أمريكا لغز العصر الحديث

أن تُفهم شعب مسألةً سهلة .. أما أن تُفهم قارة فتلك مشكلةٌ، وأن ترى أمريكا من الخارج شيء، وأن تراها من الداخل فشيء مختلف تمامًا .. وإذا ذهبت هناك فمن الصعب تمامًا أن تُصدر أحكامًا عامة مطلقة تخرج منها بنتائج حاسمة. من الصعب جدًّا — مثلًا — أن تقول: إن الأمريكان شعبٌ طيب، ودود جدًّا. تلقائي، يشبهنا تمامًا في هذه النقطة نحن المصريين. ولكنه مختلف قطعًا عن أي شعبٍ أوروبيٍّ. فصحيح أنه طبقات من المهاجرين الأنجلو ساكسون والأيرلنديين والإيطاليين واليونانيين والبولنديين واليهود والروس والزنوج، وأخيرًا العرب، ولكن يبدو أن كل عائلة هاجرت، أو كل جالية، كانت تخلع زيَّها القومي في ميناء نيويورك وترتدي زي العالم الجديد .. ذلك أن أمريكا فعلًا كانت بالنسبة لهؤلاء الناس عالمًا جديدًا حقًّا. كانت أوروبا الإقطاعية وبدايتها الرأسمالية مثل خلية النحل التي تشبَّعت دينيًّا وعقائديًّا وحضاريًّا وفلسفيًّا، وبدأت «تطرد» ممالك النحل الجديدة .. ولكن السمة البارزة للمهاجرين الأمريكيين الأُوَل — بل ربما إلى الآن — أنهم إما كانوا من المضطهدين دينيًّا أو اجتماعيًّا في بلادهم، وإما كانوا من المغامرين والأفَّاقين.

وهؤلاء كانوا كذلك بالطبع متمردين ومضطهدين أيضًا، ولذلك تعانق التيَّاران على أن يخلقا مجتمعًا غريبًا جديدًا لا اضطهاد فيه، ولا حق لأحدٍ على الآخر، والقانون الوحيد الساري هو: البقاء للأصلح، أي البقاء للأقوى. فليكن شعار العالم الجديد أن يصل الإنسان فيه إلى أعلى مراتب القوة. وطبعًا لا يمكن أن تصل بهذا إلا على حساب آخرين.

ولكن ذلك الوضع كان في البداية، كان القادم الجديد جشعًا جائعًا إلى مكان تحت الشمس، ولهذا فمن حق كل إنسانٍ أن يحمل السلاح ويقتل إذا اقتضى الأمر. فقط عليه أن يُثبت أنه كان في حالة دفاع عن النفس. وهذه وحدها لا بد أن تؤدي لمجتمعٍ عنيفٍ، ومنذ البداية والمجتمع الأمريكي عنيفٌ، حتى حين تضاءل دور الفرد وقدرته على الوصول إلى ما يصبو إليه من قوةٍ، وتكونت الشركات والمؤسسات، أخذ العنف في المجتمع طابع المنافسة المحمومة، وما دمت تحيا في حالة تنافس، فالزمن مهم جدًّا، والقرارات لا بد أن تكون سريعةً وحاسمةً، ولا بد أن تظل في حالة حركة؛ بل في حالة جري وسباق، مع الزمن، ومع الآخرين.

•••

كنت وأنا أسير في شوارع واشنطن ونيويورك ودیترویت ولوس أنجيلوس وسان فرانسيسكو وكليفلاند. وأنا أركب الأتوبيس الصاعد شمالًا إلى برنستون ولا أجد أثرًا «للأرياف» أبدًا بعد مغادرتي نيويورك. المصنع تلو المصنع والطريق فوق الطريق فوق الطريق، والمطارات تلو المطارات. وأعرف مثلًا أن أكبر شركة طيران في العالم ليست الخطوط العالمية أو البان أمريكان؛ وإنما هي شركة طيران محلية أمريكية لا تطير لها طائرة واحدة خارج الولايات المتحدة. كنت وأنا مبهورٌ بغابة ناطحات السحاب التي تلمحها في قلب كل مدينةٍ أمريكية، حتى العمارات القديمة المبنية قبل سبعين عامًا، ناطحة سحاب، اختراع أمريكي للتغلب على المساحة الأفقية وإنشاء مساحة رأسية، مصاعد، عمارات من صلب وزجاج، مسافات رهيبة شاسعة (فارق التوقيت ثلاث ساعات بين نيويورك وسان فرانسيسكو)، وأوتوسترادات مبعثر فوقها ما لا يُعد ولا يُحصى من الكافيتريات والاستراحات والموتيلات واللوكاندات. هذه مؤسسات وأبنية وطرقات أقامتها فعلًا أيادي شعب جبار على نفسه أولًا .. العمل عنده مقدسٌ، من لا يعمل يموت، والوقت عنده قاتل الأهمية؛ كنت وأنا أرى هذا كله، وأنا في قلب الرأسمالية الحقيقي، فالبلاد الأوروبية لا ترى فيها الرأسمالية على حقيقتها، أنت تراها وقد هُذبت بتدخل الدولة، وبحقوق العمال والفلاحين، والقوانين المُحددة والمُلزمة لكبح جماح المؤسسات والشركات .. تراها في ثوب من «اشتراكية» الرأسمالية. أما هنا فأنت في قلب عالم رأسمالي قُح، غير مخفف لا بالماء ولا بالصودا، تتجرعه وقد يلسع حلقك، فأنت قادمٌ من مجتمع لا قيمة فيه للزمن ولا للوقت ولا للمسافة، حتى المنافسة فيه صغيرة وغير قاتلةٍ، مجتمع ممتد، عمره سبعة آلاف عام، وسيبقى ربما للسبعين ألف سنة المقبلة. مجتمع تتمطى فيه وتتمتع لتصحو من نومك وعلى مهلك جدًّا تشرب شايك أو قهوتك، الخطأ فيه يُغتفر مهما كان، والجرائم قليلة وغلبانة، والبشر هم الظاهرة البارزة في بلادك، فأنت في القاهرة لا ترى عمائر ولا مؤسسات ولا مصانع ولا شوارع أو أرصفة أو طرقات، ناس، ناس، ناس، كثيرون جدًّا حتى ليسدُّون عين الشمس. في أمريكا، رغم ضخامتها لا تجد أناسًا أبدًا، الشوارع شبه خالية، ولا يتحرك سائرٌ على قدميه فيها إلا أفرادٌ مبعثرون .. فأمريكا فيها مائتا مليون، هذا صحيح .. ولكنهم مبعثرون على قارة بأكملها، نحن أربعون مليونًا، أي خُمس الشعب الأمريكي ومع هذا فنحن محشورون في ما لا يزيد على واحد على ألف من مساحة أمريكا. أرضٌ واسعة غنية فيها كل معادن الأرض، فيها البترول والذهب، فيها غابات الخشب، فيها قمح وقطن وفواكه، وثلوج في الصيف في الشمال، وبلاجات في عزِّ الشتاء دافئة. هذه البلاد الغنية الشاسعة، في أقل من مائتي عام ينشأ عليها ذلك المجتمع الرأسمالي بعلومه واختراعاته، بقدرات الإنسان الرهيبة على الخلق والتنفيذ الفوري لكل جديدٍ، يحمي المنافسة وهي تَستخرج من كل مواطن أعمق وأهم قدراته، بالفردية في قمتها وهي تعطي، ليستحيل العطاء الفردي في النهاية إلى بناء جماعيٍّ مخيف.

•••

كنت وأنا في قلب هذا كله أتساءل: أهو النظام الرأسمالي التنافسي هو الذي أنتج هذا كله، أم هي الأرض السخية الغنية غير المستنهكة أعطت كل ما لديها، أم هي الخطورة والجدية التي أخذ بها هؤلاء المغامرون والمتمردون الأُوَل أنفسهم وصبغوا بها مجتمعهم. أم هو هذا كله الذي تفاعل وتكاتف ليصنع أمريكا الحديثة العملاقة؟

كنت أتساءل لأن الإجابة عندي كانت مهمة جدًّا. إني إنسان اشتراكيٌّ يؤمن أن الاشتراكية أو على وجه الدقة التطبيق الإنساني الديمقراطي للاشتراكية هو أعدل نظام عَمَل ووجود للإنسان، وليس أسهل من أن يدمغ أي اشتراكي متعصب الرأسمالية كلها بالاستغلال واللاأخلاقية ويدير ظهره لها تمامًا ويبدأ من الألف باء يبني صناعته وتجارته وزراعته. وربما هذا هو ما حدث في الاتحاد السوفييتي كأول دولةٍ اشتراكيةٍ. ولكني أعتقد أنهم هناك في الاتحاد السوفييتي بدءوا يتلافون هذا الخطأ، فالنظام جميعه قد يكون مرفوضًا، ولكن التجربة الرأسمالية الأمريكية خلقت على طول تاريخها آلافًا وآلافًا من الاختراعات الاجتماعية الصغيرة والكبيرة، اختراعات لم يصنعها النظام بطبيعة الحال، ولكنْ صنعها أولًا وأخيرًا الإنسان. والمركزية مرضٌ بغيض من أمراض الاشتراكية، فلو كنت عاملًا أو مهندسًا في مصنع واخترعت اختراعًا — صغُر أم كبُر — لتسهيل العمل أو تغييره فالمصنع لا يستطيع أن يُطبق اختراعي فورًا، لا بد أن يمرَّ الاختراع على لجان أعلى وأعلى حتى يوافق المركز في النهاية عليه، ثم يعود نفس المرحلة ليُطبق، بمعنى أن المركز في الاشتراكية هو الذي «يُفكر» للنظام، وهو المفكر الأوحد، بينما في هذه الرأسمالية اللامركزية الكاملة كل إنسان باستطاعته أن يفكر ويبتكر ويجد ألفًا ممن يستجيب له وينفذ، وهكذا باستطاعة المائتي مليون أن يفكروا معًا للنظام كله، وهذه حسنةٌ كبرى من حسنات الرأسمالية، علمت أنهم أخيرًا في روسيا بدءوا التفكير في تطبيقها.

فعلًا هذه بلاد يُفكر من أجلها ملايين، صحيح أن كلًّا منهم يُفكر ليستفيد هو شخصيًّا وأولًا؛ ولكن النتيجة النهائية، أن حصيلة تفكير الأفراد تُصبح ملكًا للشعب، للحاضر ثم للمستقبل، بل إن الولايات المتحدة في إدراكها لأهمية التفكير في المجتمع بدأت تلغي كثيرًا من الحواجز التي كانت توضع على تفكير المواطن الأمريكي، بدأت تؤمن فعلًا بأهمية حرية الرأي والعقيدة، ولم يعد أحد يُضطهد لأنه ماركسيٌّ أو حتى شيوعيٌّ. وهذا بالنسبة للولايات المتحدة شيء كثير. فأذكر أني قرأت أن مدرسًا في مدرسة ثانوية أمريكية في العشرينيات فُصل من المدرسة لأنه كان يُدرس نظرية داروين في النشوء والارتقاء لطلبة فصلِه.

«أليس من المضحك هنا أن نذكر أن مصر كانت في العشرينيات فيها مجلات تصدر لا تُبشِّر فقط بداروين؛ ولكنها تنشر حتی مقالات عن الإلحاد؟»

بل بدأت أمريكا تستثمر غنى مؤسساتها الفاحش في شراء الذكاء من العالم كله، لن تجد أعلى طبقات العلماء والأطباء والمهندسين وحتى الفلاسفة إلا هناك. كنت في زيارة لجامعة لوس أنجيلوس واصطحبني المرحوم الدكتور فون جرونابوم المستشرق المعروف وأستاذ التاريخ الإسلامي العالمي في زيارة لبعض أقسام الجامعة. وذُهلت من عدد العلماء الحاصلين على جائزة نوبل — ومعظمهم غير أمريكيين — الذين تحفل بهم أقسام الجامعة. وعرَّفني على عالمة طبيعة إنجليزية حاصلة على جائزة نوبل. وكانت فعلًا تُشبه قديسة العلم كما يحلم الإنسان بقديسة علم. وذكر لي الدكتور جرونابوم ونحن نُغادر معملها كيف أغرتها جامعة لوس أنجيلوس على المجيء. قال: كانت عنيدة تمامًا؛ فقد رفضت كل عروض المجيء وتمسكت بعملها المتواضع في جامعتها بإنجلترا، فما كان من جامعة لوس أنجيلوس إلا أن أنشأت لها في قسم الطبيعة معملًا يحتوي على أحدث ما وصلت إليه التكنولوجيا والعقل البشري .. ذلك المعمل الذي لا بد يحلم به أي عالمٍ. ودعوها لتلقي محاضرتها لمدة أسبوع في قسم الطبيعة، وقبلت، وحين حضرت وألقت محاضرتها الأولى بدءوا يفرجونها على الأقسام والمعامل. ودخلت المعمل المذكور، ولم تخرج!

إن الغنى يؤدِّي إلى مزيد من الغنى، والذكاء إلى مزيد من الذكاء، والعمل إلى مزيد من العمل، وأمريكا الآن، أغنى دولة، تستعمل غناها في حشد الذكاء البشري، ليُضيف لغنى الأرض، غنى الإنسان. هذا النظام الرأسمالي المرن الذي يتأقلم ويتشكل ويُغير نفسه، ويقتبس من الاشتراكية ومن الوطنية وحتى من النظام الهتلري الألماني، يقتبس ويهيئ أحسن ظروف عمل ليأخذ من الفرد أقصى ما عنده، غير مهم أن يكون أمريكيًّا أو غير أمريكي، فمصيره أن يصبح أمريكيًّا، وما دام إنتاجه سيبقى لأمريكا فما معنى ضيق الأفق؟

•••

ولكن السؤال يبقى: هل المواطن الأمريكي أو حتى المتجنس سعيد؟

لا بد أن نستدرك هنا ونقول: يجب أن لا نخلط بين سعادتنا نحن وسعادتهم هناك، ولا بين تعاساتنا هنا وتعاساتهم هناك. فالمسائل مختلفة تمامًا. إن ما يُتعس مواطننا هنا وربما ما يدفعه للهجرة هي المتاعب اليومية الكثيرة الصغيرة التي تُرهق النفس والبدن، وتطلع الروح؛ أزمة مواصلات، أزمة اتصالات، أزمة مكاتب ونوع عمل، أزمة ازدحام واختناقات، أزمة أخلاق، أزمة الحصول على مسكن أو مأكل أو مشرب. هذه كلها مشاكل لا وجود لها، ليس فقط في أمريكا، ولكن في كل تلك البلاد الغنية التي تكون شمال العالم، هذه بلاد الوفرة، الوفرة في كل شيءٍ، المساكن بكثرة، الأرض بكثرة، الطعام بكثرة، المواصلات بكثرة، الاتصالات بكثرة، حتى إن أغرب إعلان شاهدته في حياتي في التليفزيون الأمريكي كان إعلانًا يدعو الناس إلى تركيب تليفونات، ويُغريهم بالتسهيلات؛ بل ويُغريهم بإجراء المحادثات التليفونية البعيدة المدى. من هذا المثل الواحد تستطيع أن تُدرك مقدار عمق الهوَّة التي تفصل بيننا في جنوب العالم وبينهم في شماله.

ولكن للمواطن الأمريكي مع نظامه مشاكله هو الآخر، ومشاكله العظمى .. مشاكله العظمى ومشاكله الصغرى أيضًا.

ذلك أن هذا النظام النشيط المحموم المتطور، الساعي إلى الغنى الفردي، المؤدِّي في النهاية إلى الغنى الجماعي قد كان لا بد له في النهاية أن يتجه إلى الخارج، ويتوسع، ويرث كل ما تخلف من بقايا الإمبراطورية البريطانية والفرنسية والهولندية. ويدفعه خوفه على نفسه من الفقر والاشتراكية إلى إعلانها حربًا مقدسة ضد المعسكر الشيوعي، وجعل من نفسه — كما يقولون — رجل البوليس العالمي لإلقاء القبض على أي دولةٍ في أي ركنٍ من أركان العالم، أو أي نظام تحدثه نفسه أو يخطر له خاطر الشيوعية أو الاشتراكية. وقد كان من المحتم لدورٍ كهذا أن تنغرز ساق رجل البوليس في فيتنام ذات مرة، وفي محاولته لاستخراجها تنغرز الساق الأخرى، ثم يبدأ الجسد نفسه يغرق.

ولقد ظل الجسد يغرق حتى أفرزت الجامعات الأمريكية «عقل النظام» كیسنجر، والكيسنجرية وسيلة لإنقاذ النظام الرأسمالي، ليس فقط في أمريكا ولكن في العالم كله، والكيسنجرية ببساطة حوَّلت «الثور» الأمريكي الذي كان ينطح أي لون أحمر يلمحه إلى إنسان ذكي .. يُميز أولًا بين الألوان، فليس كل أحمر هدفًا، وليس كل هدف ممكن نطحُه، ثم أليس من المستحسن بدلًا من أن تنطح أن تحتوي، وبدلًا من أن تهدم الحائط أن تصنع لك فيه فجوة، وبدلًا من أن تُعادي نصف العالم — روسيا والصين معًا — تأخذ الصين في حضنك، وتسلم — باليد — على روسيا .. وبدل أن تكون أبيض تمامًا مع إسرائيل وأسود تمامًا مع المصريين والفلسطينيين والسوريين والعراقيين، تُجرِّب الرمادي، قليل من البياض على كثير من السواد، وقليل من السواد على كثير من البياض، هل تمشي المسائل؟

ذلك سؤال في الواقع متروك للتاريخ.

ولكن الذي لا شك فيه أن الكيسنجرية أكثر دهاءً — وبالتالي ديمقراطيةً — من الدالاسية. ومن الخارج إلى الداخل بدأت الديمقراطية تسعى، ولا شك أن نیكسون كان آخر رئيس أمريكي يملك سلطة الرئيس، وإزاحته، لم تكن فقط تخلصًا من رئيس أخطأ؛ ولكن كانت في الحقيقة تخلصًا من أعباء الرئاسة كلها.

أمريكا الآن تحيا في عهد السناتورز، وحتى هؤلاء موضوعون تحت رقابة رأي قويٍّ وخطيرٍ، عثر على نفسه وقوته بفضيحة ووترجيت، وبدأ يمسك بزمام الأمور، ویلوي عنق النظام بحيث لا يعود يخدم المليونيرات فقط، ولكن يخدم المواطن الفرد العادي بالدرجة الأولى. ثورة؟! سمِّها ثورة، ولكنها ثورة على الطريقة الأمريكية. فهي ثورة أفراد، يثورون بشكل تمرديٍّ فردي، يهاجمون المارة وليس لديهم مانع من مهاجمة السيدات بالذات، يسرقون بتهديد المسدسات، يُنشئون العصابات الثورية التي تسطو على البنوك والمؤسسات، يَقتلون — بفتح الياء — ويُقتلون — بضم الياء—، وجزء من المجتمع العنيف يتحول ليواجه الجزء الآخر، وعنفًا بعنفٍ، وفردية، وما دام البقاء للأقوى فلماذا العمل وأنا أستطيع أن أكون الأقوى بالمسدس والطلقة؟

ولهذا فمشكلة المواطن الأمريكي هي بالدرجة الأولى مشكلة أمن .. تزلزل الأمن في أغنى قارات العالم. ومنذ أن تُغلق عليك باب حجرة الفندق تجد التعليمات واضحة وصريحة ومشددة. لا تحمل نقودًا .. لا تمش بمفردك ليلًا .. لا تفتح الباب إلا بعد الاتصال بالاستقبال والتأكد أن أحدًا بعينه قد جاء لزيارتك.

وهكذا يتحول الإنسان في مدن أمريكا إلى كائن نهاري يختفي تمامًا في الليل لتظهر العفاريت في الشوارع، وصوت سيارة البوليس الأمريكي الجديدة صوت مزعج حقًّا، فقد استبدلوا السرينة المتصلة بصوت كنعيق البوم عاليًا ومزعجًا، كنت لا أكاد في قلب واشنطن العاصمة تغمض أجفاني لدقائق حتى يُوقظني نعيق آخر، وكان في كل خمس دقائق تحدث حادثة.

أهي ثورةٌ اجتماعية تأخذ ذلك الطابع الإجرامي؟ أم هو إجرام يأخذ شكل الثورة الاجتماعية؟

ذلك سؤالٌ هامٌّ جدًّا. والإجابة عليه ليست مهمة فقط للأمريكيين، إنها مهمة جدًّا لنا أيضًا، فالولايات المتحدة تلعب — وستظل تلعب — دورًا خطيرًا، ليس في العالم أجمع فقط، ولكن بالتحديد في منطقتنا وبلادنا، وفهم العوامل الداخلية التي تعتمل في قلب ذلك الشعب العملاق مسألة من الواجب أن نعرفها، ونعرفها الآن بالتحديد .. والحيز الآن يضيق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤