تعالوا ننظف مصر

استمعوا أيتها السيدات وأيها السادة .. المسألة تجاوزت فعلًا حدود المنطق والمعقول، حدود أي صفةٍ بشريةٍ أو حيوانية .. حتى وأنا قد أبدو مزعجًا ومقلقًا للراحة، ولكن إذا كان الأمر أمر إزعاج جثث تمر بحالة موت روحيٍّ ونفسي وجسدي کامل .. فأنا مستعدٌّ أن أكون أكثر إزعاجًا إلى درجة الوخز بالإبر والمسامير والخناجر حتى .. لم يعد معقولًا ولا إنسانيًّا أبدًا أن نستمر نحيا بهذه الطريقة .. الموت، والله أفضل، والوباء، أفضل، والحرب أفضل، وأي شيء أفضل!

منذ شهرين كان عندي مشوار في «دوران روض الفرج»، وليس مهمًّا الآن كيف وصلت إلى هناك، أما المهم حقيقة فهو ما وجدت عليه شارع روض الفرج الرئيسي .. كانت المجاري «ضاربة» في الشارع .. والماء بشع الرائحة .. والمنظر والتكوين يغمر الشارع لمسافة لا تقل عن نصف كيلومتر .. والناس تضع أحجارًا، أو أحيانًا تخوض في هذا البحر البشع القبيح لتعبر الشارع، والعربات تصنع بعجلاتها وبالأقل أقذر الأمطار الصناعية .. هززت رأسي للحال التي وصلت إليها مرافقنا العامة، وقلت في سرِّي: معذور والله هذا الشعب الذي عليه أن يتحمل انقطاع مياه النظافة وغزارة المياه القذرة .. الماء المقطر ممنوع مقطوع، والماء البشع موجود وطافح بغزارةٍ .. معذور والله هذا الشعب.

ومضى شهران، وبالأمس فقط كان عليَّ أن أذهب مرة أخرى إلى روض الفرج .. وليس مهمًّا كيف ولا بأي طريقةٍ وصلت هناك، فلنترك جانبًا حديث المواصلات والتاكسيَّات، ولكن المهم، بل الشيء الذي لا يصدقه عقل .. أو منطق أو عينٌ ترى وأنفٌ يشم، أن أصل إلى هناك، لأجد نفس المستنقع الرهيب، يغمر نفس المساحة من الشارع ويعبق الجو برائحة لا يمكن أن يقبل الحياة في ظلها إنسان أو حيوان أو نبات أو حتى جماد.

شهران وأنتم أيها السادة الأفاضل سكان روض الفرج، تغوصون في وحل المخلفات البشرية هذا، شهران وأنتم تتلوثون وتشمُّون وتقاسون وتعانون، شهران وأنتم تصبرون .. لعن الله صبركم .. لعنت حياتكم .. لو كنتم مجموعة من الكلاب الضَّالة لهجَّت من الحي كله وحتی من العاصمة كلها .. لو كنتم مجموعة من الحشرات للدغت نفسها بنفسها وأنهت هذه الحياة ذات الرائحة العفنة الكريهة .. ولكنكم — الكارثة الكبرى — بشر، بشر ترتدون البدل والجلاليب «النظيفة»، نساء مُسرحات الشعور أنيقات البلوزات والجيبات، دكاكين، ومطاعم وأناس تركب العربات والتراموايات، أرقى کائنات على سطح الأرض .. كيف تحملتم بالله هذه الحياة لشهرين، ومن يدري .. ربما تتحملونها لعام أو حتى لبضعة أعوامٍ .. أليس فيكم رجلٌ واحد أو بضعة رجال «يثورون» على هذا الوضع ويذهبون إلى مهندس المجاري أو التنظيم وينتزعونه من مكانه قسرًا ويمرِّغون أنفه في المياه الطافحة، أليس فيكم آدميون أكثر يذهبون إلى محافظ القاهرة ويَحملونه حملًا إلى شارعهم ولا يتركونه إلا وقد عاد الشارع يصلح لمسير وعبور وإقامة الآدميين، وأنتن یا نساء الحي .. كيف تحملتن أن «يعيش» أطفالكن ويتمرغن في شارع كهذا؟ .. يا من تضعن أحيانًا البرفانات .. كيف احتملتن الرائحة، وإذا كان الرجال قد تقاعسوا، فكيف تقاعستن أنتن؟

والحق أني لا أتحدث عن روض الفرج وحده، إن طريق «ملَك حِفني ناصف» بالإسكندرية، وغيره، إن أي شارع أو حارة في القاهرة أو الإسكندرية أو أسيوط أو البداري .. إن كل مكان في مدننا يضجُّ بكم من القذارة أو الإهمال والبشاعة لا يمكن أن يصلح معه إطلاقًا حياة البشر .. ومع هذا فالبشر يحيون فيه .. متبلدين بلادة لا يمكن أن تكون لجنس البشر، وكأنهم يتلذذون بمشهد المجاري والقذارة، وكأن کائنات أنيس منصور التي هبطت أو تهبط من السماء ستقوم هي — وليس هم — بعملية النظافة .. وكأن الحكومة لها عين ترى القذارة وتزيحها .. وكأنه لا يزال هناك أمل في جهاز التنظيم ومصالح التنظيم .. والمجالس المحلية يدُكُم منها والأرض .. فجهاز النظافة العام في مصر — مثله مثل كثير غيره — قد تفسَّخ تمامًا وانشلَّ، نفس الشلل والتنبلة التي أصابت الإنسان، وكلٌّ يعتمد على الآخر في عملية التنظيف .. السيدة تعتمد على الخادم أو الخادمة — إن وجدت — والخادمة على البواب، المحلية على جامع القمامة الذي أصابه الوخم هو الآخر .. وبدلًا من أن يعبِّيها في عربات ويحملها إلى خارج المدينة، بدأ يختار أي وأقرب مكان إلى منطقته ويفرغ فيها قمامته، وتتعالى الأكوام، أمام عين العسكري، وأمام عين الكنَّاس، وأمام عين معاون البلدية، ولتتعایش العين والناس والقذارة، وليتعايش التنظيم مع الفوضى، وليتعايش الكمد المخمود الذي أصابنا مع القذارة التي تتراكم أمامنا وداخلنا، ولنتحول في النهاية إلى مجموعة من الحيوانات القذرة تحيا في جحور قذارة اسمها «المدن» .. بل حتى الحيوانات أبدًا ليست بهذه القذارة، القطة تظل تلحس ابنتها بلسانها و«تنظفها» لأن الطبيعة الحيوية — حتى لو كانت طبيعةً حيوانية — هي ضد القذارة .. ولأن القذارة هي الفوضى في التركيب وفي المعنى وفي الرائحة وفي المذاق، والحياة هي الدقة في النظام والرقي في التركيب.

•••

اسمعوا — أيتها السيدات وأيها السادة — لقد يئست تمامًا منكم ومنكن ولم يعد لي أملٌ إلا في أجيال الشباب الجديد .. ولهذا فأنا شدید الاندهاش أن يكون تصرف الشباب هو الآخر على هذا النحو .. إن هذا ليس أول جيل من شباب مصر، فللشباب في مصر تاريخ وأجيال .. وقد كان الشباب على الدوام هو القوة القاهرة الدافعة للثورة وللتغيير. كان مشهد التدخل الأجنبي في مسائل مصر الاقتصادية والسياسية هو الذي أزعجه حتى قام بثورة عرابي، كان مشهد العساكر الإنجليز والأستراليين في شوارع القاهرة هو الذي أزعجه إلى درجة القيام — قلبًا وقالبًا — بثورة ١٩، كان مجرد مشاهدته للوجوه الحمر المطلَّة من ثكنات قصر النيل وعمارات شويكار في شارع قصر العيني يُزعجه إلى الدرجة التي يقوم فيها بثورة ٤٦، و٤٧، و٥١ .. ويسقط منه الشهداء ويسيل منهم الدم الأحمر الطاهر يخضِّب أرضًا أبوا عليها أن تُدنسها أقدام ووجوه المحتلين. كان مشهد العَلَم الإسرائيلي على ضفة القناة الشرقية يدفع دمه للغليان حتى قام بالانتقام العظيم في ٦ أكتوبر. أيكون مشهد حي بأكمله يستنقع في مياه المجاري .. أيكون مشهد أكوام القذارة والقمامة والزبالة، أيكون هذا القبح الكسول المستشري أقل بشاعة من وجوه الإنجليز الحمر؛ النظيفة على أي الأحوال؟

ورُبَّ قائل يقول: إن هذا كان «استعمارًا» وكان إهانة «للكرامة الوطنية»، ولكن القذارة والمجاري المتفجرة والرائحة التي لا تُطاق أشد إهانة «للكرامة الإنسانية» .. فكيف إذا طاقها العاديون، يطيقها الشباب، تطيقها قلوب بِكر لم تلوثها القذارة، أعمار القدرة على التضحية وبذل النفس، كيف سكت الشباب في حي روض الفرج وفي طريق ملك حفني ناصف، وكيف يسكت في كل مكان وحارة من مدننا على حياته اليومية وهي تُلوث وكأنما بفعل عدوٍّ مبين خبيث. إن المسألة ليست مسألة عِياقة أو شياكة أو «استنظاف»، المسألة مسألة آدمية، والصين قبل أن يأكل شعبها أو يرتدي ما يليق «نظفت» حياتها أولًا من الذباب ومن الحشرات، ومن أكوام القمامة ذلك أن الإنسان الذي يطيق القذارة والتعايش معها لا يمكن إلا أن يكون قد فَقد أبسط دافع يحركه للحياة أو للعمل أو لعمل شيءٍ من أجل الوطن .. إننا كلنا نعتمد على الحكومة وعلى التنظيم وعلى — ودائمًا — «الآخرين» لتنظيف بيوتنا أو شوارعنا أو حوارينا، فلنعتبر أن الحكومة قد ماتت أو غير موجودةٍ، لنعتبر أننا «نحن» المسئولون، ليس عن نظافة كل منا فقط، ولكن عن نظافتنا كلنا، نظافة حياتنا ونظافة أحيائنا .. إننا لا يمكن أن نفلح في السياسة أو الثورة أو مجرد الجدل حول يمين أو عقيدة أو دين ونحن نحيا في قذارة، لنحيا أولًا كآدميين، وبعد هذا نتناقش أو نختلف أو حتى نتقاتل .. لنكن أولًا جديرين بحياة الآدميين الجسدية لنكون جديرين بأية حقوق سیاسية أو اجتماعية أو أي شيء آخر.

يا شباب مصر .. تعالوا نُنظِّف مصر .. لتتألف منكم لجنة في كل حيٍّ .. تضم الشباب من الطلبة والعمال، وحتى من تلامذة إعدادي وابتدائي وتلميذاتها، تنظف الحي، وتُرغم عمال النظافة على العمل، وعمال التنظيم ومهندسيه ومفتشيه وأجهزته، وتنتزع لهم حقهم في نظافة شوارعهم ومجاريهم، ولنبدأ أولًا ننظف شوارعنا، وغدًا نُنظف حياتنا كلها، من ألفها إلى يائها، ومن اقتصادها إلى سياستها .. ولكن فلنبدأ، حتى قبل أن نقرأ أو نكتب أو نأكل، لنبدأ عملًا نحس به أننا بشر نستحق حياة البشر، وأننا — شباب وشابات — نستحق أمجد وأعظم فترات الحياة .. اعملوا شيئًا يا شباب غير ضياع الوقت هائمين في الشوارع وكأنما فقدتم الرشد، ضائعين في النواصي والحواري ومطلقين الأذى من ألسنتكم على «اللي تسوَى واللي ما تسواش» .. اصنعوا شيئًا .. الآن.

دین الحكمة.

في رسالة لبقةٍ مؤدبة — وهذا أحيانًا نادرٌ في أمثال تلك الرسائل — لفت نظري مواطن — يبدو أنه ضالع في أمور الدين — إلى أني قد ارتكبت إثمًا — دعا الله أن يغفره لي، حين استعملت تعبير «عقلية: انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا» متهمًا إيَّاي أني بترت مطلع هذا الحديث الشريف، ثم يستطرد موردًا نص الحديث كله عن صحيح البخاري.

والحق أن هذا الخطاب، وغيره، أثار في نفسي تأملات لا حصر لها.
  • فأولًا: أنا لم أقل: هذا حديث شريف، وإنما أنا قلت: «عقلية» انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا، مثلما يقول الإنسان أحيانًا: «عقلية» لا تقربوا الصلاة .. ويسكت عن إتمام باقي الآية، إن قولًا كهذا لا يعتبر «استشهادًا» بالآية ولا بالنص، وإنما يتحدث عن «عقلية» أخذ نصف القول وترك النصف الحقيقي الآخر الذي من أجله نزلت الآية أو قيل الحديث.
  • وثانيًا: هذا يدل على أني كنت محقًّا في النص على هذه العقلية عند البعض، فقد وضح لي الآن أن بعض الناس يقرءون ما يُكتب قراءة «شكلية» محضة، يقرءون بنفس عقلية: لا تقربوا الصلاة، ومستعدون أن يحكموا بالتجديف، أو أحيانًا بالكفر، لمجرد الشكل وليس أبدًا معنی الأشياء وأعماقها. وهذا أيضًا ليس غريبًا، فقد تحولت دیانتنا المحمدية على أيدي البعض إلى «شكل» الوضوء، و«شكل» أداء الصلاة، و«شكل» ما ترتديه المرأة أو لا ترتديه، ولا يهم بعد هذا أن يكون للرسالة المحمدية العظيمة مضمون أعمق وأشمل، ذلك المضمون السماوي الشامل الذي من أجله هبطت الرسالة لتشكل إيمان الناس في كل زمان ومكان، وتُشكل ضمائرهم .. أبُعث مُحمد عليه السلام نبيًّا ليقول لنا ماذا نرتدي وماذا نأكل؟ لقد بُعث هذا البعث العظيم أولًا وأساسًا ليهدينا إلى من نعبد .. ولماذا؟ ليهدينا إلى الخالق عز وجل ويحيطنا بأعظم رسالة.
  • وثالثًا: ألاحظ في الفترة الأخيرة حساسية مفرطة ضد أن يتحدث أحد عن أي شيء يتعلق بالدين إلا رجال الدين، في حين أن الإسلام — كما يقول فضيلة الشيخ أحمد حسن الباقوري — ليس فيه أصلًا رجال دین، فكل مسلم هو رجل دينه، هناك فقهاء وعلماء هذا صحيح، ولكن الحديث عن الإسلام، والمسلمين هو من حقِّ كل مسلم، بل إن «خليفة» المسلمين نفسه يطلب من أي عربيٍّ أن يقوِّمه إذا انحرف، بمعنى أنه — أي الخليفة صاحب النبي وحبيبه وأعظم داع لرسالته — يطلب من أي عربي عادي أن «يقومه» إذا أخطأ، معنى هذا أنه ممكن أن يُخطئ هو أيضًا، وأن من «حق» أي عربي أن يدرك هذا الخطأ، وأن يقول له رأيه — مهما كان جاهلًا أو متواضعًا — أي أن يقول له مفهومه الإسلامي لما ارتكبه الخليفة.

فكيف تريد إذن أن نحوِّل هذا الدين الواسع العريض، هذا البحر الذي من حق أي منا أن يغترف منه ما شاء إلى «حنفية» ضئيلةٍ عليها قوم «مدججون» باحتكار «الفهم» للإسلام، وكأنما محظورٌ على عقل أي منا — مهما بلغ نبوغه — أن يفهم إلا من خلال فهمهم هم وتقديرهم هم واحتكارهم هم.

إني مُصرٌّ على أنْ لا كهنوت في الدين، وأن من حقِّي أن أفهم إسلامي كما أريد وكما أستطيع، والله وحده سبحانه وتعالى هو الذي سيحاسبني على فهمي، بل إني مُصرٌّ على حقي حتى في أن أخطئ الفهم وأن أعترف بالخطأ إذا ما أدركته، فديننا الحنيف جاءنا، ليس لأننا ملائكة مُنزَّهون من الخطأ؛ وإنما لأننا بشر نخطئ وقد نصيب، وحسابنا من الخطأ والصواب لله وحده مالك كل شيء وخالق كل شيء وصاحب الأمر والنهي، أما أولئك الذين يُنصبون أنفسهم أوصياء على دين الله وعلى أمة الله فهم يرفعون أنفسهم إلى رتبة رُسُل، ولكنهم رسل بغیر تفويض، وليُظهر لي أيٌّ منهم من فَوَّضه، ولماذا هو وحده المفوض وأنا مسلمٌ مثله، وربما أكون أكثر منه تقوًى وأشد منه إسلامًا بسلوکي وقِیَمي وعقیدتي؟

من فوضه ليُرهبني ويخيفني ويجعلني أعبد الله من خوف ليس منه سبحانه، وإنما من جماعات الإرهاب الديني الذين يريدون إعادة محاكم التفتيش وطغيان الكنيسة وحرق الناس أحياء لمجرد قولهم إن الأرض تدور حول الشمس؟

إني إنما أعبد الله عن حبٍّ، ومن يحب لا يخاف، لا يخاف بالذات أولئك الذين يريدون إحالة أعظم رسالة حب عرفها الإنسان إلى سلاح اتهام وبطش وتعذيب، وكأنهم هم وحدهم المسلمون وبقية الخلق إما كفرة أو منحرفون أو بلا قدرة على التمييز.

إن الإسلام للناس جميعًا، حتى للأُميِّ الذي لا يقرأ أو لا يكتب، ولم يهبط ليكون دين خاصة ودین قلة ودين أوصياء على خلق الله، دعوا الناس تعبد الله بلا إرهاب، وإذا دعوتموهم إلى الدين فإنما كما قال الله سبحانه وتعالى: بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ. لم يقل أبدًا: بالسوط، ولا بالسيف، ولا بالقهر .. بالحكمة والموعظة، وليست حتى أي موعظةٍ .. وإنما بالموعظة الحسنة .. أتعرفون الموعظة الحسنة؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤