هذا أو الجهجهون

قرأتُ كثيرًا من التعليقات في الصحف العربية والغربية عن فوز كارتر «الصاروخي» في انتخابات الرئاسة الأمريكية. والحق — وإن كان كثير من هذه التعليقات قد لوَّن أجزاء من الصورة — إلا أني ظللت أحسُّ باستمرار أن ثمة أشياء ناقصة كثيرة لتكتمل اللوحة .. ثم إني أحسست — وما دُمنا نقول: إن ٩٩٪ من أوراق اللعبة في يد أمريكا — بالأسى؛ لأن اتصالنا بها على أساس اجتهاد شخصيٍّ ولا يوجد لدينا على المستوى المحلي أو العربي مركز وطني أو قومي واحد لدراسة السياسة الأمريكية وتحديد الأسس التي تقوم عليها علاقتنا بها. وإذا طبَّقنا هذا بالنسبة لعالم عربيٍّ واسع مترامي الأطراف والاتجاهات تلعب أمريكا فيه الدور الرئيسي في صناعة أحداثه أو التدخل لمنع أحداثه، يكاد موقفنا نحن العرب من أمريكا يُميتنا في فيض من الضحك.

فثمة دول عربية تعتبر أن أمريكا هي «رأس الرمح» في حركة الاستعمار الجديد المعادي لأمة العرب، وكأنها بهذا قد أدَّت واجبها الوطني خير أداء، وأطلقت هذا الحكم شهادة للتاريخ يذكرها لها حين يعنُّ لأحد أن يُراجع التاريخ والمواقف. وهذا ليس اتجاهًا غريبًا على منطقتنا ولا على إنساننا العربي، اتجاه إصدار الأحكام. اتجاه أن هذا رجعي وهذا تقدُّمي وهذا رافضٌ وهذا قابلٌ وهذا بين بين .. وكأننا لا نحيا في فترة تتحرك بنا وبها الأحداث في سرعةٍ رهيبةٍ، والسبق فيها هو لمن «يحرك» الأحداث ولا يكتفي بإصدار حكم بيزنطيٍّ عليها، وإنما كأنما نحن في محكمة قد توقف الزمن بنا وبها، وسكتت الأحداث تمامًا داخلنا ومن حولنا، ولم يبق على كل منَّا إلا الإدلاء بشهادة الإدانة أو بشهادة البراءة. ومن هو قاضي هذه المحكمة أيها السادة؟ وأين الادعاء، وأين الدفاع؟ وحتى لو أصدر هذا القاضي المزعوم «حكمًا» ما، من يُنفذه؟ يخيل إليَّ أن كل مسئول أو قائد يملك هذه العقلية المضحكة، قبل أن يُدلي بأي تصريحٍ، أو يحدد موقفه من أي اتجاه، يصيح في سرِّه: حضرات القضاة .. حضرات المستشارين .. أنا بريء یا حضرات، وهذا هو الجاني اللعين .. في حين أنه لو تصور الموقف على حقيقته وأدرك أنه يُخاطب أشباح قضاة ومستشارين وعدالة لا وجود لها إلا في خيال سعادته، وأن أحدًا لا يهمه بالمرة أن يكون سعادته بريئًا أو مذنبًا إلا بقدر «قوته» هو على فرض براءته أو حتى فرض جريمته، نحيا في عالم لا تسيره أحكام مَحكمة عدل دولية أو مجلس أمن؛ وإنما يُسيره منطق القوة القاهرة الغاشمة، والحق دائمًا هو منطق الأقوى. والكلام الذي يذوب في الهواء — ولو كان مصنوعًا من البراءة المذابة — هو دائمًا منطق العاجز .. لو تصوَّر أنه إنما يتحدث بلغة أشباح وإلى أشباح، ويستذكر دروسه من دفاتر «القيم»، إذ ما زلنا في الحياة الدنيا، وحساب كهذا لا يتم إلا يوم القيامة، ولا يقيم حده إلا إله قادرٌ يفرض العدل والعدالة .. نحن للأسف ما زلنا في الحياة «الدنيا» مكانًا ومعنى، فأي معنی بعد هذا، إصدار «أحكام» غير قابلة التنفيذ، أو رفض شيء إلا وأنت قادرٌ على فرض شيء آخر، وعجيب أن لا فرق حرفي بين كلمتي «فرض» و«رفض»، نفس الحروف، ولكن حركة الراء إلى أمام الفاء لا تُغَيَّر تمامًا؛ ولكنها أيضًا رمز عمیق لكون الفَرض «حركة» أو «فعلًا»، وفي النهاية إجبار .. برضه ما علينا من هذا كله، هناك — كما قلنا — أجزاء من العالم العربي تعلن عداءها لأمريكا وللسياسة الأمريكية وتعتبرها أبشع درجات الاستعمار العالمي، وأنا لا أناقشها في هذا. وقد يكون لي نفس الرأي، ولكن هؤلاء الذين يقولون هذا ويفعلونه دول ومؤسسات وتنظیمات، وليست أفرادًا مثلي عاجزة. وبما أنها كذلك، وبما أن أمريكا ليست كلمة وإنما هي مؤسسات «جهنمية»، و«أخطبوط»، وعقول خبيثة واسعة الحيلة، ومعامل تفريخ أسلحة وأشكال عدوان، فالسؤال هو ماذا فعله أو يفعله هؤلاء اللاعنون الساخطون لمعرفة ذلك «العدو» ما داموا يعتبرونه عدوًّا. وما دام المثل الحكيم يقول: اعرف عدوك؟ الواقع أن معلومات الرافضين لأمريكا وللسياسة الأمريكية في شرقنا العربي لا تقل عمومية أو سطحية عن معلومات من يعتبرونها الصديق الأول، أو على الأقل الراعية المثالية لاستتباب «النظام» واللاشيوعية واللاشتراكية في المنطقة .. فتصور أنت تربط نفسك وبلدك وشعبك، وتضع كل بيضك — كما قلنا — في سلتها وأنت لا تعرف عن هذا البلد الخطير في حياتك وفي مصيرك إلا معلومات أي سائحٍ أو ضيف طالت قليلًا ضيافته.

يقيني أن من يُعادون أمريكا هم أولى الناس بالتهام المعلومات وتحليلها وإدراكها، ومن يصادقونها تعتبر مسألة كهذه مسألة حياة أو موت .. ومع هذا فعلى اتساع عالمنا العربي كله لا يوجد في أي بلدٍ عربيٍّ أو أي جمع أو تجمع عربي «مرکز» لدراسة أمريكا؛ النظام، والسياسة، والعوامل الظاهرة والخفية، واتجاهات الرأسمالية الأمريكية، والشارع الأمريكي، والمؤسسات، سياسة الدولة الاتحادية وسياسة الولايات، سياسة البنتاجون، ووزارة الخارجية، ومجلس الأمن القومي الأمريكي، وسياسة اﻟ «سي آي إيه»، واﻟ «إف بي آي»، والمراكز الجامعية المتعددة «للتفكير» الأمريكي تجاه الشرق الأوسط.

•••

لهذا السبب لا نستطيع أن نجد ببساطة «سياسة» يتخذها بلد عربي، أي بلد عربي، تجاه أمريكا .. نجد علاقات وصداقات وصلات شخصية ومصالح، أو معارك وعداء، أو رضاء، ولكنَّا لا نجد سياسةً مرسومة .. سياسة بمعناها العلمي الدقيق .. سياسة نُحدد فيها بالضبط ماذا تمثل أمريكا بالنسبة لنا، ثم ما هي هذه الدولة العظمى التي أصبحت — كما يقول حتی بعض کُتَّابنا التقدميين — أعظم دولة في عالم اليوم .. من هي؟ .. وما هي؟ دراسة واعية دقيقة مُفصَّلة بحيث حين نأتي للخطوة التالية وهي خطوة: ما هو موقف هذا البلد أو ذاك تجاه أمريكا؟ لا نأخذه على ظلام، أو «جهجهون» كما يقولون؛ وإنما هو نور وبينة. وبحيث يتحدد لنا على ضوئه أيضًا، ليس أن نكتفي «بوصم» أمريكا بأنها استعمارية مؤيدة للصهيونية، أو نصدر حكم الصداقة لصالحها. بحيث يتحدد لنا كيف يمكن أن نُغيِّر من اتجاه أمريكا ناحيتنا إذا كان اتجاهها ضارًّا بنا، أو نحارب هذا الاتجاه إذا كان لا مفر من محاربته، أو — في الناحية الأخرى — بحيث نُدرك كيف يمكن أن ينتمي هؤلاء الذين يعتبرون أمريكا صديقة وحامية لمصالحهم ضد «الزحف الشيوعي»، ينمُّون هذه العلاقة ويطورونها لمصلحتهم الشخصية هم، وأيضًا إذا كانت بلادهم وشعوبهم تهمهم فلمصلحة هذه البلاد والشعوب أيضًا.

•••

والدليل واضح أمامنا وصريح والمثل واقع أمامنا في الحال وصارخ، حكاية فوز كارتر وهزيمة فورد. لكأنما تعليقاتنا العربية — ومن أُناس محترمين في نظري تمامًا — تتحدث عن ظاهرةٍ كونيةٍ حدثت هكذا والمطلوب هو بحث أسباب حدوثها واستقصاء جذور الموضوع كله.

إن نجاح كارتر بالتأكيد لم يكن ضربة حظٍّ أُصيب بها السيد جيمي، أو سوء حظٍّ لازم السيد فورد. لو كان عندنا «مركز» واحد أو هيئة واحدة فقط في عالم عربيٍّ شاسع وغني وخطير، بل يكاد يكون صانع الأحداث الأول في عالم اليوم، لو كان لدينا في عالمٍ كهذا مركز كذاك، لعرفنا — ومنذ زمن — أن فورد لن ينجح، وأن التغييرات التي سبقت وصاحبت عملية انتخاب الرئيس الأمريكي … بل ومنذ حكاية ووترجيت وعزل نیكسون، لعرفنا وأدركنا أن دفَّة الأمور تتغير، وأن اليد تتدخل دائمًا لتغيير دفة الأمور في اللحظة المناسبة — كما حدث عند اغتيال کیندي — قد بدأت تعمل في اتجاه يُحتِّم نجاح كارتر والحزب الديمقراطي.

وأنا لا أزعم أني دارسٌ أو متبحرٌ، أو حتى أملك واحدًا على مائة من قدرة أي مركز دراسات أو أي كاتب متخصصٍ في السياسة وتبحَّر فيها، في الواقع أنا أُسمِّي معلوماتي السياسية، وبالذات عن المسائل الخارجية، أسميها — بيني وبين نفسي على الأقل — معلومات وتحليلات — أحيانًا — لا سند لها من الواقع، ولا أستشهد فيها بأقوال أو وقائع، وإنما هي في حقيقة أمرها خواطر فلاح مصري يُفكر في السياسة العالمية في وقت أصبح التفكير في السياسة مسألةً علمية، لا يقوم بها أبدًا شخص أو مكتب؛ وإنما أجهزة رهيبة كاملة متكاملة وحسابات إلى أبعد من أبعد مدى.

•••

الواقع أنِّي حين كنت في الولايات المتحدة في الخريف الماضي سعيًا لفرض نفسي على مراكزها الطبية، ورغم أن مستشفى البحرية الأمريكية — أرقى مركز للعلاج في العالم — اعتذر عن قبولي كمريضٍ باعتبار أنهم لا يعالجون إلا من يخدم علاجُه السياسية الأمريكية في المنطقة التي جاء منها، في الحقيقة لم يُغضبني أبدًا هذا الموقف، فمراكز العلاج في الدول الشيوعية أيضًا لا تقبل أن تُعالج — في مستشفى الكرملين مثلًا — إلا من يخدم علاجُه الجبهة الاشتراكية أو الشيوعية في العالم .. أو في تلك البقعة من العالم. لم آخذ المسألة بطريقةٍ عاطفيةٍ؛ لسبب أني أُدرك بعمق أننا لا نحيا في عالم رومانسي حالم شهم يُقدم العلاج للمحتاج بصرف النظر عن رأيه أو دينه أو مبدئه. عوالم صادقة تمامًا — وحتى صريحة جدًّا — مع نفسها ومصالحها. من معي أو ينفعني أُعالجه أو أعطيه. ومن ليس معي أو لا يُفيدني فمن الحمق أن أُضيع معه وقتي أو جهدي أو مالي.

المهم. في ذلك الخريف تصادف أيضًا أن كانت تلك الزيارة ذات الدلالة العظمى التي قام بها الرئيس السادات للولايات المتحدة. زيارة لم تأت من فراغٍ، ولم يكن مفروضًا أن تؤدِّي إلى فراغ، ففي كل حدیث للرئيس الأمريكي فورد أو للدكتور كیسنجر مسألة النجاح الأمريكي في حل مشكلة الشرق الأوسط تُقدَّم كالمؤهل رقم واحد للفوردية الكيسنجرية ومن قبلهما النيكسونية. كانت تقدم وكأنها أهم من مشكلات التضخم وازدياد البطالة، أو سياسة الوفاق، ذلك أنها لم تكن تُقدَّم إلى «جماهير» الشعب الأمريكي، وإنما كانت تُقدَّم إلى من هم أهم من مجرد كونهم جماهير .. إلى «صُنَّاع» الرأي العام الأمريكي.

•••

ولنتوقف قليلًا عند نقطة الرأي العام هذه، أو رأي رجل الشارع .. فالكثيرون منا ومن غيرنا يأخذونها دائمًا وكأنها قضيةٌ مسلَّم بها، وما دام رأي رجل الشارع كذا أو رأي الجمهور كذا فلا بد أن هذا هو الحق. لا أحد جرؤ في حياته أن يتهم الرأي العام بالخطأ أو الخطل، إنما الكل إذا وصلت المسألة إلى الرأي العام، يسجد منطقيًّا ويؤمِّن على صوابية الرأي العام — إن جاز هذا التعبير — ذلك لأنه دائمًا رأي الأغلبية العظمى من أفراد الشعب، وما دامت الديمقراطية هي حكم ورأي وسياسة الأغلبية «مع الاحترام الواجب طبعًا لرأي الأقلية» فدائمًا هذا الرأي العام السائد هو الصواب.

وإذا كان لنا أن نعرف عدونا حقًّا فمن الواجب أن لا نعرفه فقط لنفسد خططه وإنما في أحيان لنتعلم منه، ولا بد لنا هنا إذن أن نُسلِّم أن اليهود كشعب وكسلالة كانوا — باعتبارهم في أي مجتمعٍ يكونون هم الأقلية — أدركوا أن قوتهم عمادها سلاحان رئيسيان: المال .. والرأي .. أو الدولار والفكرة. إذا كنت أغنى من في مجتمعك فقط فلن تكون أقوى من فيه، وإذا كنت أذکی الناس أفكارًا في مجتمعك فقط فستظل قوتك نظرية. أما إذا كنت تملك الفكرة والمال فأنت مالكٌ حينئذٍ العقلَ والجسدَ معًا، أنت في الحقيقة مالك الجهاز العصبي والجهاز الدوري، والباقي كله عضلات وعظام.

وقديمًا كان ينحصر الفكر في بعض الكُتَّاب وذوي الرأي، ثم بظهور الكتاب والمطبعة اتسعت دائرة أصحاب الفكر في المجتمع، ثم بظهور الإذاعة والتليفزيون وأجهزة مخاطبة عشرات ومئات الملايين معًا وفي وقت واحد وصلت «ديمقراطية» الفكر من الدائرة الضيقة التي كانت محصورةً فيها — وكانت تصل إلى الرأي العام منقولة «عن» المتحدثين أو عن الكتب والكُتاب — إلى أوسع دائرة وصلت إليها «الديمقراطية الفكرية»؛ حتى أصبح رجال ونساء الشارع يفكرون مع المفكرين ويبدون الرأي مع أصحاب الرأي. ومنذ أخذت هذه الوسائل تتسع وتشمل أعدادًا أكبر وأكبر من الناس، بدأ أولاد أعمامنا اليهود ذوو الذكاء الرهيب الذي تعمل به أي أقلية متضامنة في أي مجتمعٍ، بدءوا يدرسون ثم يتقنون ثم يستأثرون تمامًا «بصناعة» الفكر، وقد وصل «أرسطو» الواحد القديم، أو «فيثاغورس» المتواضع إلى عصر صناعة اﻟ mass production of thoughts.

وهكذا صاحب عملية تطور المجتمع الصناعي واتساع ديمقراطية الحكم أي الاتجاه أكثر فأكثر إلى أن «تختار» الأغلبية حكامها لتحكم نفسها بواسطتهم؛ صاحب هذا باستمرار اتساع قاعدة التفكير العريضة.

وأي حكمٍ في الدنيا، ماذا هو على وجه التحديد؟ أليس هو عملية أن يختار المواطنون جميعًا أناسًا أو أفرادًا يودعونهم ثقتهم ليحققوا لهذه الأغلبية العظيمة «الأفكار» التي تراودها.

إذن الذي يحكم في النهاية ليس هو الشعب بجسده أو بوجوده العضوي؛ ولكنها «الأفكار» التي تسود هذا الشعب، وتتملكه، وتُسيِّره.

بمعنى آخر إذا كنت أنا كأقلية لا أستطيع أن أفرض على المجتمع العريض تمثيلي الجسدي له، فإني أستطيع أن أُنفذ سیاستي أنا إذا استطعت أن أجعل الرأي العام الشعبي يتبنى أفكاري أنا ويسير بها.

من أجل هذا نلاحظ أن تركيز «أبناء عمومتنا» كان في القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر وحتى العشرين يلجئون إلى الحكام والملوك ليكونوا مستشاريهم وصناع أفكارهم.

وما قصة يوسف الصديق وعمله وزيرًا لمالية فرعون تمهيدًا لجلب قومه إلى مصر بغريبة «أو حتى بعيدة»، نلاحظ أنه بانتقال السلطة تدريجيًّا من أيدي الملوك الأفراد والزعماء الأفراد إلى أيدي المجموعات الحاكمة التي بدأت تتكون؛ مثل مجالس اللوردات، ثم مجالس الشيوخ، ومجالس النواب … إلخ.

ولا نجد في التاريخ الحديث مثلًا أوضح مما حدث في الولايات المتحدة لهذا «التسيد» على خزائن المجتمع ودولاراته من ناحية، ومن ناحية أخرى على عقول هذا المجتمع، أو بالضبط على أفكاره.

ولهذا أنا أرى أن «فضيحة» ووترجيت لها وجه آخر مختلف تمامًا عن كل ما سبق في تحليلها. وإليكم — في رأيي المتواضع، الساذج، كما سبق وحذرت — ما حدث:

عقب الحرب مباشرة والمآسي التي حدثت ليهود أوروبا، ولألف اعتبار آخر، ساد الحزب الديمقراطي الحياة السياسية الأمريكية، ذلك لأنه الحزب الذي لا يمثل الرأسمالية الأمريكية القُحة، وإنما هو في حقيقة أمره يمثل الأقليات الرأسمالية — وأكبرها طبعًا الرأسمالية اليهودية — المتحالفة معه والمرتبطة بأقسام كبيرة من الرأسمال الأمريكي — حزب في ظاهره يبدو أكثر تحررًا وأكثر شعبية؛ ولكنه الحزب الذي تحظى الدوائر اليهودية التي أخذت تتبلور بعد قيام إسرائيل — على هيئة دوائر صهيونية علنية أو شبه علنية؛ تحظى داخل هذا الحزب بأكبر اعتبار.

ولقد ظل هذا يحدث إلى أن تورط الحزب في حرب فيتنام (التي بدأت في عصر کیندي)، وكاد يتورَّط في حرب عالمية (حادثة خليج الخنازير مع خروشوف وکوبا)، ثم التأييد المطلق الأعمى لإسرائيل ضد العرب في الشرق الأوسط.

وحين طال المدى وفتشت الرأسمالية الأمريكية ومن ورائها الطبقةُ المتوسطة والعاملة في أمريكا في دفاترها فوجدت أنها تخسر بهذه السياسات الخارجية عمياء التعصب على طول الخط؛ بینما — وهذا هو المضحك — سياسة داخلية أكثر تحررًا ساعدت هذه الفئات نفسها على اكتشاف الحقيقة؛ حينما فتَّشت ووجدت أنها تخسر، خاصة ورأس المال اليهودي ورأسمال الأقليات بعيد عن استثمارات البترول التي بدأت تمخر عباب الخط البياني صعودًا إلى القمة. حينها بدأت تنتعش هذه الرأسمالية الأمريكية القحة وتحاول أن ترى الأمور من وجهة نظر مصالحها هي الخاصة نجح نیكسون الجمهوري ضد منافسه الديمقراطي رغم حصول منافسة على تأييد الدوائر اليهودية قاطبة. وجاء نیكسون إلى الحكم، وفي نفس الوقت الذي لمع فيه نجم کیسنجر کمفكرٍ یهوديٍّ، هذا صحيح، ولكنه ليس متعصبًا ذلك التعصب الذي يجعله لا يفكر إلا لما تحت قدميه، فأمريكا تحمي یهودها ويهود إسرائيل إذا كانت قوية وقادرة على هذا الحمل، أما أن تظل تحمل ما فوق طاقتها — حتى لو كانت الدوائر الصهيونية هي الراكبة — فسوف تنهار أمریكا وينهار معها ما تحمله فوق كتفيها. كان المطلوب إذن ليس إنقاذ أمريكا ورأسمالها القح فقط، ولكن إنقاذ الرأسمالية العالمية نفسها، تلك التي كانت تدفعها سياسة الديمقراطيين بقيادة الصهيونية لسياسة عنيفة تجاه روسيا والمعسكر الشرقي، وتجاه العالم الثالث وبالذات تجاه العرب.

وفعلًا، انتهت المواجهة تمامًا في فيتنام، وُقعت اتفاقية سيناء في الشرق العربي، استفاد الرأسمالي الأمريكي من المقاطعة البترولية ورفع الأسعار إلى درجة رکعت الرأسمالية اليابانية والألمانية والأوربية، وبالتالي الرأسمالية في العالم كله بما فيه خلفاء ديجول، وأمسك الرئيس الأمریكي لأول مرة منذ أمدٍ طويل بمقود السفينة الرأسمالية كاملة.

وسمَّی الناس ما تمَّ إسفينًا حدث بين اليهود الأمريكيين وإسرائيل وبين أمريكا السلطة والدولة والرأسمال، وسمَّوه: سياسة التوافق، وسموه أشياء كثيرة، إلا أن اسمه الحقيقي كان بداية عهد أن تقود الرأسمالية الأمريكية القحة الولايات المتحدة والعالم الرأسمالي كله، لمصلحتها، وبصرف النظر إن تضامن هذا أو تناقض مع الأقليات الرأسمالية الأخرى، وعلى رأسها الرأسمالية اليهودية.

•••

وهنا دقَّ ناقوس الخطر.

فمعنى هذا أن تستقل السياسة الأمريكية، أو بالأصح رجال السياسة، عن التوجيه السياسي والفكري للدوائر الصهيونية العالمية، والأمريكية بالذات.

ولهذا فكان مطلوبًا وبسرعة حل «بحجم» — على رأي إخواننا الشوام — أولًا: الرئيس الأمریكي.

للتمهيد ثانیًا «لتحجيم» الجمهوريين الرأسماليين الأمريكيين القح. ثالثًا وبسرعة: إنهاء حالة وحلاوة وثمار استقلال الرأسمالية الأمريكية عن أي نفوذ یهوديٍّ، وهذا لا يكون إلا — ليس فقط بالتحجيم دائمًا — بإزاحة الحزب الجمهوري كله من الحكم، لعودة حكم «الجبهة»، تلك التي تستطيع الدوائر المذكورة أن تلعب — وبسهولة وخفة يد عظمى — في مياهها، حتى لو كانت رائقة كمياه البيسين.

و«فضيحة» ووترجيت لن يذكرها التاريخ — إذا كان جادًّا حقًّا كتاريخ — إلا كنُكتة .. نكتة هائلة الضخامة، ضحك بها ليس فقط على شعب كبير عظيم ذکي مثل الشعب الأمریكي، ولكن على عالم كبيرٍ وذکيٍّ مثل عالمنا المعاصر.

•••

صحيفة الواشنطن بوست هي أهم مصنعٍ صحفيٍّ تُصنع فيه الأفكار.

وآه من عملية أن «تصنع فكرة».

الأمر ليس فهلوة كما تعودنا أن نفعل هنا، وليس لعب عيال كما تفسر بعض الحكومات حقائق دامغة في بعض الأحيان. الأمر هنا أمر ذكاء مفرطٍ ودقة متناهية، وعلمية شديدة داخل فيها علماء اجتماع ورجال دين، وممثلات سينما ودهاة مخابرات، وخبراء في كل فرع ولون وملَّة.

ولهذا لم يكن صدفةً أبدًا أن الذي بدأ «فضيحة» ووترجیت صحفيان شابان من صحفيي الواشنطن بوست، أصبحا الآن أشهر صحفيين أمريكيين بطبيعة الحال.

بقی یعني أمريكا التي يُغتال فيها رئيسها کیندي وتؤلف لها ألف لجنة وتحقيق لا تستطيع العثور على القاتل الحقيقي أو القتلة الحقيقيين وراء الحادث، والتي يُغتال فيها مارتن لوثر كنج وأيضًا لا يُعثر لقاتله على أثر!

أمريكا التي صعَّدت الجريمة إلى عصر الفضاء والمعجزات، وأصبحت المافيا فيها في مستوی علم وأسرار الطبيعة النووية، وفيها من يستحقون — بجدارةٍ — جائزة نوبل في الإجرام. واسمحوا لي هنا أن أستطرد بمناسبة جائزة نوبل التي مُنحت للكاتب اليهودي الأمریكي «سول بيلو»، والذي حين دعتني جامعة شيكاغو عام ١٩٦٦م لأكون «كاتبًا زائرًا» في قسم الشرق الأوسط كان هو في نفس الوقت يعمل كاتبًا أمريكيًّا زائرًا في كلية الآداب بنفس الجامعة، وحدث أن التقينا عند الأساتذة ودعوته على العشاء (أنا الذي دعوته والله، مع أننا كنا في أمريكا)، وخلال الساعات الست والثلاثين التي كانت لا تزال أمامي ليحين ميعاد الدعوة حاولت أن أعرف عنه شيئًا من خلال إنتاجه، فذهبت إلى مكتبة الجامعة واستعرت الروايات الخمس — وقد كانت كل ما كتبه حتى ذلك الوقت — وبدأت قراءتها وفي ذهني الإطار الذي أدخله في روعي الأستاذ الذي عرَّفني به حين قدَّمه لي باعتبار أنه «أحسن كاتب روائي أمریكي»، أقرأ وأذهل ثم أغلق الكتاب وأعود أقرأه، أتناول قصة أخرى. أُكرر المحاولة لا لمحة عبقرية واحدة ألمسها، قصة قصيرة واحدة لهيمنجواي، بل رواية لفرانسواز ساجان أعظم بكثير من هذا الكاتب ذي الروح الميتة التي يُحاول أن يصور بها بطلًا واحدًا خلال القصص الخمس، يهودي وحيد ضائع وأحاسيسه التي لا تُريحك أو حتى تستثير شفقتك، عالم شاحب لا تخترقه شهابة انفجارة أو مفاجأة إحساس، وأقسم أنِّي جاهدًا ومخلصًا حاولت أن أُركز كل طاقتي وأقرأ له رواية كاملة وكأنها واجب مدرسي، ولم أستطع أبدًا أن أُتمها. ولكني أيضًا لم أَعجَب أبدًا أو أندهش حين نال جائزة نوبل — لنفس هذه الأعمال — لهذا العام، فهو كاتبٌ ويهودي وأمریكي. وجائزة نوبل. جائزة داعرة يمنحها داعرون سیاسیون باسم الأدب، وكل ما فيها إما مُسخَّر لإذكاء الحرب الباردة بين الشرق والغرب، وإما لجعل أكبر عدد ممكن من «علماء» اليهود — أمريكيين أو غير أمريكيين — ينالونها، ولنراجع معًا من فاز بها ولماذا خلال الأعوام العشرين الأخيرة؟ إن ما أزعجني حقًّا أن الصناعة الغربية كانت دائمًا متقنة، حتى الصناعة المغشوشة منها كانت متقنة .. أما أن يأخذ سول بیلو الجائزة وفي العالم مارلو، وجارثيا، وألان روب جرييه، وليوبولد سینجور، وجنتر جراس، وألبي، ومولك راج أناند … وعشرات غيرهم في أمريكا اللاتينية وتركيا واليونان، وحتى في عالمنا العربي أستطيع على الأقل أن أعد عشرة من الأحياء يتواری أمامهم كل ما كتبه مستر بیلو خجلًا. ولكنها جائزة لم تعد تُخفي وجهها، فهي بصفاقة غريبة تُطلُّ من باب «الأدب» وتقول: صهيونية أنا، والأفضل عندي دائمًا هو اليهودي السامي. وكأنها تُحرِّض العالم ليصبح كما يودون وكما يصورون: ضد السامية. ولكن لحسن الحظ فالعالم أرقى من هذه العقول التي تؤجج الأحقاد والنعرات العنصرية. وتحت شعار — يا للوقاحة — القيم الإنسانية ومحاربة العنصرية!

وأيضًا، ما علينا.

السؤال هو: هل لو كان أصحاب الواشنطن بوست أو المشرفون على تحريرها، ثم الموجهون لجرائد وتليفزيونات ومحطات الإذاعة الأمريكية والنوادي وقاعات المؤتمرات والمحاضرات، باختصار؛ صنَّاعَ الرأي العام، هل لو كان هؤلاء لا يريدون لووترجيت أن تكون، أيمكن أن تكون قد حدثت؟ هؤلاء الذين تغاضوا عن اغتيال رئيس بأكمله، وأكبر زعيم زنجي بأكمله، أكان سيؤرق ضمائرهم كثيرًا أن يتغاضوا عن أن رئيسًا «أمر» بأن يستمع بعض مساعديه إلى مكالمةٍ تليفونية يُجريها أفراد الحزب المنافس؟ يا سلام على الضمائر الحساسة، وبالضبط عند اللزوم! والنتيجة: بره يا أستاذ نیكسون وبفضيحة مدوية. بره لأي رئيسٍ أمريكي يحاول أو يفكر أو يجرؤ مرة أخرى أن ينفرد، حتى لو كان يمثل فعلًا مصلحة أمريكا الرأسمالية الحقيقية، باللعبة.

وليس هذا فقط، فعلى الكونجرس الذي آلت إليه أجزاء كبيرة من مسئوليات رئيس الجمهورية بعد طرد نیكسون، أن يحذر هو الآخر. ففضائح الجنس ومعداتها جاهزة، وممكن حتى أن يُحاسب — على رأي الكاتب الساخر بو کوالد — على «الزنا بالنظر» فالرأي العام قد تنبَّه، وتنبه إلى أن الذين يحكمونه لا بد أن يكونوا «أطهارًا». هذه «الفكرة» هي عينةٌ واحدة من عينات «صنع» أفكار الرأي العام وخلق محظوراته و«تابلوهاته».

وكان النفخ فيها والتضخيم أمرًا لا مفر منه؛ لأن الهدف لم يكن التخلص من رئيس جمهوري کنیكسون بدأ يصنع علاقات مباشرة مع ألد «الأعداء» السابقين: الصين وروسيا والعرب، فإن سريان الماء مباشرة بين البيت الأبيض أو حتى بين الكونجرس وبين بكين وموسكو والقاهرة والرياض والجزائر وبغداد والكويت مسألةٌ مخيفة، قد تجعل المؤسسة الأمريكية تستغني تمامًا عن هذا السمسار النيويورکي الذي لا يزدهر إلا بالمضاربة والمواجهة وازدياد التوتر، وخلق عداوةٍ صليبية «تُخيف» الأمريكيين دائمًا وتجعلهم باستمرار أسرى الأفكار التي يصنعها لهم صُنَّاع أفكار الرأي العام الأمریكي، وبالذات الدوائر الصهيونية المسيطرة سيطرة شبه كاملة على أجهزة توجيه الرأي العام.

سابقًا كانوا يحكمون عن طريق الملك المطلق، إذا كان هناك ملك مطلق.

إذا جاءت الرأسمالية والديمقراطية يسيطرون على الأحزاب بدعوی الاشتراكية العالمية «الشيوعية» مرة، والاشتراكية الديمقراطية العالمية «الاشتراكية» مرة وحتى الاشتراكية الوطنية (التي يُسمونها الأفكار الفاشية والنازية).

ولكن أعلى تلك المراحل على وجه الإطلاق، هو ما حدث في أمريكا، فما دام الذي يُقرر من يكون السناتور ومن يكون الرئيس هو الرأي العام المكون من الناخب العام والمواطن العام، فليكن الهدف على وجه التحديد هو «صياغة» الرأي العام كما نريد وندعو، هو بعد هذا يختار الأشخاص الذين يُنفذون هذه السياسة وتلك الأفكار فهي أفكارنا وسياستنا.

ومن المؤسف أن عصر ازدهار أجهزة الاتصال الجماهيرية الواسعة يُحتم بالضرورة — لأنه أيضًا عصر الإنهاك العصبي المستمر والاستنزاف الفكري — ازدهار الأفكار الوقتية والسهلة والمتداولة وغير الشخصية وغير العميقة وغير المدروسة، بحيث أن «صناعة» الأفكار لم تعد تقتضي التمعن والعمق وإنما أصبحت تتطلب أن تكون «کبيرة ولذيذة»، و«سهلة على العقل، وسهلة على المعدة»، أسهل أن تُروج أن أمريكا في خطر وأن الشيوعية تزحف، وأن لا بد من تقوية الكنائس والأديان لمواجهة خطر الإلحاد الماحق، والوفاق مصر وإسرائيل هي معقل الديمقراطية بين عرب أثرياء سفهاء ينفقون بتهور ويُكنون لنا العداء.

وهكذا كان لا بد أن يذهب نیكسون والجمهوريون، ويأتي كارتر والديمقراطيون. كان عظيمًا جدًّا لو جاء كارتر والديمقراطية، ولكن المؤسف أن الديمقراطيين في أمريكا الخارجية رجعيون تمامًا ولا علاقة لهم بديمقراطية الداخل.

ولهذا فإشفاقًا على العالم مما قد تورطه فيه سياسة خارجية أمريكية، إشفاقًا على العالم من حرب المذاهب الوهمية التي يروح ضحيتها بشر حقيقيون أثمن — في رأيي — من أي مذهب، إشفاقًا على منطقتنا العربية بالذات أن تعود إليها أمريكا الهراوة والانحياز الأعمى، إشفاقًا على العالم من سياسة لا يُراد لها في النهاية إلا مصلحة خبثاء يستغلون فكرة وفلسفة شعب الله المختار وأرضه المختارة نفسها؛ أتمنى لو تصل أفكارنا نحن، وضروري هناك طريقة لكي يعرفوا هناك ما يدور في رءوسنا نحن، فمجيء كارتر هذه المرة قد يكون صعودًا بالرئاسة الأمريكية إلى عهود روزفلت المجيدة، أو هبوطًا بها إلى عهود جونسون — غفر الله له.

إن مفترق الطرق هذا في حاجةٍ إلى وقفةٍ طويلة، خاصة من أولئك الناخبين حَسَني النية الذين جاءوا بكارتر في سبيل حكم أفضل ومنطق أسمى من منطق القوة الغاشمة، وذمم أنظف بكثير من تلك التي تُحاسب رئيسًا لأنه تسمَّع على خصمه، ولا تحاسبه لأنه قتل عشرات الآلاف من الأبرياء في فيتنام وذبح عشرات من أخلص الخلصاء في شيلي وغيرها.

مفترق طرق نعم، لأمريكا، وللعالم، وبالذات لهذا الجزء العربي من عالمنا.

وهذا .. أو الجهجهون.

•••

ومعذرة لقد نسيت … إلى الأسبوع القادم يا مستر ميللر .. ويا مارلين مونرو.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤