من واحد إلى ٨٠٠ مليون

لم أحزن لوفاة ماوتسي تونج، ذلك أن الإنسان لا يحزن لغروب الشمس بعد أداء وظيفتها. كنت ألحظه في اللقاءات القليلة التي كان يلتقي فيها برؤساء الدول وكبار الشخصيات، وسمعت تعليقًا أو تعليقين من بعض من قابلوه؛ وكنت أقول لنفسي: لقد كبر الرجل الظاهرة وشاخ، وآن له أن يستريح.

ولقد استمعت إلى نعي جمهوريتنا وتقريبًا كل دول العالم له، وقرأت بعض ما كتبه كبار المعلقين والكتَّاب. ولكني ظللت لا أحس أن ذلك الجزء من نفسي الذي يمتُّ إلى ماوتسي تونج قد لمسه أحد. ذلك أن ماوتسي تونج كان أستاذي، أعظم أساتذتي على الإطلاق، في شيء محدد بعينه رغم أني لم أقرأ له إلا كتابًا واحدًا لم يعجبني كثيرًا، ليس لأنه غير جيدٍ، ولكن لأنه صینيٌّ تمامًا بحيث من الصعب على عقلية مثل عقليتنا أن تتفهم وبعمق كافٍ معنى الفهم الصيني للاشتراكية وللثورة الصينية .. وكيف يمكن أو يجب أن تكون. بل حتى ما قرأته عنه كان كله بأقلام غربية ومعظمها معادية .. أما المرجع الحقيقي الذي تعلمت منه فهو للغرابة: حياته ودوره.

في قارة كبيرة صفراء — أو هكذا وصفوها، فاصفرارها الأكبر كان في روحها التي توزَّعت على سبعمائة مليون مطحون في ذلك الوقت، سحقته أقدام أباطرة وحكام غلاظ، وتسلل الإنجليز واليابانيون والمبشرون يقضون على ذبالة الروح الباقية، في مجتمع تُستباح فيه المرأة وتُباع بيع السلعة، فقير إلى درجة الموت بالملايين جوعًا ومجاعات، تائه في بلاده الدائرية التي رغم اتساعها كانت تحتويه كالحُق الذي تتكدس فيه ملايين الجرذان، تائه في حياته، تائه في مصيره، تائه في ثقافته، تائه حتى بثوراته حين يثور، وبانتفاضاته حين ينتفض، وبحكمه الوطني حين يصبح له حكم وطني، في بلاد كلما قام شعبها سقط وتعثَّر حتی لقد أصبحت قولة زعيمه الوطني الكبير صن يات صن «سعد زغلول الصين»: هذا مجرد فشلنا الثالث عشر.

في بلاد اليأس الذي طغى بعد فشل الثورة والحكم العسكري بقيادة تشانج كاي تشيك الذي قام في جزء منها، والجزء الآخر تحتله اليابان والإنجليز يمرحون فيه تجارة ومكسبًا وأفيونًا ومؤامرات .. بلاد حتى لا يجمعها شمل دین واحد، بل هي ربما لم تصل إلى مرحلة الإيمان بالأديان، كونفوشيوس وبوذا: وملة «الزن» وحِكم قديمة قدم حكماء قدماء من المصريين، لكأنها مصر في أواخر عصر البطالسة الذي انتهى بتفسخ مصر القديمة نهائيًّا وبداية عصور الاحتلال الروماني وما تلاه إلى ألفي عام منذ ذلك التاريخ، لكأنها الجزيرة العربية في أشد عصور الجاهلية جهالة وتفسُّخًا وتخلفًا.

في بلاد مثل تلك، وفي مدينة كشانغهاي، میناؤها الرئيسي، المليء بالمراكب التي تخطف الخير وتجلب وتخلق كل ما هو شرير وفاسق وخارج على القانون، العاهرات والمهربون والقوَّادون واللصوص وتجار الإنسان والراسبون تمامًا في القاع، المتعاركون في الحانات، المخدرون بتدخين الأفيون وطقوسه، القليلون النائمون في الحرير، والملايين التي تعيش تزحف، ولكي تأكل تلحس وتموت كالدود دون أن تخلف وراءها إلا العفن.

في مدينة كتلك يظهر في إحدى صحفها المحلية — التي تصدر أساسًا لإرشاد «السياح» والبحارة الى أماكن الفساد — يظهر إعلان صغير يقول ما معناه: هل فيكم من يودُّ العمل من أجل الصين القادمة العظيمة؟ هل فيكم من يكترث؟ إذا كان ثمة أحد فليلقني في حانة كذا بشارع كذا في الساعة كذا من يوم كذا .. والإمضاء ماوتسي تونج .. مواطن.

ولا أعتقد أن «المواطن» ماوتسي تونج فوجئ كثيرًا حين لم يجد أن من لبوا نداءه لم يتعدوا الأربعة منهم تشوتیه وليوتشاويتشي، وآخرهم توفي قبل ماوتسي تونج بشهور، أولئك الذين أصبحوا فيما بعد «من عمد الحزب الشيوعي الصيني»، من هؤلاء الأربعة أو الخمسة الذين التقوا في ذلك المساء في حانةٍ صغيرةٍ من حانات شانغهاي على ما أذكر، لم يبدأ فقط تكوين الحزب في الصين، ولم ينم فقط إلى أن أصبح تعداد قواته ١٣٠ ألفًا، ولم يحدث الزحف الطويل من أقصى الجنوب المعاصر المضروب في الصين إلى أقصى الشمال بحيث هلك منهم مائة ألف في الطريق، إنما بدأت الصين العظيمة الحديثة. تصور، إنسان فرد واحد بادر بنشر إعلان فقيرٍ غريب واجتمع على أثره أربعة يصبحون بعد ربع قرن فقط — وما قيمة الربع قرن في حياة أمة، بل في حياة فرد — دولةً واحدة من أعظم وأضخم وأهم دول العالم، المخيف بعمالقته، المعاصر.

•••

الفرد له دورٌ عظيم في التاريخ .. فهناك أفراد كثيرون لهم أدوار كبری في التاريخ. ولكن، أية أدوار؟ ذلك هو المهم .. هناك أفراد عظام، هذا صحيح .. هناك شخصيات بحكم عوامل كثيرة تمتلك في النهاية صفة القيادة والزعامة، ولكن ربما غرورهم الفردي، ربما الظرف التاريخي الذي نشئوا فيه، ربما عوامل التسوس الكامن في النفس البشرية تجعلهم «يلوون» عنق التاريخ، ليُخضعوا التاريخ — أقصد تاريخ الشعوب — لمزاجهم هم، وليفصلوه حسب أهوائهم وشخصياتهم، هناك الإسكندر الأكبر، هناك مارك أنطوني، هناك نابليون وهتلر وموسولیني، هناك دلاس وستالين وجونسون، هناك كثيرون .. أرادوا، وفعلًا، «لووا» عنق التاريخ، ولكن التاريخ كالجواد القوي الأرعن لا يذعن إلا لمن يكون معه وليس ضده، ولهذا كان سرعان ما ينفضهم، ويعود إلى مجراه.

ولكن كان هناك، دائمًا وأبدًا، هؤلاء الأفراد العظام، وأنا لا أحب استعمال كلمة عظيم، ولكني أحيانًا لا أجد غيرها وصفًا، هناك دائمًا هؤلاء الأفراد الذين بحكم إخلاصهم وحماسهم وقدراتهم وتكوينهم لا بد وأن يصبحوا زعماء، ولكنهم أبدًا لا يلوون عنق التاريخ، وإنما يسيرون به ومعه وكأنهم مُسيرون، من إرادة الناس في التغيير يستمدون قدرتهم وإرادتهم على التغيير، من حيث يتشممون بأنوفهم وحواسهم الربانية الخفية اتجاه رياح الإنسان يتوجهون إلى حيث تُريد الريح، هناك الرسل والأنبياء .. وقادة الفن والفكر، تاريخ البشرية حافلٌ بمجموعة قد تكون قليلة جدًّا بالنسبة لتعداد البشر في كافة العصور، ولكنها هامة جدًّا؛ لأن الواحد منهم أحيانًا ينهي عصرًا ويبدأ عصرًا، وعلى يديه تنتهي حقبة لتبدأ حقبة، وبإرادته يتحول شعب، أو تتحول قارة، أو حتى تتحول البشرية جمعاء، من أناس مظلومين ظالمين، مجني عليهم وجانين، متفسخين .. واللااختلاف واللاتدجيل واللاخداع واللاكذب واللانفاق .. هذا الكائن البشري العظيم — واعذروني مرة أخرى — لا يفسد إلا رغم أنفه ولا يفسد إلا لأن ما حوله وما فوقه وما تحته فاسد، لا يفسد حتى لو أراد، إلا رغم أنفه، وإلا تحت ضغط ظروف أو مغريات هي أقوى من ضعفه البشري وقدرته الفردية على الاحتمال، نفس ساقطات الصين وعاهراتها تحولن إلى أمهر العاملات والمنتجات، والمخدرون بالأفيون تحولوا إلى أوعى البشر، والظالمون تحولوا بحكم سيادة العدل إلى أعدل العادلين، واللصوص إلى شرفاء، والمقهورون إلى أسوياء .. والقاهرون إلى دعاة للحق والخير والمساواة، ولصوص المواني إلى حماة لثروة الشعب، والقوادون إلى مدرسين يُعلِّمون البنات فضيلة أن تكون المرأة حرة، والمرأة لا تكون حرة إلا إذا امتلكت حق تقرير مصيرها، ومن الرقيق والحريم تحولت إلى إنسانة، لها إرادة، وبإرادتها تختار الرجل وتحبه أو تتزوجه، والرجل من أب يختلس ليضمن المستقبل لأولاده إلى رجل حلت به سكينة الأمن إلى المستقبل، وإلى أن المجتمع كله، وليس هو، كفيل بأولاده ومستقبلهم، هذا الأمن البشري حين يحل، هذا العدل الأرضي حين يوجد. هذا الاحساس الغامر الجميل أنك لست عبئًا على أحد، وأن أحدًا ليس عبئًا عليك، وإنما معًا وكلنا نحمل ونتحمل وندفع، والإنجيل والتوراة. أليست هي ما تقوله الموسيقى الحقة والصوت الشجي وأذان المؤذن وقرع أجراس الكنيسة؟

نحن ضعاف هذا صحيح، فنحن لسنا آلهة، ولكنا أقوياء تمامًا حين نجتث عوامل الضعف، وأي ممن يجتث عوامل الضعف مصيره الجنة. الجنة أولًا في قلوب الناس، والجنة ثانيًا على الأرض، والجنة ثالثًا حين يُقاضيه قاضي قضاة الكون، ذلك لأن الكائن في سمائه والكائن في كل منا، نُخفيه حين نشاء ونُظهره إذا ظهر الآخرون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤