أحقًّا أحلى مذاقًا من العسل؟!

لا أعرف ما هو سر ذلك الدقيق أقول الغبار المثبط الذي يتسلل داخل وحول خلايا جسد الإنسان ومخه في بلادنا. كنت وأنا مسافر — ولم يمضِ على سفري هذا أكثر من شهر — وأنا أنظر من نافذة الطائرة أو العربة أو القطار، وأنا سائر أحث الخُطى في قلب شوارع لندن أو باریس، أو حتى قرية أوروبية نائية ومتواضعة، كنت وأنا أرى الغابة أو النهر الصغير، وأنا أرى الشاب والفتاة والرجل والطفل والمرأة سائرين هائمين مسرعين في الشارع، كأن عقلي يُشبه معمل الأفكار المزدحم، تتوالد فيه الأفكار بمعدل فكرة في كل دقيقة، وترتبط وتتناغم، ثم في أحيان كثيرة أخرج باستنتاج رائع هائل، تفد إليَّ الموحيات والأفكار وكأنها طيور النورس قادمة في أفواج تلو أفواج لبحيرة عقلي المليئة بالسمك والطعام، تُصفق بأجنحتها وتهفهف وتصطخب، تزغرد وتلهو وتتعابث وتتلاقح، تصعد في السماء وتهبط إلى الهدف في سرعة انقضاض البرق.

أكثر من عشر أفكارِ قصصٍ قصيرة تعنُّ لي، مشاريع لتغيير مجری الحياة تمامًا، مغامرات فكرية ونفسية تتفجر في أعماقي، إقبال على الحياة منقطع النظير، خطط لمدى بعيد وقريب، تجميع لماضيَّ وحاضري ومستقبلي يلتقي عند النقطة التي تركز وتقطر العمر، وتحصل منه على ثمرة أو تراجع موقعه من الكون أو الحياة، حركة دائبة في اتجاه التحقيق الفوري لكل ما أراه يصلح من أفكار أو مشاريع، إقدام لا حد له، اندفاع، أعقل اندفاع مجنون في اتجاه المستقبل وتحقيق الذات، وتطوير النزوة لتصبح اكتشافًا وخطة .. باختصار حياة مليئة كاملة، أضرب فيها بأذرعي لتصل إلى أقصى المعمورة، وأُحلِّق فيها بأفكاري لتشمل مجرتنا كلها، وتغوص أقدامي إلى أعمق أعماق تاريخي وتاريخ العالم، وترتفع لتحلق في القرن الخامس والعشرين، وربما الثلاثين.

هكذا أكون وأنا مسافر، وأنا بالخارج، وأنا بعيد، وأعود، وبقوة الاندفاع الذاتي، أبقى هكذا للأيام الثلاثة الأولى، أو ربما للأسبوع الأول، مسافرًا لا أزال في الأكوان الخاصة والعامة، خلَّاقًا، قادرًا على تحقيق ما يجول بالخاطر …

ثم يبدأ الدقيق الناعم، الرمل الخفي الأصفر، التراب الذري المطفأ، يتسرب .. في العادة كنت لا أحس ولا أعي بمقدمِه، إن هو إلا هبوط تدريجيٌّ يبدأ يُصيب الهمة، تأتي الفكرة فأؤجلها إلى أن «يروق المزاج» بالليل، وبالليل يأتي ما يؤجل روقان المزاج، يعن لي المشروع فأقول: هذا ليس بعاجلٍ، وذلك ممكن تأجيله، وما فائدة أن يبدأ الإنسان شيئًا «مجنونًا» كهذا، الحياة سائرةٌ وكل شيء ممكن أن يمضي هكذا سائرًا وحده إلى الأبد، يبدأ الغبار فعله ويبدأ الإنسان «يطمئن» إلى الواقع، ثم «يركن» إليه، ثم «يتلاءم» معه، ويفقد الطموح في تغييره أو الإطاحة به. تبدأ الأفكار تقل ثم تندر ثم تتلاشی، وقوة الخلق تتضاءل، والكتابة التي كانت مبهجةً ورائعة متلألئة كالهدف الساطع الجميل تصبح عبئًا، ويُوه .. لسه ح أقعد ع المكتب لأربع أو خمس ساعات.

ويئوب الإنسان في النهاية إلى حالة «الموت-الحياة» .. التي نحياها جميعًا.

•••

كنت أظن أن هذه حالتي الخاصة، ولكني وجدتها الظاهرة العامة المستشرية، هناك شيء ما، حقیقيٌّ ومروع وخطير؛ ولكنه غير مرئي أو مسموع قائم في حياتنا، بيننا، نتنفسه ونزفره، ونعدي به بعضُنا البعض، نرتديه ونركبه ونلبسه ونطعمه، شيء ما لست أدري كُنهه، ولكني أعرف تمامًا مفعوله، شيءٌ مثبِّط أو كاسر للهمة، ومخمد للطموح، ومضيع للهدف، وخانق لكل فكرةٍ ومشروع ومُشِلٌّ، قائم وماثل في حياتنا؛ وهو ليس — كما يتصور البعض — خاصًّا بمصر وحدها، ولكنه الجو العام في شرقنا العربي وغير العربي كله، شيء وكأنه الإنزيم ضد النشاط، وكأنه الطعم الواقي من العمل والتفكير، وكأنه قد أصبح الخاصية القومية التي تُميز مرحلتنا «المجيدة» الحالية.

ما هو ذلك الشيء؟

أهو فقدان الهمة الفكرية القيادية الموحية؟

أهو هذه الأعداد الهائلة من البشر التي معها يحب المواطن منا الإنسانية مجردةً، ولكن بالتأكيد يكره «الإنسان»، أو يكره هذه الكتل المتراصة من الإنسان، تُحيل ذلك الكائن الراقي النادر، أرقى وأعظم وأجمل ما في الوجود، إلى مجرد رقمٍ عشريٍّ كبير، حبذا لو يُختصر معظمه أو يختفي أو يندثر ليبقى للتفرد البشري قيمته وروعته ومجده؟

أهي الشمس الحامية الساطعة التي تجعل الواقع مضيئًا تمامًا بكل ما فيه من بشاعة وقبح؛ بحيث ينعدم الجمال تمامًا أمام العين، وحين لا يرى الإنسان الوجود جميلًا، أو يراه قبيحًا، يتولى القبح أو انعدام الجمال إخماد حاسة الهمة والنزوة والخَلق لدى الإنسان؟

أهو الكسل الجماعي المسيطر، يُعدي، كالإنفلونزا الآسيوية، وحين ترى الناس جميعًا كُسالى أو متكاسلين، فأي مبادرةٍ منك لا بد مصيرها الاختناق والإهمال؟

والكسل الجماعي هذا في رأيي نقطة هامة. إذا كان بعض الناس يُفسرون التاريخ بالعوامل الاقتصادية، وهناك من يُفسرون التاريخ تفسيرًا نفسيًّا، فإن لي تفسيرًا لهذه المرحلة من تاريخنا اسمه التفسير الكسلي للواقع والتاريخ. كل شيء ممكن أن نُفسره بالكسل، حتى استلقاء متفرجنا في مسرح أو سينما أو أمام تليفزيون ليتفرج على عملٍ «فني» عبيط يقهقه له قهقهات حنجرية جوفاء سببه الكسل عن أن يقرأ كتابًا أو يشهد عملًا يضطر معه أن «يُعمل» عقله فيه و«ينشط» .. حتى التحلل والانحلال لنزوله باستسلامنا كسالى للذة لا لذة فيها.

أم يكون السبب أننا مطحونون تقديريًّا، سواء التقدير المادي أو الأدبي، بحيث يتساوى من يعمل بمن لا يعمل، وبحيث أن من يعمل لا ينال إلا الفتات على ما يعمل، ومن يكسب حقًّا هو من يرشو أو يرتشي أو يختلس أو يتاجر في السوق السوداء .. أو يأخذ العمولة، وكلها أكسل الوسائل للحصول على النقود. فهي ليست رأسمالية طموحة نشطة تُقيم المصانع وتُغذيها إرادة هائلة لبناء صناعة أو تجارة أو مشروعات، وإنما هي رأسمالية كسولة هدفها الربح من أکسل طريق، أي أحرم طريق؟

أم هي المشاكل الصغيرة الصغيرة التي تستحيل كل منها إلى مشكلة كبيرة كبيرة حين لا تستطيع أن تجد لها حلًّا، وتتولى، كذرات الدقيق والرمل والغبار الصغيرة والكبيرة، الترسب في مفاصلك الفكرية والنفسية لتحيلك في النهاية إلى ذلك الكائن المقعد إراديًّا أو بلا إرادة، المتكل على الله في النهاية أن تحل المشاكل نفسيًّا، وما عليك إلا أن «تصبر» عليها.

وآه من ذلك الصبر الذي يحفل به تراثنا الفكري والشعبي! إنه ذلك العدو القاتل للإرادة وللعزيمة. الصبر. ذلك الاستسلام الممرض البغيض للمشكلة حتى يموت طموحك لحلها، ذلك الاعتماد المتهافت على «الزمن» لكي يحلها أو يحلك أنت وتتحلل معه عزيمتك.

أفي تراث أيِّ شعب في الدنيا مَثَل يقول: الكسل أحلى مذاقًا من العسل. إلا ذلك التراث العظيم. تراثنا؟

أم هذا كله، مرة واحدة، ومعًا، يكون، ذلك الدقيق أو الغبار الذي يتسلل داخل وخارج وحول خلايا مخك وإرادتك وجسدك، ويُحيلنا إلى تلك الأشولة البشرية السمينة تتحرك في بطء قاتل إلى اللاهدف واللاخطة واللاعجلة، ولتصنع في النهاية اللاشيء؟

فيدرا .. وفريدة.

اللحظات قليلةٌ نادرة هي تلك التي تُدرك فيها عظمة وروعة الانتماء، ليس الانتماء فقط، وإنما ما هو أرقى بكثير .. ألف إحساس وإحساس راودني وأنا مزدحمٌ مع أكثر من مائة مصري ومصرية وعربي وعربية في الغرفة الصغيرة الملحقة بجناح الممثلين في مسرح «الأوبرا كوميك» بباريس في أعقاب ليلة الافتتاح لمسرحية «فيدرا أرابیكا» أي فيدرا العربية، التي قدمتها فرقة المسرح القومي في باريس.

وكانت الحفلة فوق حدود الروعة، مباراة خطيرة في الأداء والتجويد بين أكثر من قمة من قمم التمثيل المسرحي عندنا، سميحة أيوب عبقرية الحضور والأداء المسرحي الجديدين، أمينة رزق تاريخ المسرح المصري، ولا تزال جزءًا كبيرًا من حاضره، عبد الله غيث ذلك العملاق، فردوس عبد الحميد تلك الطاقة الهائلة مسرحًا وصوتًا جميلًا، وكان العبء شاقًّا على الشاب الجديد محمد العربي وسط هؤلاء العمالقة، ولكنه استطاع أن يتشامخ ويصمد بأدائه، صديقه ذلك الذي للأسف لا أذكر اسمه، ليلة عربية فعلًا، في قلب عاصمة المسرح في العالم، شيء لا بد يدفعك إلى أن تحس بفخر أن عندنا مواهب، لا تستطيع فقط أن تقارن بالمواهب العالمية؛ ولكنها في أحيان تبزها وأحيانًا في قلب عاصمتها. كنت حاضرًا لتوِّي من ندوة عن آداب الشرق الأوسط بدعوة من الدكتور طلعت هالمان وزیر الثقافة السابق في تركيا والأستاذ بجامعة برنستون الأمريكية حاليًا، والذي أقام وبرعاية من الأستاذ مورو بيرجر رئيس قسم دراسات الشرق الأوسط بنفس الجامعة ندوة عن الأدب العربي وآداب منطقة الشرق الأوسط بالتعاون مع نادي القلم الدولي بنيويورك، ندوة حافلة برياسة المسرحي الأمريكي آرثر ميللر، وحضرها عدد كبير من الكُتَّاب والشعراء والمسرحيين الأمريكيين؛ مثل جون إبدايك، وميروين، وإدوارد إلبي مؤلف: من يخاف من فرجينيا وولف، وسأتحدث في مرةٍ قادمة بتفصيل أكثر عن هذه الندوة الهامة، ولكن ما أريد الآن قوله: إن الأدب العربي كان مُمثلًا في هذه الندوة بالأستاذ يحيى حقي والدكتور إحسان عباس والشاعرين الكبيرين أدونيس وعبد الوهاب البياتي، وكاتب هذه الكلمات، ناهيك عن «سفيرة» الأدب العربي الدكتورة منى ميخائيل التي قامت بعملية الانتقاء والترجمة.

النماذج الشعرية والقصصية والنقدية العربية التي قُدمت أذهلت الحاضرين، أمريكان وغير أمريكان، حتى لقد جعلتني أحسُّ أن أدبنا العربي الحديث مظلومٌ في عالمنا المعاصر، ونحن أول ظالميه، فنحن لا نبذل جهدًا في ترجمته إلى اللغات المنتشرة، وتشجيع طبعه وتداوله في كل أنحاء العالم. إنه مفخرةٌ لأي شعبٍ متحضر تكاد تنحصر فيه كل إسهاماتنا في الاختراع والابتكار والإضافة إلى التراث الحضاري العالمي.

كنت حاضرًا من ندوة أحسست فيها — ربما لأول مرة — بالفخر أنِّي كاتبٌ، وأني كاتب عربي، وها أنا ذا الآن في مهرجان مسرحي مصري في اللغة العربية في قلب باريس. لحظة من اللحظات القليلة التي ترى رأسك وقد شمخت، وتعالت فوق أمواج المحيط المتلاطم من الضياع، التي تحيا فيها فنوننا وآدابنا وعلومنا وإنساننا بشكل عام، ترفع رأسك عن جدارة .. وعن إحساسٍ قويٍّ أننا ممكن، بل نحن فعلًا، شيء كبير وعظيم في هذا العالم .. والقاعة مزدحمةٌ، والتدخين كثير. والحضور في بهجةٍ لامعة بالعرق والتأثر والانفعال والضحكات والتحيات والقبلات والأحضان، نُهنئ بعضنا البعض وكأنما نكتشف أنفسنا لأول مرة. سعيدون تمامًا أننا نحن .. وأننا هنا .. وأننا نصل وسنصل.

كنا هكذا حين قابلني الصديق الفنان سعد الدين وهبة رئيس البعثة الفنية إلى باريس: أتعرف هذه السيدة الواقفة هناك؟

نظرت إليها بإمعان. وهززت رأسي ببطء، فلم أكن أعرفها.

قال: هذه هي «الملكة» فريدة.

– الملكة فريدة!

في الحال انشق في ذهني شريط طويل من ذكريات مُريعة عن عصر الملكية، والملكة الجميلة الأولى، وفاروق، والطفل الصغير الذي کُنتُه .. وأبي يرفعني فوق أكتافه في ميدان الأوبرا لأشهد موكب التتويج، ثم الزواج، وتلك الصورة التي كانت تُباع بقروش للعروس الملكة والتي اشتريتها وعلَّقتها في عروة جاكتتي الصغيرة .. إذن هذه هي الملكة فريدة.

قال سعد الدين وهبة: أُعرِّفك بها؟!

وقدمني إليها، وفوجئت أنها لا تعرفني فقط؛ وإنما تواظب على قراءة ما أكتبه وما يكتبه المصريون والعرب.

ومرة أخرى عاد الشريط يلفُّ في رأسي بعد أن أصبحت الملكة الرسمية وبدأت صورها تظهر في الصحف، صور «رسمية» جامدة. جميلة .. هذا صحيح .. ولكنه ذلك الجمال المتعالي، والذي يجب أن يكون ملكيًّا ومتعاليًا، باختصار .. غير إنساني .. وأستغرب أنا وأتألم وقد فقدت في رأيي البنت الحلوة التي كنت أُعلق صورتها في عروتي، وها هي قد أصبحت «ملكة» .. لا يبدو على وجهها — رغم ابتسامتها — أي سعادة بالمرة.

والآن ها هي أمامي .. سعيدة كما لم أرَ إنسانة سعيدة هكذا، کیف والهالة الملكية قد غادرتها إلى الأبد، وهي الآن مجرد مواطنة وفنانة ترسم، وقارئة، وقادمة مثلها مثل أي فنانة أو مواطنة عادية تحتفل معنا بفريق المسرح القومي. وتهنئنا وتأخذ معه الصور؟

هالني ذلك البريق السعيد الذي كان يُشعُّ منها ورحت أحاول تفسيره.

ولم أتعب كثيرًا لأُفسره .. إن السلطة كالثراء الفاحش قاتلة لإنسانية الإنسان، فهي تبعده عن البشر، وتمنع عنه الانتماء، وتُحيله إلى كائن مكتئب وحيد، عليه أن يكون وحيدًا وبعيدًا لكي تُحفظ له هالة السلطة والثراء. وهذا أبدًا ليس من طبيعة البشر، في حاجة للانتماء، في حاجة ماسة أن يكونوا «عاديين» ليكون لهم إحساس البشر، وحس البشر، وطعم البشر، وإنسانية البشر.

ها هي المواطنة فريدة سعيدة، أسعد ألف مرة عن كونها متوَّجة أو ملكة، فهي أخيرًا قد وجدت قبيلتها البشرية والإنسانية، أخيرًا قد أصبحت امرأة وفنانة ومنتمية وسعيدة بعاديتها، سعيدة أنها «وسط» مواطنيها وليست «فوقهم»، سعيدة، يشعُّ قلبها بسعادة لم تر مثلها وهي شابة، جميلة رغم تجاعيدها ألف مرة أكثر من جمالها وهي في العشرين، مبتسمة هذه المرة، ليس «كبُوز» ملكي. وإنما ابتسامة بشرية نابعة من أعمق أعماقها.

ألا ما أحمق هؤلاء الذين يتكالبون على السلطة ويفقدون كل ما يجعلهم بشرًا ليحصلوا عليها ويحتفظوا بها! إذ فعلًا يحصلون على القوة والنفوذ ولكن مقابل أن يموت فيهم كل ما هو جميل وإنساني .. وكل ما يجعلهم فعلًا ومن أعماقهم سعداء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤