الشمس لا تشرق فجأة

إذا الشمس غرقت
في بحر الغمام،
ومدت على الدنيا
موجات الظلام،
ومات البصر في العيون
والبصاير،
وغاب الطريق
في الخطوط والدواير،
يابو المفهومية
مفيش لك دليل
غير عيون الكلام.

الأبيات للشاعر أحمد فؤاد نجم من ديوان عن دار الثقافة الجديدة في مصر. كنت قد قطعت الطريق الصحراوي على نفسي، وأوغلت في الرمل كثيرًا، وحيدًا، أستمتع بالوحدة والسكون، وربما الإحساس الكامل بالعدم. أزيز السيارات البعيدة على الطريق يُضايقني كما يحرمك ناموس الريف من لذة الليل العظيم هناك. الوحدة أمرٌ صعب في شريط ضيق يحتله أربعون مليون نسمة، بحيث من كثرة وشدة وازدحام ما تری تضيق أحيانًا — وتمامًا — بالإنسان. كنت في الحقيقة أفكر في السراب، تلك الظاهرة التي فسَّروها لنا «علميًّا» في الطبيعة بقولهم: إنها ظاهرة سببها الانكسار الضوئي وقوانينه تلك التي تُجسَّد لعين الإنسان العطشان التائه في الصحراء أنه، هناك، بعيدًا ثمة ماء. ماء عذب يترقرق ويلمع ويُنادي من يشربه، ويلهث التائه في الصحراء جريًا وراء الماء، ولا ماء، إنما وراء كل سرابٍ سراب. ويظل التائه العطشان يجري ويلهث ويحشد كل خلية من خلايا جسده ليجري ويصل، ولا يصل.

ما أقصر العلم المعروف إلى الآن أن يُفسر بعض الظواهر تفسيرًا كليًّا متكاملًا .. فالسراب ليس فقط ظاهرة علمية تحدث بسبب مُعامل الانكسار الضوئي، السراب أيضًا له سبب أقوى إنساني ونفسي .. فلو لم «ير» الإنسان ذلك السراب .. لو، أدرك إدراكًا كاملًا وتامًا وعميقًا أنه حوصر بالرمال، وتاه تمامًا، وأن لا أمل البتة، لمات، أجل، لمات .. فالحياة ليست هي القلب والنبض وإفرازات المعدة والأمعاء .. الحياة أولًا وأساسًا إرادة الحياة، حتى في الكائنات الدنيا التي بلا عقل هي إرادة حياة غير واعيةٍ. عند الإنسان بالذات، إرادة الحياة مرتبطة بالرغبة في الحياة، ولا رغبة بلا «أمل» في الحياة .. بمعنى أن الحياة هي «الأمل» المستمر في الحياة والبقاء .. وفقدان الأمل تمامًا في الحياة غير اليأس. فاليأس، وإن كان عدم قدرة على الأمل تمامًا وانعدامه. إنه یعني فقط أن العقل البشري قد سدَّت في وجهه جميع سبل الخلاص، ولكن الأمل في الحياة نفسها لا يزال موجودًا. ولكن فقدان الأمل الكامل هو الموت، إذ بدون ذلك الشعور — حتى لو كان مرهقًا ودقيقًا لا يكاد يُری — تُخمد تمامًا رغبة الحياة، الحياة ذاتها .. وإن كان سيظل الإنسان حيًّا. فهو في الحقيقة سيحيا موتًا، أو سيموت حيًّا إلى أن يُذوى تمامًا ويدركه الموت الجسدي الحقيقي الكامل.

السراب — حتى السراب — ليس كارثة بالمرة، فهو قد يكون المعين على أن نبقى أحياء، نمشي ونجري ونلهث وراءه إلى أن نعثر على الماء الحقيقي، قد لا نعبر أبدًا هذا صحيح، ولكن الطريق ليس أبدًا أن نأمر أنفسنا حتى لا تذهب وراء الحلم والوهم، ففي بقائنا — حتی بالسراب — إحياء فرصة أكبر وأطول للحياة، بل ربما الفرصة الوحيدة للنجاة.

… و«عيون الكلام» كما يقول أحمد فؤاد نجم. وكما سبق أن قال كثير منا لنفسه ولغيره، قد يكون السراب حين «يغيب الطريق في الخطوط والدواير» .. فالكلمات، حتى أصدق الكلمات، ليست في النهاية سوى كلمات لا تُغني مطلقًا عن الحقيقة، ولا يمكن أن تحل محلها، إنما هي في النهاية تُعين ذلك الإنسان المُحاصر المرهق أن يظل حيًّا حتى يجد لنفسه الطريق، وحتي يعثر، بنفسه أيضًا، على الحقيقة .. وكما لا بد للقارئ المحاصر من سراب من الكلمات کي يحيا، فلا بد للكاتب أيضًا «مصدر السراب» أن يكون له هو الآخر سرابه الخاص الذي يتراءى له حتى يظل قادرًا على إفراز «عيون الكلام»، ولو انطفأ السراب أمامه، وحُوصر هو الآخر تمامًا لماتت الكلمات على شفتيه أو سن قلمه تمهيدًا لموته هو الشخصي بعد فترة قد تطول وقد تقصر.

كنت جالسًا على حجر والصحراء ممتدة رملية وجبلية ومتلونة أمامي، وضجة الحياة خافتة تمامًا من حولي، أفكر في هذا، وأفكر بالمرة في ذلك الخطاب الغريب الذي وصلني من قارئ يقول فيه:

«إذا كنت قد ذكرت أننا نتمتع بحرية التعبير، وأن أحدًا لم يحذف لك كلمة أو مقالة، فأتحداك أن تنشر وتقول كذا وكذا وكذا.»

كنت أفكر في خطاب ذلك القارئ، لا لأهميته الخاصة، فهو مجرد خطاب واحد من بين طوفان من الخطابات؛ وإنما لأنه يمثل قطاعًا من تفكير البعض. ذلك القطاع الذي يتصور أن الحرية الحقيقية هي أن — فجأة هكذا، وفي لحظات — تنتقل من حالة الصمت الكامل إلى الحالة القصوى التي يكون لك فيها حرية، أن تهدم المعبد كله إذا أردت، وكأننا انتقلنا إلى كون آخر تحكمه قوانين أخرى، وكأنما نحن غير موجودين في بقعة ما من عالم ثالث، يحيا في ظروف ما أهولَها، ويثقل كاهله ميراث رتيب من التسلط والكبت، وتاريخ طويل في محاربة الكلمة وقائلها وكاتبها .. بل محاربة الفكرة مهما تكن الفكرة، والتفكير مهما يكن التفكیر.

إنما خطأ وخطر هذا النوع من التفكير قائمٌ على ركيزتين لا بد من إزالتهما تمامًا قبل أن نتصور أن بإمكاننا أن نتقدم خطوة. الركيزة الأولى هو هذا التصور القائم على تصور أن الآخرين — زعماء كانوا أو كتَّابًا أو مفكرين أو قادة — على أن الواحد منهم هو هرقل الذي سيقوم بحمل المسئولية كلها وحده، وأن عليه هو أن يحمل تبعة المشاكل كلها ويحلها، وأن يكون «المسئول» الأوحد حتى عن حل مشاكل الخاصة. الركيزة الثانية هي هذا اللجوء الغريب إلى الآخرين لتكافح أنت من خلالهم. فبدلًا من أن يُرسل القارئ خطابه هذا إلى المقصود بكلماته يحاول أن يُحملك أنت مسئولية خوفه من أن يخوض التجربة ويتحمل نتائجها، يريد أن يُرضي ضميره على حسابك أنت ويقول: لقد كتبت إلى فلان وحملته المسئولية. فكأنه أدى كل ما عليه من واجب، وكفى الله المؤمنين شر القتال.

هذا فهمٌ خطير تمامًا .. فالكاتب — أي كاتب — لا يمكن أن «يطلَّع الإنجليز من مصر وحده». إنما هو فيما اعتقد يكتب ليس بهدف أن يزود الكون من حولنا بشمس ساطعة تُضيء الظلام وتصنع النور الأوحد الوهَّاج، إنما هو يكتب بهدف أن يُضيء شمعة صغيرة تُري الآخرين كيف يُضيئون شموعهم الخاصة، بحيث من مجموع ملايين الشموع يتكون النور الجماعي الوهاج. والمثل الصيني البسيط القائل: بدلًا من أن تلعنوا الظلام أضيئوا شمعة. ينطبق هنا تمام الانطباق .. فبدلًا من أن تعير الآخرين بأن شموعهم هزيلة، وتطالبهم بأن يستبدلوها، وعلى الفور، بشمس كبيرة باهرة، ألا تحاول أنت، من جهتك، أن تتحمل مسئولية أن تُضيء شمعتك الخاصة. أن تحاول حتى .. أن تبحث عن ثقاب، إن ينطفئ ثقابك، أن تحاول مرة أخرى .. بدلًا من أن تواجه أنفاسك مع أنفاس الأعداء لإطفاء هذه الشمعة المتواضعة .. تفعل أبسط مبادئ المعاونة، وأن تكون بقلبك حتى مع هذه الشمعة الوليدة .. ألا تدعو معي بقولك: اللهم احمِ شمعتي من أنفاس أصدقائي؟ أمَّا أنفاس أعدائي فأنا الكفيل بإخمادها. ألم تسمع أبدًا عن المثل الشعبي الدارج: داري على شمعتك تولع؟

أم أنك في الحقيقة لا تريد الحياة لشموع الغير ولا لشموعك، وإنما تريد أن يظل الظلام تامًّا ودامسًا، لأن شعاعة الأمل تعني أن تقوم، وفورًا، بالحركة وبالعمل وأنت لا تريد أن تتحرك ولا أن تعمل ولا أن تكبِّد نفسك مشقة أن تحمل مسئولية أن تخطو خطوة، ولهذا تريد إقناع نفسك أن كل شمعة تُوقد إنما هي نورٌ زائف مخادع، وأن الأصل هو أن الظلام مطبق، وأن لا فائدة .. طيب يا سيدي .. لا فائدة .. ننتحر مثلًا؟! نحن نضل مثلك، ونشل إرادتنا وتفكيرنا ومصادر الأمل فينا ونخمد أي سراب ونستعد للموت حياةً أو للحياة موتًا. إن حلم أن تشرق الشمس فجأة، كاملة وساطعة، حلم الموتی یأسًا وكسلًا وخمودَ همة، فأبدًا لن تشرق الشمس فجأة، فهذه معجزة، ولسنا وما كنا أبدًا في زمن معجزات، إنما تشرق الشمس من صنع الإنسان، ملايين الإنسان، تشرق بشموع يُوقدها كل منا، ومن مجموع هذه الشموع، من ملايينها، يتبدى النهار، ويبدو الطريق، ونسير معًا في النور .. وأي شيء سوى هذا التصور لشروق الشمس وظهور النهار هو عبث أطفال وأحلام منتحرين يأسًا وكسلًا وخمود همة .. شمس الحياة من صنع الإنسان، ليس الإنسان الواحد، وإنما كل إنسان، والنور نورنا كلنا حين يُساهم كل منا بشمعته، ويجب أن نتعلم أن نكف عن لعن الآخرين لأنهم نجحوا في إضاءة شمعة، وبدلًا من أن نلعن الظلام .. بدلًا من أن نلعن الشمعة الواحدة الموقدة، نتعلم كيف نُوقد نحن شمعتنا وباستطاعة كل منا — لو أراد — أن يوقد شمعته، فالشمع المطفأ في جيوبنا وحولنا ومعنا، كل ما في الأمر أننا لا نريد أن نُتعب أنفسنا ونحمل مسئولية الإنارة لغيرنا، ونكفي أنفسنا شر القتال. أبدًا، حتى الشمس، لا تشرق فجأة .. نحن بالتدريج نصنعها وسنصنعها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤