دكتاتورية العدالة

لكي يرفع الإنسان رأسه عن أكوام ما تحفل به الرسائل والأقوال والجلسات الخاصة والحياة اليومية والسنوية! التي تبدو سرمدية، لكي يقول الإنسان لنفسه في النهاية: وبعد؟ ما الحل؟

كثيرًا ما أُشبه حياتنا بعربةٍ كانت مندفعة بسرعة غير مضبوطةٍ على الطريق وكان لا بد، شئنا أم أبينا، أن يحدث للعربة حادثٌ وأن تصطدم بلُوري أو فنطاس، أو حتى بعربة كارو، وكان مفروضًا بعد ما وقع الحادث، وذهب ضحيته من ذهب، أن يهبط الركاب الباقون، بما فيهم السائق، وأن يدفعوا. العربة المصابة إلى أقرب ورشة، وأن يتولوا إصلاحها جميعًا لكي تعود وتمضي على الطريق.

ولكن ما حدث أنهم وقفوا حولها، منتظرین معجزة أن تنصلح العربة من تلقاء نفسها، ولما طال بها الانتظار، وفرغ الصبر، بدأ كل منهم يسعى إلى خلاصه المفرد، ويأخذ له قطعة غيار أو صامولة، أو حتى يخلع عجلة القيادة، ويمضي بها إلى أقرب تاجر مسروقات ليبيعها، وبثمنها يمتطي أي شيءٍ، وينجو .. ويبقى من لم يستطع أن يسرق، ومن لم يستطع أن يخلع، ومن عجز بشرفه أو بصدقه أو بغبائه عن أن يترك قومه الركاب، ويمضي ناجيًا بنفسه، وتبقى معه ومعهم العربية وقد أصبحت كومة من الحديد الخردة.

ونعود نرفع رأسنا من فوق المنظر المفجع ونقول: ما الحل؟

أعتقد أني لا أقولها الآن وحدي، فكل منا، بما فينا من أطفال حتى، وفي كل وقت، ولدى كل مشكلة تُثار، ودائمًا المشاكل — وفي كل آن — تُثار، يسأل نفسه، وبعد؟ ما الحل؟

ليت المشكلة يمين أو وسط أو يسار .. ليتها سياسية فقط أو أخلاقية فقط أو اقتصادية أو تربوية أو توزيعية أو ذِممية أو قلة ذمة فقط، ليتها الإسلام «المُفترى عليه»، أو الماركسية (بسم الله الرحمن الرحيم)، أو الحرية والليبرالية، أو هذه القذائف الجوفاء الطنانة التي تشبه صواريخ الأطفال تنطلق في كل اتجاهٍ ومن كل اتجاه .. وتجعل من سماء حياتنا «كرنفالًا» لا مثيل له من الألوان والأقوال والفنون والحكم والشعارات والشعارات ضد الشعارات.

ليت هذه كلها كانت المشكلة، إذن — رغم صعوبتها — لهان الأمر .. فلو عرفنا المشكلة — أو حتى مئات وآلاف المشاكل — لقطعنا الطريق إلى ثلاثة أرباع الحل.

فلنتلفت حولنا أيها الناس نبحث، لنغوص في أعماق التاريخ البعيد والقريب، تاريخنا وتاريخ غيرنا نتلمس ونستدل؛ لنعمل كل ما تبقى لنا من عقل، وكل ما لدينا من علمٍ وفراسة، وفتاكة، حتى يمكن أن نتحرك، ومستحيل أن نظل واقفين بجوار العربة الخردة.

لقد حدث مرة أن هبَبنا في يوم وليلة ودفعنا العربة دفعةً قوية جبارة، قطعت من جرائها شوطًا مهولًا، ولكنها لم تلبث أن توقفت. لماذا اندفعت؟ .. ولماذا عادت تتوقف؟ .. وما السبيل إلى أن ندفعها مرة أخرى لتظل تمضي وتمضي دون توقف؟

لقد قرأنا كلامًا جميلًا كتبه الزملاء الذين زاروا الصين (الشيوعية جدًّا من فضلك) .. وهي بلاد تمُتُّ مثلنا إلى العالم الثالث، بل ووقعت قبلنا في خصامٍ رهيبٍ مع السوفييت ولا تزال واقعة .. ولكنها لا تكتفي بلعن السوفييت وإلقاء اللوم في كل شيء عليهم ويتوقف واجبها عند هذا كما نفعل نحن، مثلما فعلنا ذات يومٍ ظللنا نلعن أمريكا والاستعمار .. ونتوقف أيضًا عند هذا، إنما كانت تجربة قطع العلاقات الاقتصادية والعسكرية — وتقريبًا السياسية — مع السوفييت «حافزًا» قويًّا جدًّا لهم کي يقفوا على أرجلهم هم. ثم يمضوا في السباق الرهيب مع الزمن، بل ومع السوفييت أنفسهم.

المقالات الجميلة المروعة بتجربة الصين .. كان ينقصها — في رأیي — أن يكشف لنا أحد الزملاء عن سرِّ هذه المعجزة التي حدثت هناك، فقد بدأ الحديث كما لو أن المعجزة حدثت من تلقاء نفسها، أو كأن الشعب هناك صحا ذات يومٍ فوجد المجتمع كله يتحرك إلى الأمام.

في الهند أيضًا ياما قرأنا عن أنديرا غاندي وتجربة الهند (الديمقراطية جدًّا من فضلك) .. والأن هذا هو علمها يصل إلى القنبلة الرادعة الرهيبة، وهذا هو فدان قمحها يصل إلى أربعة أضعاف ما ينتجه فدان قمحنا، وهذه هي محاكمها تعمل ضد رئيسة الوزراء نفسها أحيانًا. ولكن دائمًا، مع الحق، وتخذل أعداء المسيرة الهندية العظيمة.

هذه نماذج من العالم الثالث حولنا، النماذج التي تتحرك. وأيضًا في تاريخنا الإسلامي القديم .. كنا ننهض ونتحرك أولئك السادة الغيورين تمامًا على إسلامنا .. المطالبين بعودتنا إلى أمجاده، أو عودة أمجاده إلينا، لا يقولون لنا، مثل هؤلاء الذين ذهبوا وذهبنا معهم نطلب العلم ولو في الصين، لماذا .. لماذا جاءت فترة على الحكم الإسلامي، كان فيها عظيمًا ومجيدًا ودافعًا إلى أقصى أمام، محدثًا في الفكر وفي الحياة تلك الثورة التي للأسف أوقفناها نحن بأيدينا وأخذها منال العالم الأوروبي المسيحي ومضى يطورها إلى أن سبقنا بها وسبق الزمن؟ .. فما نشاهده الآن من حضارةٍ أوروبيةٍ شاملة ليس في الحقيقة إلا امتدادًا لإسلامنا العظيم الأول .. الامتداد الحقيقي لإسلامنا، فإسلامنا اليوم ليس إلا امتدادًا لإسلام توقف وتجمد منذ عصر المأمون.

•••

في الحق مهما نظرنا حولنا .. واستبطنَّا تاريخنا .. وغُصنا بأبصارنا إلى داخل نفوسنا .. سنجد أن السر الوحيد لما حولنا ولما كناه من حركة، والسر الوحيد لهمومنا الآن وتخلفنا، السر الأوحد، يكمن في كلمة واحدة هي «العدالة» .. إن العدالة هي حلم الإنسان القديم، منذ الفلاح الفصيح وإلى الآن، الحلم الذي حاولت ديمقراطية الإغريق تحقيقه، وكلما تحقق بعضه كان المجتمع يقفز إلى الأمام، الحلم الذي حاولت اليهودية والمسيحية تحقيقه، وكلما قاربته كان الإنسان القديم يقفز التخلف الواعد ويتقدم إلى الأمام، الحلم الذي جاء الإسلام في عهوده الأولى يُطبقه بمثالية شكلت القوة الدافعة الرهيبة لبناء كل ما تلا هذا من حضارة إسلامية .. الحلم الذي ثار من أجله لوثر على الكنيسة وأنشأ البروتاستنتية، الحلم الذي راود الفلاسفة من أيام أفلاطون إلى كارل مارکس وأنجلز وحتی فانون ومارکوز .. العدالة .. ليست كما هجنَّاها نحن واقتصرنا على تسميتها بالعدالة الاجتماعية .. وإنما العدالة — في كل أشكالها وصورها — عدالة النقود وعدالة السلطة والنفوذ، عدالة الريف والمدينة، عدالة الحي والشارع والحارة، عدالة الكيان البشري المحترم مهما كان عمله أو لونه أو جنسه أو دينه، عدالة الذنب إذا أذنبت، والعقاب إذا عوقبت، والقانون إذا ساد القانون .. باختصار دكتاتورية العدالة في كافة صور الحياة وأنواعها وأشكالها، إن حلم إمامنا الكبير محمد عبده بالمستبد العادل، كان حلمًا خياليًّا تمامًا، فما دام المستبد إنسانًا أو الإنسان مستبدًّا فلن يكون أبدًا عادلًا، إنما العدل يأتي من «استبداد القانون» أو المسئول أو حتى الحزب، استبداد القاعدة وتطبيقها بلا أي استثناء، بل كلما كبر المطبقة عليه يكون التطبيق أقسی وأمر .. دكتاتورية العدل واستبداده بأي مجتمع هي وحدها الحرية ولا حرية سواها.

ومشكلتنا في الحقيقة هي أننا لا نملك ذلك القانون المستبد الواحد .. الذي يُطبق على الناس جميعًا من أول مسئول إلى آخر الرعية، بل بالذات أول مسئول، لا نملك ذلك القانون المستبد الواحد وإنما نملك ألفًا .. بل مليون قانون .. وطوال النهار نفصل ونتحايل ونعدل في كافة القوانين والدساتير والنظم والأصول .. بعدد ما نحن فيه من طبقات وفئات وتفاوت سلطات واستبداد سلطات بسلطات.

وفي الصين عدالة الزي الواحد والطعام الواحد ووسيلة المواصلات الواحدة، وقاعدة السكن الواحدة، قد لا يكون فيها، تساو في السلطة .. ولكن من قال: إن الصين وصلت إلى المجتمع الأمثل؟ .. في الهند عدالة، صحيح ليست كعدالة الصين، ولكن هناك على الأقل ذلك الحد الأدنى من العدالة، ليست المكتوبة في الكتب والدساتير وبرامج الأحزاب، ولكن العدالة المرئية والمسموعة والمشاهدة يوميًّا، والمطبَّقة أولًا على رئيسة الوزراء.

فالقاعدة في دكتاتورية العدالة هي ضرب المثل فهي ليست عدالة يُصدرها الحاكم لتطبق على المحكوم فقط .. ولكنها العدالة تُطبق أولًا على الحاكم وأمام عين وأذن المحكوم؛ ليؤمن أنه في الإمكان بعد هذا أن تُطبق عليه.

وهذا السبب الذي نشكو منه أو كففنا ويئسنا حتى من الشكوى منه، هذه اللامبالاة، هذا الإحساس الممِضُّ الرهيب أن البلد ليست بلدك، وأنك آخر المسئولين عنها، سببه أن بعضهم يركب السيارة .. يسابق بها الريح، ويعيش ويتسلط كأوناسيس ونابليون، بينما أنت مركون في انتظار أوتوبيسك الخردة موضوع بين نارين، إما أن تبقى نظيفًا جائعًا شریدًا خائفًا أن يدوسك الانجراف وكأنه السيل العارم القادم، وإما أن تسرق لك قطعة غيار أنت الآخر، أو تغمض عينيك عن آخرين يسرقون قطع الغيار، وباختصار وفي النهاية تنحرف.

إن الطبيعة البشرية ضد الانحراف في كافة صوره وأشكاله. والإنسان أصلًا وأساسًا خُلق ليحيا شريفًا ونظيفًا، والشاذ هو أن يجرم أو يتعمد الخطأ أو الخطيئة، هو لا يفعل هذا — في معظم الأحيان — إلا مرغمًا، وإلا، بالذات إذا وضعته بين خيارين قاسيين، بشعي القسوة، إما أن تجف روحه ويتبلغ بشرفه وقناعته، وإما أن يقلد السائد ويفسد.

•••

إن المشكلة ليست مشكلة فقر الإمكانيات، فكم من شعوب ودول مرت بأزماتٍ أعنف بكثير من أزمتنا الحاضرة، بل ونحن، وهذا هو الغريب في مستوى اقتصاد قومي أعلى بكثير من كل سنواتنا السابقة، ولكن المشكلة الأساسية أن العدالة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والخلقية والسلطوية غير مستبدةٍ، عدالة بها من الثقوب أكثر مما بها من خيوط الغربال، عدالة تُطبق على الخائب فقط .. أما الشاطر فهو من يركب فوق العربة .. حتى لو كانت حطامًا .. ويطلب من الآخرين أن يزقُّوها ويزقوه معها .. نحن جميعًا مستعدون أن نزق هذا صحيح، ولكن «كلنا» نزق، كلنا ندفع، وبكل ما في قدرة كل منَّا على القوة، شرط أن لا يركب البعض ويكون عملهم إعطاء الأوامر «للعبيد» بالزق. كلنا على استعدادٍ أن نضحي، كم أحلم بأن نبيع جميعًا عرباتنا الخاصة وبثمنها نبني المصانع ونصنع ملايين الدراجات، شرط أن نبيع — جميعًا — عرباتنا الخاصة، وأن نركب — جميعًا — الدراجات، ذلك أن دكتاتورية العدالة تقتضي أن تتوزع الحقوق والواجبات بالتساوي؛ بحيث لا يكون لعربيٍّ على أعجمي فضل إلا بمقدار ما يبذل في سبيل بلده ومجتمعه، وليس بمقدار المنصب الذي يتولَّاه .. أو المال الذي لديه .. أو ما يستطيع اقتناءه.

•••

إن التقديرات الاقتصادية تقول: أننا في حاجة — خلال السنوات الخمس القادمة — إلى اثني عشر مليار جنيه لنعبر أزمتنا الاقتصادية فقط، هذا إذا اعتبرنا أن أزمتنا أزمةٌ اقتصادية فقط، فما قولك عن الأزمة التربوية والعلمية، والحكومية والتكنولوجية والنظامية العامة والخاصة والمعنوية والروحية والأخلاقية .. إلى آخر القائمة التي لا أعتقد أن لها آخِرًا .. ودول الخليج لن تمنحنا مجتمعين أكثر من عدد «٢» مليار فقط خلال السنوات الخمس، فكيف سنحصل على العشرة آلاف مليار جنيه تلك؟ وحتى ولو بمعجزة أن يتفق العالم الغني بأجمعه كله، بأمريكته وروسياه على إعطائنا إيَّاها، فلمن ستذهب، والطريق وعرٌ وشاق ومليء بقطَّاع الطرق.

نحن — إذن — شعبٌ فقير، يمر بأزمة طاحنة، ولا معجزات هناك تنقذه. هناك فقط هو: ذلك الشعب، هو الشعب وهو المعجزة .. وهو العشرة .. وهو الألف مليار .. هو الذي عاش هنا، والذي سيعيش، وهو وحده الذي بيده الحل. ولا حل إلا بأن يعمل .. فليست هناك شعوب بالسليقة فقيرة وشعوب بالسليقة غنية، هناك شعوب تعمل وتنتج .. وشعوب لا تعمل ولا تنتج .. وإنما تقعد هرتها ويقتصر نشاطها على استهلاك كل ما تصل إليه يدها .. ووراء كل شعب لا يعمل ولا ينتج يوجد دائمًا وضع يُسبب له هذا .. أو نظام، نظام لا تستبد فيه العدالة، عدالة الحق، وعدالة الواجب، نظام اختلت عدالة توزيع الأعباء فيه، عدالة السلطة أو الاقتصاد أو القانون أو المركز أو الدخل، أو حتى عدالة الركوب والمرور .. أو كل هذه مجتمعة.

وحلُّنا ومنقذنا ومخرجنا من هذا المأزق وكل مأزقٍ، حلمنا البشري القديم الذي نادرًا ما تحقق، هو عدالةٌ حادة قاطعة كحد السيف.

أو على الأقل — يا هوه — حد أدنى من دكتاتورية العدالة، فهي وحدها دكتاتورية الشرف، والعمل، والقيم، والحرية، والعدل، والإنسان …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤