها بُنِيَتْ حارة الناعمة بإذن الأمير ناصر الدين التنوخي. وفي السنة التالية أتى الأمير فخر الدين من الديار الإفرنجية يتنشد أخبار بلاده ويستطلع أحوالها؛ فلم يأذن له ربان السفينة بالخروج منها إلى البر، فعاد إلى ديار الإفرنج، وقد كان تسنَّى له أن عرف شيئًا من أحوال بلاده ممن لقوه من أبنائها على ظهر السفينة الذين كان في جملتهم أخوه الأمير يونس، وأما الأمير يونس فدفع زمام الولاية إلى الأمير علي ابن أخيه.

وفي سنة ١٦١٦ هدم الأمير علي حصنَيْ أرنون وشيرون، وقد اتسعت الولاية في أيام الأمير علي وساد حزب القيسيين، وحارب هذا الأمير يوسف باشا سيفًا لعصيانه أمر السلطان بالتخلي عن ولاية كسروان وبيروت والرجوع عن مساعدة الشيخ مظفر وابن الأمير محمد جمال الدين وبني الصواف المقدمين وقهره وقهر أعوانه، ونزع ما كان في يدهم من أزمة الولاية؛ فجعل عمه الأمير يونس على مقاطعة الشوف وبلاد بشارة ومقاطعة كسروان، والأمير منذرًا التنوخي على بيروت، والأمير ناصر الدين التنوخي على مقاطعة الغرب والجرد، ومقدمي كفر سلوان اللمعيين على المتن، والأمير عليًّا الشهابي على مرج عيون والحولانية، وحسينًا اليازجي على بلاد صفد وبلاد الشقيف، وأبقى على ولاية صيدا طويل حسين بكباشي، ثم أجرى بعض التغيير في أمر الولاية بسبب التأخر عن دفع المطلوب من الأموال، وأما الأمير فخر الدين فكانت مدة غيابه عن موطنه بالديار الإفرنجية خمس سنين تقريبًا، ولما انقضت هذه المدة خرج من البحر إلى عكة عائدًا من الديار الإفرنجية بعد أن بلغه رضا الدولة عنه وكتب إلى ابنه الأمير علي يبشره بقدومه، فأتاه ابنه الأمير علي وأخوه الأمير يونس. ثم جعل الأمراء والمشايخ والوجوه والأعيان يَفِدون على الأمير ويتحفونه بالهدايا، فتقلبها كلها إلا هدية بني سيفا فإنه لم يتقبلها؛ لأنه كان في صدره حزازات منهم من أيام الحافظ، ولما جمع الأمير فخر الدين الأموال عن مدة غيابه، ومهد الأمر والأحوال عاد يلتمس سبيلًا على بني سيفا للبطش بهم؛ ففي سنة ١٦١٨ كتب إلى والي طرابلس عمر باشا الكشبنجي يشكو من أعمال يوسف باشا سيفا، فأجابه: «إن شئت أن تحاربه أكُنْ لك ظهيرًا عليه، وأضمن لك غضب الدولة عليك.» فجهَّز الأمير جيشًا وكتب إلى مدبره الشيخ أبي نادر الخازن أن يرسل رجالًا يرابطون عند قنطرة نهر إبراهيم ويمسكون العبور على الذاهبين إلى الأنحاء الشمالية؛ لئلا يدري يوسف باشا بما سيناله، ثم نهض الأمير برجاله من بيروت إلى نهر إبراهيم ووافاه أعوانه برجالهم إلى الأمكنة التي كان قد عيَّنها لهم، ولبث هو سائرًا حتى وصل إلى قرية تولا ذاهبًا إليها من قلعة بخعون في الضنية، ولما أحس يوسف باشا بقدومه فرَّ هاربًا ولجأ إلى قلعة الحصن، وانضم إليه أمراء بني سيفا وبنو الصواف مقدمو المتن، فبطش بهم الأمير فخر الدين قبل أن يستكمل ثوار جنوده الثورة عليه؛ فاضطرهم إلى التحصن في القلعة بعد أن قتل منهم عددًا كبيرًا، ثم قدم سائر عسكر الأمير من بلاد عكار، وأحاطوا بالقلعة من كل الجوانب، وضيقوا الحصار على أهلها حتى اضطر يوسف باشا أن يرسل ابنته الأميرة إليه لتشفع فيه عنده، فعفا الأمير من أجل ابنته عن بني سيفا على أن يؤدي إليه يوسف باشا مائتي ألف غرش، ويكتب ميثاقًا بالتخلي عن أملاك بني عساف من أنطلياس إلى بيروت.

ورجع الأمير ببعض العسكر إلى عكار، ونقل الأمير حجارة سراي عكار إلى دير القمر، وما زال الأمير يضيق على يوسف باشا حتى استحصل منه على مبالغ وافرة أرسلها إلى الدولة محسوبة مما عليه لها، فورد على الأمير جواب من الدولة يدل على رضاها عنه وارتياحها إلى عمله، وولى الأمير الشيخ أبا نادر على بلاد جبيل والمقدم يوسف الشاعر على بلاد البترون، ثم رد الأمير إلى يوسف باشا حفيده الأمير محمد بن حسين باشا ووالدته بنت علي باشا جانبلاط اللذين كان الأمير قد اعتقلهما أيام زحفه لمحاربة يوسف باشا. واتسع نطاق سطوة الأمير وعلا شأن نفوذه، حتى كان يلجأ إليه كل من أصابه جنف أو حيف من أرباب الوجاهة من الأماكن الدانية والقاصية من مثل الأنحاء الحورانية، وكان يقضي لهم حاجاتهم، وإذا اتفق أن أحدًا عصى أوامره عزز له الأوامر بالقوة؛ فانقاد ذلك العاصي ذليلًا صاغرًا قبل أن تدنو قوة الأمير منه. وأعاد الأمير الشيخ مظفرًا بعد أن شمله بعفوه واليًا على الجرد، كما كان، وولد للأمير ثلاثة من دون الأمير علي؛ وهم: الأمير منصور، والأمير حسين، والأمير حسن. وأزوج بعضًا من بناته من أمراء من بني سيفا ومن بني الحرفوش، وجرت له حروب شتى أعظمها الحرب التي جرت له مع وزير دمشق مصطفى باشا، انتصر فيها الأمير انتصارًا عظيمًا وأسر الوزير وأبقاه عنده أيامًا مبالغًا في إكرامه، ولما عاد الوزير إلى دمشق عاهد الأمير على المحبة والصفاء. وبالجملة، فإن الأمير فخر الدين لم يلحقه الانكسار في مواقعه إلا في بعض ما جرى له منها مع الأمراء بني طرباي في أنحاء صفد؛ فإنه لم يفز هناك بمرغوبه من النصر.

وما زال الأمير فخر الدين يزداد نفوذًا وسطوة ومن الدولة تقربًا حتى أُنْعِم عليه بجميع الولايات من حدود حلب إلى حدود القدس، وفُرِض عليه أن يدفع للدولة في كل سنة عنها مائتي ألف ذهب، وكان ذلك في سنة ١٦٢٤، فجعل الأمير يطوف بالبلاد ويمهد لنفسه سبيل الحكم، ويشيد الحصون ويرمم القلاع التي كان قد دمرها أيام كان يحاصر أعداءه فيها، وقرر لنفسه أمر جبابة الجزية على المسيحيين في المدن، وتعقب العرب الذين كانوا يسطون على أطراف البلاد وأقصاهم عنها بسيف قُوَّته وشديد بطشه، وجمع أموالًا غزيرة فاعتز بنفسه، وزُيِّن له أن ينهج نهج السلاطين فبنى دارًا للحيوانات، ولبث سالكًا على ذلك المنوال تسع سنين فبدت الريبة من مسلكه ذلك.

واتُّفق أن الكجك أحمد باشا الحافظ — وقد كان بينه وبين الأمير سابقة حقد وضغينة، وسار بسبب ذلك إلى إسلامبول، وانخرط في سلك رجال الدولة، وجعل يترقى في المراتب حتى بلغ مرتبة الوزارة — انتهز الفرصة وأوغر صدر الدولة على الأمير، وغرس في نفسها اعتقاد وجوب البطش به؛ فاشتد ذلك الاعتقاد ولا سيما بعد أن بلغها أن الأمير بنى قلعة عند حلب وأخرى عند أنطاكية، فجهزت بعثًا كبيرًا وجعلت قائده الكجك وسيَّرته إلى الديار السورية لمحاربة الأمير والفتك في المعنيين، فلما كانت سنة ١٦٣٣ قاد الكجك أحمد باشا العساكر العثمانية وأخذ يحشد الجنود من حدود بلاد الروم إلى حدود مصر، وفي السنة التالية سنة ١٦٣٤ قام بالعساكر إلى خان سعسع، وأما الأمير فشرع في تفريق عساكره عوضًا عن أن يجمعها؛ ولذلك أدركه الفشل في وقت قريب، وما بلغه خبر قتل ابنه الأمير علي في إحدى المواقع حتى وهن عزمه وخذله غالب جنوده، ففرَّ إلى قلعة شقيف نيرون بالقرب من فيحا ومعه عياله، ومدبره الشيخ أبو نادر الخازن، وأخو مدبره أبو صافي. وفرَّ الأمير يونس أخو الأمير فخر الدين بابنيه الأمير ملحم والأمير حمدان إلى بلاد بشارة، واختبأ في برج هناك يُقال له دوبية، والكجك أحمد باشا أخذ يوادع أهل البلاد ويعدهم بتولية واحد من أبناء الأمير فخر الدين بدلًا من أبيه حتى دفع له المبلغ الذي اقتضاه من النقود، وقدم إليه الأمير حسن أحد أبناء الأمير، وتحقق انفضاض عساكر الأمير؛ فأمر عندئذٍ بالأمير حسن أن يُقتَل فقُتِل، وزحف إلى القلعة التي كان فيها الأمير فخر الدين ورجاله، ولبث محيطًا بها بعسكره يحاول أخذها حتى تسنَّى للأمير ذات ليلة أنه فرَّ هو وأبناؤه الثلاثة ومدبره الشيخ أبو نادر ونفر من رجاله متدلين بالحبال، ولجئوا إلى مغارة جزين.

وعند الصباح استولى الكجك على القلعة، ثم زحف إلى مغارة جزين على غير علم منه أن الأمير فخر الدين فيها، وبينما كان أحد رجال الأمير خارجًا من المغارة ليتجسس الأحوال أُمسِك وقُيِّد إلى الكجك؛ فاعترف بأن الأمير في المغارة، فجدد الكجك الحصار عليها وشدَّده، حتى اضطر الأمير أن يخرج منها برجاله، وسلم نفسه بعد أن سأل الأمان من الكجك فاعتُقِلوا، ثم استحضر الأمير يونس وابناه الأمير ملحم والأمير حمدان، فأطلق الكجك الأمير ملحمًا منهم وسجن أباه وأخاه حمدان، وأمر بتعذيبهما حتى ماتا في السجن، وسار الكجك إلى دمشق بعساكره ومعه الأمير فخر الدين وأبناؤه الثلاثة: الأمير منصور، والأمير حيدر، والأمير بلك.

وأما الشيخ أبو نادر الخازن فخلَّى سبيله، ثم أُرْسِل الأمير وأبناؤه الثلاثة إلى إسلامبول، ثم إن خليل باشا أحد كبار رجال الدولة لما عاد من حلب إلى إسلامبول أخذ معه الأمير حسينًا أحد أبناء الأمير فخر الدين، وعاد الكجك فأرسل وقتل عدة من الأمراء بحاصبيا وراشيا، وبعث يأمر الأمراء بني طرباي أن يسلموا الأمير ملحمًا ابن الأمير يونس الذي كان قد لجأ إليهم فسلموه، وبينما هو في الطريق انتهز الفرصة وفرَّ ممن كانوا يقتادونه إلى الكجك، وعاد فتولى الولاية وعزَّز شأنه فيها، وجرت له مواقع مع أمراء من اليمنيين كان النصر إلى جانبه في غالبها غير أن ذلك كان باعثًا على أن الكجك شكا للسلطان أن ما أجراه الأمير ملحم إنما كان بدسيسة الأمير فخر الدين؛ فغضب السلطان وأمر بقتل الأمير فخر الدين وأبنائه، إلا الأمير حسينًا منهم، فإنه بقي حيًّا وترقى في خدمة الدولة إلى أن صار قبوجي باشا، وكان عمر الأمير فخر الدين اثنتين وخمسين سنة، وأما الأمير ملحم فتُوفِّي مريضًا في سنة ١٦٥٨ ودُفِن في مدافن المعنيين بصيدا وله الأمير أحمد والأمير قرقماس، وهذان الأميران لم يستقم أمرهما في الولاية؛ لأن أحمد باشا الكبرلي أراد الفتك بهما، فبقيا مدة متغلغلين في الأنحاء الشمالية من الجبل مع بعض الأمراء الشهابيين فرارًا من وجه الكبرلي، وولى الكبرلي في تلك المدة الشيخ سرحال العماد شيخ الباروك جبل الشوف، والأمير محمدًا والأمير منصورًا — ابنَي الأمير علي اليمني — الغربَ والجردَ والمتنَ، ومحمد آغا كسروانَ، وعلي باشا الدفتردار صيدا وجعله من وزرائه. ولمَّا كانت سنة ١٦٦٢ عُزِل علي باشا من صيدا وتولَّى مكانه محمد باشا؛ فجزع الأمير ابن قرقماس وأحمد بأن كتب لهما ميثاق أمان ثم غدر بهما عندما برزا إلى مدبره بالقرب من قرية مزبود من إقليم الخروب، فقُتِل الأمير قرقماس، وفرَّ الأمير أحمد وبه جرح بليغ ورجع فاختبأ سنتين، فدفع محمد باشا زمام الولاية إلى الأمير محمد علي اليمني والشيخ أبي علوان من قيسية الباروك. ولما عُزِل محمد باشا ظهر الأمير أحمد، وانضمَّ إليه أبناء الحزب القيسيين؛ فعظم شأنه وحارب اليمنية وكسرهم واستبدَّ بالولاية، ثم وُشِي فيه إلى الدولة فبعثت عليه بعثًا للفتك به؛ ففر الأمير واختبأ عند الأمير نجم الشهابي، ثم عاد إلى الولاية واستُرْضِيَت الدولة عنه فاستقام له الأمر كما كان، ولبث واليًا حتى تُوفِّي في الخامس عشر من أيلول سنة ١٦٩٧، وكان قد مات ابن له صغير من قبله؛ فانقطعت بوفاة الأمير السلالة المعنية.

(٩) الأمراء بنو العساف التركمان

هؤلاء الأمراء من التركمان من بقايا غزاة سالفين كانوا في أيام الملك محمد الناصر بالكورة من ديار لبنان، فأمرهم هذا الملك في سنة ١٣٠٧ أن ينزلوا الساحل من حد أنطلياس إلى مغارة الأسد؛ ليقوا البلاد من سطو الإفرنج عليها من تلك الأنحاء، كما كان التنوخيون المعاصرون لهم عاملين على وقايتها من سطو هؤلاء من الأنحاء الجنوبية، وكانت مواطن التركمانيين الأزواق: زوق العامرية، وزوق الخراب، وزوق مصبح، وزوق ميكائيل. ولأمرائهم آثار عمران في عين طورا وعين شقيف. وفي عهد الأمير يلبغا الأتابكي — وذلك سنة ١٣٤٥ مسيحية — أتى التركمانيون بيروت بأمر الأتابكي واستوطنوها تعزيزًا لأسباب المحافظة على هذا الثغر من غزوات الإفرنج، ولما كانت سنة ١٥١٥ وقعت واقعة بين ساكن الجنان السلطان سليم العثماني والملك قانصوه الغوري بمرج دابق عند حلب، فتحيز عساف من التركمان إلى السلطان سليم، فكان جزاؤه منه أن أقره على كسروان وبلاد جبيل، وإليه انتسب الأمراء العسافيون من سلالته، فجعل هذا الأمير مصيفه بعين شقيف ومشتاه بعين طورا وجعل أصحابه بالأزواق، ثم انتقل إلى غزير واتخذها موطنًا له أقام به حتى مات سنة ١٥١٨ ودُفِن هناك، وله: الأمير حسن، والأمير حسين، والأمير قبقاي. فخلفه في الإمارة الأمير حسن، فوقعت الفتنة بين الإخوة بسبب الإمارة، وأدت بهم إلى أن أحدهم — الأمير قبقاي — قتل أَخَوَيْه واستحيى ابن أحدهما الأمير منصورًا ابن الأمير حسن، وتولى الإمارة على كسروان، وسجن ابنَيْ حبيش — يوسف وأخاه — ثم نفاهما إلى مصر؛ وذلك لأنهما كانا خادمين عند أخويه بعد أن صادرهما بمالهما، ولم يَطُلْ به عهد الإمارة، فمات بغزير سنة ١٥٢٣ بلا عقب، وتولى الإمارة بعده الأمير منصور، فاسترد الحبيشيين لخدمته ومهَّد أمر الولاية، فاتسع له نطاقها حتى بلغت من نهر الكلب إلى حماة، وكان يُنصِّب عليها من العمال من يشاء ويقتل من يناوئه في أمرها؛ ففي سنة ١٥٧٩ وُشِيَ فيه إلى الدولة العثمانية، فنصب السلطان يومئذٍ وزيرًا بطرابلس خضدًا من شوكة الأمير وإذلالًا له؛ فكان الوزير المنصوب يوسف باشا سيفا الكردي. وفي سنة ١٥٨٠، تُوفِّي الأمير منصور وخلفه ابنه الأمير محمد، وهو آخر أمير من بني العساف لبثت إمارته مدة عشر سنين؛ إذ قُتِل في سنة ١٥٩٠ وهو سائر إلى عكار لمقاتلة يوسف باشا سيفا، قتله الكامنون من رجال الباشا بين البترون والمسيلحة؛ فانقرضت بقتله سلالة العسافيين، وانتقلت الإمارة إلى بني سيفا الأكراد.

(١٠) بنو سيفا الأكراد

هؤلاء الأمراء استقرت لهم الإمارة في مبدأ الأمر على عكار بمساعدة الأمير منصور العساف وتعزيز الأمير قرقماس المعني والي الشوف لمساعدة الأمير لهم، وذلك بين سنة ١٥٢٨ وسنة ١٥٧٩، وفي هذه السنة الأخيرة رقي أحدهم الأمير يوسف إلى رتبة وزير، وجُعِل واليًا على طرابلس، كما تقدم ذكر هذا في الفصل السابق، ولما كانت سنة ١٥٨٤ أصدر السلطان مراد أمرًا بإلقاء القبض على يوسف باشا سيفا بسبب ما جرى من نهب أموال الخزانة الأميرية عند جون عكار، وكان المسير لإنقاذ ذلك الأمر جعفر باشا؛ فجمع العساكر وزحف بها إلى عكار، ففرَّ يوسف باشا من وجه الزاحفين فأحرق جعفر باشا بلاد عكار، ولما كانت سنة ١٥٩٠ حدث ما تقدم ذكره من قتل الكامنين من رجال يوسف باشا للأمير محمد، وفي سنة ١٥٩٣ تزوج يوسف باشا زوج الأمير محمد الذي قتله واستبدَّ بجميع أمواله وقتل أبناء حبيش سليمان ومنصورًا ومهنا، وانتقلت ولاية العسافيين إليه، وفي سنة ١٥٩٥ وقعت بينه وبين الأمير فخر الدين قرقماس المعني عند نهر الكلب موقعة بسبب ولاية كسروان فانهزم الباشا شر هزيمة، وفي سنة ١٦٠٢ جرى بينه وبين الأمراء بني الحرفوش وأنصارهم قتال أدى إلى محاصرة الباشا لقلعة بعلبك التي تحصن فيها أعداؤه، فتمكن من القلعة بعد حصره لها خمسين يومًا، ثم جرى لهذا الباشا حروب شتى مع علي باشا جانبلاط والي حلب وكذلك مع الأمير فخر الدين المعني، وقد ضايقه الأمير كثيرًا، كما بينا ذلك في تاريخ المعنيين. ولما كانت سنة ١٦١٥ نزع جركس باشا والي دمشق ولاية كسروان وبيروت من يد يوسف باشا وأمره ألا يظاهر أحدًا على الأمير يونس المعني، فلم يمتثل الأمر بل تصدى لقتال المعنيين مستنجدًا بالأمير شلهوب الحرفوش وأمراء رأس نحاش الأكراد، فانهزم من الناعمة إلى الشويفات وقُتِل من رجاله عدد كبير، ثم استولى الأمير يونس على بلاد كسروان وفرَّ الأمير حسين بن يوسف باشا بعيال أخيه حسن باشا من غزير إلى عكار، ثم قُتِل حسن باشا في سنة ١٦١٦ قتله قره قوش والي حلب بالاحتيال عليه، وبالجملة فإن يوسف باشا كانت مدة ولايته في اضطراب شديد قضاها في الحروب والقتال ولا سيما مع الأمير فخر الدين المعني بعد عودته من بلاد الإفرنج، وكان الأمير منصورًا عليه في غالب الوقعات ويده فوق يده في كل شيء، وما رأى الباشا سبيلًا إلى استمالة الأمير إلا أن يزوج بعضًا من بنيه من بنات الأمير فكان ذلك، ولكن ما لبثت الحال في قلق بينهما حتى تُوفِّي الباشا سنة ١٦٢٤، وهو أول باشا على طرابلس، تُوفِّي وله سبعة أبناء: حسين، وحسن، وعمر، وقاسم، ومحمود، وعساف. وكانت ولايته خمسًا وأربعين سنة، وتولَّى الإمارة بعده ابنه الأمير قاسم إلا أن هذا الأمير لم يكن له شأن يُذكَر، ولما قدم الكجك أحمد لمحاربة الأمير فخر الدين المعني انضم إليه الأمراء بنو سيفا على الأمير، فولَّاهم الكجك على إيالة طرابلس، ثم انتقلت الولاية على طرابلس من أحدهم الأمير قاسم إلى الأمير علي ابن الأمير محمد ابن أخت الأمير قاسم، وذلك باختيار الوجوه والأعيان، فحدثت فتنة بين الأمير علي والأمراء ذوي قرابته ولا سيما الأمير عساف.

وفي سنة ١٦٣٥ تولى مصطفى باشا نيشانجبي الأمر على إيالة طرابلس فجعل على بلاد جبيل والبترون والضنية الأمير عليًّا، وعهد بولاية عكار والحصن وصافيتا إلى ذوي قرابة الأمير علي، وإذ اتُّفق أن سار مصطفى باشا لمحاربة شاه العجم، وعهد بالمحافظة على أمر الضبط والربط في البلاد إلى الأمير عساف مدة غيابه أوغر ذلك صدر الأمير علي، فحدث بينه وبين ابن عمه الأمير عساف محاربة ظفر بالنصر فيها الأمير عساف، ثم جرت بينهما مصالحة، ولكن لم يَطُلْ أمرها؛ إذ عادا إلى المقاتلة، وكان الغالب الأمير عساف، ولما تولَّى شاهين باشا الأمر على طرابلس من بعد أحمد باشا الذي خلف مصطفى باشا كاتاجاج وشي إليه في الأمير عساف، فوادعه حتى تمكن منه، فأمر به فخُنِق معلقًا على باب قلعة الحصن، وتعقَّب أتباعه فقتلهم، وما نجا منهم إلا عدد يسير، وما زال بهم حتى بدَّد شملهم ومحا ذكرهم.

(١١) شهاب

لقب لبيتٍ من البيوتات الكريمة في جبل لبنان، يتصل نسبهم الشريف بنسب الرسول محمد من بني قريش، وذلك أخذًا عن سجل وُجِد محفوظًا في صيدا من الثغور السورية، وقد أثبت فيه من هذا النسب الشريف من مالك الملقب بشهاب من سلالة مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهد إلى الأمير منصور ملحم البقري بشهادة أحمد البزري مفتي صيدا، وشهادة السيد علي بن السيد حسين جلال الدين نقيب السادة الأشراف بالمدينة المذكورة، وشهادة محمد سعيد البزري نائب الشرع الشريف بها.

أما اللقب شهاب، فيُقال إنه لُقِّب به مالك من الشهباء؛ وهي قرية استوطنها من قرى حوران بأمر من عمر بن الخطاب سنة ٦٣٦ب.م، كما سيتبين ذلك. ويُقال أيضًا إنه لُقِّب بذلك تبركًا بأحد أجداده؛ لأن أمَّه خرجت من نسل شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة القرشي من رهط آمنة أم الرسول وهذا أقرب للصحة فيما يُظَن؛ لأنه لو كان مأخوذًا من الشهباء لكان ذلك من باب النسبة، ومعلوم أن كلمة شهاب ليست في شيء منها.

إن آل هذا البيت من العرب المستعربة من ذرية إسماعيل قدموا من الحجاز؛ وذلك أن النبي محمدًا لما هاجر في سنة ٦٢٢ب.م كان الحارث في جملة الذين آمنوا به ومن صحبه، وقد شهد معه وقعة حنين وبها أكرمه بمائة من الإبل، ولما كانت سنة ٦٢٤ شهد معه أيضًا يوم بدر، وقد آمن بالرسول أيضًا مالك بن الحارث، وفي سنة ٦٣٣ وجَّه أبو بكر الصديق أبا عبيدة الجراح لمحاربة النصارى بدمشق وفتحها، وجعل الحارث بن هشام أميرًا على بني مخزوم تحت لواء أبي عبيدة، فقهروا النصارى في أجنادين واليرموك ومرج الصفر. وفي سنة ٦٣٥ب.م قُتِل الحارث في فتح دمشق، وكان شجاعًا وشاعرًا مجيدًا، وفي السنة التالية ٦٣٦ب.م أقر عمر بن الخطاب مالكًا بن الحارث أميرًا بحوران لنجدة العساكر التي تجيء من صوب الحجاز، فاتخذ له الشهباء إحدى قرى حوران موطنًا له ولعشيرته، وقام هنالك بالمرصاد للنصارى من بني غسان ومنع عليهم حوران بعد أن جرت له معهم مواقع عديدة، ثم تُوفِّي الأمير مالك في سنة ٦٦٦ب.م، وولي الإمارة بعده البكر من ولده الأمير سعد، وخلف الأمير سعدًا وَلَدُه الأمير قاسم، وفي سنة ٧٣٧ جهز قاسم أخاه وقاحًا بثلاثة آلاف فارس ليحاربوا مع مسيلمة بن عبد الملك الروم بالقسطنطينية وخلف الأمير قاسمًا وَلَدُه شهاب، وفي سنة ٧٨٠ب.م وجَّه شهاب أخاه سليمان مع الرشيد بن المهدي لقتال الروم عند خليج القسطنطينية، ثم تُوفِّي شهاب فخلفه وَلَدُه محمد، وتُوفِّي محمد فخلفه ولده قيس، وتُوفِّي قيس فخلفه ولده عامر الملقب بالأذرعي؛ نسبة إلى قرية يُقال لها أذرعات — المعروفة اليوم بأذرع — استوطنها بعد أن دحر العساكر التي جهزها أحمد بن طولون صاحب الشام لقتال من سمع بقدومهم من عرب الحجاز إلى حوران، ثم تُوفِّي عامر فخلفه ولده سعيد. وفي سنة ٨٩٥ب.م قاتل الأمير سعيد القرامطة وهم يبغون الاستيلاء على حوران فدحرهم ومنعها عليهم، وتُوفِّي سعيد سنة ٩٣٣ وتولى الإمارة بعده الأمير خالد وهو البكر في أولاده، وتُوفِّي خالد سنة ٩٥٩ب.م فخلفه ولده الأمير مسعود، ثم تُوفِّي هذا في سنة ٩٨٧ب.م وتولى الإمارة بعده ولده عمر، وتُوفِّي عمر في سنة ١٠١٠ب.م فخلفه ولده الأمير مسعود، وفي سنة ١٠٤١ب.م تُوفِّي مسعود وتبوأ الإمارة ولده محسن، وتُوفِّي محسن في سنة ١٠٧١ فكانت الإمارة لولده بشير، وتُوفِّي بشير في سنة ١١٠٥ب.م وقام على الإمارة بعده ولده الحسن، وتُوفِّي هذا في سنة ١١٢٧ب.م وصار بعده ولده مسعود أميرًا، ثم تُوفِّي مسعود في سنة ١١٥٤ب.م وتقلَّد الإمارة بعده ولده عمرو، ثم تُوفِّي عمرو في سنة ١١٧٢ وخلفه ولده منقذ.

وحدث في أيام هذا الأمير أن وقعت نفرة بين نور الدين زنكي ملك الشام وصلاح الدين يوسف الأيوبي ملك مصر فمال الأمير منقذ والأمراء ذوو قرباه إلى صلاح الدين، ولما أضرم صلاح الدين حربًا على الإفرنج أعانوه كثيرًا عليهم، وكان يوليهم طليعة جيوشه، ولما تصافى نور الدين وصلاح الدين ورجع هذا إلى الديار المصرية وقعت النفرة بينهما مرة أخرى وأوجس الأمير منقذ من نور الدين خيفة؛ فجمع لديه الأمراء أبناء أعمامه ووجوه عشيرته والعقلاء فيها وشاورهم في الرحيل من حوران فوافقوه، فانتزحوا إلى الجسر اليعقوبي يبغون الذهاب إلى الديار المصرية، وكانوا عشرة أمراء: الأمير منقذ، وولده الأمير نجم، والأمير فاتك، والأمير حيدر، والأمير عباس، وأخويه الأمير علي والأمير غالب، وبني عمه الأمير سعد والأمير جابر والأمير حمزة، وبلغت عشائرهم خمسة عشر ألفًا. ولما علم نور الدين أنهم راحلون أرسل يلاطفهم ومنحهم المنح، وأهدى إليهم الهدايا، وسألهم البقاء في مواطنهم آمنين فأبوا، فعاد وعرض عليهم المقام بدمشق، فاعتذروا أنهم ألفوا سكنى البادية لا الحواضر؛ فأباح لهم السكن حيثما شاءوا، فنزلوا بيداء الظهر الأحمر من الكنيسة إلى الجديدة عند وادي التيم، وكان وادي التيم أصبح في قبضة الإفرنج الذين استوطنوا حاصبيا وجعلوها منيعة بالحصون وأدوات الحرب والعساكر، وكان قائد الإفرنج الكونت أور، فلما بلغه نزول أولئك الأمراء بقومهم عند وادي التيم جمع لديه خمسين ألف مقاتل، وسأل ذفاتر الإفرنجي صاحب قلعة الشقيف أن يمده ببعثٍ من عنده فجهَّز له بعثًا خمسة عشر ألف مقاتل، فزحف الكونت أور بعساكره يبغي قتال الشهابيين، ولما التقى الفريقان لعبت النخوة برأس الأمير منقذ، فاستلَّ حسامه وأغار على الأعداء، فتبعه قومه فغوروهم وقتلوا منهم عددًا كبيرًا — ثلاثة آلاف رجل — وأما هم فلم يُقتَل منهم إلا ثلاثمائة فارس وأرسلوا إلى نور الدين يبشرونه بذلك الفوز العظيم، ولما أصبح صباح اليوم التالي وقف الفريقان موقف القتال، فانبرى واحد من قادة الإفرنج وصاح بأعدائه: إليَّ بأشجعكم. فبرز له الأمير نجم ابن الأمير منقذ، فاستويا في المكافحة، ثم لاحت للأمير نجم لائحة، فاستلَّ خنجر الإفرنجي، وطعنه به طعنة كانت هي؛ فانهزمت الإفرنج إلى الحولانية، وفرَّ الكونت في خمسمائة رجل إلى حاصبيا، وأسر الشهابيون خمسمائة من الإفرنج وأرسلوهم إلى نور الدين، فأثنى عليهم وأُعْجِب بشجاعتهم، ثم افتتح الشهابيون حاصبيا بحد السيف، وقتلوا الكونت وأصحابه، وبعث الأمير منقذ برءوسهم إلى نور الدين فسُرَّ نور الدين بذلك وجعله أميرًا على البلاد التي فتحها.

وأما ذفاتر صاحب قلعة الشقيف، فلما علم بانكسار قومه بعث إلى الأمير منقذ يرتاد الصلح، وكان يومئذٍ الأمير يونس المعني أميرًا على الشوف فهنَّأ الأمير منقذًا بانتصاره، وجرت بينهما مودة ومصاهرة فتزوَّج محمد بن منقذ بطيبة بنت يونس، وابن يونس ببنت منقذ، ويومئذٍ تحالف البيتان على المودة والإخاء، وجرت بينهما عقود الزواج. وفي سنة ١١٩٣ب.م تُوفِّي الأمير منقذ فخلفه ولده الأمير نجم، وتُوفِّي هذا في سنة ١٢٢٥ فتولى الإمارة بعده ولده الأمير عامر، وجرت لهذا الأمير مواقع مع ابن عم الكونت أور في سنة ١٢٤٠ نجده فيها الأمير سيف الدين المعني، وأفضت إلى استيلاء الأمير عامر على الديار القريبة من وادي التيم، وخصَّه صلاح الدين بإقطاعات من البقاع، وفي سنة ١٢٥٨ب.م تُوفِّي الأمير عامر وتولى الإمارة بعده ولده الأمير قرقماز فقتل ثلاثة من الأمراء أبناء عمه الأمير سلمان والأمير محمدًا والأمير جابرًا؛ لأنهم تآمروا على قتله، واستحضر بين يديه بقية الأمراء وقطع على مرأى منهم عشرة رءوس من أصحاب الأمراء الذين قتلهم؛ فوقع الرعب في قلوبهم، ثم حذرهم الاغترار. وفي سنة ١٢٨١ب.م نجد الملك المنصور قلاوون الألفي ملك مصر على جيوش المغول عندما كانت زاحفة إلى الشام، فانهزمت المغول فأُكْرِم الأمير. وفي سنة ١٢٨٧ب.م تُوفِّي هذا الأمير، وكان شجاعًا همامًا حكيمًا صبورًا مستبدًّا عنيدًا ولكن عادلًا، فخلفه ولده الأمير سعد، وكانت المغول قد استفحل أمرهم وبلغوا وادي التيم، فأرسل الأمير سعد نساءه إلى جبل الشوف من لبنان مع ولده الأمير علي، وجمع إخوته وأبناء عمه وغلمانه وفرسانه يريد أن يرحل بهم، فأحدقت بهم المغول قبل الرحيل ونكَّلَتْ بهم تنكيلًا، فلما انسدَّتْ في وجه الأمير سعد المسالك وأيقن أنه على شفا حفرةٍ من الهلاك صاح بقومه، فهجموا دفعةً واحدةً واخترقوا صفوف المغول ونفذوا إلى صحراء كامد بالبقاع، والتتر من خلفهم، حتى عبروا نهر الغزير ودجا الليل؛ فارتد التتر عنهم ومضى الأمير بقومه إلى بطحاء نهر الصفا حيث كانت مضارب نسائهم. وبعد خمسة أشهر من ذلك رجع الأمير سعد بقومه وكذلك أقربائه الأمراء إلى بلادهم، وكانوا جميعًا نحوًا من خمسمائة فكانت بلادهم خالية خاوية فنزل الأمير سعد بهم بظاهر حاصبيا، ثم شرع في ترميم مساكن هذه البلدة، وأما بقية قرى وادي التيم فبقيت في حالتها من الخراب مدة خمس سنين، وفي سنة ١٣٢١ب.م تُوفِّي الأمير سعد مطعونًا، فخلفه في الإمارة ابنه حسين.

وفي سنة ١٣٤٩ أغرى الملك عماد الدين الألفي المحاربة بين مقدمَي البقاع جمعة الحرباني النابلسي ومحمد بن صيح وبين الأمير حسين؛ وذلك لنفرة وقعت في قلب الملك من هذا الأمير، فقهر الأمير أعداءه ورجع إلى حاصبيا ظافرًا بعد أن أحرق البقاع، ثم تُوفِّي الأمير حسين في سنة ١٣٤٩ب.م وخلفه ولده أبو بكر، وتُوفِّي في سنة ١٣٨٠ب.م وخلفه ابنه محمد، ولما غشي تيمورلنك بجيوشه بلاد الشام انتزح سكان وادي التيم ديارهم إلى لبنان، فنزل الأمير محمد بعياله الشوف من هذا الجبل، ثم رجع مع المنتزحين إلى أماكنهم بعد أن رجع تيمور عن الشام، ولم يطأ أرض وادي التيم، وفي سنة ١٤٠٦ب.م تُوفِّي الأمير محمد فتولى الإمارة من بعده ابنه الأمير قاسم.

وفي سنة ١٤١٣ شهد هذا الأمير ورجاله موقعة جرت للملك داود الجركسي مع الإفرنج عند نهر الدامور، فأبلى مع الملك بلاء حسنًا فأكرمه الملك، وفي سنة ١٤٤٢ب.م تُوفِّي هذا الأمير فخلفه ابنه أحمد، ومات هذا في سنة ١٤٧٥ب.م وخلفه ابنه علي وانتزع من علي عمه الأمير بكر بن قاسم الإمارة وتولاها بنفسه بعد أن قبض على علي وسجنه، ولكن لم يلبث الأمير علي أن خلع باب السجن فألفى خيلًا مسرجة وعندها سيف، فركب جوادًا منها وتقلَّد السيف وجعل على وجهه لثامًا من طرف عمامته حتى إذا ما خرج من القرية أرخى العنان لجواده ووجهته البقاع، وإذ نُمِّيَ ذلك إلى الأمير بكر بث وراءه العيون فلم تقع عليه عين، وأما علي فما بلغ سفح الجبل حتى سقط جواده من تحته ميتًا، فإذا برجل وأمامه مهرة تحمل زبيبًا، فقال الأمير للرجل: «إما المهرة ولك حلية هذا الميت بدلًا منها، وإما الموت.» قال ذلك وسيفه مسلول بيمينه؛ فاختار الرجل الحلي، ودفع المهرة إلى الأمير، فركبها وسار حتى بلغ بعقلين عند الصباح، ونزل ضيفًا على خاله الأمير يونس المعني، فأكرمه، فلبث عنده سنة واحدة كان في أثنائها ذوو قرباه ورجال حزبه يراسلونه ويسألونه الرجوع إليهم؛ فأجاب سؤلهم ورجع، وبينما كان في الطريق لَقِيَه مائة فارس من حزبه وساروا يحفون به. وأما الأمير بكر، فلما أحس بقدومه استنهض سائر الأمراء عليه؛ فصانعوه بالوعد أنهم يتبعونه، فلما خرج إلى لقائه ليفتك به بلغ بطحاء الشميسة، ولم يَرَ من حوله إلا غلمانه، وأما الأمراء فأخلفوا الوعد لما أوغرت به صدورهم من الكراهية له والحقد عليه، فاصطدم هنالك الأميران؛ فطعنه الأمير عليٌّ برمحه طعنة في صدره اختطفت روحه، وقتل ثلاثين رجلًا من جماعته وسار إلى حاصبيا فتولَّاها، وفي سنة ١٥٠٣ب.م تُوفِّي الأمير علي وخلفه ابنه الأمير منصور، وقد شهد هذا الأمير حربًا شبَّتْ في سنة ١٥١٥ب.م بين السلطان سليم والملك أحمد قانصوه الغوري الجركسي ملك الشام ومصر، وكان في الظاهر متحيزًا مع الملك، ولكن في الباطن تواطأ مع الغزالي نائب الملك في الشام وخير بك نائبه في مصر أن يفروا عند السانحة إلى عساكر السلطان لينضموا معها على الملك، فأدرك الغوري خيانة نائبه؛ فجعلهما في طليعة الجيش يبغي بذلك استهدافهما للهلكة، وأما هما ففرَّا إلى عساكر السلطان ومعهما الأمير منصور وفريق من أرباب المناصب السامية في لبنان فقتل الغوري، وكان الفوز للسلطان سليم.

وفي سنة ١٥٣٥ب.م تُوفِّي الأمير منصور وخلفه ابنه الأمير ملحم، وفي سنة ١٥٦٤ب.م تُوفِّي الأمير ملحم، وتولى الإمارة بعده ابنه الأمير منصور البقري، وقد جاءته هذه النسبة نسبة البقري من أم له كانت بنت الشيخ محمد البقري الدمياطي، وفي سنة ١٥٩٧ تُوفِّي منصور وتولى الإمارة بعده علي أحد ولديه علي وأحمد، ثم وقع خلاف بين الأخوين بسبب بنت علي، طلبها أحمد لابنه من أبيها فامتنع؛ إذ كان قد وعد الأمير علي فخر الدين المعني أن يزوجها منه، فأغاظ ذلك أحمد فانتقل بأصحابه إلى راشيا، وجعل يتربص بأخيه شر الوقيعة وكذلك بالمعنيين، حتى كانت سنة ١٦١٢؛ إذ خرج أحمد باشا الحافظ على المعنيين يريد محاربتهم؛ فكان الأمير أحمد بمنزلة مدبر له، ولما رجع الباشا من لبنان إلى دمشق سأله الأمير أحمد الولاية على حاصبيا والمدد بعسكر لمحاربة أخيه علي فكان له ذلك، وانتشبت بينهما الحرب عند حاصبيا، فانهزم الأمير أحمد وقُتِل من رجاله مائة، ولم يُقتَل من رجال أخيه غير ثلاثين، ثم عاد الأمير علي إلى حاصبيا إلا أنه لم يمكث هنالك لخوفه من الحافظ، فتغيَّب بجماعته إلى عرمتا من جبل الريحان، ثم عاد إلى حاصبيا، ثم ضمَّ إلى ولايته مرج عيون والحولانية فأصبحتا من وادي التيم، وأما الأمير أحمد فما زال على عزمه فسار من راشيا إلى دمشق، وسأل واليها جركس باشا ولاية وادي التيم فمنحه ذلك وصحبه بعسكر، فلما بلغ أخاه عليًّا ذلك فرَّ إلى مجدل شمس وسيَّر عياله إلى راشيا، ثم استرد عليٌّ ولايةَ حاصبيا بمال دفعه إلى جركس باشا، واشترط الباشا عليه أن يبقى أخوه أحمد على ما كان عليه في راشيا.

وفي سنة ١٦٢٠ استعان الأمير فخر الدين المعني، وكان من منذ سنتين قد قدم من ديار الإفرنج بالأمير علي على آل سيفا فانتصر علي في المواقع، ثم حدث له بعد ذلك أن خرج مرة مع ابنيه طلبًا للصيد في ضواحي قرية شويا، فطلع عليه أخوه أحمد من راشيا فاقتتلوا جميعًا، ولما بلغ أمر الأخوين الأمير فخر الدين المعني سار من بيروت نحو البقاع، ونزل بقرية مشغرا، واستقدم الأميرين إليه فأصلح بينهما، وقسم وادي التيم بينهما مناصفة، ولما كانت سنة ١٦٢٣ أعان محمد وأخوه قاسم ابنا الأمير علي وعمهما الأمير أحمد وابناه الأمير حسين والأمير فارس الأمير فخر الدين المعني في محاربته مصطفى باشا والي دمشق عند وادي المجدل فهزموا عسكر دمشق، وأسروا الباشا وثلاثة وثلاثين رجلًا من عسكره، ورجعوا إلى وادي التيم فرحين بما نالوه من النصر الكبير. وفي سنة ١٦٢٦ تُوفِّي الأمير علي منصور، وتولى بعده ولده الأمير قاسم، ثم تُوفِّي الأمير أحمد منصور أخو الأمير علي في سنة ١٦٢٩ وله حسين وفارس فخلفه حسين، وفي سنة ١٦٣٣ حدثت محاربة بين عساكر الشام وبين الأمير علي ابن الأمير فخر الدين المعني، فانتصر له الأميران قاسم وحسين الشهابيان فانهزمت عساكر الشام، وقُتِل الأمير علي، ثم تزوج الأمير حسين ببنت الأمير ملحم المعني وأعانه مع الأمير قاسم في محاربة جرت بينه وبين العساكر التي سيَّرها بشير باشا والي الشام بقيادة الأمير علي علم الدين اليمني لقتال الأمير ملحم المذكور فانهزمت العساكر.

وفي سنة ١٦٥٢ تُوفِّي الأمير قاسم علي وخلفه منصور — أحد ولديه: منصور وناصيف — وسنة ١٦٥٩ تُوفِّي الأمير حسين وله علي وبشير فتولى علي، وفي سنة ١٦٦٠ فرَّ الأمير قاسم منصور والأمير علي حسين بعيالهما إلى قمهز في جبل كسروان ومعهما ستمائة رجل ونزلا على المشايخ بني حمادة من حزب القيسية، وذلك هربًا من أحمد باشا الكبرلي والي الشام ابن محمد باشا الكبرلي الصدر الأعظم؛ لأن هذا الوالي زحف بعساكره لمحاربتهما لما نُمِّي إلى السلطان من أمر إغرائهما الدمشقيين على مقاومة الوالي السلف مرتضى باشا من الدخول لدمشق، فأتى أحمد باشا وادي التيم وهدم مساكن الشهابيين في حاصبيا وراشيا، وأحرقها بعد أن نهبها وقطع ما لهم من الأشجار في وادي التيم ومرج عيون والبقاع، ثم جعل يقفو أثر الأميرين وهما يفران من وجهه حتى اضطرا أخيرًا أن يختبئا في الجبل الأعلى عند حلب، ولما كانت سنة ١٦٦٧ كتب الأمير أحمد المعني إلى الأميرين الشهابيين يبشرهما بالانتصار على اليمنية ويستقدمهما من الجبل الأعلى إلى الشوف، فقدما وذهب الأمير منصور إلى حاصبيا وأقام بها والأمير علي إلى راشيا وأقام بها، وفي سنة ١٦٧١ سيَّر الأمير عليٌّ عمَّه الأمير فارسًا الملقب بالكبير إلى البقاع ليفتك ببني حيمور؛ لأنه كان لهم يد في قطع أشجار الشهابيين في البقاع، وكانوا في طليعة عسكر الكبرلي عند وادي التيم، فابتغتهم وهزمهم إلى دمشق، فاستعانوا بوالي هذه المدينة؛ فأمدَّهم بالمقاتلين فكرُّوا على الأمير فارس وكسروه ودخلوا راشيا وأحرقوا دار الأمير فارس ودار الأمير علي. وفي سنة ١٦٧٤ تُوفِّي الأمير منصور قاسم وخَلَفه ابنُه الأمير موسى، فتزوج هذا الأمير بنت الأمير أحمد المعني، وفي سنة ١٦٨٠ حدثت موقعة بين الأمير فارس الكبير، وكان قد تولى بلاد بعلبك وبين الأمير عمر الحرفوش وجماعته من بني حمادة المتاولة، فقُتِل الأمير فارس وخمسون رجلًا من جماعته، فاتصل ذلك بالأمير موسى فزحف برجاله من حاصبيا، ووافاه الأمير علي نجم من راشيا يريدان أن يثأرا بالأمير فارس، فلما أحس بهما الأمير عمر الحرفوش خفَّ من بعلبك إلى الشوف يسأل الأمير أحمد المعني أن يتوسَّط في الأمر، ويُجْري المصالحة بينه وبين الشهابيين ففعل، وكان من شروط الصلح أنَّ بني حرفوش يؤدون إلى بني شهاب خمسة آلاف غرش في كل سنة واثنين من جياد الخيل، وذلك دية الأمير الذي قُتِل، ولما كانت سنة ١٦٨٢ تُوفِّي الأمير علي نجم في راشيا، وإذ لم يكن له إلا ولد صغير خلفه أخوه الأمير بشير. وفي هذه السنة نفسها وُلِد للأمير موسى الأمير حيدر؛ وهو جد الأمراء الشهابيين في لبنان.

ولما كانت سنة ١٦٩٦ تُوفِّي الأمير أحمد المعني بدير القمر، فانقطعت به سلالة بني معن، وانتقلت الولاية على لبنان إلى الأمراء الشهابيين؛ وذلك أن كبار القوم في لبنان اتفقوا على تولية الأمير بشير ابن الأمير حسين الشهابي أمير راشيا من زوجه أخت الأمير أحمد المعني المتوفى في السنة التي ذُكِرَتْ، والأمير بشير هذا هو أول بشير من آل شهاب ممن تولوا لبنان، وقد تولى الجبل من بعده بشير الثاني الذي فاق جميع الأمراء شهرة، ثم بشير الثالث، كما سيأتي بيان ذلك فيما بعد، قلنا إن كبار القوم اتفقوا على بشير حسين فتولى الجبل، وكان الوالي على صيدا يومئذٍ مصطفى باشا فدفع إلى يد الأمير بشير بناء على التماس كبراء لبنان زمام جميع الأنحاء التي كانت في يد الأمراء المعنيين، على أن يقوم الأمير بشير بأداء الضريبة المعينة مع الباقي مما سلف منها، ثم رفع أمر ذلك بعريضة إلى السلطان واتفق حينئذٍ أن عزل والي صيدا مصطفى باشا، وجعل مكانه أرسلان باشا المطرجي، فورد أمر السلطان قاضيًا بالولاية للأمير حيدر الشهابي بعد الأمراء المعنيين؛ لأنه أحق بذلك من غيره لكونه ابن بنت الأمير أحمد المعني، وكان ذلك بسعي الأمير حسين ابن الأمير فخر الدين المعني الباقي من سلالة المعنيين محجورًا عليه في إسلامبول، فأبلغ أرسلان باشا أمر السلطان إلى الأمير بشير، فسأل الأمير من الباشا أن يلتمس له من السلطان أن يكون واليًا بالنيابة عن الأمير حيدر؛ لأن عمر حيدر لا يتجاوز الاثنتي عشرة سنة، فأُجِيب ملتمسه على أن يكون ذلك حتى يبلغ حيدر أَشُدَّه فيتولى الجبل، وإذ ذاك فرَّ الأمراء اليمنيون إلى دمشق؛ لأنهم تظاهروا بعدم قبول ولاية الأمير بشير، ولما كانت سنة ١٧٠٠ خرج صاحب بلاد بشارة من شيوخ المتاولة عن طاعة أرسلان باشا، فأثار الباشا الأمير بشيرًا عليه وأباح له الاستيلاء على صفد وأنحاء جبل عامل وبلاد بشارة وإقليمَي الشحار والتفاح وبلاد الشقيف؛ فزحف الأمير على الشيخ بثمانية آلاف مقاتل من القيسيين، وأمسكه وأمسك أخًا له ومُدبِّرًا لهما بعد أن فتك برجالهم فتكًا ذريعًا، ثم أرسل الثلاثة إلى الباشا، فقتل الباشا المدبر وسجن الأخوين، وجعل ولاية الأمير من صفد إلى جسر المعاملتين، وفي سنة ١٧٠٦ تُوفِّي الأمير بشير، وقيل: تُوفِّي مسمومًا بسم دسَّه له الأمير حيدر في بعض الحلوى، فاجتمع كبراء اللبنانيين وساروا إلى حاصبيا ليولوا الأمير حيدر ابن الأمير موسى عليهم، وكان عمر هذا الأمير حينئذٍ إحدى وعشرين سنة، وكان له ولدان: الأمير ملحم، والأمير أحمد. فأتى الأمير دير القمر ونهج في الولاية على طريقة أسلافه، ولما تولى صيدا بشير باشا بدلًا من أخيه أرسلان باشا فصل عن ولاية الجبل الأنحاء التي كان أخوه قد ضمَّها إليها على عهد الأمير بشير، ثم التمس الأمير حيدر من بشير باشا الولاية على بلاد بشارة، فمنحه إياها.

وفي سنة ١٧٠٧ حدثت بين الأمير والمتاولة عند قرية النبطية، وهو سائر إلى بلاد بشارة للاستيلاء عليها، موقعة أبلى الأمير ورجاله فيها بلاءً حسنًا، وقتل كثيرًا من قومهم، وجعل الأمير على بلاد بشارة محمودًا أبا هرموش الدرزي نائبًا عنه، ورجع إلى دير القمر غير أن محمودًا هذا تغيَّظ عليه الأمير، وفرَّ إلى صيدا ملتجئًا إلى واليها بشير باشا، فحماه واستحصل له على لقب باشا، وجعل الأمير يوسف أرسلان بدلًا من الأمير حيدر على الولاية ووجَّهه مع محمود باشا أبي هرموش لطرد الأمير حيدر، ففرَّ الأمير حيدر بجماعته إلى الهرمل، واختبأ في مغار فاطمة هناك عند سفح الجبل، ولبث هنالك نحوًا من سنة، وكان ذلك سنة ١٧١٠. وفي السنة التالية قدم من الهرم إلى المتن، ونزل عند المقدم حسين اللمعي، فاجتمع إليه الأعيان من القيسية في الشوف وغيرها من اللمعيين والعماديين والخازنيين، وأما محمود باشا فاستعان بوالي دمشق ووالي صيدا، فأمداه بالعساكر، فاضطرمت نيران الحرب بين محمود باشا والأمير في عين دارة، ففتك رجال الأمير في أعدائهم فتكًا ذريعًا، وسدوا عليهم جميع المسالك، وسار الأمير إلى الباروك ومعه أربعة من أمراء آل علم الدين اليمنية مأسورين: الأمير يوسف، والأمير علي، والأمير منصور، والأمير أحمد. فقطع أعناقهم بعد أن كان قد قُتِل الباقون من الأمراء ذوي قرباهم في الموقعة، فانقطعت بهم سلالة آل علم الدين، ثم أمر ببتر لسان محمود باشا وإبهاميه، وتجاوز عن الإجهاز عليه احترامًا للدولة وصيانة لعادة البلاد، ثم سار إلى دير القمر، وتربع في دست الولاية، وأباح الزواج بينه وبين اللمعيين فتزوج بنت الأمير حسين اللمعي، وأزوج بنته من الأمير عساف ابن الأمير حسين وأقطعه قاطع بيت شباب وبكفيا، ثم تزوج من أم الأمير مراد وأقطعه نصف المتن وبسكنتا، فوُلِد له منها الأمير عمر جد الأمير بشير الكبير المشهور، وأزوج أخته من الأمير عبد الله، وأحبَّه بما رأى منه من شدة البأس في وقعة عين دارة، ونزع بعض الإقطاعات من أيدي أصحابها، وسلمها إلى أهل أحلافه من القيسيين.

وفي سنة ١٧٢٣ استقدم الأمير حيدر إليه الأمير أحمد منصور من حاصبيا، وأمر بقتله اغتيالًا فقُتِل وهو نائم في دار الأمير حيدر من ولَدَيْ حيدر نفسه ملحم وأحمد، وسعى في قتل الأمير أحمد ابن عم الأمير نجم أمير حاصبيا على يد الأمير نجم نفسه، فنجا الأمير سيد أحمد من المكيدة فارًّا إلى دمشق. وفي سنة ١٧٢٩ دفع الأمير حيدر زمام الولاية إلى يد ولده الأمير ملحم، وكان كفؤًا لها، ولما كانت سنة ١٧٣٢ تُوفِّي الأمير حيدر بدير القمر، وله من الولد تسعة: الأمير ملحم، والأمير أحمد، والأمير منصور، والأمير يونس، والأمير علي، والأمير حسين، والأمير معن، والأمير بشير، والأمير عمر. وهم من أزواج عدة، ففي أيام حيدر ارتفع شأن القيسية واندرس ذكر اليمنية، ولما تولَّى الأمير ملحم التمس من أسعد باشا العظم أن يتجاوز له عن ولاية بلاد بشارة؛ وذلك لغرض في نفسه وهو الانتقام من أصحاب هذه البلاد بني علي الصغير، فولَّاه إياها؛ فبطش بهم وأهلك من جماعتهم عددًا كبيرًا واعتقل مقدمهم نصارًا ورجع به إلى لبنان، ثم افتداه إخوته بمال دفعوه إلى الأمير؛ فرضي عنه وعنهم وأعادهم عمالًا على البلاد من لدنه، وقد عظمت شوكة الأمير وطفق جماعته يعتدون في البقاع؛ فحنق والي دمشق سليمان باشا العظم على الأمير ونوى الوقيعة في جماعته، فاعتذر الأمير لديه عنهم واسترضاه بوعد أن يدفع إليه خمسين ألف غرش، وجعل أخاه الأمير حسينًا رهنًا عند الباشا حتى يؤدي المبلغ، فقبل الباشا ورجع بعسكره إلى دمشق، ولما تُوفِّي أخو الأمير ملحم الأمير عمر وله قاسم ضمَّ الأمير قاسمًا إلى عياله، وتولى تربيته بنفسه حتى نما وشب فجعله مدبرًا لشئون عظيمة.

وفي سنة ١٧٤٣ شاقَّ أصحابُ جبل عامل — المتاولة — واليَ صيدا سعد الدين باشا العظم، واعتدوا على جزء من ولاية الأمير — إقليم التفاح — فنهض الأمير إليهم، وقد أُوعِز إليه من الباشا أنْ قاتِلْهم، فقاتَلَهم وهزمهم شرَّ هزيمة، وأسر أربعة من شيوخهم، ولم يُخلِّ سبيلهم إلا بفدية ستة آلاف غرش تُدفَع إليه، وفرسين من جياد الخيل في كل سنة. وفي سنة ١٧٤٨ حدثت موقعة بين الأمير وبين أسعد باشا العظم عند بر إلياس، فانهزم الباشا وظلَّ الأمير في أثره حتى الجديدة، فقتل من العسكر الدمشقي خلقًا كثيرًا، ثم رجع إلى البقاع فأحرق قراها بعد أن نهب وسلب كثيرًا، ثم عاد إلى مقره منصورًا، ثم أرسل إلى بلاد بعلبك عسكرًا لنهبها، وخلع عاملها الأمير حيدر الحرفوش؛ لأنه تظاهر للباشا في تلك الموقعة، وجعل مكانه أخا حيدر هذا الأمير حسين الحرفوش؛ لأنه تظاهر له، وحدث ذلك كله وأسعد باشا متغيِّب بالحج، فلما رجع استشاط غيظًا وهم بحشد المقاتلين للوقيعة في الأمير غير أنه لم يلبث أن ضرب عنقه بأمر من السلطان، وتولَّى مكانه أخوه سعد الدين باشا.

ولما كان الأمير قد رزح تحت أعباء نفقات كبيرة بسبب تلك الحوادث عجز عن أداء المال المضروب على بلاده إلى والي صيدا عثمان باشا الذي خلف سعد الدين باشا، فهمَّ الباشا بمقاتلته؛ إذ أرسل فأحرق إقليم التفاح، وقطع شجر الزيتون عند نهر صيدا، وحضر الأمير بعسكره إلى مزبود من إقليم الخروب، ووافى الباشا من دمشق واليها ليتعاونا على مقاتله الأمير، إلا أنه عاد عثمان فكفل المال المطلوب من الأمير وافترقا متصالحين. وفي سنة ١٧٤٩ ضُمَّتْ بيروت إلى ولاية الأمير، فتوطنها الأمراء الشهابيون وبقيت الولاية عليها في يدهم إلى عهد الجزار، ثم حدث في السنة التالية أن المتاولة سطوا على إقليم جزين، وقتلوا اثنين من جماعة الشيخ علي جنبلاط، فكبر ذلك على الأمير وزحف إليهم برجاله، فالتقى ببني منكر منهم بجباع الحلاوة، فقتل ثلاثمائة رجل منهم واتبع بعسكره الفارين منهم فأهلكهم، وتناول بالوقيعة بقية تلك الديار، ثم عاد ووقعت فتنة بين جماعة الأمير وجماعة سليمان باشا والي دمشق أدَّتْ إلى النفرة بين الأمير والباشا، فاشتدَّ غيظ الباشا وحنقه وشرع في حشد الجنود لمقاتلة الأمير، فتوسَّط للصلح بينهما مصطفى باشا القواس والي صيدا على أن الأمير يدفع إلى سليمان باشا خمسة وسبعين ألف غرش.

وحدث في سنة ١٧٥١ أن سَخِط الأميرُ ملحم على بني نكد، فألقى الفتنة بين كبيرَيْن منهم — الشيخ خطار والشيخ كليب — فتعاديا بأشد ما كانا عليه من ذي قبل، فأخرجهما الأمير من البلاد فسارا إلى حاصبيا، فأحرق الأمير منازلهما بدير القمر، ثم عاد فرضي عنهما بشفاعة شفيع لديه. وفي سنة ١٧٥٤ بلي الأمير بضعفٍ في جسمه، فطمع فيه الطامعون من أهل البلاد، فاتفقوا مع أخويه الأمير أحمد والأمير منصور على خلعه، فاضطر الأمير ملحم أخيرًا أن يتخلَّى لأخويه عن الإمارة لاستظهارهما عليه فتوليا، أما هو فنزل بعياله إلى بيروت وتوطنها، وعكف على درس الفقه وعاشَرَ العلماء. وفي تلك السنة تنصَّر الأمير علي حيدر، ومن أبناء الأمير ملحم: الأمير قاسم، والأمير سيد أحمد، والأمير حيدر. ثم تنصَّر غالبُ الأمراء الشهابيين، ثم الأمراء اللمعيون.

وفي سنة ١٧٥٥ تشاقَّ الأميران أحمد ومنصور مع ابن أخيهما الأمير قاسم، وإذ كان الأمير ملحم واجدًا على أخويه وفي صدره منهما حزازات أغرى ابن أخيه الأمير قاسمًا على الذهاب إلى إسلامبول واستحصال الولاية على جبل الشوف والولاية على بلاد جبيل، على أن تكون الأولى للأمير ملحم والثانية للأمير قاسم إقطاعين لهما ولأبنائهما من بعدهما، فسار الأمير قاسم إلى إسلامبول، ونزل الأمير على مصطفى باشا القواس الذي كان قد استُقدِم من صيدا وجُعِل وزيرًا للدفترية، فأكرمه الوزير وسعى إلى قضاء حاجته؛ عملًا بكتاب شفاعة رفعه إليه الأمير من عمه الأمير ملحم الذي كان الباشا يودُّه.

ولكن لم يلبث الباشا أن عُزِل عن منصبه بسبب تغيير في المناصب على أثر وفاة السلطان عثمان، وتبوأ السلطان مصطفى مكانه في الخلافة، ومع ذلك فقد ذهب مصطفى باشا بالأمير إلى علي باشا الحكيم قيِّم الدفترية، فترحب به علي باشا وأبقاه عنده مدة، ثم وجَّهه بكتاب منه إلى والي دمشق عبد الله الشيخي ليبقي الأمير عنده حتى تُقضَى له حاجته؛ فكان ذلك وأقام الأمير بدمشق تجري عليه الوظائف من يد الباشا واليها، وحدث في سنة ١٧٥٩ أن تُوفِّي علي باشا، ثم عزل عبد الله الشيخي كل ذلك، والأمير قاسم لم تكن تُقضَى حاجته؛ فضاق صدره واشتدَّ يأسه وقنوطه، فخرج من الشام وأتى فالوغا، ونزل ضيفًا على الأمير شديد مراد اللمعي ولبث عنده حولًا.

وفي سنة ١٧٦١ تُوفِّي الأمير ملحم في بيروت ودُفِن في جامع الأمير منذر التنوخي، وكان له ستة من الولد: محمد، ويوسف، وقاسم، وسيد أحمد، وأفندي، وحيدر. وفي أيامه حدثت الفتنة المشهورة بذات الحزبين اليزبكي والجانبلاطي، فأصحاب الحزب اليزبكي بنو عماد وجماعتهم وأصحاب الحزب الجانبلاطي بنو جانبلاط وأحلافهم، وكتب الأميران أحمد ومنصور إلى ابن أخيهما الأمير قاسم يريدان مصالحته، فعاهدهما على المصافاة والمسالمة وأقبل عليهما من فالوغا إلى دير القمر، ثم نزل إلى حدث بيروت وتوطنها، فورد عليه من إسلامبول براءة في الإمارة، وذلك بسعي مصطفى باشا إذ أُعِيدَ إلى العاصمة وتولى الصدارة، فكتب الأمير في ذلك إلى عمَّيْه وأرسل إليهما البراءة متجاوزًا لهما عن الإمارة على أن يدفعا إليه نفقة الرسول الآتي بالبراءة من العاصمة سبعة آلاف غرش، فامتنعا وكتبا إليه بما يشف عن امتناعهما؛ فعزم إذ ذلك على إقرار نفسه في الولاية، واستعان بوالي صيدا نعمان باشا بعد أن أطلعه على البراءة، فأعانه وعززه بعسكر من عنده، فزحف الأمير قاسم بالعسكر إلى بيروت واستولى عليها؛ ففر عمَّاه منها هاربَيْن إلى الجبل، حيث جمعا الوجوه والأعيان، فكتب هؤلاء كتابًا إلى الوالي يلتمسون منه عزل الأمير قاسم وإعادة الأمير أحمد وأخيه الأمير منصور إلى الولاية بمبلغ قدره خمسون ألف غرش يُدفَع إليه في جانب التماسهم؛ فأرسل وعزل الأمير قاسمًا وأعاد الولاية إلى الأميرين، فمضى الأمير قاسم عندما بلغه أمر العزل إلى البقاع، ولكن توسَّط في الصلح بينه وبين عمَّيْه أحمد ومنصور عمُّه الأميرُ علي والشيخ عبد السلام العماد، وأتى الأمير قاسم عين دارة التي كانت من إقطاعه وعقد الصلح هناك فأقام بها حولًا.

وفي سنة ١٧٦٢ أزوجه عمه الأمير منصور من ابنته، فوُلِد له منها الأمير حسن والأمير بشير الملقب بالكبير وهو تاج فخر الأمراء الشهابيين بلبنان، ثم انتقل الأمير قاسم من عين دارة إلى بشامون حيث مكث أربع سنين، ثم مضى إلى بيروت فلبث بها أيامًا وانتقل منها إلى غزير فمكث سنتين، ثم تُوفِّي هنالك.

أما الأميران أحمد ومنصور، وقد مال أحدهما أحمد إلى اليزبكية وعميدها الشيخ عبد السلام عماد، والآخر منصور إلى الجانبلاطية وعميدها الشيخ علي جانبلاط، فحدثت بينهما فتنة أفضت إلى استبداد الأمير منصور بالولاية من دون أخيه، وانحرف عن الأمير أحمد رجال حزبه ومنهم الشيخ عبد السلام العماد والشيخ شاهين تلحوق أتيا دير القمر خافضي جناح الطاعة للأمير منصور، وأما الأمير يوسف — وقد كان متحيزًا إلى عمه الأمير أحمد — فلجأ بنفسه وبإخوته إلى الشيخ علي جانبلاط بالمختارة، ومن ثم سار إلى راشيا ومعه الشيخ كليب والشيخ خطار من بني نكد وهما كانا مشايعين للأمير أحمد، ونزل ضيفًا على الأمير منصور سيد أحمد فجعل عمه الأمير منصور والي لبنان يده على أمواله وأموال إخوته، وخرب مساكن الشيخين اللذين صحباه وقطع أشجارهما، ثم شفع بعض في الأمير يوسف لدى عمه واسترضوه عنه فرضي، ولكن لم يرفع يده عن أمواله وأموال إخوته؛ فبقيت في صدر الأمير يوسف حزازات، وجعل مدبر هذا الأمير الشيخ سعد الخوري يدس الدسائس إلى كبراء البلاد يبغي إصلاح أمر الأمير واستمالة النفوس إليه، وقد أثرت دسائس المدبر في الشيخ علي جنبلاط خصوصًا بعد أن سأل الأمير منصورًا أن يتجاوز عن أموال أولاد أخيه الأمير يوسف وإخوته لهم وأبى أن يجيب سؤاله؛ فأرسل الشيخ واستقدم الشيخ كليب نكد إليه، وتواثقا على الانتصار للأمير يوسف والمشايعة له، واستخدما شيخ عقل الدروز لإنفاذ رغبتهما؛ فجعل شيخ العقل يطوف بقومه ويواثقهم سرًّا على مشايعة الأمير يوسف، وفي الظاهر يوهم الناس أنه ينظر في أمر المعابد المعروفة بالخلوات. ولما تمهَّد للأمير يوسف السبيل قصد الشام، فدخل على واليها عثمان باشا الكرجي، فأكرمه عثمان باشا وسلَّحه بكتاب إلى ولده محمد باشا والي طرابلس حتى يوليه بلاد جبيل، وبينما هو في الطريق وافاه الشيخ كليب والشيخ خطار من بني نكد، وما بلغ أنحاء جبيل حتى اجتمع عليه غالب مشايخ البلاد، ولما كان والي طرابلس باللاذقية وفد الأمير عليه هنالك ومعه الشيخان كليب وخطار، فدفع الأمير إليه كتاب أبيه عثمان باشا الكرجي؛ فولاه أنحاء جبيل والبترون، فاستقر في جبيل على الولاية، وكان ذلك سنة ١٧٦٣، وكان عمره حينئذٍ لا يتجاوز السادسة عشرة، فعظم أمر الأمير يوسف واشتدَّ عضده بكثرة أعوانه ونماء حزبه، واستظهر على المشايخ الحمادية ولاة تلك الأنحاء في محاربات وقعت له معهم، وكان الشيخ علي جنبلاط والشيخ كليب يُمدَّانه سرًّا بالرجال من أهل الشوف والمناصف.

ولما كانت سنة ١٧٦٤ استعان والي الشام عثمان باشا بالأمير يوسف على أخذ قلعة سانور فلم يتمَّ ذلك؛ لأن أصحاب القلعة — فيما قِيلَ — من حزب القيسيين والأمير قيسي، فتلكأ الأمير عن المحاربة، ولما أوجس الأمير منصور خيفة من الأمير يوسف بما رأى من تفاقم شأنه وتعاظم أمره تأكَّد صدق ما كان يحذره من الشيخ عبد السلام العماد، وقد حضَّه الشيخ على الانتقام من الشيخ علي جانبلاط؛ لكونه كان له اليد الطولى في تعزيز مقام الأمير يوسف، فأتى الأمير منصور إلى دير القمر يريد الوقيعة في الشيخ علي، ودعا إليه أخاه الأمير عليًّا وابن أخيه الأمير قاسمًا وكاشفهما في الأمر فوافقاه عليه، ولكنَّ الشيخ عليًّا درى بالمكيدة فأرسل إلى الأمير يونس حيدر يُزيِّن له الولاية ويثيره على الأمير منصور أخيه، وأرسل إليه مبلغًا من النقود لينفق في هذا السبيل، واستقدمه إلى الشوف ليوافيه برجاله ويُعِينوه؛ فقبل الأمير بذلك، وقدم من دير القمر إلى مزرعة الشوف حيث وفد عليه الشيخ علي وأصحابه متظاهرين أنهم لا يريدون واليًا عليهم إلا إياه، فاضطرب الأمير منصور باله، واتفق يومئذٍ أن عزل محمد باشا عن ولاية صيدا، فانخلع قلب الأمير لأن المعزول كان ملاذًا له؛ فعمد إلى ملافاة الأمور بتلطيفها فخبَتْ نار الفتنة، ورضي الأمير عن الشيخ، وجَرَتِ المصالحة بين الأمير منصور وبين أخيه الأمير يونس، ثم رجع الأمير منصور إلى بيروت وفي صدره ما فيه من الحزازات على أخيه، ولبث الأمير يونس خائفًا يترقَّب، حتى كتب إلى الأمير يوسف يستوثقه على التناصر، فكتب إليه الأمير يوسف أن يحضر إليه ليشاطره الولاية، فشاطره على الولاية — كما وعده — ولكن لم يَطُل الحال على هذا المنوال؛ لأن الحاصل من الولاية لا يفي بالنفقة.

وسنة ١٧٦٥ وُلِد للأمير قاسم عمر الأمير حسن، وفي سنة ١٧٦٦ جَرَتْ موقعة بين الأمير يوسف وبين عسكر طرابلس في أميون بسبب الحمادية الذين لاذوا بوالي طرابلس من الأمير يوسف فكانت الغلبة للأمير، وفي سنة ١٧٦٨ وُلِد للأمير قاسم ولده الأمير بشير، ثم تُوفِّي الأمير قاسم بعد بضعة شهور عنه وعن أخيه حسن، وأما الأمير يوسف فما زال يتَّسع اقتداره وتتقوَّى شوكته، حتى انخلع قلب عمه الأمير منصور جزعًا منه، فأراد أن يتنازل له من تلقاء نفسه عن الولاية، وكتب إليه في ذلك قائلًا له إنه أصبح جسمه ضعيفًا عن القيام بأعباء الولاية، فأجابه الأمير يوسف أنْ أَبْقِ زمام الولاية في يدك وأنا أعينك على قضاء أمورها، فحسب الأمير منصور هذا الجواب من قبيل الخدعة، واستقدم إليه أمير حاصبيا الأمير إسماعيل وسيَّره إلى دير القمر؛ حتى يُقنِع الأمير يوسف بقبول الولاية، ففعل، ثم تنازل الأمير منصور لابن أخيه على مشهد من جمهور غفير من أمراء البلاد وأعيانها، ثم كتب كتابًا إلى عثمان باشا والي دمشق حتى يكتب إلى ابنه درويش باشا والي صيدا؛ فيقر درويش باشا الأمير يوسف على الولاية، وأخذ الأمير منصور عهدًا على الأمير يوسف بأن يؤدِّي عنه إلى الدولة بقية من المال المطلوب منه وقدرها خمسة وثلاثون ألف غرش، فسُرَّ عثمان باشا بذلك؛ لأنه كان يحب الأمير يوسف، وبادر بطيبة نفس إلى قضاء الحاجة.

فلما كانت سنة ١٧٧٠ وردت على الأمير يوسف خلعة من درويش باشا إيذانًا بإقراره على الولاية؛ فاستقلَّ الأمير يوسف بالولاية على لبنان بأكمله من ضواحي طرابلس إلى ضواحي صيدا، وأما الأمير منصور فأقام في بيروت حتى تُوفِّي، وفي هذه السنة نفسها وفد على الأمير رجل من البشناق يُسمَّى أحمد الجزار كان قد فَرَّ من وجه علي بك والي مصر، فأكرم الأمير وفادته وأبقاه عنده في دير القمر أيامًا، ثم أرسله إلى بيروت وأجرى عليه وظيفة من كمركها، فلبث الجزار في المدينة أيامًا، ثم سار إلى دمشق ودخل في خدمة واليها عثمان باشا. وحدث في تلك الأيام أنَّ أهل جبل عامل من المتاولة خرجوا عن طاعة والي صيدا درويش باشا، وجعلوا يعيثون في قرى مرج عيون والحولانية، ونافروا الأمير يوسف لأخذه الولاية من عمه الأمير منصور وهم يميلون إلى هذا الأمير، وكان أشدهم نفرة وهياجًا بنو علي الصغير وهم بنو الأسعد الآن وبنو صعب، فامتلأ قلب الأمير يوسف غيظًا وحنقًا عندما علم تحكك مشاقيه بأهل الأنحاء الداخلة في ظل حمايته من ولاية خاله الأمير إسماعيل أمير حاصبيا، فحشد لذلك الرجال من لبنان، وبعث إلى خاله أن يوافيه برجاله إلى جبل عامل ليصلي المتاولة نارًا حامية، ثم نهض برجاله من دير القمر، وكانوا زهاء عشرين ألفًا بين فرسان ومشاة، وضُرِبَتْ خيامهم عند جسر صيدا، وكانت رجال الشيخ علي جانبلاط هنالك مُحافِظة على صيدا من المقاتلين اللبنانيين، أما الأمير يوسف فزحف بعسكره في اليوم التالي إلى قرية جباع الحلاوة، وكان يحرق جميع القرى من إقليم التفاح حتى بلغ قرية جباع هذه فألفى بني منكر من أهلها قد انتزحوها وولوا هاربين إلى الصغيرية والصعبية مشايعة لهؤلاء، مع أنهم كانوا قبل ذلك من أشياع الأمير.

وأما المتاولة فخافوا واستعانوا بصاحب عكة الشيخ ظاهر العمر الزيداني، فقدم إليهم بجماعته، وأما الشيخ علي جانبلاط عندما درى أن الأمير كان محمولًا على تلك المحاربة من الشيخ عبد السلام عماد كيدًا فيه — أي في الشيخ علي جانبلاط — لأنه كان يحب بني منكر؛ فقد أوغر صدره وأرسل إلى العسكر اللبناني يُسِرُّ إلى أهل حزبه منه أن اخرجوا من ساحة الحرب عندما تلمع شرارتها وارجعوا على أعقابكم إلى دياركم، وأوصاهم بذلك وحضَّهم عليه كثيرًا، وقد كان ذلك؛ فإن الأمير بعد أن بات ليلتين بقرية جباع، وأتى فيها مأتاه من تخريب ونهب وتقطيع أشجار؛ ذهب إلى صحراء نبع المأذنة، حيث وفد عليه رسول خاله الأمير إسماعيل بكتاب ينبئ بقدومه في رجاله، ثم وفدت عليه رسل المتاولة من أهل عامل بكتاب من الشيخ ظاهر العمر صاحب عكة يسأله فيه الصلح على مال يقوم المتاولة بأدائه إليه وأنه هو الكفيل بذلك، ثم يسأله فيه أن يتربص في مكانه حتى هو يوافيه إليه ويشافهه بذلك، فأبى الأمير إلا أن يركب متن العناد، ونهض بقومه يريد المحاربة غير منتظر قدوم خاله برجاله، فأحرق قرية كفر رمان، وظل سائرًا حتى بلغ ضواحي النبطية؛ فالتقت عندها طلائع الفريقين اللبنانيين والمتاولة، وقد تحقق هؤلاء أن الحرب لا بد منها؛ فانضم بعضهم إلى بعض فبلغوا أربعة آلاف مقاتل، وانضم إليه الشيخ ظاهر برجاله حانقًا على الأمير لخذلانه منه في أمر الصلح، فما اصطدمت الصفوف في المعترك حتى تفلتت من صفوف اللبنانيين رجال الشيخ علي جانبلاط، وولَّوا مدبرين عملًا بما أوعز إليهم زعيمهم الشيخ؛ فأدرك الباقين من الصفوف التي كانوا فيها الفشل، فطمع بهم أعداؤهم وكسروهم وقتلوا منهم نحو ألف وخمسمائة رجل.

وما برح المكسورون ناكصين على الأعقاب حتى وصل الأمير إسماعيل برجاله إلى موقف المحاربة، وقابل الأعداء ببأس شديد وعزم وطيد وقلب قُدَّ من حديد، وظل يقاتلهم حتى لواهم فولوا، ثم مضى هو والشيخ كليب إلى حاصبيا، وأما الأمير يوسف ورجاله فعادوا إلى لبنان مدحورين، ودرويش باشا والي صيدا غشيه الخوف من ذلك، ففرَّ إلى دمشق وجعل كل الناس يلومون الأمير ويعيبون عليه مأتاه، وفوَّض المتاولة أمرهم إلى الشيخ ظاهر ونفدت به عزيمتهم، وعندما بلغ هذا الشيخ أن درويش باشا خرج من صيدا هربًا سوَّلَتْ له نَفْسُه أن يستمرَّ في سبيل العصيان مغترًّا بالولاية على المدن والقرى، فأنفذ إلى صيدا واحدًا من حاشيته يُقال له الدنكزلي وحفَّه بجماعة من غلمانه ليكون نائبًا عنه في الولاية عليها، فاستولى عليها الدنكزلي.

وأخذ المتاولة يعتدون على أهل إقليم جزين وأهل إقليم الخروب من الأقاليم الداخلة في ولاية الأمير يوسف، فأرسل الأمير الشيخ كليب نكد إلى إقليم الخروب ليدفع أعداءهم، فالتقى الشيخ بجماعة منهم في إحدى قرى هذا الإقليم علمان مرة ونال الانتصار عليهم، ولبثت العداوة بين الأمير وظاهر العمر وجماعاته من المتاولة حتى أمر السلطان الأمير أن يزحف برجاله إلي الشيخ ظاهر في صيدا ويقاتله ويخرجه منها وتجاوز له عن ضريبة بلاده عن سنة، وذلك بواسطة والي دمشق عثمان باشا، ولما تُوفِّي عثمان هذا قعد الأمير عن محاربة الشيخ وضعفت همته عن قتاله، حتى أتى عثمان باشا المصري دمشق واليًا عليها، فكتب عثمان باشا إلى الأمير يستنهضه لقتال الشيخ وأحزابه، وبعث إلى والي القدس خليل باشا الوالي أن يعاون الأمير فيوافيه إلى القتال، وكان مع هذا الوالي الجزار ووالي مدينة كركوت وألف من الفرسان مجهزين بالمئونات والذخائر والسلاح، فخرج الأمير بقومه من دير القمر إلى عين السوق عند السمقانية حيث أقبل عليه خليل باشا برجاله، فتألف بذلك جيش كبير يبلغ عشرين ألفًا زحف إلى صيدا ونزل بظاهرها ثم حاصرها سبعة أيام.

ولما كان اليوم الثامن، وقد همَّ الدنكزلي بالتسليم إذا بسفن مسكوبية حربية ظهرت في البحر لدى المدينة مرسلة من عكة، أرسلها ظاهر العمر لمعونة الدنكزلي وذلك لما كان بين ظاهر والدولة المسكوبية من الاتحاد، فأطلقت السفن مدافعها على المحاصرين فارتدوا إلى المحلة المعروفة بالحارة عند سفح الجبل، ثم ورد على الأمير كتاب من الشيخ ظاهر يقول له فيه: «ارتدَّ بقومك إلى قنطرة نهر صيدا؛ فأراسلك هناك في الصلح، وإلا آتيك بعسكري ومعي علي بك المصري ومن ورائه جماعة من الغفر.» فأجابه الأمير مغلظًا له الجواب؛ فنهض الشيخ برجاله — وكانوا عشرة آلاف مقاتل — وجرى الاقتتال بين الفريقين عند سهل الصباغ شرقي صيدا فكانت الغلبة للشيخ، ثم أوعز الشيخ إلى السفن أن تسير إلى بيروت لمحاصرتها، فلمَّا أقبلت السفن على المدينة فرَّ منها الأمراء الشهابيون هاربين؛ فأطلقت السفن المدافع على المدينة وخرَّبَتْ بعضًا من مبانيها، ثم خرجت العساكر من السفن إليها ونهبت المدينة، ولم تلبث أن عادت إلى البحر خوفًا من المباغتة. ولما اتصل أمر ذلك بالأمير نزل بعسكره إلى الحدث، وكتب إلى عثمان باشا يستعين به، وجرت المداولة في الصلح بين الأمير وبين عمه الأمير منصور فتصالحا؛ فكتب الأمير منصور إلى ظاهر العمر يلتمس منه أن تقلع السفن عن بيروت، فكان له ذلك بعد أن دفع إلى أمير السفن سنبيكو خمسة وعشرين ألف غرش، ثم قدم مدبر والي دمشق عثمان باشا بعسكر كبير إلى بيروت ومعه الجزار، فدفع الأمير منصور رجلًا مغربيًّا إلى قتل الجزار، فأطلق المغربي وهو في مكمنه بظاهر المدينة الرصاص على الجزار فأصاب عنقه فجرحه، ولكن شفي الجرح بعد العلاج. وحدث في تلك الأيام أن الحمادية أصحاب بلاد جبيل اغتالوا نائب الأمير في هذه البلاد الأمير بشير حيدر وهو في العاقورة لجباية الأموال ومعه شيخا بشري وأهدن، واقتتلوا معه نهارًا كاملًا؛ فصدَّهم الأمير منتصرًا عليهم بعد أن قتل ثمانية منهم، ولم يقتل من جماعته إلا ثلاثة رجال، وأتى أبناء الجبة ينجدون الأمير؛ فانخلعت قلوب المتاولة خوفًا، فانتزحوا بعيالهم جبة المنيطرة ووادي علمان إلى الكورة، فسار أهل الجبة في أثرهم.

وإذ بلغ الأمير ذلك وهو في بيروت بعث مدبره الشيخ سعدًا في عسكر المغاربة عسكر مدبر والي دمشق، وحشد هو عسكرًا وسار به إلى نبع أفقا، أما مدبر الأمير فأدرك المتاولة عند دير بعشتار فقهرهم بعد حرب لبثت من الظهر إلى المساء وتعقَّبهم حتى القلمون، وسمَّ الشيخ أبا نصر عليًّا وقتل منهم مائة رجل، ولم يُقتَل من رجاله إلا اثنان، ثم شفع الشيخ ميلان الخازن في الشيخ علي؛ فأطلق سبيله وجاء مدبر الأمير برجاله إلى نبع أفقا، حيث وجد الأمير مُخيِّمًا بعسكره فأخبره بما كان، فأرجع الأمير المغاربة إلى بيروت والتمس من والي دمشق عثمان باشا ولاية البقاع لأخيه الأمير سيد أحمد فمنحها له، فاتخذ الأمير سيد أحمد قلعة قب إلياس مقامًا له، وعمَّر المهدوم من بنيانها وعززها بآلات الحرب، ثم جعل يعيث في البقاع. ولما كانت سنة ١٧٧٢ زحف الأمير يوسف بعسكر إلى أنحاء الضنية يريد الفتك ببني رعد بما أحس منهم من الميل إلى بني حمادة، فنزل بعفصديق من الكورة، فورد عليه بها كتاب من والي طرابلس يعرض له فيه بالمصالحة بينه وبين بني رعد؛ لأن أحد كبراء هؤلاء التمس وساطته في المصالحة؛ فجرت المصالحة بين الفريقين.

ثم رجع الأمير إلى بيروت بعدما أمر في عفصديق فأُحْرِقَتْ؛ لأنها كان صاحبها الأمير أحمد الكردي متحيزًا لبني حمادة، ثم رأى الأمير أن يجعل أحمد بك الجزار على بيروت ويُبقِي لديه المغاربة؛ فحذَّره مدبر والي دمشق من الرجل، فاستلم الجزار زمام بيروت، ولم يطل أمره حتى خرج على الأمير.

وحدث في خلال ذلك أن الأمير سيد أحمد سلب بضاعة تجار من دمشق مارة بالبقاع، فكتب والي الشام إلى الأمير يوسف بزجر أخيه عن الاعتداء ورد المسلوب، فكتب الأمير إلى أخيه في ذلك فلم يُجِبْه، فأدى ذلك إلى نفرة الوالي من الأمير يوسف، أما الجزار فأخذ يُحصِّن المدينة؛ فتحقَّق الأمير عزم الرجل على العصيان فراسله في ذلك، ثم اختليا في المصيطبة، فتمكَّن الجزار لدى الأمير وأوهمه مقنعًا إياه أنه لا يروم الخروج عن إرادته، واستمهله في الخروج من المدينة أربعين يومًا، فأمهله الأمير انقيادًا لبعض من اليزبكية مكروا بالأمير كرهًا لنجاح مساعيه، فاستمرَّ الجزار في تحصين المدينة تلك المدة، حتى إذا ما انقضت كتب الأمير إليه أن اخرج من المدينة بحسب العهد، فأبى الجزار وأرسل المغاربة إلى خارج المدينة يعيثون ويقتلون من يجدونه من أهل بلاد الأمير، وأما الأمير فحشد عسكرًا وزحف به إلى المدينة لمحاصرتها، واتحد مع عمه الأمير منصور فكتبا إلى ظاهر العمر والي عكة يلتمسان منه معونة الأسطول المسكوبي لهما على استخلاص بيروت من يد الجزار وتسليمها لأحدهما الأمير يوسف؛ وذلك لأن أمير الأسطول كان مسيرًا من الملكة كاترينا على أن يكون في طاعة ظاهر العمر المتحد معها؛ فاستجاب ظاهر لهما واستقدم السفن إليهما من مياه قبرس، فحُوصِرَت المدينة مدة أربعة شهور حصارًا شديدًا، حتى اضطر الجزار بعدئذٍ أن يلتمس من ظاهر العمر النجاة لنفسه ولمن معه على أنه يخرج بأصحابه من المدينة ويسلمها إلى الأمير، فمنحه ظاهر ذلك بعد مشاورة الأمير فعادت بيروت إلى الأمير ورجع الشهابيون إلى مواطنهم فيها؛ فولى الأمير واليًا عليها، ثم رجع إلى دير القمر، وكان قد كتب إليه والي دمشق وأنبأه بأنه بعث إلى الدولة العلية يلتمس العفو لظاهر العمر.

ولما كانت سنة ١٧٧٣ ظهر ما كمن في صدر والي دمشق عثمان باشا من الحزازات بسبب اعتداء أخي الأمير على بعض من تجار دمشق وعيثه في البقاع، كما تقدم ذلك، وبدت العداوة بينهما فأتى عثمان باشا بعسكره وخيَّم في صحراء بر إلياس من البقاع، وأتى الأمير بعسكره إلى المغيثة، ثم نزل من هناك إلى أعدائه فاشتبك الفريقان، وجرت لهما مواقع لم يفصل بينهما النصر فيها، وأرسل الأمير إلى ظاهر العمر يستنجده، فأرسل إليه ظاهر ابنه عليًّا والشيخ نصيفًا النصار عميد بني علي الصغير في جيش كبير من المتاولة، فنزل الرجلان بجماعتهما بقرية القرعون. ولما اتصل ذلك بالباشا غشيه الخوف واضطرب عسكره، فولى في الحال هربًا إلى دمشق وترك الخيام والمدافع والذخائر، فغنمها الأمير وأقر أخاه الأمير سيد أحمد في قلعة قب إلياس وجهزه بما غنمه من المدافع والذخائر، أما الأمير سيد أحمد — وقد كان عنده الأمير فارس يونس — فراودته نفسه عن الخروج على أخيه، فاستمال إليه صاحب راشيا الأمير منصورًا والشيخ عبد السلام رئيس الحزب اليزبكي والشيخ حسين تلحوق وغيرهم من الحانقين على أخيه، ثم جهر بالعصيان وجعل يشدد الوطأة على القرى التابعة للشيخ علي جانبلاط في البقاع حتى أغضب أخاه الأمير يوسف ودفعه إلى مقاتلته. ففي سنة ١٧٧٤ حاصر الأمير يوسف القلعة شهرًا كاملًا، ولم يقضِ لبانته من حصارها؛ إذ خذله كثير من جنده بدسيسة من الشيخ عبد السلام، ولكنه عاد فاستقدم إليه عسكر المغاربة من دمشق وشدَّد الحصار على القلعة، حتى اضطر الأمير سيد أحمد بعد ما كادت تنفذ الميرة والماء أن يكتب إلى الشيخ علي جانبلاط والشيخ كليب أبي نكد أن يتوسَّطا في أمر الصلح بينه وبين أخيه على أنه يخرج من القلعة آمنًا ويذرها لأخيه، فوقع الصلح على ذلك وسار الأمير سيد أحمد إلى حدث بيروت وتوطنها، وأما الأمير يوسف فأخذ القلعة وبغى هدمها فلم يتيسر له هدم أكثر من جدار من جدرانها لقوة بنيانها، ثم نال ولاية البقاع من والي دمشق وقتئذٍ محمد باشا العظم على أن يرد المسلوب بيد أخيه من بضاعة التجار الدمشقيين، فاسترد ذلك من أخيه وأرجعه إلى أصحابه وعوض على أخيه من مال نفسه واستناب عنه على الولاية أخاه الأمير قاسمًا.

ولما كان في نفس الأمير يوسف ما فيها من الضغينة والحقد على صاحب راشيا الأمير منصور لتحيزه للأمير سيد أحمد جعل يلتمس سبيلًا عليه ليكيده به، فادَّعى عليه بمال، ثم اتهمه بقتل الأمير حسين بسم مدسوس في الطعام، فعظم ذلك على الأمير منصور؛ فكتب الأمير منصور إلى الشيخ سعد الخوري يسأله أن يُمهِّد له سبيل الصلح عند الأمير يوسف، فأناله ذلك وجرى الصلح على مبلغ خمسة عشر ألف غرش تُدفَع إلى الأمير يوسف، ثم قسم الأمير يوسف راشيا بين الأمير منصور وبين الأمير محمد أخي منصور لادعاء أخيه هذا عليه بالإرث ادعاءً مدفوعًا عليه من الأمير يوسف نفسه. وفي تلك السنة تُوفِّي الأمير منصور حيدر في بيروت وعمره ستون عامًا، تُوفِّي عن أربعة: الأمير موسى، والأمير مراد، والأمير حمود، والأمير حيدر. ودُفِن في جامع الأمير منذر التنوخي، وتُوفِّي أيضًا الأمير بشير الملقب بالسمين بلا عقب، فاستقل الأمير يوسف بتركته ومنع إخوة المتوفى منها.

وفي سنة ١٧٧٥ كتب الأمير يوسف إلى أمير البحر حسن باشا، وقد كان قدم إلى عكة للتنكيل بظاهر العمر وإخراجه منها، فهنأه بالنصر وأرسل إليه بعضًا من الخيل الجياد فتقبَّل ذلك بالمسرة وتلطف به في الجواب، ثم كتب الباشا إلى الأمير يوسف يسأله أن يرسل إليه أبناء ظاهر العمر لأنه نُمِّيَ إليه أنهم مستخفون في بلاده؛ فأوجس الأمير خيفةً من ذلك لأنهم كانوا قد سألوه الاختفاء عنده فأبى، وكتب إلى الباشا منكرًا اختباءهم في بلاده إنكارًا شديدًا، ثم عاد الباشا فكتب إلى الأمير يتقاضاه الأموال السلطانية الباقية عنده عن ثلاث سنين مدة ولاية ظاهر العمر، فأجابه الأمير وفي قلبه خوف وريبة، واعتذر إليه في الجواب، وأرسل إليه البراءة التي كان بمقتضاها التجاوز له عن مال البلاد مدة عصيان ظاهر العمر، وتعهَّدَ بأداء مبلغ مائة ألف غرش كانت باقية عليه من الأموال الأميرية ووعده بغير ذلك، فلما وقف الباشا على البراءة وبلغه الوعد أكرم رسل الأمير، ومن ثمَّ جرت المحبة بينهما.

وفي سنة ١٧٧٦ نصب قوم أحمد باشا الجزار واليًا على صيدا، فانخلع قلب الأمير خوفًا منه لما جرى بينهما من المحاربة يوم حصار بيروت، ومع هذا فإن الأمير ستر خوفه وكتب إلى الجزار يهنئه ويبارك له في الولاية وأتحفه بشيء من الهدايا، فتلطف له الجزار في الجواب وذكر له عهد الصداقة فلم يسكن بذلك روعه، وبعث إلى حسن باشا يكاشفه في أمره فالباشا أنعم بال الأمير ووعده بإهلاك خصمه، ثم استعجله بإنجاز ما عهد به من دفع الضريبة، فرجع الأمير إلى مستشاريه ومدبري أموره يسألهم فيما عهد به كيف ينبغي أن ينجزه؛ فأشاروا عليه أن يغتصب من مال الأمراء الشهابيين ما به وفاء المال المعهود بأدائه، فاستصوب رأيهم وصادر الأمراء بأموالهم، فكبر ذلك عليهم فرحلوا إلى البقاع وشرعوا يعيثون فيها سلبًا ونهبًا، فنهض إليهم بعسكر يبغي زجرهم، فلما أحسوا بنزوله بقب إلياس فروا من وجهه إلى إقليم البلان، ومن ثم إلى الحولانية.

ثم سفر صاحب حاصبيا الأمير إسماعيل بينهم وبين الأمير يوسف؛ فعهد هذا الأمير أن يرد إليهم ما أخذه من ريع عقاراتهم، فرجع الأمراء إلى مواطنهم إلا الأمير سيد أحمد والأمير أفندي منهم، فإنهما بقيا ثائرين حتى استرضاهما الأمير بما أعاده إليهما من إقطاعهما، ثم عاد الأمير فأدى المال المطلوب منه إلى حسن باشا، فأبرأ حسن باشا ذمته وأقرَّه على ولايته وكتب له عهدًا يعصمه من تداخل والي صيدا في أموره إلا أن يقبض المال الميري منه، ثم غادر الباشا الديار الشامية عائدًا إلى الآستانة، فاغتنم الجزار السانحة واندفع بعوامل حقده وضغينته إلى معاداة الأمير ومقاومته، فزحف بعسكره من صيدا إلى بيروت فاستولى عليها وجعل يده على سائر ما للشهابيين من الملك فيها، ثم بعث إلى الأمير يوسف يتقاضاه الأموال الأميرية عن ثلاث سنين ماضية ملحًّا عليه إلحاحًا شديدًا، فبدت للأمير من الجزار بوادر الشر؛ فاشتدَّ خوفه فكتب إلى حسن باشا، وقد كان لم يتجاوز قبرس في إيابه، وأخبره بما كان من أمر الجزار معه، فرجع الباشا وأخرج الجزار من بيروت ونهاه عن العود إلى مثل ذلك وسكن روع الأمير؛ إذ وعده أنه متى بلغ الآستانة يبذل عنايته إلى عزل الجزار عن ولاية صيدا، فرجع الجزار إلى صيدا بحرًا، وأما عسكره فرجع إليها برًّا، وكان عدده زهاء ستمائة فارس وكلهم أشداء البأس، فسيَّرَ الأمير بني نكد يكمنون لهم في منتصف الطريق عند مكان يُقال له السعديات بين الدامور والجية، فأكمنوا لهم برجالهم وكان عددهم جميعًا مائتي رجل، فلما بلغ العسكر المكمن عند الصباح تعرَّض المكمنون لهم بالشر والوقيعة، فانقضَّ العسكر عليهم انقضاض البزاة وقتل كثيرًا منهم، وفي جملة القتلى عميدهم الشيخ أبو فاعور، وقبض على الشيخ محمود ابن الشيخ أبي فاعور وعلى الشيخ واكد، وترك الشيخ بشيرًا جريحًا طريحًا بين القتلى بين حي وميت، حتى أُتِيحَ له كاهن من قرية الدبية كان مارًّا من هناك ورآه صريعًا بين القتلى مُعرى من الأثواب يختلج بما فيه من رمق الحياة، فاعتنى به واحتمله إلى منزله في القرية، وأخذ يُضمِّد جراحه، ثم أرسل إلى بني نكد في دير القمر يبشرهم بأن الشيخ لا يزال حيًّا عنده، فنقله ذوو قرباه إليهم وشكروا للكاهن اعتناءه به ووهبوه أرضًا من ملكهم جزاءً له عما صنعه بالجريح.

وأما الأمير فأراد أن يوهم الجزار أن تحكك بني نكد بعسكره كان على غير علم منه، ثم سأله إخلاء سبيل الشيخين اللذين أسرهما العسكر بفدية قدرها مائة ألف غرش، فأجاب الجزار التماسه، ولكن وقعت فتنة بسبب جعل تلك الفدية ضريبة على أهل البلاد، فأفضى ذلك إلى تداخل عسكر الجزار؛ إذ سار هذا العسكر إلى بيروت، ثم خرج فيها إلى قرى اللمعيين، فأحرق المكلس والد كوانة والجديدة وقتل بعضًا من أهلها، ثم باغت الشويفات فارتدَّ عنها خائبًا، وحينئذٍ فقد الأمير ولايته على بيروت، ولما أراد عسكر الجزار أن يستولي على ما للأمير وللبنانيين من الأملاك في البقاع استيفاءً لمبلغ تلك الفدية كبر ذلك منه على الأمير، فعاد الأمير واستمال إليه الأمراء اللمعيين بعد أن كان قد سخا فيهم بعسكر الجزار حتى ينتقم منهم؛ لما بدا منهم من المقاومة في توزيع ذلك المبلغ المروم افتداء الشيخين به، واصطلح معهم، ثم حشد عسكرًا وزحف به لمقاتلة جماعة الجزار، فأدركه الفشل والاندحار في جميع المواقع بينه وبينهم، وقُتِل من أصحابه الشيخ سيد أحمد العماد والشيخ ظاهر عبد الملك وزين الدين مقدم حمانا وغيرهم من رجاله. ولما كانت سنة ١٧٧٨ شاق بنو نكد الأمير يوسف متحيزين لأخويه الأمير سيد أحمد والأمير أفندي؛ وذلك لتراخيه في أمر إنقاذ الشيخين النكديين من سجن الجزار، وتحالف معهم الجانبلاطية على خلع الأمير، أما الأمير فمضى ببعض من بطانته من دير القمير إلى غزير، ولبث هناك حتى وقع شقاق بين المشايخ بني علوان وبني ابن عم لهم أفضى إلى قتله، فأتى الأمير الباروك يريد معاقبة المشايخ، ففروا من وجهه لاجئين إلى الجزار وزينوا للجزار أنهم يمهدون له سبيل الاستيلاء على البلاد، فعززهم الجزار بعسكرٍ من عساكره، فساروا به من صيدا إلى لبنان، ولما بلغوا نهر الحمام غربي القرية غريفة لقيهم الشيخ كليب النكدي بجماعته، وبطش بهم فقتل منهم كثيرًا، وردهم على أعقابهم خاسرين، ثم أعادوا الكرَّة على إقليم الخروب، وجرت موقعة بينهم وبين الشيخ بشير كليب النكدي ورجاله عند البرجين؛ فانتصروا على الشيخ وقتلوا كثيرًا من قومه، ثم عادوا إلى صيدا. ولما كان الأمير قد كثر الناقمون عليه الولاية، وكان قد استحكم في قلبه الخوف من أخويه الأمير سيد أحمد والأمير أفندي وطن نفسه على التنازل لهما عن ولاية جبل الشوف حتى كان أن تُوفِّي زعيم الجانبلاطية الشيخ علي جانبلاط، فشهد الأمير مأتمه، ثم خلع نفسه من ولاية ذلك الجبل في حضرة أعيان البلاد، وألقى زمام الولاية إلى أخويه، وكتب في ذلك إلى الجزار، ثم عاد إلى غزير فأقرهما الجزار على الولاية بدير القمر.

وأما الأخوان فأقطعا أخاهما الأمير يوسف إقطاعات في كسروان لم يكلفا إليه مالًا أميريًّا عنها، ولكن لم يلبث أن حدث شقاق بين الأخوين وبين أخيهما الأمير يوسف بسبب حادثة جرت له مع الأمراء اللمعيين، ثم تعاظم الشقاق؛ إذ بعث أخواه إليه يتقاضيانه المال الميري عن إقطاعه، فطرد رسلهما، فاتسع الخرق بينهما وبين أخيهما، وأفضى ذلك إلى محاربة جرت بينهما كان الجزار فيها معززًا لأخوي الأمير يوسف، ثم مال إلى الأمير يوسف بمال استرضاه الأمير به ومبلغه مائة ألف غرش، فاستقام له الأمر، ثم سعى كبراء القوم إلى الصلح بينه وبين أخويه، فرضي عنهما وجعلهما مدبري أموره، ولكنهما لم يُخلِصا الود له بل كانا دائمًا يلتمسان سبيلًا عليه، وقد هيَّجا الجانبلاطيين عليه؛ لأنه أحدث ضريبة على أشجار التوت، فأتى الجانبلاطيون ومن انضم إليهم من المشايعين عند السمقانية إلى ضواحي دير القمر يريدون عزل الأمير من الولاية وقتل مدبره الشيخ سعد، فكانت لهم غوغاء وجلبة يتخللها صوت البارود، فبعث إليهم الأمير يعدهم بإبطال تلك الضريبة، فسكنت ثورتهم وولوا كل إلى مكانه.

وأما الأخوان فلبثا يمكران بأخيهما ويتآمران مع الجانبلاطية على خلعه وقتل مدبره، وكاشفا في ذلك النكدية إلا أن الشيخ كليبًا النكدي لم يركن إليهما، فكان يبوح للأمير بكل ما يتصل به من أمرهما، وحدث مرة أنهما بينما كانا ذاهبين إلى كنيسة التلة للتحالف على كيد الأمير إذ طلع عليهما المغاربة الذين كانوا مكمنين لهما بأمر الأمير يوسف، فبلت يدهم بالأمير أفندي فأمسكوه.

وأما الأمير سيد أحمد فلم ينجح إلا بشق النفس، ثم قاد المغاربة الأمير أفندي إلى أخيه الأمير يوسف، فقتله الأمير يوسف بيده واعتذر إلى جميع أقاربه في قتله؛ مبينًا لهم الأسباب التي دفعته إلى قتله. ولما بلغ الأمير سيد أحمد الفار من أخيه إلى المختارة جعل يثير الناس على الأمير يوسف ويحرضهم على الخروج عليه، فانقاد له الجانبلاطية والشيخ عبد السلام العماد، وانضم الثائرون متوافقين على المسير إلى دير القمر لخلع الأمير يوسف، ونُصِّب الأمير سيد أحمد في مكانه واليًا عليهم، فلما أحس الأمير يوسف بذلك خرج من دير القمر في أربعمائة رجل إلى عكة هربًا من أخيه، فحل الأمير سيد أحمد محله وأمر في النكدية أن تُقطَع أشجارهم فقُطِع جانب كبير منها، وأما الأمير يوسف فلاذ بالجزار والتمس منه أن يمده بقوة من عنده على أن يدفع إليه ثلاثمائة ألف غرش، فاستجاب الجزار له وأمده بعسكرٍ عليه مملوكه سليم باشا، فخيَّم الأمير في قرية علمان من إقليم الخروب، وقد انضم إليه بنو نكد وبنو تلحوق وبنو عبد الملك وأخواه الأمير قاسم والأمير حسن، وأما الأمير سيد أحمد فسيَّر الأمير قعدان في عسكر لمقاتلة الأمير يوسف، فالتقى الفريقان عند عانوت من إقليم الخروب واضطرمت نار الحرب بينهما، فانهزم الأمير قعدان، فتقدمت عساكر الأمير يوسف وهدمت مساكن الجانبلاطية، وجعل الأمير يده على أملاكهم، وكتب إلى خاله الأمير إسماعيل بحاصبيا أن يسلب الفارين إليه من الجانبلاطية أموالهم، ففعل وأرسلها إليه، وأما هم فخلَّى سبيلهم.

وأما الأمير سيد أحمد فلجأ إلى والي دمشق محمد باشا العظم وبعث إليه من قب إلياس يلتمس منه الولاية على وادي التيم والبقاع، فمنحها له وعززه بعسكر أرسله إليه، وانضمَّ إليه الجانبلاطية فاشتدَّ بذلك عزمه وسار إلى راشيا، فدخلها بعد محاربة جرت له مع الأمير محمد كان النصر له فيها، ثم قصد حاصبيا فأرسل صاحبها الأمير إسماعيل إلى محمد باشا يلتمس منه صدَّ الأمير سيد أحمد عنها، فاستجاب له فرجع الأمير سيد أحمد ومعه الجانبلاطيون إلى قب إلياس، واستناب عنه في راشيا الأمير موسى من أهلها، ثم كتب إليه أخوه الأمير يوسف أن اعتزل الجانبلاطية أصالحك؛ فبدت إذ ذلك للجانبلاطية من حليفهم الأمير علائم النفرة والقطيعة؛ فتنحَّوا عنه وكتبوا في ذلك إلى محمد باشا، فبعث إليه محمد باشا أن لا يوليه البقاع إلا باتحاده مع الجانبلاطية وكفالتهم له، فأرسل الأمير سيد أحمد يعتذر إليهم عمَّا فرط منه، ووثق عرى الاتحاد معهم فأفضى ذلك إلى محاربة بينه وبين أخيه كان الفوز في غالبها لأخيه الأمير يوسف، وشرع هذا الأمير في التشديد على الجانبلاطية والتضييق عليهم حتى اضطرهم إلى خفض جناح الطاعة واسترضائه عنهم بمبلغ مائة ألف غرش وخمسين ألف، ورضي كذلك عن أخيه الأمير سيد أحمد وخلى له أملاكه، وأمره أن يقيم بالشويفات. ولبث الأمير سيد أحمد في سكينة مع أخيه حتى حدثت فتنة بين أخيه وبين الأمير إسماعيل صاحب حاصبيا، وذلك في سنة ١٧٨٥، وتحرير الواقع أن الجزار غضب على الأمير إسماعيل لعدم امتثاله أمره في رجل قتل يهوديًّا أمره أن يقبض على القاتل ويرسله إليه فلم يفعل، فعُزِل من الولاية على حاصبيا وعهد بها إلى الأمير يوسف، فاستناب الأمير يوسف عنه فيها الشيخ بشيرًا النكدي وصادر المعزول في أملاكه، فحضر الأمير إسماعيل بين يدي ابن أخته الأمير يوسف بدير القمر، وجعل يتذلل له ويستعطفه حتى يتجاوز له عن إقطاعه فلم يعطف عليه، فيئس عندئذٍ ورجع إلى حاصبيا ساخطًا منه. وكان الشيخ قاسم جانبلاط قد زين له أن اسْعَ لدى الجزار باستحصال الولاية على لبنان ومرج عيون بثلاثمائة ألف غرش وأنا شريك لك في عهدك إلى الجزار، فكتب الأمير إسماعيل إلى الجزار في ذلك؛ فاستجاب له الجزار إذ استقدمه إليه ووعده بالولاية على أن يكون أحد الأمراء الشهابيين شريكًا له فيها، فبعث الشيخ قاسم إلى الأمير سيد أحمد يدعوه إلى مشاركة الأمير إسماعيل؛ فقبل بطيبة نفس.

وكفل الشيخ قاسم للجزار المبلغ المتفق عليه، أما الجزار فأرسل إلى الأمير يوسف يخبره بذلك، حتى إذا ما قبل هو أن يؤدي ذلك المبلغ أبقاه واليًا، فاستمثل الأمير يوسف أعيان البلاد لديه، وشاورهم في الأمر فأشاروا عليه بأداء المبلغ إلا الشيخ فإنه استكمالًا للمكيدة أفسد رأي القوم، وأقنع الأمير بوجوب المقاتلة فجرت بين عساكر الجزار الآخذة بنصرة الأمير إسماعيل وبين عساكر الأمير يوسف ومعها مدبر الأمير الشيخ سعد وعليها الأمير فارس يونس، ومعه من أمراء حاصبيا الأمير أسعد والأمير قاسم ابنا الأمير سليمان أخي الأمير إسماعيل وقائع كبيرة كان النصر فيها لعساكر الأمير يوسف، وأما الأمير إسماعيل فولَّى بعساكره إلى صيدا، ولما حضر بين يدي الجزار جعل الجزار يسأله عن الشيخ قاسم كيف سألني من جهة أن أوليك ومن جهة أخرى كانت له في محاربة عساكري الباع الطولى، فاعتذر الأمير إسماعيل واستأذن الجزَّار أن يستحضر الأمير سيد أحمد على علمٍ من الشيخ قاسم فأذن له، فاستشار الأمير سيد أحمد الشيخ قاسمًا في المثول لدى الجزار فأشار عليه به، فسار الأمير من الشويفات إلى بيروت ومنها إلى صيدا بحرًا، فرحَّب الجزار به وأكرم مثواه، ثم بدت خيانة الشيخ قاسم للأمير يوسف؛ إذ خرج الجانبلاطيون من عسكر الأمير حتى لا يعاونوا على القتال، فرجع المدبر الشيخ سعد والأمراء بالعسكر إلى دير القمر، فغضب الأمير يوسف من الشيخ قاسم لخيانته إياه، وأما وجوه البلاد فنصحوا للأمير يوسف أن يُخفِّف عنه غضب الجزار، فيبرح من دير القمر ولو إلى ما يبعد ساعة عنها، فغادر الأمير الدير إلى كفر قطرا، ثم سار إلى المتين فبعث الوجوه إلى الجزار يكشفون له واقع الحال ويلتمسون منه أن يولِّي عليهم الأمير سيد أحمد والأمير إسماعيل فولاهما، وكتب إلى الشيخ قاسم جانبلاط أن يشد أزرهما فكان ذلك، وأما الأمير يوسف فولى هاربًا من المتين إلى بسكنتا، وولى الأمير إسماعيل على راشيا الأمير فارسًا الكبير، ثم عاد الأميران يتعقبان الأمير يوسف بعد أن عرض عليه أحدهما الأمير إسماعيل أن يكون واليًا في ظلِّه على جبيل، فأبى واستكبر، فعزما على إخراجه من الجبل ففرَّ إلى جبال عكار، وبعث إلى الجزار يسترضيه عليه ويسأله أن يلطف به، وكان الأميران قد بعثا إلى الجزار يلتمسان منه أن يعززهما بعسكرٍ من عنده ليستطيعا جباية الأموال الأميرية؛ لأن أهل البلاد تمرَّدوا عليهما وأبوا أداء الأموال، فبعث الجزار إلى الأمير يوسف يمنحه الأمان ويسترجعه إلى البلاد كما كان، فرجع الأمير ووفد على الجزار وهو ببيروت؛ فأكرم الوزير وفادته.

ثم سار الوزير ومعه الأمير إلى عكة بحرًا، وأما مدبر الأمير الشيخ سعد فسار بجماعة الأمير إليها برًّا، وبعث الأميران سيد أحمد وإسماعيل إلى الجزار يزينان له قتل الأمير يوسف على أن يدفعا إليه خمسمائة ألف غرش، وكتبا في ذلك إليه كتابًا سيَّرا به شيخًا من المغضوب عليهم عند الأمير يوسف الشيخ محمد القاضي، فأجابهما الجزار أن يقضي لهما حاجتهما، فارتاحت نفساهما إلى الوعد وسارا إلى دير القمر، وشرعا في جباية تلك الضريبة، ولكن لما بلغ الشيخ سعدًا مدبر الأمير يوسف عكة عهد إلى الجزار أن يؤدي ضريبة قدرها ألف ألف غرش في مدى ثلاثة شهور على أن ينجز الجزار ما وعد فيرجع زمام الولاية إلى يد الأمير يوسف فكان له ذلك، فأُعِيدَت الولاية إلى الأمير وعُزِّز بعسكرٍ كبير من عساكر الجزار، وبقي الشيخ سعد عند الوزير رهنًا على المال الذي ضُرِب، فقدم الأمير يوسف في عسكره ومعه الأمير أسعد والأمير محمد، وهما خصما الأمير إسماعيل، فولى أحدهما أسعد على حاصبيا، وأوعز إليه أن يلقي القبض على الأمير بشير وأن يضبط ماله ومال الأمير إسماعيل والآخر على راشيا وأن يلقي القبض على الأمير فارس الكبير ويضبط ماله.

أما الأمير بشير ففرَّ هاربًا ونجا، وأما الأمير فارس فوقع في يد الأمير محمد، وسار الأمير يوسف ليل نهار حتى بلغ دير القمر فدخلها بغتة فلم تبل يده إلا بالأمير إسماعيل الذي تعذَّر عليه ما تمكن منه رفيقه الأمير سيد أحمد من الفرار، فساقه إلى السجن هو وخمسمائة من أتباعه، وقتل خمسة من خدامه، وأمسك الأمير عثمان ابن الأمير فارس الكبير واستحضر إليه الشيخ محمد القاضي الذي كان قد اختبأ عند الشيخ كليب النكدي وزجَّه في السجن، ثم سمل عينيه وقطع لسانه وبعدئذٍ خلَّى سبيله، وصادر الجانبلاطية بكثير من أموالهم وسلب كثيرًا من أموال مشايعي الأميرين، وشدَّد العقوبة على كل خصومه؛ فانخلعت القلوب خوفًا منه، وشفع الأمير حسن عمر لديه للأمير بشير أخي الأمير يوسف؛ لأنه كان من المشايعين للأمير سيد أحمد، فقُبِلَتْ شفاعته، فرضي عنه الأمير يوسف وجعله من المقربين عنده، وجعل الشيخ غندورًا مدبرًا له في مكان أبيه الشيخ سعد. وفي سنة ١٧٨٨ قضى الأمير إسماعيل وهو في السجن، وقيل إن ابن أخته الأمير يوسف خنقه، وأخفى أمره ثلاثة أشهر حتى لا يغضب الجزار؛ لأنه كان قد أوصاه أن يبقي عليه، ولما طال بالأمير سيد أحمد ضيق الحال لجأ إلى زوج أخيه الأمير يوسف بصليما، فاسترضت الأمير عنه فرضي وردَّ له عقاراته وأمره أن يقيم ببجمدون، ولما سار الجزار إلى دمشق لاستلام زمام الولاية عليها أخذ معه مدبر الأمير الشيخ سعدًا، وجعله في القلعة حتى رجع هو من الحج، فالتمس منه الشيخ أن يخلِّي سبيله لمرض عضال أصابه، فاستجاب له وبعث به إلى دياره مكرمًا، وقد خان الأمير يوسف عهده إلى أبناء الشيخ علي الصغير، فسخا بهم حتى قُتِلوا بأمر الجزار، كما أنه خان وعده للأمير بشير نجم أيضًا؛ إذ بعث إلى هذا الأمير وهو فارٌّ من وجهه إلى دمشق يَعِدُه بالأمان إن عاد إلى دير القمر، فلما عاد قتله وقتل مدبره وسلب أموالهما، ولم يكتفِ بذلك بل عاد وسمل عينَيْ أخيه الأمير سيد أحمد وأرسله إلى عبيه.

ولما كانت سنة ١٧٨٨ حصلت نفرة بين الأمير والجزار بسبب امتناع الأمير عن أداء بقية من الضريبة التي كان قد عين مقدارها ألف ألف غرش، كما ورد ذكر ذلك في مكانه، فآل الأمر بينهما إلى المحاربة، فحشد الجزار العساكر وسيَّرها إلى خان حاصبيا وعليها مملوكه سليم باشا، فخانه هذا المملوك وانضمت إليه بقية المماليك، ووافقه على الخيانة سليمان باشا مملوك الجزار أيضًا وعامله على مدينة صيدا، فزينت لهما نفساهما استلاب الولاية من يد الجزار؛ فكتبا في ذلك إلى جميع العمال، فكان في جملة المكتوب إليهم: الأمير يوسف. فسُرَّ هذا الأمير بذلك، وبعث إليهما يَعِدهما بشد أزرهما، فتماديا في الأمر وغشيا عكة برجالهما يحصرانها؛ فدهمهما الجزار بجنوده وبدَّد شمل أعدائه، فلجأ سليمان باشا إلى دير القمر عند الأمير يوسف، وعاد الجزار وقد علم وجوه المكيدة إلى الانتقام من الأمير، فجهز عسكرًا وسيَّره لمحاربة الأمير، فقابله الأمير بمثل ذلك.

ووقعت بين الفريقين عدة من الوقائع كان النصر فيها في غالب الأحيان للجزار؛ فضعفت عند ذلك عزيمة الأمير وكثر خذلان القوم له، وجعل الجانبلاطيون ينقمون عليه الوهن ويشيعون ذلك بين الناس، وتُوفِّي حينئذٍ الأمير إسماعيل اللمعي والشيخ كليب النكدي، وهما من أركان قوته، فرأى الأمير بعد ذلك كله أن يتنحَّى عن مقام الولاية؛ فجمع أعيان البلاد ووجوهها وكاشفهم فيما نوى أن يأتيه من التنازل عن الولاية لمن يقع اختيارهم عليه من الأمراء الشهابيين اللبنانيين؛ فتشاوروا في ذلك بينهم، ووقع اختيارهم على الأمير بشير ابن الأمير قاسم عمر، ولا شك في أن اختيارهم هذا دالٌّ على معرفتهم لأحوال الرجال وقدرهم أوصاف الرجولية حق قدرها؛ فإن الأمير الذي اختاروه واليًا عليهم لا يقرأ أحد من العارفين المحققين والناظرين المدققين سيرتَه ويتأمَّل أخلاقه ومآتيه في الحكم إلا ويمتلئ قلبه مهابة ووقارًا وإجلالًا له، ويحسبه عنوانًا للفضيلة وأنموذجًا للطهارة والعفاف وقدوة للعدل والإنصاف، وإن كان في بعض مآتيه في الحكم ما لا يوافق ذوق أهل هذا العصر، فإن لكل زمان دولة ورجالًا، فلو وُجِد الأمير في هذا العصر لكان فريدَه مثلما كان فريدَ عصرِه لتدرعه من صفات الرجولية بدرع حقائق تعصم من الشر في كل عصر، والحقائق بسائط جواهرها لا تتجزأ وإن اختلفت مظاهرها، فالعدل في حالة الاستبداد والعدل في حال الشورى سواء، ولكن العصمة من الخطا في طرق المعدلة إنما هي التي تختلف في الحالين. وبالجملة، فإننا نَكِل الحكم في أعمال الأمير التي نحن آتون الآن على ذكرها لأصحاب الذوق السليم من مُطالِعي هذا الكتاب.

مالَ الناس إلى هذا الأمير وارتاحت نفوسهم إلى إلقاء مقاليد زمام أمرهم إليه، وكان الجزار يميل في الباطل إليه وكثيرًا ما أسرَّ إليه رغبته في توليته، وكان بين هذا الأمير وبين الجانبلاطيين رابطة عهود ومواثيق، فالأمير يوسف استحضره لديه وأوعز إليه أن سِرْ يا ابني إلى الجزار، وتقلَّد الولاية من يده، والبس خلعتها. فأجابه الأمير بشير — فيما حُكِيَ عنه: «إنني أخاف أن أسير إلى عكة وأنا ابنك، ثم أرجع منها وأنا ابن الجزار.»

فسار الأمير إلى عكة في شهر أيلول وعمره يومئذٍ لا يتجاوز إحدى وعشرين سنة، ومدبره كان رجلًا مارونيًّا اسمه فارس ناصيف، فرحب به الجزار ودفع إليه زمام الولاية على جبل الشوف وكسروان، وخلع عليه خلعتها، ثم أرجعه معززًا بجنود من عنده يبلغون ألف رجل من المغاربة والأرناووط، وأوصاه بطرد الأمير يوسف من البلاد وإرجاع ابنَي الأمير سيد أحمد، فلما بلغ صيدا خرج الأمير يوسف من دير القمر ومعه أخوه الأمير حيدر والأمير حيدر أحمد والأمير حسن علي والأمير أسعد سليمان وبعض من أرباب المناصب ومضى بهم إلى بيصور، أما الأمير بشير فلما سار إلى دير القمر لاقاه الشيخ قاسم جانبلاط زعيم الفئة الجانبلاطية والشيخ عبد السلام العماد زعيم العمادية في ذوي قرباهما والمشايخ بنو نكد وبعض الوجوه والأعيان، فعندئذٍ انتقل الأمير يوسف بأصحابه إلى عاليه فحمانا فالمتين، وإذ ورد على الأمير بشير من الجزار أمر قاضٍ بإخراج الأمير يوسف من جميع نطاق البلاد بعث الأمير بشير إلى الأمير يوسف يخبره بذلك ويقول له أن ينهض إلى جرد كسروان، فسار إلى بسكنتا ومن ثم إلى وطا الجوز، وأما الأمير بشير فزحف بعسكره إلى بوارش، فعند ذلك بعث المتنيون إلى الأمير يوسف يزينون له أن يقدم إليهم وأنهم يعهدون إليه أن يخلعوا الأمير بشيرًا من الولاية، فرجع إليهم مغترًّا بعهدهم.

فلما بلغ الأمير بشير المجدل وفد عليه غالب المتنيين، فبعث إلى الأمير يوسف أن ينتقل إلى بلاد جبيل وإلا فيضطر أن يسلك في طرده سبيل الشدة والعنف قيامًا بأمر الجزار، فانقاد الأمير يوسف ومضى إلى جرد كسروان ثم إلى العاقورة، ولما بلغ الأمير بشير وطا الجوز انتقل الأمير يوسف من العاقورة إلى لحفد، فسار الأمير بشير في أثره إلى لحفد كل ذلك وهو يحذره من كل محل يحله، حتى إن بعضًا من أرباب المناصب سعوا إلى الجزار فيه بأنه متفق معه وأغضبوا الجزار بتلك السعاية؛ فجهز عسكرًا وكتب الأمير بشير إلى الجزار حينئذٍ أن يمده بعسكرٍ من عنده، أما الأمير يوسف فلما رأى من الأمير بشير ضغطًا شديدًا عليه عزم على المقاومة، فاستمال إليه الأشياخ الحمادية وأشياخ جبة بشرة، فانضموا برجالهم إلى عسكره وسار الكل إلى وادي الميحان ليصدوا الأمير بشيرًا وعسكره عن التقدم، فأكمنوا في بطن الوادي حتى بلغتهم طليعة جيش الأمير بشير، فانقضُّوا عليها انقضاض الصواعق، فقتلوا منها مائة رجل وولَّى الباقون الأدبار حتى بلغوا الأمير بشيرًا، فحمل بهم وببقية الجيش على أعدائه وسيفه بيمينه مسلول حملة الأسود، فكسرهم كسرة عظيمة، وقتل من زعمائهم الشيخ أبا دعيبس جانبلاط وشيخ أهدن الشيخ يوسف بولس الدويهي وعددًا كبيرًا من الرجال، فولَّى الأمير يوسف بمن بقي معه إلى أهدن.

وظل الأمير بشيرًا سائرًا في طريقه إلى لحفد وبعث بالرءوس التي اجتزها من رجال الأمير يوسف إلى الجزار، فأيقن الجزار كذب الوشاة وأمدَّ الأمير بألف فارس إلى البترون، وسار الأمير يوسف من أهدن إلى أنحاء بعلبك؛ إذ بلغه من متسلم طرابلس أنه مأمور بالزحف عليه إلى أهدن، ولما بلغ الأمير يوسف بعض الطريق ورد عليه رسول من الأمير جهجاه الحرفوش يقول له أن يتحول عن تلك الأنحاء، فانبرى من بين قوم الأمير فارس الشدياق بينما كان الأمير وحاشيته يتأملون فيما عسى أن يجيبوا الأمير جهجاه الحرفوش، واندفع على الرسول بضربةٍ بعصاه، ثم قال له: «قل لمولاك: ومن هو حتى يعترض الأمير في طريقه؟! وقل له: إما أن يغادر البلاد وإما أن تفاجئه رجال الأمير.» فلما بلغ الأمير الحرفوشي ذلك فرَّ إلى الأنحاء الشرقية، فنزل الأمير يوسف بقرية طاريا، ثم أقام بإحدى قرى دمشق، ورجع الأمير بشير إلى دير القمر، وعنف أصحاب الأمير يوسف وصادرهم بأموالهم، وقتل الجزار الشيخ محمد القاضي عندما مثل لديه ليستعطفه على الأمير يوسف مدفوعًا إلى ذلك من الشيخ غندور الخوري، ووهب الأمير يوسف أخاه الأمير حيدر نصف بعبدا ونصف طاحون القناطر، ولما كانت سنة ١٧٨٩ بعث والي دمشق إبراهيم باشا، وكان قد رجع من الحج إلى والي طرابلس درويش حسن باشا أن يولي الأمير يوسف بلاد جبيل ففعل، فكتب الأمير بشير في ذلك إلى الجزار فأمره الجزار بطرد الأمير يوسف من بلاد جبيل وأمده لذلك بعسكر من عنده، ففرَّ الأمير يوسف إلى الكرك ثم إلى الزبدانة، وجعل فارس الشدياق مدبرًا له بدلًا من الشيخ غندور الذي كان قد فرَّ هاربًا إلى الضنية من وجه الأمير بشير واختبأ في إحدى قراها، ثم أرسل الأمير يوسف مدبره الجديد إلى دمشق وكيلًا عنه وذهب هو إلى حوران، ثم كتب من هناك إلى الجزار يلتمس منه الأمان ويستأذنه في المثول لديه بعكة، وفي تلك الأيام سأل الأمير قاسم الحرفوش الأمير بشيرًا أن يخلع ابن عمه الأمير جهجاه الحرفوش ويجعله في مكانه؛ فاستجاب سؤاله وعززه بعسكر من عنده سيَّره إلى زحلة وأمر أهلها أن يكونوا مع العسكر يدًا واحدة على الأمير جهجاه، وأمر أيضًا الأمراء اللمعيين أن ينضموا برجالهم إلى الزحليين فكان كذلك، فانتشب الحرب بين الأمير قاسم والأمير جهجاه الحرفوشيين في أرض أبلح، فانتصر الأمير جهجاه على أعدائه فسلب خيلهم وأسلحتهم، وأما الأمير مراد شديد اللمعي الذي أُسِر في تلك الواقعة فأمر له بردِّ سلاحه وجواده وأكرمه.

ثم خلى سبيله. وأما الأمير بشير، فلما اتصل به خبر الهزيمة سيَّر أخاه الأمير حسنًا وبعضًا من أرباب المناصب في عسكر آخر، فلما بلغوا بعلبك فرَّ الأمير جهجاه منها، فدخلوها فلم يجدوا بها قوتًا لهم فرجعوا، ثم كتب الأمير بشير إلى الجزار يلتمس منه عسكرًا للأمير قاسم يمكِّنه من قهر الأمير جهجاه؛ فسير إليه الجزار عسكرًا وعزَّزه الأمير بأشياخ الدروز ورجالهم، ولما وصلوا إلى بعلبك فرَّ الأمير جهجاه منها فتعقبوه، فعاد إليها من طريق آخر ونهبها، ثم ولَّى إلى أنحاء يبرود. وأما الأمير يوسف، فلما ورد عليه جواب الجزار — وقد دعاه به إلى عكة — خرج من حوران في جماعته ومعه أخوه الأمير حيدر، ومثل بين يدي الجزار وفي عنقه منديل الأمان، فأكرمه الجزار وأنزله عنده فأقام خمسة أشهر، ثم توافقا على أن يكون الأمير يوسف واليًا على أن يؤدي إلى الجزار ضريبة قدرها ستمائة ألف غرش كل سنة ويبقي الشيخ غندور مدبر الأمير رهنًا على مبلغ الضريبة؛ فبعث الأمير يوسف إلى الشيخ يستقدمه إليه من الضنية، فلما مثل لدى الجزار أكرمه ورحب به، فما حلت سنة ١٧٩٠ إلا والأمير وسف عليه خلعة الولاية، فكتب الشيخ غندور إلى أرباب المناصب في البلاد يخبرهم بذلك فسُرُّوا بذلك، وفرح الناس بهذا الخبر؛ لأن الأمير بشيرًا كان ضاربًا عليهم من المال ما هو فوق طاقتهم، وخرج الأمير بشير من دير القمر إلى نيحا غير باقٍ له من الأنصار إلا الشيخ قاسم جانبلاط، وقدم الدير الأمير سيد أحمد ملحم والأمير قعدان محمد نائبين عن الأمير يوسف، وقدمها كذلك بعض أرباب المناصب يترقبون قدوم الأمير يوسف إليها، وبعض منهم سار إلى ملاقاة هذا الأمير، غير أن الأمير بشيرًا تلافى الأمر وسار إلى الجزار قابلًا بقدر الزيادة من الضريبة التي تقيَّد بها الأمير يوسف، وعرض ذلك على الجزار فوعده بالولاية؛ لأن الجزار كان أشد ميلًا إلى الأمير بشير منه إلى الأمير يوسف، فكان هذا الميل مرجحًا كفة الميزان إلى جانب الأمير بشير متى تساوى مقدارا الضريبة المعروضان، فخلع الجزار على الأمير بشير خلعة الولاية، وأمر بحبس الأمير يوسف وأخيه الأمير حيدر ومن كان مع الأمير يوسف من الوجوه، وسلب تابعيه خيلهم وسلاحهم، ثم أطلق سبيل الأمير حيدر والأمير حسين بناءً على شفاعة الأمير بشير في أمرهما، وأما الأمير بشير فسار بالعسكر في الحال ومعه الأميران إلى دير القمر فالتقى بطريقه بالآتين لملاقاة الأمير يوسف، فأمر فيهم فاعتُقِلوا وسُلِبت منهم أسلحتهم وخيولهم، ثم خلى سبيل بعض منهم.

ولمَّا أحس الأمير سيد أحمد والأمير قعدان — نائبا الأمير يوسف — بقدوم الأمير بشير فرَّا من دير القمر ببعض من أهل حزب الأمير يوسف، ولما بلغ الأمير بشير الدير ألقى القبض على البعض الآخر من أهل هذا الحزب وسجنهم وسيَّر جباة يجبون الأموال زائدة عن أصلها، فولى بعض الناس إلى حوران فاسترجعهم الأمير بالقوة والعنف، ثم جمع الأموال وأرسلها إلى الجزار، وحدث في تلك السنة أن تُوفِّي الأمير محمد اللمعي، فضمَّ مأتمه الأمراء من ذوي قربى الفقيد والوجوه من تابعيهم، فدار الحديث بينهم في قسوة الأمير وما تفضي إليه من خراب البلاد، فتآمروا عليه واتفقوا على تمهيد السبيل لأن يكون الأمير حيدر ملحم وابن أخيه الأمير قعدان على الولاية بدلًا منه، وتحالفوا على ذلك وكاشفوا فيه سراة البلاد ووجوهها، فوافقهم كثيرون عليه، فطردوا جباة الأمير بشير؛ فعند ذلك جمع الأمير بشير من آنس منهم ميلًا إليه من أرباب المناصب وحشد رجاله ورجالهم، ثم زحف بهم إلى عين دارة يريد أن يقهر المتنيين أرباب تلك الثورة، ووجَّه الأمير حيدر أحمد في خمسين رجلًا إلى كفر سلوان، وأمره في بني حاطوم من الدروز أن يحرق منازلهم؛ لأنهم كانوا جمرة تلك الثورة، فسار هذا الأمير حتى بلغ كفر سلوان فطلع عليه أهلها، وقد انضم إليهم من استصرخوهم من أهل المتن، فاستعرت نيران الحرب بين الفريقين، فارتدَّ الأمير حيدر إلى عين دارة حيث تربَّص الأمير بشير بالعسكر المتني في حمانا، وانضمَّ الأمير حيدر ملحم إلى ابن أخيه الأمير قعدان بعبيه، فاجتمع إليهما بعض من أشياخ العمادية والنكدية، فلما درى الأمير بذلك برح عين دارة وولى راجعًا إلى دير القمر وفي قلبه خوف أن يسبقه إليها أعداؤه.

ثم بعث إلى الجزار يخبره أن تلك الثورة من ثمرات دسائس الأمير يوسف ويلتمس منه أن يُمِدَّه بعسكرٍ يقوى به على قهر الثائرين، وبعث إلى الأمير ملحم حيدر والأمير قعدان يعدهما بتوقيف حركة الجباية ورد الصكوك التي عهد بها أهل البلاد أداء القدر الزائد عن الأموال الأميرية إليهم، فسكنا لذلك الوعد ومضى الأمير قعدان وبنو نكد إلى دير القمر، وعاد الأمير حيدر إلى بعبدا فإذا بعسكرٍ من الأرناووط يبلغ ألف رجل بدت طلائعه عند المحلة المعروفة بحرجة بيروت كان قد أرسله الجزار قضاءً لالتماس الأمير بشير، فولى الأمير حيدر ملحم بعياله من بعبدا إلى العبادية ليتحد مع المتنيين، أما الأمير بشير فوجَّه الأمير حيدر أحمد ومعه بعض من أرباب المناصب من دون العمادية إلى الحدث، فاتحدوا مع العسكر لمقاتلة المتنيين، فانحدر المتنيون وعليهم الأمير حيدر ملحم والأمراء اللمعيون إلى الساحل، ووقعت الوقائع بين الفريقين، فانكسر المتنيون وهلك منهم عدد كبير، وأما الأمير يوسف وما كان من أمره فهو أن الجزار لما وصله كتاب الأمير بشير وعلم ما به من الشكوى من دسائس الأمير يوسف غضب على هذا الأمير، وكتب وهو بالمزاريب من طريقه إلى الحج إلى نائبه بعكة يأمره بقتل الأمير يوسف ومدبره شنقًا، ولكنه ما لبث أن ندم بعد الصحو من سورة الغضب فبعث حالًا إلى نائبه يبطل الأمر الأول، فبلغ الأمر الثاني النائب قبل أن ينفذ الأمر الأول؛ فستره النائب مغرى على ذلك من ابن السكروج لحقد في قلب هذا على مدبر الأمير الشيخ غندور، وأنفذ الأمر الأول فقاد الاثنين إلى المشنقة، أما الأمير فعلق ومات، وأما الشيخ فمات خوفًا قبل أن يُعلَّق.

مات الأمير يوسف تلك الميتة وعمره أربعون سنة ومدة ولايته سبع وعشرون سنة تسع سنين منها قضاها واليًا على جبيل والمدة الباقية واليًا بدير القمر، ولما رجع الجزار أسف على الأمير يوسف، وإذ تحقق خيانة ابن السكروج قتله وسلب أمواله، ثم كتب إلى الثغور يأمر عمالها أن ينيلوا الأمير بشيرًا حاجاته ويمنعوا عن لبنان الأقوات، وبعث إلى متسلم دمشق (عاملها) أن يعد عسكرًا لمساعدة الأمير، ووجَّه الأمير أسعد عامل حاصبيا في عسكر إلى البقاع، فانضمَّ إليه أخو الأمير بشير الأمير حسن منفذًا من أخيه لمساعدة الأمير أسعد، فلما بلغ المتنيين زحف الأمير أسعد إلى البقاع قاموا لمحاربته، فحدثت بينهما وقائع كثيرة، واتسع حينئذٍ نطاق العصيان على الأمير بشير حتى شمل أهل الغرب والشجار والجرد وأهل دير القمر، فسطوا على المغاربة من رجال الأمير وقتلوا منهم خمسة عشر رجلًا، فكبر ذلك على الأمير وأوجس خيفة من تفاقم العصيان، فولى بالمغاربة عسكره ومعه الشيوخ الجانبلاطية إلى صيدا، وبعث إلى الجزار يكشف له واقع الحال، فأرسل الجزار إلى الأرناووط النازلين بضواحي بيروت أن يرجعوا إلى صيدا فرجعوا، ولما بلغوا السعديات من طريقهم طلع عليهم النكدية من مكانهم هنالك وأصلَوْهم نارًا حامية، وقتلوا منهم مائتي رجل وغنموا أسلابهم.

ثم كتب الجزار إلى قائدَيْ عسكرَيْه بصيدا والبقاع أن يتوافيا إلى المتن لقهر أهلها العصاة، فسار الأمير بشير بعسكر صيدا حتى بلغ اليابس بالقرب من صحراء الشويفات، وإذا بأهل الشحار والغربين هناك يترقبونه للقتال، فجرت واقعة بينهما كان الفوز فيها للأمير، فظل سائرًا حتى وصل حرجة بيروت، حيث وفد عليه بعض من ذوي قرباه ومن الشيوخ، وأما المتنيون — وقد ظاهرهم سائر أهل البلاد وانضموا إليهم — فانقسموا بإجماع الرأي إلى عسكرين: عسكر يزحف إلى قب إلياس لمقاتلة العسكر الطالع عليهم من صوب البقاع، وعسكر يزحف إلى العبادية لمقاتلة العسكر النازل بضواحي بيروت. وإذ سيَّر الأمير بشير الأرناووط وعليهم الأمير حيدر أحمد إلى اللويزة والشياح فأحرقوهما ثم رجعوا إلى معسكرهم؛ احتشد الرجال من المتن والغرب ودهموا المعسكر فكسروه، فارتدَّ عليهم بالرجال فكسرهم إلى الشويفات، وقُتِل منهم ثلاثون رجلًا. ولما اتصل ذلك بالأمير قعدان انحدر برجاله ومعه العمادية والنكدية إلى الشويفات، وسار الأمير حيدر ملحم من العبادية إلى حمانا، وانضم إلى الأميرين أمراءُ حاصبيا؛ فاجتمعت إليهما رجال البلاد، فولى الأمير بشير بعسكره وقد خشي أن يدهمه الأعداء إلى رأس بيروت. وحدث في خلال ذلك أن عسكر دمشق زحف إلى زحلة، فطلع عليه أهلها وهزموه، فاستمدَّ قائده النجدة من دمشق فأتته النجدة، فلما علم الأمراء اللمعيون بذلك أرسلوا رجالًا يخفرون زحلة، فخرج أهلها منها لثقل وطأة الخفراء وأتوا المتن، فلما أحس بذلك الأعداء زحفوا إلى البلدة ودخلوها بعد أن فرَّ الخفراء منها هاربين، فنهبوها ثم أحرقوها، ثم جاءوا تعنايل فأدركوا بعضًا من اللبنانيين هناك؛ فاستعرت بين العسكر وبين هؤلاء نيران الحرب، ولم يلبث هؤلاء أن عُزِّزوا بنجدةٍ من أهل الجبل، فانقضُّوا على العسكر فولَّى منهزمًا إلى بر إلياس وقد قُتِل منه أربعون رجلًا ومن اللبنانيين اثنا عشر رجلًا.

ثم تعقَّبه اللبنانيون إلى بر إلياس وبطشوا به بطشة كبيرة؛ فولى مدبرًا إلى دمشق وترك للبنانيين مغانم شتى، فأحرق اللبنانيون القرية. ثم اتفق أرباب المناصب في البلاد أن يستسفروا الشيخ قاسم جانبلاط لدى الأمير بشير في الصلح على أن يدفعوا إلى الأمير خمسمائة ألف غرش، ويصرف عنهم عساكر الجزار، ويعود هو إلى الولاية كما كان؛ فلم يركن الأمير إلى ذلك وآثر الحرب فأثارها، ودارت الدوائر على رجاله ولا سيما الأرناووط منهم، فقد قُتِل منهم أربعمائة رجل، ومن اللبنانيين اثنان فقط، ولما كان الجزار قد آن أوان مسيره للحج استرجع العساكر، فرجع بعضها إلى صيدا وبعضها إلى عكة، ورجع عامل حاصبيا الأمير أسعد إليها، وأما الأمير بشير فرجع من بيروت بخمسمائة فارس وألفَيْ راجل إلى صيدا بحرًا؛ لأنه قد اتصل به أن اللبنانيين قطعوا عليه طريق البر عند الدامور، فأمر الجزار الأمير أن يتربص بجماعته في صيدا حتى يعود من الحج، وكان في جماعة الأمير: أخوه الأمير حسن، والأمير أسعد يونس، والأمير حيدر أحمد، والأمير مراد اللمعي، والشيخ قاسم والشيخ خطار الجانبلاطيان.

أما الشيخ قاسم جانبلاط، فلم يلبث أن خرج من صيدا إلى الجبل؛ تلبيةً لدعوة من دعاه من ذوي قرباه، وأما ما كان من أمر الأمير حيدر ملحم والأمير قعدان فإنهما توجَّها إلى دير القمر؛ حيث استقدما إليهما أرباب المناصب في البلاد وتداولا معهم، فاستقر رأي الجمهور أن يقاوموا الجزار إنْ أصرَّ على تولية الأمير بشير عليهم، فلما رجع الجزار كتبوا إليه وهو بدمشق أنهم قوم يلتمسون رضاه عنهم ويخفضون له جناح الطاعة، ولكن لا يرضون بولاية الأمير بشير عليهم لظلمه إياهم، ولا يقومون من الأموال الأميرية إلا بأداء القدر المضروب قديمًا، ثم يلتمسون منه أن ينعم بخلعة الولاية عليهم على الأمير حيدر ملحم وابن أخيه الأمير قعدان، فلم يُعِرْهم الجزار أذنًا واعية، وأنعم بخلعة الولاية على الأمير بشير.

وكان هذا الأمير لما بلغه خبر قدومه من الحج ترك الأمراء ذوي قرباه بصيدا وسار ومعه الأمير مراد اللمعي والشيخ خطار جانبلاط للقائه عند صحراء المزاريب في منزلة الرمتا، وصحبه إلى دمشق حيث أنعم عليه بالخلعة وعززه بعسكرٍ كبير، فسار الأمير بالعسكر إلى حاصبيا حيث وافاه أخوه الأمير حسن والأمير أسعد، فأبقى الأمير أسعد بحاصبيا وأبقى له الأرناووط لخفارتها والذود عنها، وسار هو بأخيه في بقية العسكر إلى صيدا ثم انتقل منها إلى علمان، ولما أحس اللبنانيون بقدومه سيَّروا عسكرًا من الشوف إلى حاصبيا لإخراج الأرناووط منها، فلما بلغها هجم على الأرناووط فاضطروهم أن يتحصنوا في السراي من البلدة، فرجع العسكر عنها إلى البلاد، ولم يَبْقَ منه إلا خمسمائة رجل أقاموا على حصار الأعداء، وقد اشتدَّ الضيق بالمحصورين حتى إنهم سألوا اللبنانيين أن يبيحوا لهم الخروج من المعقل بالسلاح والمتاع فأبوا ذلك عليهم، وما زالوا بهم حتى أقبل الأمير بشير برجاله على حاصبيا، فاضطروا عندئذٍ أن يولوا عنهم لمقاتلة الأمير، فأصلوه نارًا حامية وكسروا عسكره، فولى منهزمًا إلى المحلة المعروفة بالخان، فخرج المحصورون وساروا في أثر اللبنانيين، والأمير اختار فريقًا من فرسان عسكره المهزوم وانكفأ عليهم من جهة أخرى، فانتصر عليهم بعد قتال شديد؛ إذ فقد من الخمسمائة في تلك المعركة مائة وثمانية عشر رجلًا، ثم كتب الأمير إلى الجزار يبشره بذلك الأنصار، وسار بعسكره إلى البقاع فبعث إليه الجزار أن يرجع بعسكره إلى صيدا حتى يسير منها إلى إقليم الخروب ويفتتح محاربة الجبل من هناك لقرب موارد الإمداد، فرجع الأمير وسار بحسب أمر الجزار في العسكر إلى إقليم الخروب، وكان عدده اثنَيْ عشر ألف مقاتل، فعسكر ببعض منه في عانوت، ووجَّه البعض الآخر إلى داريا وشحيم، وأما الأمير حيدر والأمير قعدان فعسكروا برجالهم في عين بال وبعقلين.

ووقعت بين الفريقين عدة وقائع في وادي نهر الحمام من الجاهلية إلى عين بال كان الحرب فيها سجالًا، ثم أجمع الأميران وأرباب المناصب على البطش بعسكر الأمير بشير البطشة الكبرى بأن يهجموا عليه جميعًا دفعة واحدة، ولكن حدث من الشيخ قاسم جانبلاط ما راب الأميرين من خيانة رجالهما فهمَّا لذلك بأن يفرَّا، ولكن النكدية دبَّروا لعسكر الأمير بشير مكيدة على يد رجل شجاع اسمه حنا بيدر من كرخا من قرى إقليم الخروب انتصروا بها انتصارًا كبيرًا؛ إذ فتك هذا الرجل ومعه خمسمائة مقاتل في عسكر الأمير بشحيم فتكًا ذريعًا كاد يلحق الفشل بسائر العسكر لو لم يُسكِّن الأمير بشير اضطراب قومه ويثبِّت جأشهم، فتشدَّدت بذلك الانتصار عزائم الأميرين وعسكرهما.

ودامت الحرب بين الفريقين حتى وافى قوم الأمير من عساكر الجزار العسكر الذي جاء شرقًا من أنحاء البقاع، وكان قد قُتِل منه عدد كبير في ما جرى له من الوقائع مع الأمير جهجاه الحرفوشي وأهل زحلة، وكانت الغلبة في ذلك للأمير جهجاه والزحليين؛ فحينئذٍ انتصرت عساكر الأمير بشير على قوم الأميرين، ولكن لما بلغت هذه العساكر مرج بعقلين حدث انشقاق بين قائدَي العساكر القره محمد قايد العساكر الزاحفة من إقليم الخروب والمنلا إسماعيل القادم من البقاع بألف فارس وأربعمائة فارس، وسبب ذلك التحاسد بينهما، فتقاعد القره محمد عن القتال؛ إذ رأى أن النصر جاء في وجه المنلا إسماعيل، فوقع الشيخ جهجاه العماد بثلاثمائة من رجاله على عساكر الأمير بشير وقوع البوازي، فارتدَّت العساكر متقهقرة إلى عانوت، فثبت بذلك جأش قوم الأميرين، فرجعوا إلى عين بال وزحفوا منها بعد أن انضمَّ إليهم كثيرون من المقاتلين إلى عانوت، حيث كان المنلا إسماعيل معسكرًا برجاله، فوقعت هنالك بين الفريقين وقعة كبيرة ذهبت بحياة كثيرين من الجانبين.

ولما عجز قواد عساكر الجزار عن الفوز بالمرام كتبوا في ذلك إلى الجزار، فاسترجع الجزار العساكر إليه فرجعت، وكان معها الأمير بشير وأخوه الأمير حسن والشيخ قاسم جانبلاط، فأمر الجزارُ الأميرَ بشيرًا أن يقيم بصيدا وأخاه ببيروت، وجعل الشيخ قاسمًا بعكة محجورًا عليه ولكن مكرمًا، ومنع الأقوات عن الجبل، ثم أرسل أرباب المناصب إلى الجزار يسترضونه ويلتمسون منه أن يُولِّي عليهم الأميرين الأمير حيدر والأمير قعدان، على أنهم يقومون بأداء الأموال الأميرية على حسب المعتاد أربعة آلاف كيس منجمةً على ست سنين، فأجابهم الجزار أنْ أرسلوا إليَّ أربعةً من الوجوه؛ فأرسلوا له اثنين، فسألهما عن مقدار ما أخذه الأمير بشير من البلاد من الأموال وعن الأسباب التي أوجبت العصيان، فقالا إنهما لا يعلمان شيئًا من ذلك؛ فردهما وراسل يستحضر لديه الشيخ عبد الله القاضي البيصوري، فخشي هذا الغدر وتمارض، فوجَّه الأميران بدلًا منه ثلاثة من الوجوه، فلما وقف هؤلاء بين يدي الجزار؛ قال لهم: «إنني كففت الحرب عن أهل البلاد شفقةً عليهم، ولكنني بسبب عصيانهم أنفقت على العساكر أموالًا كثيرة، فإن دفع إليَّ الأميران مقدار ما أنفقت خلعت عليهما خلعة الولاية.» فاتفق الأميران مع الجزار على أن تكون نفقة العساكر خمسين ألفًا من الغروش، وأرسلا إليه قبل ذهابه إلى الحج عشرين ألفًا منها وأربعة من الخيل الجياد وصكًّا بأربعة آلاف كيس منجمة على ست سنين؛ فولاهما وأمر باعتقال الأمير بشير في صيدا وأخيه الأمير حسن في بيروت، وأبطل منع الأقوات عن الجبل ثم مضى للحج، أما الأميران فأرسلا في غيابه المجموع من الأموال الأميرية إلى قائمقام دمشق، واستحصلا من والي طرابلس على ولاية بلاد جبيل، فسارا إلى جبيل لجمع الأموال الأميرية، وقد زادا في القدر المضروب من المال نصفه، وفي مقدار الجزية غرشين، وحاسبا وكيل الأمير بشير على ما بيده من المال المقبوض وأخذاه منه، ثم قتلاه شنقًا.

وفي سنة ١٧٩٢ وقعت فتنة بين الأميرين حيدر وقعدان وبين الشيخ بشير جانبلاط، وقد تشيَّع لهذا الشيخ بعض الأمراء اللمعيين، فخشي الأميران أن يكون ذلك بدسيسة من الأمير بشير ليخلعهما من الولاية ويتبوأ مكانهما؛ فتلافيا الأمر بالملاينة والموادعة حتى جرت المصالحة بين الأميرين الواليين وبين خصومهما، وحدث حينئذٍ أن جرجس باز مدير أبناء الأمير يوسف والأمير حسين والأمير سعد الدين والأمير سليم، وهو رجل ماروني من دير القمر كان على جانب كبير من سعة الإدراك سامي المكانة نافذ الكلمة التمس من الأميرين الواليين أن يوافقاه على أن تكون ولاية بلاد جبيل للأمراء أبناء الأمير يوسف، على أن يدفع في كل عام خمسة وسبعين ألف غرش، فوافقاه على ذلك؛ فبعث يلتمس من والي طرابلس خلعة ولاية بلاد جبيل لمواليه؛ فاستُجِيب التماسه، وجعل هذا المدبر يُمهِّد القلوب لمحبة مواليه ويستميل الأنفس إلى موالاتهم بكثرة البذل والسخاء، ثم استحصل لهم من الجزار على ولاية جبل الشوف، وذلك برضا الأميرين حيدر ملحم وقعدان اللذين كانا يعاونانهم في أوقات الاضطراب والفتنة، حتى إنهما كتبا إلى الجزار يخبرانه أن ما كان يقع من الاضطراب إنما كان بدسيسة من الأمير بشير وأخيه الأمير حسن، فاستحضر الجزار الأمير بشيرًا وأخاه إلى عكة، ثم وجههما إلى الناصرة ومضى في سبيله للحج، فاستقر الأمير حسين يوسف بدير القمر وأخوه الأمير سعد الدين بجبيل، وكان الأمير سليم أخوهما لم يزل حديث السن، ولكن لمَّا آب الجزار من الحج عاد الأمير بشير ففاز منه بخلع ابنَي الأمير يوسف من الولاية وتوليته عليها بدلًا منهما، وقد حدث في سبيل استوائه عليها مقاومات، وجرت له مواقع مع خصومه قهرهم فيها، ثم عفا عن الأمير حيدر ملحم وعن الأمير قعدان، وتعقَّب ابنَي الأمير يوسف، ولكن لم يستقم له الأمر في الولاية؛ إذ وُشِي فيه لدى الجزار وشاية أفضت إلى خلعه من الولاية واسترجاع الأمير حسين واليًا بدير القمر والأمير سعد الدين بجبيل، وإذ حدثت فتنة بعد عودتهما إلى الولاية وعُزِي السبب فيها إلى الأمير بشير سجن الجزار الأمير بشيرًا وأخاه بعكة، واعتقل الشيخ بشير قاسم جانبلاط وفارس ناصيف مدبر الأمير.

وفي سنة ١٧٩٥ أرجع الجزار عند إيابه من الحج الولايةَ إلى الأمير بشير بعد أن عهد له أن يدفع إليه ثلاثمائة ألف غرش منجمة على ست عشرة سنة، وكان الشيخ بشير قاسم نافذ الكلمة عند الأمير مقبول الرأي، فجرت للأمير عدة وقائع مع ابنَي الأمير يوسف كان النصر له فيها، وقد تعقَّب الأميرين ابني الأمير يوسف إلى حد طرابلس حيث نزلا على متسلمها (عاملها) فاضل آغا رعد، وقد مهد الشيخ بشير لبني الدحداح عند الأمير سبيل الرضا عنهم، وربما كان ذلك بسعي مدبر الشيخ بشير سلوم الدحداح، فجعلهم الأمير كتبة عنده وعند أخيه، وقد عفا الأمير عن كثير ممن جهروا بالمناوأة له وذلك بشفاعة الشيخ بشير لديه، ولما عاد والي طرابلس خليل باشا من الحج ووقف على ما جرى في غيابه بين الأمير بشير وبين أبناء الأمير يوسف خلع على الأمير سليم خلعة ولاية بلاد جبيل وعززه بعسكر إلى البترون، فوقعت بينه وبين الأمير بشير حروب كان النصر فيها للأمير بشير، وكان خليل يعزز الأمير سليمًا بالعساكر من جيش الجزار، ولكن الغلبة كانت في غالب الأحيان للأمير بشير. ومع ذلك كله فلم يستقر له الأمر؛ لأن أبواب الفتنة كانت دائمًا مفتوحة وأسباب الوشاية موجودة والمنافسة بين أنداد الولاية في الجبل لدى الجزار في استرضائه زيادة الضريبة جارية في مجراها، فقيل للجزار عن الأمير بشير إنه ذو ميل إلى الفرنساويين، الذين كانوا حينئذٍ في مصر يتولَّى أمرهم نابوليون بونابارت الشهير، وكان في عزم ولي أمرهم هذا أن يغشى الديار السورية برجاله، فمال الجزار إلى خلع الأمير بشير وتولية أبناء الأمير يوسف بدلًا منه، وجهَّز لهؤلاء الأمراء عسكرًا يمكنهم من استلام زمام الولاية، ولكن عاد فوقف عن إنفاذ إرادته. ولما كانت سنة ١٧٩٩ ظهر بونابارت بعسكره عند عكة يريد فتحها وهو واثق أنها باب لسورية، فزحف إليها برًّا، وكان عسكره لا يزيد عن ثمانية آلاف مقاتل، وقدمت حينئذٍ سفن الإنكليز إلى تلك المدينة تبغي وقايتها من الفرنساويين، فجعل الجزار يتأهب للمدافعة، وبعث إلى الأمير يستنجده بعسكر من لبنان، فأجابه أن اللبنانيين لا ينقادون له ما داموا عالمين بأن الولاية عليهم قد دُفِعَتْ إلى يد أبناء الأمير يوسف؛ فغضب الجزار من هذا الجواب.

ولكن الأمير كما امتنع عن نجدة الجزار امتنع كذلك عن نجدة بونابارت؛ إذ كتب إليه بونابارت يستنجده فلم يُجِبْه؛ فكتب إليه ثانية يعاتبه على الإمساك عن الجواب، فوقع الكتاب هذه المرة في يد متسلم صيدا، فبعث به في الحال إلى الجزار، فلما رآه الجزار خفض من غضبه على الأمير وكتب إليه أيضًا يسأله أن يرسل إليه عسكرًا، فأجابه أيضًا أن ذلك غير متأتٍّ له، ثم مهد الأمير لنفسه سبيل المصادفة مع أمير السفن الإنكليزية سميث، فجرت المودة بينهما ووعده سميث أن يزيل من قلب الجزار ما كمن من النفرة منه، ولكن لم يتيسر له ذلك؛ فإن الجزار بعد سفر الأسطول الإنكليزي من عكة عزم على تولية أبناء الأمير يوسف بدلًا من الأمير بشير، فجعل الأمير يلتمس الطرق لتعزيز نفسه في الولاية، وكاشف في ذلك أرباب المناصب ولا سيما صديقه الشيخ بشير جانبلاط.

واتفق حينئذٍ أن الصدر الأعظم يوسف باشا ضيا قدم إلى الديار السورية، فبذل الأمير ما في وسعه لاسترضاء هذا الصدر واستمالته إليه، فمال الصدر إليه وأنعم عليه بخلع الولاية على جبل لبنان ووادي التيم وبلاد بعلبك والبقاع وبلاد المتاولة على أن يبقى واليًا بأمر الدولة أبدًا، وأن لا يكون لأحد من الوزراء سلطة عليه، وأن يكون توريد الأموال الأميرية من يده إلى خزانة الدولة مباشرة، ولكن مع ذلك لم يستقر له الأمر.

ومع أنه كان معضدًا من الصدر الأعظم ووزراء الدولة لم يَقْوَ على احتمال مقاومة الجزار له على يد أبناء الأمير يوسف؛ فاضطر لذلك أن يخرج من لبنان، وذهب بعد وقائع جرت بينه وبين أبناء الأمير يوسف معززين من الجزار إلى الإسكندرية على سفينة خصوصية بعث بها إليه سميث الإنكليزي، وخلا الجو حينئذٍ لأبناء الأمير يوسف. ولما وصل الأمير بشير إلى الإسكندرية أكرمه سميث، وخرج الأمير مع سميث إلى البر لمقابلة الصدر الأعظم حيث كان معسكرًا بجنوده؛ فرحب الصدر بالأمير وطيَّب خاطره ووعده بقضاء حاجته، وكان سميث يُطنِب بالأمير لدى الصدر ويظهر صدق خدمته للدولة، ولما انعقد الصلح بين الفرنساويين والصدر الأعظم على أن الفرنساويين يرجعون إلى ديارهم غادر الأمير الديار المصرية مع سميث وأتى إلى قبرس، وقد مرَّ في طريقه إليها ببيروت، فعلم من قنصل الإنكليز بها بشيء مما جرى في لبنان في غيابه، ولما وصل إلى قبرس ساعده سميث بالمال وبقي الأمير هناك نصف سنة، وكانت تَرِد عليه الكتب الخطيرة الشأن وهو يُطْلِع سميث عليها، ثم رجع الأمير ثانية مع سميث إلى الإسكندرية ومن ثم رجع إلى سورية، فخرج من البحر إلى النهر البارد عند طرابلس، ثم سار إلى الحصن ونزل على علي بك الأسعد، وجَعَلَت الكتبُ تَرِد عليه سرًّا من جميع أرباب المناصب إلا العماديين، وكان اللبنانيون قد سئمت نفوسهم من حكومة الأميرين ابنَي الأمير يوسف وكثرة مظالمهما في استحصال الأموال استرضاء للجزار، ومالوا إلى الأمير بشير كما كانت عادتهم فيما مضى من اتخاذ أنداد للوالي عليهم كلما رزحوا تحت أعباء الضرائب الفادحة، والسبب في ذلك كله هو لا شك ظلم الجزار وكلفه بتكليف الناس فوق طاقتهم من الضرائب والمكوس، حتى إن رضاه ما كان يناله إلا من يشتريه بثمن من الأموال فاحش. وقد عتا الجزار إلى حد أنه قاوم وزراء الدولة، كما تبين لك ذلك، وخالف أوامر عظماء رجالها.

ولما أحس الأمير بأن اللبنانيين مائلون إليه تغلغل في بلادهم، وجعل يُمهِّد لنفسه سبيل العود إلى الولاية، فبلغ مرامه بعد وقائع كثيرة جَرَتْ بين رجاله ورجال مشايعيه وبين الأميرين ابنَي الأمير يوسف وجنودهما من عساكر الجزار، ثم اتفق الأمير بشير مع ندَّيْه الأمير حسين والأمير سعد الدين ومدبرهما جرجس باز على أن تكون الولاية العامة للأمير بشير، وأن يكون الأميران واليين على بلاد جبيل، وكُتِبَتْ في ذلك وثيقة وجرت المصالحة بين الفريقين، فلما علم الجزار بذلك الاتفاق امتلأ قلبه غيظًا وحنقًا حتى إنه لما التمس منه العماديون في سنة ١٨٠١ أن تكون الولاية للأمير عباس أسعد أجاب التماسهم، ولما عارضتهم في ذلك سعى الشيخ بشير أن تكون الولاية للأمير سلمان ابن الأمير سيد أحمد، واتفق مع الأمير قعدان على ذلك، فكتبا إلى الجزار يلتمسان منه الولاية للأمير سلمان على أن يدفعا إليه مائتين وخمسين ألف غرش، ولكن عندما بلغ العماديين ذلك ذهبوا بالأمير عباس إلى الجزار بعكة وفازوا منه بالولاية لزعيمهم الأمير عباس، ثم جرت الوقائع بين هذا الأمير وبين الأمير سلمان والأمير قعدان، ولم يلبث الأمير بشير أن ظهر في مظهر القوة وقهر جمع أعدائه، فلما يئس العماديون من فوز الأمير عباس عادوا يلتمسون الولاية للأمير سلمان سيد أحمد ولكنهم لم يظفروا ببغيتهم؛ لأن الأمير بشيرًا كان قد انتصر على جميع خصومه انتصارًا بيِّنًا، واتفق جميع وجوه البلاد وأرباب المناصب فيها على أن يكون الأمير بشير واليًا عليها دون غيره، وكتبوا إلى الجزار يلتمسون ذلك منه ويخبرونه أن العماديين مرادهم إضاعة الأموال الأميرية، وأما الأمير بشير فلم يحسب أن ذلك الانتصار يغنيه عن رضا الجزار شيئًا، فرأى من الحكمة استرضاءه ليستقر له أمر الولاية، فاستشفع أحد الباشوات في أمره لديه وكتب له كتابًا في ذلك، فأطلع الباشا الجزار على الكتاب فلان الجزار، وطلب أن يرسل الأمير إليه من يعتمد عليه من بطانته، فأرسل الأمير كاتبه يوسف الدحاح، فلما مثل هذا الكاتب بين يدي الجزار أخذ الجزار يذكر ما عدَّه على الأمير من السقطات، فقال: «أين الأمير والفرنساويون؟! وأين هو وسميث الإنكليزي؟! وأين هو والصدر الأعظم؟! فقد ذهب اتكاله عليهم سدى، وفاته أن سعد الجزار يغلب كل شيء، ولكن لا بأس على الأمير فقد تجاوزت له عن كل الأمور الماضية، وليكن واثقًا أنه ينال مني ما يرضيه.» وبعد أن كتب الجزار إلى الأمير كتابًا يُطيِّب به نفسه بعث إليه بخلعة الولاية على البلاد إلا إقليم جزين وبرجا منها.

وفي سنة ١٨٠٤ تُوفِّي الجزار واختلس الولاية إسماعيل باشا الذي كان قد سجنه الجزار في سجنه، وأما الأمير بشير فلم يعترف بولاية هذا الباشا، وكتب إلى نائب الجزار على دمشق يقول له: «إنني لا أنقاد إلا إلى أوامر من تنصبه دولتنا العلية واليًا في موضع الجزار، وولاية إسماعيل باشا هذا هي بدون أمر من لدنها.» فأرسل النائب ذلك الكتاب إلى إسلامبول، فكان من نتيجته أن مهَّد للأمير فيها مكانة عزيزة، ولكن لما كان الأمير في اضطرار إلى استخلاص ابنه الأمير قاسم وابن الأمير يوسف الأمير سليم اللذين كانا مرهونين بعكة عند الجزار وجاز رهنهما من بعد الجزار إلى إسماعيل باشا الذي اختلس الولاية من بعده اضطر أن يجاري هذا الباشا في بعض الأشياء قضاء للبانته، ومع ذلك فإن مجاراته له لم تُجْدِه نفعًا؛ لأنه لم يفز بإنجاز المواعيد منه وبقي المرهونان بعكة. وحدث يومئذٍ أن وزير حلب إبراهيم باشا قدم من حلب إلى دمشق وبعث إلى الأمير بصورة كتاب الإرادة الصادرة بنصبه عوضًا عن الجزار واليًا على صيدا ودمشق وطرابلس، فوجَّه الأمير جرجس باز إلى دمشق مستنابًا عنه في أداء الطاعة، فأكرمه الوزير واحتفى به كثيرًا، واتخذه مستشارًا له في كثير من المهمات، فكان جرجس نافذ الكلمة عنده، وكان الأمير يستقضي كثيرًا من الحاجات على يده، وورد على الأمير حينئذٍ أَمْرٌ من السلطان سليم في النهوض لمساعدة إبراهيم باشا على طرد إسماعيل باشا من عكة وكتابٌ من الصدر الأعظم يوسف باشا ضيا يقول له فيه: «علمت أن إسماعيل باشا استنهضك لمساعدته مدعيًا أنه كتب إلى الدولة يلتمس منصب صيدا فأبيت، وقد وقعت على كتابك الذي أرسلته إلى نائب دمشق وعلمت منه أنك لا تطيع إلا من توليه الدولة العلية، وأنك محافظ على المدن وأبناء السبيل؛ فطِبْ نفسًا بما فزت به من رضا الدولة عنك، فلسوف تنيلك ما تبغيه.» فسلك الأمير بحسبما أُمِر به فاستقام له الأمر، وقُتِل إسماعيل باشا وتولى عوضًا عنه سليمان باشا؛ فكتب إليه الأمير وهنأه بالولاية والتمس منه إخلاء سبيل المرهونين، فأخلى سبيلهما بعد أداء المبلغ الذي اصْطُلِح عليه بينهما من متأخر الأموال، وثبت الأمير في منصبه.

وفي سنة ١٨٠٥ حدثت فتنة كان السبب فيها بنو حاطوم وبنو القنطار من أهل المتن، وذلك فيما يتعلق بتأدية المتأخر لسليمان باشا من الأموال، فانتقم الأمير بشير منهم وهدم مساكنهم وقطع أشجارهم، وفي سنة ١٨٠٧ حدثت فتنة أخرى في مأتم الأمير موسى منصور بين الأمراء الأرسلانيين المنعيين من الشويفات برجالهم وبين الأمراء الشهابيين ورجالهم من أهل الحدث وبعبدا، وكان بين المتوفى وبين الأرسلانيين صلة قرابة، وكان السبب في الفتنة الطواف بالمحمل؛ وقع من أجله مشاجرة بين أهل الشويفات وأهل الساحل فاتسع الخرق، فأمر الأمير أن تُحرَق دور الأمراء الأرسلانيين، ولكن السيدة حبوس زوج الأمير عباس استشفعت الشيخ بشيرًا في ذلك لدى الأمير بشير، فجعل الشيخ يسعى لاسترضاء الأمير مستعينًا بجرجس باز، وجعل كلاهما يسعيان لاسترضاء الأمراء الشهابيين، فجرت المصالحة على بعض أرض أخذها الأمراء الشهابيون، فلم يُحرَق إلا دار الأمير حمد، ولم يُقطَع إلا بعض الأشجار.

ثم سكنت الثورة في نفوس الأمراء الشهابيين، وأما جرجس باز فقد بلغ مكانة سامية من النفوذ والوجاهة حتى كثر حاسدوه من أرباب المناصب وأوغرت الصدور من نفوذه ولا سيما صدر الأمير حسن أخي الأمير بشير، فأضمر الأمير حسن لجرجس ولأخي جرجس عبد الأحد الشر، والتمس سبيلًا عليهما لدى الأمير أخيه متواطئًا في ذلك مع بعض اليزبكية من أرباب المناصب، فانخدع الأمير وقبل بالمكيدة التي دُبِّرت لقتل الأخوين جرجس وعبد الأحد في يوم واحد، مع أن جرجس كان مخلصًا للأمير ساهرًا عليه من كل أذى كان يضمره له أعداؤه، وكان ميعاد قتلهما خامس عشر أيار سنة ١٨٠٧، أما عبد الأحد فقُتِل في جبيل، وأما جرجس فقُتِل في دير القمر، ولم يكتفِ الأمير بشير بذلك، بل سمل عيون الأمراء أبناء الأمير يوسف وجعلهم تحت المراقبة والسيطرة وحظر عليهم الزواج، وقد أتى ذلك كله باتفاق مع الشيخ بشير ليخلو له الجو من الأنداد، ولا شك أنه معدود عليه من أفظع الأمور. وفي سنة ١٨٠٨ تُوفِّي الأمير حسن أخو الأمير بشير بجبيل فانتقلت ولاية بلاد جبيل إلى الأمير قاسم ابن الأمير بشير، وفي سنة ١٨١٠ حدث أن أميرًا من أمراء العرب وهو الأمير عبد الله بن مسعود الوهابي التميمي قدم برجاله من الحجاز إلى حوران فخِيفَ على دمشق منه، فخرج واليها يوسف باشا إلى المزاريب لصدِّه، وقد كتب إلى وزير عكة سليمان باشا يسأله النجدة، وكتب سليمان باشا إلى الأمير بشير يستنجده للذود عن دمشق، وكلاهما ذهب برجاله لصد العربان الوهابيين فرجعوا عن تلك الديار، وإذ استقر بال سليمان باشا بزوال تلك النازلة خلا بالأمير وأسرَّ إليه أمرًا سلطانيًّا مؤذنًا له بالولاية على دمشق، واستشاره في ذلك وأبدى له ريبته من تحقق أمانيه؛ لأن يوسف باشا والي دمشق يومئذٍ كان مقتدرًا بالرجال والمال، فأجابه الأمير أنه ورجاله يقاتلون في سبيل تحقيق أماني الوزير حتى يبلغوه مرامه، فاشتد عزم سليمان باشا وطلب الولاية فنالها على يد الأمير بعد حرب لم يَطُل أمرها، ولما تبوَّأ كرسي الولاية أكرم الأمير فثبَّت ابنه الأمير قاسمًا في ولاية بلاد جبيل، وولَّى ابنَه الآخر الأمير خليلًا البقاع، وكان يستشير الأمير في كل صعوبة تعرض، حتى إنه لما أوشك أن يحدث فتنة في دمشق بسبب ظلم الكنج أحمد الذي جعله متسلمًا للمدينة استشاره في الأمر وأبدى له مخافته من عواقبه، ثم فوَّض إليه ملافاة ذلك الخلل، فعزل الأمير الكنج أحمد في الحال وأرسله إلى القدس متسلمًا لها، واستبدله برجل يميل إليه الدمشقيون؛ فهدأت الحال، ثم استأذنه الأمير في العود إلى دياره فأذن له.

وفي سنة ١٨١١ بعث الأمير بفارس الشدياق والشيخ بشير جانبلاط برجل من الدروز يُقال له حسون وَرَدَ إلى الجبل الأعلى عند حلب لإنقاذ جماعته من الدروز هنالك من يد أعدائهم معززين بكتب إلى بعض الكبراء في تلك الأنحاء؛ ليمدوا له يد المساعدة، فقُضِيَتِ الحاجة وأُتِيَ بتلك الجماعة إلى لبنان وكان عددهم أربعمائة بيت، فأعطاهم الأمير مائة ألف غرش وأقرَّهم متفرقين في مقاطعات أرباب المناصب من الدروز. وفي تلك السنة أيضًا أُعْطِيَتْ ولاية بلاد جبيل ملكًا لمحمود بك ابن سليمان باشا، وفي سنة ١٨١٣ اتخذ الأمير معلمًا لولده رجلًا فاضلًا من حمص يُقال له بطرس كرامة قدم بيت الدين من عكار، وقد أحبَّه الأمير حتى جعله بعد ذلك كاتبًا أولًا ثم مدبرًا له، وكان الرجل عالمًا نحويًّا شاعرًا فصيحًا، وبالجملة فإن الأمير بشيرًا كان هادئ البال في جميع المدة التي كان مرجعه فيها إلى سليمان باشا؛ لأن سليمان باشا كان يوده كثيرًا، حتى إنه لما وفد عليه الأمير مرة يعزيه بموت مدبره احتفى به احتفاءً كبيرًا وأكرمه إكرامًا لم يَنَلْ مثله أمير من أمراء لبنان من وزير عكة، ولم تتكدر كأس الأمير إلا في أواخر مدة هذا الوزير، ولكن الكدر لم يجئ من صوب الوزير بل كان بسبب حادثة جرت بين الأمراء الشهابيين أنفسهم، وبدا فيها من الشيخ بشير بعض الخيانة للأمير؛ وذلك أن الأمير حسنًا الملقب بالإسلامبولي سأل من عمه الأمير حيدر أن يزوجه من ابنته الكبرى فأبى وزوجها من غيره، ثم سأله ابنته الصغرى فأبى كذلك؛ فأضمر لعمه الشر وكاشف في ذلك بعضًا من بني الغريب من الدروز، فزيَّنوا له ما نوى من قتل عمه ووعدوه باستمالة الشيخ بشير إليه، وبأن يتفانوا في سبيل مساعدته، وأشاروا عليه أن يجهر باعتناق دين الإسلام قبل أن يقوم للعمل؛ فإن ذلك يساعده على نيل الولاية، فانقاد لمشورتهم، ثم ترقب فرصة بعمه حتى بلت يده به فقتله وقتل أباه أيضًا، وفرَّ إلى دمشق فأفتى له علماؤها بأنه لا يجوز قتله لأنه مسلم قتل مرتدين عن الإسلام، وكان الأمير بشير يكاتب سليمان باشا في ذلك، وسليمان باشا يرسل إلى وزير دمشق أن يدفعه إليه، فجعله وزير دمشق في السجن لكثرة الإلحاح عليه، وكان الشيخ بشير يرسل إلى السجين سرًّا ويشدد عزيمته، وقد درى بذلك الأمير وأضمر في قلبه النفرة من الشيخ.

ولكن سليمان باشا ما انفك عن مراسلة وزير دمشق في الأمير حسن حتى بعث به إليه، ولكن بعد وعده بالأمان له، فلما وصل الأمير حسن إلى عكة سيَّره سليمان باشا إلى إسلامبول، وأما الشيخ بشير فبات في خوف من الأمير بشير وسعى جهده أن يبرئ ساحته لديه فأمنه، ولكن قلبه مفعم من الحقد عليه ومن الميل إلى تقوية اليزبكية للاستعانة بهم عليه، وقد أحس الشيخ شرف الدين القاضي الدرزي يومئذٍ أن الأمير يكره الشيخ بشيرًا ويود اتفاق النكدية واليزبكية، فسعى لذلك سرًّا ووقف بينهم على أنهم يكونون مع الشيخ علي العماد زعيم اليزبكية يدًا واحدة مع الأمير ضد الشيخ، ولكن ظروف الحال أَبَتْ أن يتم ذلك حينئذٍ؛ لأن المنية أنشبت أظفارها في وزير عكة سليمان باشا سند الأمير وركنه الأعظم، فخشي الأمير — فيما يظهر — أن يأتي أمرًا خطيرًا مثل ذلك حينئذٍ وهو على ريب من عواقبه، فاضطر لذلك ملافاة الأمور في مجراها وتسكين الأحوال بقدر الإمكان حتى يتبين ما عساه أن يكون من أمره مع الوالي الجديد عبد الله باشا الخزنة دار الذي خلف سليمان باشا بعكة.

ومن أجل ذلك فإنه لما اطلع الشيخ بشير على دخيلة الأمر وسعى عند الأمير لعزل الشيخ شرف الدين عن القضاء وللضغط على اليزبكية استجاب له وولَّى القضاء مسلمًا من برجا من إقليم الخروب يُقال له أحمد البزري، وضايق اليزبكية حتى فروا إلى البقاع، ولحق بهم الشيخ حمود والشيخ ناصيف النكديان، ولبثوا مدة بين دمشق وأنحائها، وقد جرت لهم وقعة مع الأمير أمين ابن الأمير بشير؛ إذ أرسله أبوه ليبطش بهم ويقصيهم عن البلاد، فبدت منهم بسالة شديدة. ومع قلة عددهم، كسروا عسكر الأمير أمين على كثرة عدده، وجعلوا يترقبون الفرصة لقهر الأمير حتى بدت لهم؛ وذلك بسبب نفرة وقعت بين عبد الله باشا والأمير، إذ تعذَّر الأمير عن القيام بأداء كل ما كان يطلبه منه الباشا من الأموال؛ مما اضطر الأمير أخيرًا إلى اعتزال الولاية، ولما أحس اليزبكية بذلك طرقوا أبواب عكة ففتُحِتْ لهم وسعوا لدى وزيرها أن تكون الولاية للأمير حسن علي والأمير سلمان سيد أحمد فكان ذلك، وأرسل الوزير إلى الأميرين الشيخ محمودًا الدسوقي ليعيدهما إلى الإسلام، وأما الأمير بشير فرحل من لبنان ولبث شهرًا ونيفًا حتى مهد له درويش باشا وزير الشام يومئذٍ سبيل الرضا عنه من عبد الله باشا، فأذن له أن يأتي إلى جزين من لبنان، فدخلها هو والشيخ بشير، وكان الوزير قد وعده بردِّه إلى الولاية، ولكن بعد أن يجمع الأميران اللذان ولاهما الباشا الأموال المطلوبة منهما ويبدو منهما شيء ينفتح به السبيل إلى خلعهما، ولم يلبث الأمير بشير أن تظاهر الناس بالميل إليه وعصوا الأميرين؛ فعجزا عن تحصيل الأموال، ثم خشي بأسه اليزبكية فالتمسوا سبيلًا إلى استرضائه، فجرت مصالحة واتفقت جميع الأحزاب على تولية الأمير، واجتمعت جميع القلوب على ولائه.

فلمَّا أحس بذلك وزير عكة امتلأ قلبه غيظًا من الأمير فبعث إليه يلومه على ذلك وعلى مصالحة الأميرين، فأجابه أن الناس يودون أن يكون هو في خدمة الوزير، فإن لم يشأ الوزير اعتزل الخدمة، وكان إمام الوزير يحب الأمير بشيرًا، فمهَّد له سبيل الرضا عنه؛ فآل الأمر إلى تولية الأمير بشير، ولكن الأميرين سلمان سيد أحمد وحسن علي كانا يترقبان فرصة لإثارة الفتنة حتى بدت لهما عند جمع الأموال الأميرية، فأثارا عامة الناس في الجهة الجنوبية من لبنان على الأمير ورجاله، فحدثت عدة وقائع كان النصر فيها للأمير بشير دائمًا، وكان الأمير بشير يترفَّق كثيرًا بالناس ويمسك رجاله في غالب الأحيان عن الفتك بهم، ولا يبيح المقاتلة إلا خشية من أن يَغُرَّ أعداءه الطمع به. ولبث على تلك الحال حتى مُهِّد له الأمر في الجبل من أقصاه إلى أقصاه، ونزع وزير عكة ولاية بلاد جبيل من يد متسلمها وقلَّدها ابن الأمير بشير، ولكن لم يَطُل زمن السكينة واستقرار البال بالأمير؛ لأن النفرة وقعت بين درويش باشا وزير دمشق وبين عبد الله باشا وزير عكة، فتحيَّز الأمير لوزير عكة عبد الله باشا وقاسى بسبب ذلك أهوال حروب كبيرة، وكان دائمًا مكللًا بالفوز والنصر؛ فازداد لذلك عند عبد الله باشا رفعة، ولكن لما كانت الدولة العلية قد عضدت درويش باشا لما بدا لها من عبد الله باشا من التعدي عليه وسيَّرت والي حلب مصطفى باشا لنجدته وأصبح عبد الله باشا مخذولًا؛ اضطر الأمير بشير أن يفر إلى مصر حيث أكرمه محمد علي باشا الشهير إكرامًا بليغًا، وسعى حبًّا به لدى الباب العالي لاستحصال العفو عن وزير عكة كل السعي حتى ناله على حسب مرغوبه، فأُعِيدَت الولاية إلى عبد الله باشا بعد أن كان محصورًا بعكة، وأما محمد علي فقد اغتنم من التجاء الأمير إليه أن اتخذه صنيعة لينفذ على يده في المستقبل مقاصد سياسية في الديار الشامية كانت تختلج بصدره؛ لأنه آنس من الأمير من شدة الحزم والعزم وصدق الولاء ما زين لعزيز مصر صلاحية التوكؤ عليه في كبار الأمور؛ ولذلك ما برح الأمير من الديار المصرية حتى كاشفه محمد علي في شيء من تلك الأغراض، ثم وجَّهه إلى الديار الشامية معززًا مكرمًا، وأصحبه بالسلاح دار من خاصته، فلما أقبل الأمير على عبد الله باشا وزير عكة استُقبِل بالتجلة والاحتفاء استقبال من عُرِف قدره وجميله في استحصال ذلك العفو من الباب العالي عن الوزير.

وفي مدة غياب الأمير بالديار المصرية كانت ولاية لبنان في يد الأمير عباس أسعد، وكان الشيخ بشير متفقًا معه على كيد الأمير بشير؛ فلذلك لما عاد الأمير بشير فائزًا بمرامه ودرى بذلك الشيخ اضطرب باله وسعى أولًا لاسترضاء الأمير عنه، ولما أيقن أنه يتعذر عليه العود إلى المنزلة التي كانت له عند الأمير فرَّ من وجهه وسعى في استمالة الأمير عباس أسعد إليه وغيره من الأمراء، فوافاه إلى راشيا مع أخيه الأمير حسن، ثم تبعهما أخوهما الأمير منصور، ثم الأمير حسن الإسلامبولي، واستشفع الشيخ بشير صالح باشا وزير دمشق يومئذٍ لدى عبد الله باشا في رجوعهم إلى مواطنهم آمنين، وفي سنة ١٨٢٣ ذهب الأمير عباس إلى عكة بنفسه واسترضى الوزير عنه، فرضي ولبث عنده حتى اتُّفِق أن وفد الأمير على الوزير مشيعًا سفيرًا قادمًا من الآستانة العلية يُقال له نجيب أفندي، فأصلح الباشا بينه وبين الأمير عباس. ولما عاد الأمير إلى بيت الدين أتى بالأمير عباس معه وخلع عليه خلعة دلالة على رضاه عنه، وأما الشيخ بشير فبعد أن سعى ليحالف بعضًا من الأمراء على الأمير بشير ورأى نفسه مخذولًا كتب إلى الأمير يستأذنه في المثول لديه ببيت الدين لاسترضائه عنه فأذن له فمضى، ولكن قلبه غير آمن من العواقب مع أن الأمير أمَّنه وخلع عليه خلعة الرضا ووعده بأن يعيده إلى ما كان عليه سابقًا من سمو المنزلة عنده، وإذ بقي الشيخ في ريبة خصوصًا بعد أن ورد من محمد علي على وزير دمشق أمر بطرده؛ عاد فسعى لاستمالة خصوم الأمير إليه، وشرع في إثارة ثورة كبيرة فأمكنه ذلك، وضمَّ تحت لواء تلك الثورة الأمراء الأرسلانيين وكثيرين من رؤساء الأحزاب، ثم زين للأمراء سيد أحمد وأخيه الأمير فارس والأمير حسن أسعد، ثم الأمير عباس أسعد أن يكونوا يدًا واحدة على الأمير بشير؛ فاتحدوا على ذلك، وانضم إليهم الأمير فاعور علي وأخوه الأمير أمين والأمير حسن الإسلامبولي وبعض الأمراء اللمعيين، وكتب الشيخ علي جنبلاط والشيخ علي العماد إلى الشيخ بشير يخبرانه بذلك ويستقدمانه إلى البلاد؛ إذ كان قد انتزحها، فاجتمع هؤلاء القوم في المختارة، ثم ما لبثت أن دارت رحى الحرب وجرت مواقع شتى بين الأمير وأعدائه، وكان الأمير معضدًا من الوزراء ومن عزيز مصر بنفسه الذي عندما بلغه أمر تلك الحرب قال للأمير أمين ابن الأمير بشير يوم كان عنده موفدًا من أبيه حتى يبلغه أن قد جهز له عشرة آلاف مقاتل من اللبنانيين بحسب رغبته ليحاربوا مع العساكر المصرية بكريد: «إنني إنْ مسَّتِ الحاجة أعدِل عن محاربة كريد وأملأ لبنان من عساكري.» وجهَّز العزيز ستة آلاف مقاتل لمساعدة الأمير، وما وقفَتْ عن المسير إلى الديار الشامية إلا لأن الأمير أصبح في غنى عنها؛ فإن الدوائر دارت على أعدائه، ولكن بعد أن ضايقوه مضايقة شديدة، ففرَّ الأمراء الشهابيون والأرسلانيون والمشايخ إلى جزين يقصدون الديار الحورانية، ولما بلغوا مجدل شمس اختلفوا رأيًا، فبعضهم تقدم إلى حوران وبعضهم لم يشأ أن يتقدم، ولكن لم يُجْدِهم فرارهم نفعًا فقد وقعوا في يد من كانوا يتعقبونهم، أما الشيخ علي العماد فكان نصيبه أن قطع بأمر وزير دمشق بالسيوف تقطيعًا.

وأما الشيخ بشير والشيخ أمين العماد فقُتِلا خنقًا بعكة بأمر وزيرها؛ بناءً على طلب من الأمير معزز بإرادة عزيز مصر، وبقيت جثتاهما ثلاثة أيام معروضتَيْن للناظرين، وأما الأمراء الشهابيون سلمان وأخوه فارس والأمير عباس أسعد فسمل الأمير أعينهم وقطع ألسنتهم، وأما الشيخ نجم بن علي بن بشير بن نجم، فسعى الأمير لتخلية سبيله من سجن عكة وصادره بخمسة وعشرين ألف قرش، ثم جعل ولده الأمير خليلًا على إقليم جزين وإقليم التفاح وجبل الريحان، وولده الآخر قاسمًا على العرقوب، وجعل الأمير بشير ملحم على الشويفات، وعهد بأمور الأمراء اللمعيين إلى الأمير ملحم والغرب الأسفل عدا الشويفات جعله في يد التلاحقة، والشوف في يد الشيخ حمود والشيخ نصيف النكديين، وإقليم الخروب في يد الشيخ حسين حماده من بعقلين، وخلا له الجو واستقام الأمر، ثم عاد الأمير أمين من مصر بعد أن مكث بها أكثر من سنة. وفي سنة ١٨٢٦ جمع الأمير عسكرًا كبيرًا من لبنان لنجدة بيروت ضد السفن اليونانية التي سَطَتْ على المدينة، ولكن ما لبثت تلك السفن أن أقلعت عنها على أثر احتشاد العساكر فيها فلم تَقُم سوق الحرب، ثم انقضت مدة لم يحدث فيها شيء من الحوادث الحرية بالذكر إلا رجوع بعض الأمراء الفارين من البلاد خوفًا من الأمير، وتجاوز الأمير عن الانتقام منهم، ولما كانت سنة ١٨٣٠ سار الأمير وابنه الأمير خليل وبعض من أرباب المناصب في ألفَيْ مقاتل من اللبنانيين لفتح قلعة سانور بنابلس إنفاذًا لإرادة وزير عكة، فظهرت بمحاصرة تلك القلعة بسالة الأمير ورجاله ولا سيما الشيخ نصيف النكدي، وعلى يدهم أُخِذَتْ تلك القلعة، فعاد الأمير بجماعته إلى بيت الدين فائزًا منصورًا. وفي السنة التالية سنة ١٨٣١ استعاد الأمير باقي الذين انتزحوا لبنان إلى مواطنهم فعادوا آمنين، ومالت نفس الأمير إلى السكينة، ولكن كُتِب لهذا الرجل الكبير أن يظل دائمًا في ساحة القتال فإنه في خلال تلك السنة قدم إبراهيم باشا ابن محمد علي باشا من مصر إلى الديار الشامية لإنفاذ مقاصد أبيه التي كاشف فيها أبوه الأمير بشيرًا أيام كان هذا الأمير بمصر، كما تقدم ذكر ذلك فيما مضى، فتعمَّد إبراهيم باشا أن يحاصر بجيوشه عكة، فطلب عبد الله باشا من الأمير أن ينجده برجاله وكذلك إبراهيم باشا؛ فإنه سأل الأمير النجدة، فرأى الأمير أن ينصاع في آخر الأمر لإرادة ابن عزيز مصر، فوافاه بمائة فارس إلى صحراء عكة، فأكرمه إبراهيم باشا، ووسع في نطاق سلطته بناء على إرادة أبيه محمد علي، وكان الأمير مساعدًا لإبراهيم باشا في غالب حروبه في الديار السورية، ولكن اللبنانيين كانوا حينئذٍ حزبين، منهم من تحيَّز للدولة العلية وقد انضم إليهم بعض الأمراء، ومنهم من تحيَّز لإبراهيم باشا تبعًا للأمير، وكان الأمير خليل ابن الأمير بشير ينجد العساكر المصرية في غالب المواقع، وقد سأل إبراهيم باشا من الأمير أن يجمع له من الدروز ألف وستمائة جندي من شبان الدروز ليكونوا في سلك العساكر المصرية المنظمة، فتعذر ذلك في أول الأمر ثم استحصل بالعنف.

وقد امتدَّ إبراهيم باشا في حروبه إلى حوران مع الدروز فيها، وقد انضمَّتْ إليهم العربان، وكانت تنجدهم دروز وادي التيم ولبنان على علم من الأمير ولم يتصدَّ لمنعهم، وكان مقدام هؤلاء رجل مشهور يُقال له شبلي العريان، أظهر بسالة في المواقع عظيمة ولم يظفر إبراهيم باشا به إلا بعد أن ألحق العريان بعساكره خسارة كبيرة. وبالجملة، فإن المدة التي قضاها إبراهيم باشا في الديار الشامية قضاها في المحاربة، وكان الأمير مساعدًا له حتى بلغ إبراهيم باشا أيقونية وعقد الصلح هناك، وبعد أن عاد منها حتى سنة ١٨٤٠ حين اتفقت بعض الدول الأوروبية مع الدولة العلية على استخلاص الديار الشامية من يد محمد علي، وكان الأمير قد نال في خلال تلك المدة من محمد علي بواسطة الرجل الفرنساوي الشهير كلوظ بك الذي استقدمه محمد علي إلى مصر وجعله رئيسًا للقصر العيني بها أن يكون بعض من الطلبة اللبنانيين في جملة طلبة الطب في القصر العيني، فأرسل لذلك ثلاثة من الطائفة الماونية ومملوكه سليمًا إلى تلك المدرسة، واستمرت عادة إرسال الطلبة اللبنانيين زمنًا طويلًا، ولم تنقطع إلا في أيام المغفور له توفيق باشا من خلفاء محمد علي.

ثم لما كانت تلك السنة المتقدم ذكرها سنة ١٨٤٠، وكان سلطان العثمانيين يومئذٍ ساكن الجنان السلطان عبد المجيد خان الغازي اتفق معه ملك النمسا ملك المسكوب وملكة الإنكليز وملك ألمانيا على استخلاص سورية من يد محمد علي، فأُشِيع في لبنان بعدئذٍ أن محمد علي عامد على إدخال المسيحيين في سلك العسكر النظامي المصري، فمالوا إلى العصيان على إبراهيم باشا واتَّحدوا مع الدروز عليه وأخذوا يسطون على عساكره كلما سنحت لهم السانحة، وتولى قيادة تلك الثورة على العساكر المصرية بعض من اللبنانيين مثل الشيخ فرنسيس أبي نادر الخازن الغسطاوي وأبي سمرا غانم البكاسيني وأحمد داغر المتوالي، ولكن الأمير سعى إلى تسكين الثورة على يد بعض الأمراء الذين استسفرهم لإقناع الثائرين بالعدول عن مسلكهم، فسلك الأمراء في الظاهر على حسب رغبة الأمير، ولكن في الباطن كانوا ينفخون في نيران الثورة، ثم انضموا إلى الثائرين.

وجعلت الإفرنج القادمة لاستخلاص البلاد من يد محمد علي تشدد عزائمهم وتُمِدُّهم ببعض من الذخيرة، فاستفحل أمرهم وكبر عددهم وجرت بينهم وبين العساكر المصرية والأمير وأعوانه عدة مواقع، ولكن أفضى أمرهم إلى الفشل والانخذال، فتبدَّد شملهم وتفرقوا في البلاد، ومنهم من لاذ بأمان الأمير فأمنه وجمع السلاح من البلاد، وكان الأمير خليل هو القائم بنفسه بجمعه من كسروان، وشدَّد عليهم في ذلك كثيرًا، وقد قُيِّد عدد من خاصة اللبنانيين وعامتهم وسِيقوا أسرى إلى مصر؛ فنفاهم محمد علي إلى سنار، وكان في خلال تلك الحوادث قد قدم من الآستانة ريجارد وود الإنكليزي مفوضًا إليه تدبير تلك الأمور؛ لأنه كان عارفًا لأحوال البلاد واللغة العربية، فأشار على الثائرين الذين كانوا مجتمعين في ضواحي بيروت أن يرفعوا عرائض إلى الدولة العثمانية وإلى سفراء الدولة النمساوية والفرنساوية والإنكليزية ملتمسين إنقاذهم من يد الحكومة المصرية، ففعلوا ودفعوها إليه فبعث بها إلى الآستانة، ثم قدم الأميرال تيجر الإنكليزي بخمس سفن إلى بيروت، وأرسل يبشر اللبنانيين بقدوم الأسطول العثماني مُعزَّزًا بأساطيل نمساوية وإنكليزية وروسية وألمانية لنزع السلطة المصرية عن الديار السورية، فلما أحس بذلك الأمير أرسل ينهى أهل البلاد عن مخالطة الإفرنج، ويتهدَّد من خالف منهم بالقتل، فوقع منشور نهيه هذا في يد رجل إنكليزي، فدفعه الرجل إلى رئيس الأسطول الإنكليزي والرئيس بعث به إلى الحكومة الإنكليزية، ثم ظهرت الأساطيل الموعود بها قبالة الدامور، وكانت تبلغ أربعين سفينة بين كبيرة وصغيرة، وكان فيها من الجنود العثمانية خمسة آلاف وخمسمائة جندي، ومن الجنود الإفرنجية نحو ألفين، فتشددت عند ذلك عزائم الثائرين، ثم أطلق بعض السفن المدافع على بيروت، وخرج سرعسكر الجنود العثمانية سليم باشا بالجنود مع الأمراء الإفرنج إلى ضواحي جونية، وخيَّموا عند شبر الباطية هناك، ثم شرع في توزيع السلاح على الثائرين، وحرضوا على قتال العساكر المصرية، ثم أرسل السرعسكر إلى الأمير بشير بلاغًا يقول له فيه: «إذا أبديت الطاعة للدولة العلية في مدى ثمانية أيام أبقتك الدولة واليًا كما كنت، وكانت الولاية لك ولذريتك من بعدك، وإلا فلا يُقبَل منك طاعة بعد انقضاء ذلك الأجل.» فأجاب الأمير أنه يتعذر عليه ذلك ما دام أولاده وحفدته مقيدين في سلك العساكر المصرية.

وربما كان الأمير مغرورًا بأن الفرنساويين ربما يجيئون لنصرة عزيز مصر، فحدثت بعد ذلك مواقع شتى، وقد انتصر إبراهيم باشا في وقعة في كسروان والفتوح انتصارًا خافَتْ منه الجنود العثمانية، حتى إنها كادت تلتمس الفرار إلى البحر، ولما انقضى الأجل المضروب للأمير بشير أن يبدي الطاعة فيه استقدم السرعسكر العثماني الأمير بشير ملحم، واستمرت نيران الحرب مستعرة بين إبراهيم باشا وأعوانه من اللبنانيين وبين عساكر الدولة وأعوانها من هؤلاء أيضًا، وكانت الدوائر دائرة على الفريق الأول منهما.

وأما الأمير بشير الكبير، فلما رأى ذلك الفشل والانهزام بعث إلى حفدته المحافظين في قرى المتن وكسروان أن يحضروا إلى بيت الدين مسرعين؛ وذلك لأنه وطَّن نفسه على التسليم إلى الدولة العلية بصيدا، فشخص الأمير إليها بأولاده الثلاثة وزوجه وحفيده الأمير سعد، وكان المتسلم في تلك المدينة يومئذٍ خالد باشا فأكرمه الباشا، وبعد أيام أقلعت به السفينة إلى مالطة التي اختار المقام بها عندما خيَّره السرعسكر العثماني بين سائر البلدان ما عدا فرنسا وسورية ومصر.

ولده الأمير قاسم وحفدته الخمسة أولاد الأمير خليل وحفيده الأمير رشيد قاسم، ومدبره بطرس كرامة وسبعون رجلًا من خدمه، وخزينته — وقدرها ثمانية عشر ألف كيس من النقود الذهبية القديمة — وأشياؤه الثمينة، ثم تبعه إلى مالطة حفيده الأمير مجيد قاسم الذي بعد أن فرَّ من بين العساكر المصرية ووقع في يد العساكر العثمانية سيَّره الوزير العثماني من بيروت إليها بعد أن طيَّب نفسه، وبعد أن أقام الأمير بشير الكبير أحد عشر شهرًا بمالطة انتقل إلى الآستانة العلية وزار الكبراء والعظماء، وكان مكرمًا منهم، وأُعِدَّتْ لسكنه دار بارناوط كوي. وفي أواخر سنة ١٨٥٠ تُوفِّي الأمير في قاضي كوي، وأما آثار الأمير بشير عمر في لبنان فكثيرة تدل على كلفه بارتقاء أسباب الحضارة والعمران، فمنها قنطرة لنهر الكلب شرع في بنائها سنة ١٨٠٣ فاجترفتها المياه قبل الإنجاز، ثم عاد فبناها سنة ١٨٠٩، وقنطرة لنهر الصفا عند عين زحلتا، وجر المياه من نبع القاع عند عين زحلتا إلى بيت الدين بقناة استغرقت من النفقة مائتي ألف قرش، وأصلح درج نهر الكلب ورصيف المعاملتين وطريق دير القمر، وبنى قناطر لنهر الدامور أنفق في بنائها مائة ألف قرش وأنجزه في شهرين؛ إذ شغل به مائتين وخمسين بانيًا، وله عدة مبانٍ في بيت الدين، ولو صَفَتْ له الأيام من كدر الحروب والقتال لأتى أعمالًا كبيرة، ومن قفا أثر سيره في الولاية من أوله إلى آخره وجد أنه كان بعد إقرار مهابته في النفوس ساعيًا لجمع الكلمة وتأليف القلوب، موقنًا أن ذلك إنما هو السبيل الوحيد إلى الارتقاء في مدارج العمران.

وأما خلفه الأمير بشير ملحم فمنذ أن تولى الأمر عام ١٨٤١ عام دارت الدوائر على العساكر المصرية، وخرجت السلطة من يد الحكومة المصرية في الديار الشامية وعادت إلى غمدها العثماني حتى انقضت ولايته، وصار الأمر في الجبل إلى عمر باشا النمساوي العثماني، وذلك سنة ١٨٤٢، سلك في الولاية سبيلًا أفضى إلى شقاق بين طوائف لبنان، ثم إلى فِتَن استحكمت بها الأحقاد والعداوات بين الدروز والنصارى بما لا نستطيع أن نبيح لقلمنا الخوض في مجاله، ولا لنفسنا أن تتحدث بنفسها في استيعاب تفصيله لنثبته في تاريخ محفوظ يُتداول بين أيدي أبناء لبنان، وإنما نشير إلى ذلك من طرف خفي حتى لا يجيء تاريخنا فاقدًا لحلقة من الحلقات الكبرى من سلسلة الحوادث، فنقول لذلك: إن الفتنة الأولى التي حدثت بين الدروز والنصارى إنما هي التي حدثت أيام حكم هذا الأمير، كان الشر فيها من شرارة مأنها الأمير بالوقود بدلًا من أن يعالج إطفاءها، كانت علة هذه الفتنة حجلًا اصطاده أحد أبناء دير القمر المسيحيين في ضواحي بعقلين، فاعترضه واحد من أبناء بعقلين من الدروز، فتشاجرا ثم اتسع الخرق بالاستصراخ، كلٌّ استصرخ ذويه، ووقع القتل واستفحل حتى شمل القسم الجنوبي من الجبل وتناول جانبًا من الشمال. كل ذلك وقع في أيام الأمير بشير ملحم الذي نقمت عليه أرباب المناصب الولاية ونهجه فيها؛ لأنه كان يزدري بهم ويهتضم حقوقهم، وكثيرًا ما صادرهم بأموالهم ثم أعطاها لذوي قرباه، وبعد أن وقع ما وقع من تلك الفتنة مما أفضى إلى أن الدولة العلية بعثت بالسرعسكر مصطفى باشا النوري لتدبير الأمور اللبنانية استحضر هذا الوزير الأمير بشير ملحم إليه وبعث به إلى الآستانة العلية، ثم أقام على الجبل واليًا يُقال له عمر باشا النمساوي وسيَّره بعسكر إلى بيت الدين، وكان هذا في سنة ١٨٤٢، فاتخذ هذا الباشا بيت الدين مقرًّا لولايته، واتخذ له مدبِّرَين: الشيخ خطار العماد، والشيخ منصور الدحداح. وولى الشيخ فرنسيس أبي نادر الخازن على كسروان، والشيخ ظاهر منصور الدحداح على الفتوح، وعلى بلاد جبيل والبترون والكورة الفوقية ثلاثة من المشايخ الحمادية، ثم ألقى القبض على الأمير أحمد الأرسلاني والشيخ نعمان جنبلاط والشيخ نصيف أبي نكد والشيخ حسين تلحوق والشيخ يوسف عبد الملك، ثم على الشيخ خطار العماد وبعث بهم إلى مصطفى باشا في بيروت فجعلهم مصطفى باشا في محجر.

وأما الشيخ حمود النكدي — وقد فرَّ من كفر متى إلى بيروت واستجار بآغا الأناووط فكفله هذا الآغا — فاستاءت الدروز من عمر باشا، ومال بعضهم إلى الذين كانوا ساعين لاسترجاع الولاية للأمراء الشهابيين، وجعلت تتعاظم نفرة الدروز من عمر باشا، واتفقوا مع الأمير أسعد قعدان على أن يكونوا معه يدًا واحدة لقتال عمر باشا على أن تكون الولاية للأمير، ثم تداولوا مع النصارى في ذلك، وكان قد حصلت موقعة بين النصارى أهل جبة بشري وبين العسكر العثماني؛ مما مهَّد في نفوس الدروز سبيل الخروج على عمر باشا، فأفضت المداولة إلى أن النصارى سألوا الدروز ميثاقًا مكتوبًا في رجوع الولاية إلى الأمراء الشهابيين، فكتبوا لهم الميثاق على أن يكون أحد الأمراء اللمعيين معينًا مع الوالي وأن يكون عند الوالي أربعة مدبرين شيخان من الدروز وشيخان من النصارى. ولم تلبث أن شبَّت نيران الحرب بين عمر باشا وبينهم، وكان عمر باشا قد جعل على عسكره اثنين من النصارى مشهورين بالبسالة؛ وهما: أبو سمرا البكاسيني، والشنتيري من بكفيا. فجَرَتْ عدة مواقع كان غالب النصر فيها للباشا، وفي خلال ذلك كان عزت باشا قد عُزِل من الولاية وجاء إلى بيروت بدلًا منه أسعد باشا، فأرسل أسعد باشا إلى بطريرك الموارنة يستشيره في أمر الولاية بلبنان ويسأله من يصلح لها من الأمراء اللمعيين، فأشار عليه بأن يكون الأمير حيدر إسماعيل اللمعي، فولَّاه الوزير قائمقامًا على النصارى من نهر إبراهيم إلى نهاية المقاطعات الجنوبية، وولى على بلاد جبيل وتوابعها قائمقامًا مسلمًا، وعلى الدروز الأمير أحمد عباس الأرسلاني، وأما دير القمر فجعل عليها متسلمًا، كما ذكر ذلك في ولاية الأمراء اللمعيين.

هوامش

(١) البابير هو الورق البردي الذي كان يستعمله المصريون، ومنه أُخِذَ اسمه بالإفرنجية.
(٢) إن شعار المسكوكات والأوزان يكون في الغالب مما له مزية عند القوم خصوصية؛ كأن يكون معتبرًا عندهم أو عزيزًا لديهم بما يترتب لهم عليه من الفوائد، فمن جملة ما وُجِد على بعض المسكوكات والأوزان الفينيقية من الرسوم التي اتُّخِذَتْ شعارًا في بعض المدن الفينيقية في عهد السلوقيين، أي عهد اليونان الذي يبتدئ سنة ٣١٣ق.م، كمدينة بيروت وأرواد واللاذقية رسم شوكة مثلثة الأسنة؛ وهو شعار لمدينة بيروت كثيرًا ما يُوجَد على نقودها منفردًا أو مصحوبًا برسم دلفين ملتفٍّ على نصاب الشوكة، وكذلك رسم مرنحة (صدر سفينة) على نقود أرواد، ورأس خنزير بري على بعض نقود اللاذقية. ومعلوم أن الملاحة كان لها المقام الأول عند الفينيقيين، وربما كان رأس الخنزير البري رمزًا لما جاء في حكاية أدوني أو تموز التي سلف ذكرها في ما تقدَّم من الفصول.
وقد وجد الدكتور جول روفيه — أحد أساتذة المكتب الطبي للآباء اليسوعيين ببيروت — وزنًا عليه رسم تلك الشوكة، وكتب مقالة في هذا الشأن مدرجة في (مجلة المشرق عدد ١، ص١٧ و١٨ و١٩ و٢٠).
(٣) ورد في ما بقي محفوظًا من تاريخ سنكن يتن الفينيقي أن اكتشاف فن الملاحة كان اتفاقًا؛ وذلك أن قومًا من الفينيقيين كانوا قاطنين في سواحل سورية بين آجام كبيرة، فحدث أن صاعقة انقضَّتْ على رءوس بعض الأشجار فاتقدت الأشجار بنارها، واندلع لسان اللهيب إلى ما بقي من الأشجار، فلما لم يَرَ أهلُ تلك الناحية نجاةً من النار قطعوا ما وصلت إليه أيديهم من أخشاب تلك الأشجار من فضالة النار، ثم ألقوها في البحر، وساروا عليها في مجاهلهم، وكان قائدهم أوزوروس، ثم سعى الملاحون بعد ذلك لتحسين شأن تلك المراكب الأولى، وكان القائم بذلك العمل كريزور الذي اشتهر بعدئذٍ باسم الإله فلكان. وقيل إن أول من اكتشف فن الملاحة إنما هم المصريون؛ اتخذوا لهم زوارق من نبات البردي لينجوا من النيل في إبان فيضانه السنوي، وقد رُسِمَتْ صورة قارب من القصب البردي رسمًا ناتئًا على بعض آثار قدماء المصريين المحفوظة في متحف اللوفر في باريس (مجلة المشرق عدد ٥ ص٢١٧).
(٤) وقد كان من مصلحة الفراعنة أن لا يسيئوا إلى الفينيقيين لافتقارهم إلى أساطيلهم عند الحاجة.
(٥) قال لانورمان إنها أعظم ما بقي من آثار مباني الفينيقيين.
(٦) ليست عريقة في القدم. وقد روى يوسيفوس عن بعض القدماء أن إيتو بعل ملك صور بناها.
(٧) قال برو «مجلد ٣ صفحة ٧٦»: «من بحث في ديانة الفينيقيين وجد أنهم أخذوا معبوداتهم وأسماءها عن الكلدان؛ لأنهم أتوا من جوارهم وكسوها بملابس مصرية؛ لأنهم كانوا في أول أمرهم خاضعين لمصر.»
(٨) ملكرت أصله مالك قريت، ملك المدينة أي ربها، فجُعِل ملكرت أو ملقرت.
(٩) كثيرًا ما يبحث العلماء عن أصل الرعاة، ولم تجتمع آراؤهم بعد ذلك البحث الطويل على أمر واحد، فمن المؤرخين القدماء من قال إنهم من العرب، ومن المؤرخين العرب — مثل ابن الأثير — من قال إنهم عمالقة من نسل عمليق أو عماليق، وأما أهل البحث في الآثار المصرية والشرقية من علماء عصرنا فلهم في أصل أولئك الرعاة أقوال متضاربة، فقال بسيوس: إنهم حاميون من بني كوش أتوا من بلاد العرب المجاورة البحر الأحمر المسماة فوط أو بونط، ووافقه عليه مسبيرو، وقال بروغش: لا بل هم ساميون من سورية صحبهم أقوام من أقاليم عديدة. ورأى دي روجيه وابر أنهم ممن تسميهم الآثار المصرية ساتي وعمو، والمراد بهذا رعاة آسياويون، وقال ليالين: إنهم من فلسطين ومريات وسائس، ولنورمان إنهم حثيون وأموريون وعيلاميون إلى غير ذلك من الأقوال التي استوعبها العلامة المطران يوسف الدبس في كتابه (تاريخ سورية مجلد ١ عدد ٩٠) والذي ذهب إليه الأب دي كارا أنهم حثيون، وقد كتب في إثبات رأيه هذا مقالات ضافية تدل على أن مذهبه هو أظهر المذاهب.
(١٠) يتبيَّن من مقالة الأب غدفريد زموفن في الظران أو الطور الحجري في فينيقية (مجلة المشرق عدد ٣ لسنتها الأولى) أن لبنان كان فيه كثير من الخنازير البرية، والبقر الوحشية، والسنور، والدب، والنمس، والثعلب، وابن آوى، والأرنب، وصنفان من العنز، والظبي، والوعل، والإبل، والفرس، ومن الطيور: الإوز، والحمامة، والحجل، والشاهين.
(١١) إن إيتو بعل هذا هو الذي بنى مدينة بتريس (البترون) في فينيقية.
(١٢) ذكر يوستينوس المؤرخ اللاتيني أن اليسار سارت أولًا بجاليتها إلى قبرس، ثم إلى سواحل إفريقية حيث كانت جالية صيدونية عمرت مدينة كمبه منذ نحو من ستة قرون في محل تونس الآن أو على مقربة منه، وكانت الجالية الفينيقية القديمة انحطَّ قدرها، وكانت تؤدي الجزية حينئذٍ إلى ملك من الليبيين يُسمَّى جابون، فاشترت اليسار منه أرضًا لجاليتها، وعمرت فيها مدينة سمَّتْها «قرية حديثا» أي المدينة الجديدة. فكسر اليونان هذا الاسم، وجعلوه «كرشيدون» وجعله الرومانيون «كرتاكو» وفي الإفرنسية «كرتاج»، وسماه العرب قرطاجنة. فهذه المدينة بُنِيَتْ سنة ٨٢٢ق.م وعلى قول آخرين سنة ٨٦٠ق.م للسنة السابعة من ملك بيكمالبون (تاريخ سورية للعلامة المطران يوسف الدبس ف٤ عدد ١٩٩).
(١٣) ذهب لنورمان إلى أن خذلان أهل المدن الفينيقية لصور وخيانتهم لها وتحيزهم للآشوريين؛ كل ذلك لم يكن السبب فيه مقصورًا على الخوف من الآشوريين، بل كان ذلك ناشئًا عن حسدهم لعاصمتهم صور التي كانت تعامل غير الصوريين معاملة الخدم لها لنورمان «مجلد ٦ ص٥٢٥».
(١٤) معناها: مدينة أو قلعة أسر حدون.
(١٥) كان ملك صيدا رئيس الأسطول.
(١٦) وُجِدَ في جبيل وأرواد أطلال مبانٍ على نمط البناء المصري.
(١٧) نصب الإسكندر واليًا عليها يُقال له مانسي، وأقام لجباية الأموال الفينيقية رجلًا يُقال له كويراتيس، وكان المكدونيون يحسنون معاملة السوريين أكثر مما كان الفرس يحسنونها.
(١٨) يوجد في متحف المسكوكات في باريس وزن من أوزان بيروت، يُمثِّل شوكة مثلثة الأسنة علم منه العلامة إليه دي هوتروش أن أول تاريخ بيروت كان في سنة ١٩٧ق.م، أما تاريخ الوزن الذي وجده الدكتور جول روفيه أحد أساتذة المكتب الطبي للآباء اليسوعيين في بيروت وهو سنة ١٨٤ فإنما يُراد به تاريخ السلوقيين، وكان أكثر انتشارًا مما سواه في مدن فينيقية، فالسنة المذكورة توافق لسنة ١٢٨ق.م وكان وقتئذٍ يملك على سورية ديمتريوس الثاني نيقانور وأنتيوخس السابع أورغانيس، وبين عهد هذا التاريخ وتاريخ الوزن البيروتي المحفوظ في باريس المرقوم سنة ١٦١ ثلاث وعشرون سنة فقط، وينتج من الوزن الذي وجده الدكتور جول روفيه فائدة تاريخية عظيمة؛ وهي أن مدينة بيروت كانت عادت إلى عمرانها أو إلى قسم من حسن حالها القديم بعدما أخربها تريفون سنة ١٤٠ق.م، وذلك خلافًا لما يزعمه البعض أن هذه المدينة درست آثارها وبقيت خرابًا إلى عهد أوغسطس قيصر، وكانوا يسندون زعمهم إلى قول إسترابون في كتاب جغرافيته الجزء السادس عشر عدد ٢ و٩ ا.ﻫ مأخوذًا من مجلة المشرق (عدد ١ ص١٨ و١٩).
(١٩) جاء الرومان سورية سنة ٦٥ق.م وكان قائدهم بمبيوس.
(٢٠) إن بيروت بعد أن أخربها تريفون سنة ١٤٠ق.م لبقائها في طاعة الملك أنطيوخس السادس عادت إلى ما كانت عليه من سمو المنزلة، فلما دخلها بمبيوس القائد الروماني أحيا آثارها، وأعاد لها رونقها فشرعت ترتقي في سلم النجاح والفلاح حتى كان لها في عهد أوغسطس قيصر ما للرومانيين أنفسهم من الحقوق، فامتازت عن غيرها من المدن، وكانت في الدرجة الأولى، وأُلْقِيَتْ مقاليد الأمر فيها إلى القائد مرقس فسبسيانس أغريبا بعد أن عُقِدَ له على جوليا ابنة أوغسطس قيصر؛ فدُعِيَتْ بيروت باسمها جوليا فيليكس (أي السعيدة)، وبالغ أغريبا في ترقية شئون المدينة، وساعده في عمله هذا هيرودس الكبير، فشيَّدت في المدينة الأبنية والهياكل والمشاهد والحمامات ومخازن النجارة؛ فتزاحمت الأقدام إليها أقدام الرومانيين والغرباء، وكثر الاستيطان بها فازدادت بازدياد العمران بهاءً وجمالًا وجُعِل بها فرقتان من الجنود الرومانيين المتقاعدين، وبها حكم هيرودس الكبير بالموت على ابنيه إسكندر وأرسطابولس ظلمًا، كما قتل أمهما مريمنة من سلالة المكابيين. ولبثت بيروت كذلك حتى تولى أمرها بعد المسيح هيرودس أغريبا الأول، ثم هيرودس أغريبا الثاني. فزادا في محاسنها زيادة يقصر عنها الوصف، وفيها بُويِع بالملك لفسبسيانوس بعد موت نيرون، وفيها احتفل ابنه تينوس قيصر بانتصاره على اليهود.
هذا، وقد بلغت بيروت من العلوم والمعارف درجة سامية فاقت بها أخواتها من المدن الفينيقية، ففي عهد أوغسطس قيصر انصرف البيروتيون إلى درس الفقه، وبرعوا فيه وأصبحت مدرسة هذه المدينة في الفقه يتسابق إليها الناس من كل صوب، فدُعِيَتْ لذلك بيروت «مجلى العدل ومقر المشترعين»، وقد كُلِّل عدة من علماء بيروت الأقدمين بتيجان الشهرة؛ مثل: أولبيان الفقيه في القرن الثالث، وفالريوس بربوس اللغوي في القرن الرابع.
(٢١) مذهبهم دخل حديثًا في لبنان منذ سنة ١٨٢٦ على يد بعض المرسلين من الأجانب.
(٢٢) هذا ما ذكره العلامة الدويهي، وقد جاء في الدر المنظوم للمغفور له العلامة البطريرك بولس مسعد ما يفيد ميله إلى اعتقاد أن الموارنة سُمُّوا كذلك نسبة إلى القديس مارون الأنبا لا نسبة إلى بطريركهم القديس يوحنا مارون، وقد أورد على ذلك شواهد يُؤخَذ منها ميله إلى هذا الرأي أكثر من غيره، ونحن موردون هنا ما قاله في هذا الشأن وأخذه عن السمعاني وغيره: وهكذا بعد أن ترك اللبنانيون لقب مردة تسمَّوا موارنة أيضًا، أعني من مارون الذي كان تشيد ديره الشهير حذاء حماة من حيث اتخذ يوحنا بطريركهم لقب مارون أيضًا، ويُلقَّب القديس يوحنا مارون بالسرومي أيضًا لمنشأة من قرية سروم التي موقعها في جبل السويدية بين مدينة أنطاكية ودير ماري مارون. وقال الأب بريسيوس الكبوشي الرودننسي في مختصر التواريخ لباروينوس في الحاشية لسنة ٤٠٧. ومن اسم هذا القديس مارون قد تسمَّى موارنة جمهور وافر عديدهم لا أولاده الرهبان فقط، والمجمع اللبناني نفسه لم يقل في وجه ٣٢٠ قسم ٣ رأس ٤ عدد ٦ إن المردة تسموا موارنة نسبةً إلى القديس يوحنا مارون أول بطاركتهم الذي كان راهبًا في دير مار مارون المشهور عند نهر العاصي، بل قال إنه منه تغلب على المتمردين اسم موارنة سنة ٦٨٥. وصورة ذلك هي أنه قد كان هؤلاء اللبنانيون والمتحدون معهم يُدعَون تارة موارنة وتارة مردة للأسباب المقدم ذكرها، فلما أقاموا سنة ٦٨٥ بطريركًا عليهم القديس يوحنا مارون الذي كان راهبًا في دير ماري مارون الأنبا، وفصلوا ذواتهم عن باقي الطوائف المسيحية الشرقية غلب عليهم فيما بينهم اسم موارنة الذي كانوا يُسمَّون به قبلًا من باب الازدراء نسبة إلى القديس مارون الأنبا ورهبانه. وأما مؤرخو السريان والروم والعرب فبقوا إلى زمان يسمونهم مردة، والأب ميخائيل لكويان بعد أن شرح بإسهاب عن الموارنة في المجلد الثالث من مؤلفه المُعَنْوَن الشرقي المسيحي قال: إن الموارنة قد اتخذوا هذا الاسم في الجيلين الرابع والخامس من مارون الكلي القداسة. ويثبت حقيقة ذلك أيضًا علماء كثيرون شرقيون وغربيون، ويشهد بصحته الأحبار الرومانيون فإنهم يدعون في براءتهم القديس مارون الأنبا أبا الطائفة المارونية، وينسبون اسمها إليه لا إلى غيره ا.ﻫ. (الدر المنظوم ص١٢٣ و١٢٤).
(٢٣) قال صاحب أخبار الأعيان في جبل لبنان قسم ٢ ف١ إن العرب يسمونه عبدون، ولم يذكر عمن أخذ معرب هذا الاسم.
(٢٤) لا يخلو ما في هذا النسب من الإبهام؛ لأن كرلومانيو تُوفِّي سنة ٨١٤. وقد أشارت إلى ذلك الإبهام مجلة المشرق في شرح للمعلم رشيد الخوري الشرتوني على مقالة عنوانها سلسلة بطاركة الطائفة المارونية (عدد ٦، ص٢٤٧ و٢٤٨). ففي مراجعتها غنى عن ذكرها، وأيضًا فإن العلامة الدويهي نفسه لم يغرب عنه أن في ذلك إبهامًا، فأشار إليه في موضع آخر من كتابه تاريخ الطائفة المارونية، وعلل فيه بعض التعليل فليُطلَب من موضعه في (ف ٨ ص٦٧).
(٢٥) قال صاحب أخبار الأعيان في جبل لبنان قسم ٢ ف١، وكان ليوحنا أخت تزوَّج بها أحد أمراء المردة، فوُلِد له منها ولدان: الأمير إبراهيم، والأمير كوروس.
(٢٦) تاريخ الموارنة للعلامة الدويهي (ف ٨ من ص٥٣ إلى ٦٣).
(٢٧) وجاء للسمعاني في كتابه مكتبة الناموس القانوني والمدني — وذلك في المجلد ٤ رأس ٢٠ ص٤٠٤ منه، وفي المجلد ١ ص٥٠٣ من مكتبته الشرقية — ما يعاكس قول العلامة الدويهي فيما يتعلق بسفر القديس يوحنا مارون إلى رومية مع قاصد البابا سرجيس، وقد أُشِير إلى هذا الخلاف في مجلة المشرق عدد ٦ ص٣٥٠.
(٢٨) هو عبارة عن قطعة من الكتان الأبيض النقي تُوضَع في العنق، وبأسفل هذه القطعة صفيحة من رصاص وصلب، أما الأبيض فرمز إلى الطهارة، والرصاص إلى ثقل الوزنة، والدرع لا يُقلِّده قداسةُ البابا في الشرق إلا للبطاركة وأما في الغرب فللبطاركة وجميع الأساقفة.
(٢٩) يوافق ذلك عهد ولاية الأمير يوسف الذي خلف الأمير إلياس الذي نجد هرقل الملك في حربه مع الفرس في سورية سنة ٦٢٨ أو عهد ولاية الأمير يوحنا.
(٣٠) هو ثاني ملوك الفرنج في القدس، تولى الأمر بعد أخيه غدفريد، وتُوفِّي سنة ١١١٩.
(٣١) قال مرهج بن نمرون الباني في تاريخه اللاهوتي المعنون أقوبليا (أي سلاح الإيمان قسم ١ رأس ٤ عدد ٢٤ ص٨٩): إنه لأمر يستوجب الملاحظة أن بشرة وقرية حصرون التي تبعد عنها قليلًا وثلث قرى ومزارع أخرى تحاذيها قد حفظ سكانها اللغة السريانية أو الكلدانية القديمة ولم يزالوا على حفظها؛ فبها يتكلم الرجال والنساء غالبًا؛ إذ إنه في فينيقيا وربما في سورية كلها قد فُقِدَتْ هذه اللغة منذ دخول السراكسة، حتى إن اللغة العربية أَضْحَتْ لغة القوم الدارجة، وما بقيت السريانية مستعملة إلا في خدمة الأسرار المقدسة وفي الفروض الكنسية.
(٣٢) موروس معناه الأسود، علم لجبل يُقال له اليوم: الجبل الأقرع. بينه وبين لبنان جبال النصيرية، ومنه السويدية المعروف انتسابها إليه.
(٣٣) وفي تاريخ الأعيان: طي.
(٣٤) «إن المنذر بن ماء السماء الذي انتهى إثبات النسب إليه هو المنذر بن امرئ القيس بن النعمان الأعور بن امرئ القيس المحرق بن عمرو بن امرئ القيس الأول (أو امرئ القيس البدء) بن عمرو بن عدي بن ربيعة بن الحارث بن هالك (وهو كتاب الاشتقاق لابن دريدر «ص٢٣٦» أن مالكًا هذا هو ابن السعود (والصواب: مسعود) بن الحارث بن عمرو بن ربيعة بن نصر بن عدي) ابن غنم (والصواب: مالك بن عمم كما في كتاب الاشتقاق لابن دريد ص٢٢٦) ابن نمارة بن لخم، ولخم لقب واسمه مالك (والصواب أن مالكًا هذا غير لخم، وإنما هو ابن أخي لخم) بن عدي بن الحارث بن مرة بن أدد بن ريد (ويُروَى يزيد) بن يشجب بن غريب بن زيد بن كهلان بن سبأ؛ وهو عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان (وفي سفر التكوين يقطان وأبناؤه موداد (مضض) وشالف وحضرموت ويارح وتسعة آخرون، والمظنون أن يعرب من سلالة قحطان وأن بينه وبين قحطان قرونًا كثيرة) بن عابر بن هود النبي عليه السلام، وعابر بن شالح بن أرفخشيد بن سام بن نوح — عليه السلام — بن لامك بن متوشالح بن أخنوخ (وفي التوراة أن متوشائل هو ابن محو يائيل بن عيراد بن أخنوخ (أو أحنوخ).) وأحنوخ ابن يزيد بن مهلائيل بن قينان بن أنوش بن شيت بن آدم عليه السلام. وماء السماء اسم أمه لُقِّبَتْ بذلك لجمالها، واسمها ماوية بنت عمرو؛ فشهر المنذر المذكور باسم أمه» (تاريخ بيروت لمحمد بن صالح في مجلة المشرق عدد ٨ ص٣٧٤ و٣٧٥).
(٣٥) هي قرية من أعمال قضاء بعلبك اليوم.
(٣٦) إن اسم عين دارة أقرب أن يكون عربيًّا، وإن كان له في السريانية معنى مثل الحرب أو البدل أو المخاصم أو غير ذلك فإن للعرب أمكنة كثيرة باسم الدارات. وقد عد الأصمعي منها في كتابه الدارات المنشور في العدد الأول من مجلة المشرق ص٢٥ وما يليها ست عشرة دارة، وذكر ابن دريد اثنتي عشرة دارة. وأما ياقوت فقد ذكر في معجم البلدان نيفًا وستين دارة، والدارة ما اتسع من الأرض وأحاطت به الجبال غلظ أو سهل؛ وذلك مثل: دارة وشجى، ودارة جلجل، ودارة رفرف، ودارة مكمن، وغيرها من الدارات فلا يبعد أن الحالين من أولئك العرب بعين دارة زادوا هذه المحلة دارة على داراتهم.
(٣٧) وهذه أيضًا لا يبعد أن تكون من أسمائهم العربية من الزحول عن المكان بمعنى التنحي عنه والتباعد، كما أن اسم زحلة الواقعة إلى الشمال الشرقي منها هو مشتق من هذه المادة أيضًا، ورُبَّ قائل يقول: كيف يُعقَل أن مثل هذين المحلين وغيرهما من المحلات التي حلتها تلك القبائل وعمرتها وسمتها بأسماء من عندها كان خلوًّا من العمران مع جودة مائه وحسن موقعه؟ وكيف لا تكون تلك الأسماء من أصل سرياني ما دام في الأوضاع السريانية ما يقرب منها؟ فالجواب على هذا أن تلك القبائل لما حلَّت في تلك الأنحاء من لبنان الواقعة بين دمشق وبيروت اللتين كانتا في يد الفاتحين ألفتهما، كما قلنا سابقًا، خالية من السكان بسبب فرار الذين كانوا يسكنونها إلى محلات من لبنان يتوارون فيها عن وجوه الفاتحين مثل محلات شمالي لبنان وجنوبيه، حيث لا تجد من أسماء القرى ما هو عربي إلا اليسير وهو حديث العهد، وغالب الأسماء إنما هو سرياني، فسمت لذلك بعض تلك المحلات بأسماء من عندها، وأبقت البعض الآخر على القديم من أسمائه مع أنها عمرته عمرانًا جديدًا.
(٣٨) الشوف والشويفات يمكن الرجوع بهما إلى أصل عربي، كما يمكن الرجوع بهما إلى أصل سرياني، ففي الوجه الأول تكون الشوف مصدرًا من شاف يُراد بها الأشراف، وهي من تحريف العامة؛ لأن الصحيح إنما هو أشاف بمعنى أشرف لا شاف، والشويفة من الشيفة، والشيفة الشيفان؛ وهي طليعة القوم الذين يُشاف لهم أي يُشرف لهم على حركات في العدو. وفي الوجه الثاني تكون الشوف بالسريانية بمعنى التنجيم والشويفات مكان التنجيم كما أن خلدة التي بجوارها معناها بالسريانية الكهان أو المنجمون، ولا يبعد أن يكون الوجه الأول هو الأظهر.
(٣٩) وفي تاريخ بيروت لمحمد بن صالح: ففي ذي الحجة سنة أربع وسبعمائة (١٣٠٤م) جهَّز جمال الدين آقش الأفرم نائب الشام زين الدين عدنان، ثم توجه بعده تقي الدين وقراقوش، وتحدَّث معهم (أي مع الكسروانيين) في الرجوع إلى الطاعة، فأبوا، فأمر عند ذلك بتجريد العساكر إليهم من كل جهة ومن كل مملكة من ممالك الشام، وتوجَّه آقش الأفرم من دمشق بسائر الجيوش في يوم الاثنين الثاني من محرم سنة خمس وسبعمائة (١٣٠٥م)، وجمع جمعًا كثيرًا من الرجالة نحو خمسين ألفًا، وتوجهوا إلى جبال الكسروانيين والجرديين، وتوجه سيف الدين أسندمر نائب طرابلس وشمس الدين سنقرجاه المنصوري نائب صفد، وطلع أسندمر المذكور من جهة طرابلس، وكان قد نُسِب إلى مباطنتهم؛ فجرد العزم وأراد أن يفعل في هذا الأمر ما ينفي عنه هذه التهمة اللاحقة به، فطلع إلى جبل كسروان من أصعب مسالكه، واجتمعت على أهله العساكر، واحتوت على جبالهم، ووطئت أرضًا لم يكن سكانها يظنون أن أحدًا يطؤها، وقُطِّعت كرومهم، وأُخْرِبَتْ بيوتهم، وقُتِل منهم خلق كثير، وتفرقوا في البلاد. واستخدم أسندمر جماعة منهم في طرابلس بجامكية (أي براتب)، وجازاهم من الأموال الديوانية، فأقاموا على ذلك سنين، وأقطع بعضهم أملاكًا من حلقة طرابلس، واختفى بعضهم في البلاد واضمحلَّ أمرهم وخمل ذكرهم (مجلة المشرق ص٢٧٤ و٢٧٥ و٢٧٦ من سنتها الأولى). وفي موضع آخر من تاريخ صالح بن يحيى يقول: وفي أيام ناصر الدين في أوائل محرم سنة خمس وسبعمائة (١٣٠٦م) كان فتوح كسروان، فقد طلع الجبل ومعه أقاربه وجمعه، فقُتِل منهم الأمير نجم الدين محمد وأخوه شهاب الدين أحمد ولدا الأمير جمال الدين حجي في نهار الخميس خامس شهر محرم المذكور بقرية نيبيه (والأصح نابية من النبو بمعنى البعد والتجافي، أو نابيه من السريانية بمعنى نبي) من كسروان، وقُتِل معهم من أهل الغرب ثلاثة وعشرون نفرًا، وكانت وقعة نيبيه المذكورة وقعة رديئة؛ لأن أهل كسروان تجمَّعوا وقاتلوا بها، وكان هناك مغارة اجتمعوا فيها بعد القتال. وذُكِر أن عدد أهل كسروان بلغ أربعة آلاف راجل، فهلك منهم بالسيف خلق كثير، والذين سلموا منهم تفرقوا في جزين وبلادها وفي البقاع وبلاد بعلبك، ومنحت الدولة لبعضهم الأمان (مجلة المشرق ص١٠٤٣ أو ١٠٤٤ عدد ٢٢ من سنتها الأولى)، فمن مثل هذا الحادث وما شابهه من الحوادث يتبيَّن كيف انتقل أناس من أهل الشمال بلبنان إلى الجنوب.
(٤٠) وجاء في الجدول الأول لنسب الأمراء التنوخيين من بني الغرب من تاريخ محمد بن صالح جهير لا جمهر (مجلة المشرق ص٣٧٣ عدد ٨ من سنتها الأولى) وفي موضع آخر من التاريخ نفسه جمهير.
(٤١) وفي تاريخ محمد بن صالح محمدًا لا محمودًا، والأصح هذا.
(٤٢) هو مجير الدين أبو سعيد آبق بن جمال الدين محمد بن تاج الملك بوري بن ظهير الدين طغتكين؛ وهو أتابك الملك دقاق بن تتش، تولَّى آبق بعد وفاة أبيه سنة ١١٣٩.
(٤٣) هو نور الدين محمود بن زنكي، أخذ دمشق من يد مجير الدين أبي سعيد آبق سنة ١١٥٦، وأصحاب دمشق كانوا حكامًا على بيروت وأعمالها، وكانت بيروت يومئذٍ في يد الإفرنج.
(٤٤) وفي تاريخ الأعيان: جلبايا. والصواب: ثعلبايا.
(٤٥) وفي تاريخ محمد بن صالح (مجلة المشرق عدد ٩ ص٤٢٤ من السنة الأولى) «برجة بعاصر منها المعاصر والفوقا»، والصواب — فيما نرى — برجة وبعاصير منها (أي من برجة) والمعاصر الفوقية، فبرجة قرية كبيرة من قرى إقليم الخروب، وبعاصير قرية صغيرة مجاورة لها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤