قبل فتح القلب

لأسبابٍ كثيرة — ربما تبدو عاطفية، وعلى العموم سأحتفظ بها لنفسي — أردت أن تكون عودتي للقاء الأعزاء القرَّاء على هيئة هذه المفكرة بعينها، وبالذات هذه المرة، ربما يتغير كل شيءٍ بعد هذا، ولكن، في هذه المرة بالذات أنا أشدُّ حاجة من القارئ أن أفكر أو أتفكر وأتذكر وأحيا اللحظة. ستة أشهر لم أكتب فيها أو بالأصح لم أنشر. ليست شيئًا في عمر الكتابة أو القراءة، ولكنها بالنسبة إليَّ كانت كأشعة الحياة حين تركزها العدسة المتأزمة الرهيبة والمحدبة أيضًا في بؤرةٍ يصبح الضوء فيها احتراقًا، وتصبح الحياة عصيرًا مركَّزًا مهلكًا تمامًا، كأنه الموت. كما يستحيل النور إلى نارٍ يستحيل البقاء إلى هلاك.

وكذلك تستحيل نقطة الحبر إلى نقطة انفجار.

أنا لا أشكو، ولا أشكر، ولا أتعذب، ولا حتى أحس أن شيئًا غريبًا ومهولًا قد حدث، حتى ولا أتفرج؛ فالفرجة تستدعي قدرًا أدنى من الاندماج، وأنا لست بذلك الذي خرج من الناموس، ولست — بالقطع — داخلَه.

أين أنا؟

سؤال موضوع رواية شرعتها، موضوع مذكرات تحتل مئات الصفحات، موضوع إنسان قريب قد تواتيه القدرة على كتابته، ولكنه الآن ليس — بأي حال — موضوعنا، ليس مهمًّا أن أعرف بالتحديد أين أنا، بل حتى ذلك التحديد الدقيق تأباه النفس الآن. أنا فقط على هذه الورقة، صاخب بتوتراتٍ داخليةٍ كفيلة بتشغيل تُربينات السد العالي، متفجرات وصناديق مغلقة مكتوب فوقها: «مواد قابلة للاشتعال، وللإشعاع الذري، ولإفناء الكون أو بِنائه»، أنا فقط هنا عليَّ أن أُحيل هذا «الأنا» الخطر إلى نقطة حبرٍ مستأنسة، هادئة، وديعة وداعة ذلك الشعب الذي كان — أو هكذا قيل — فأنا أعلم تمامًا مقدار العبوات الناسفة الراقدة في أعماق كلٍّ منا ومنكم، وعلى الحبر أن يكون بردًا وسلامًا عليَّ وعلیكم.

ويكفيني هذا.

نقطة حبر.

انسيابة قلم.

كلمة مكتوبة.

الآن أكتبها. أنا.

حتى لو شئت، فلتجف الأقلام، لتُطوَ الصحف، ولْيعُد الكونُ — كوني — إلى صمته المطبق الأول الأزلي.

•••

كانت الرحلة شاقةً يا رفاقَ الطريق، وعرة، رحلة حول نفسي في ستين يومًا، لا أجد لها البداية، ولا أجد لها المنتهى. من أين أبدأ أو تبدأ وفي أي النقاط أضع النهاية؟

وهذه المرة كانت النهاية بيدي.

وويل للكائن الضعيف الذي هو أنت وأنا حين توضع نهايته، أو بدايته في يده، شكرًا لله أن خلقنا لنكون خط الحياة فقط، أما البداية والمنتهى فإشفاقًا علينا، احتفظ بها. صحيح لو خُيِّر أيٌّ منا أين يبدأ، ومتى يولد لمات همًّا من هول الاحتمالات، هل يولد الآن أم في عصر الرومان، أم في سنة ٢٠٠٠م، ولو خُيِّر أيٌّ منَّا متى يموت، لمات غمًّا قبل أن يرسو على خيارٍ.

وهكذا، وبتكنولوجيا العصر، وبسبب الصبح والظهر والعصر والمغرب، والليل وشياطين الليل؛ أُصِبتُ بأزمة القلب. وبعد شهر أعطاني الأطباء الكبار في مصر شهادة أني شُفيت. وكتبت بيدي هنا أن هذا قد حدث، وشكرت الناس. ولكن ذاك الوسواس من غير الخناس، ذلك الجهاز المرهف الذي لا نعلم أبدًا عنه شيئًا، ذلك الذي نغطي جهلنا به فنقول الحدس، راح يؤكد لي أن شيئًا ما داخلي غير مضبوطٍ، بالذات في ذلك القلب الذي قلنا جميعًا عنه: إنه شُفي وعُوفي، كسنِّ الدبوس بدأ، كالإبرة الطويلة راح ينكش، كالمسمار أصبحت خرابیشه تجرح كیاني كله.

الهاتف، ذلك المجهول الآخر راح يلحُّ: يلزمك تصوير دقيق لقلبك وشرايينك.

يغضب طبيبي المعالج ويقول: يا بني ما لك؟ قلبك سليم. تصعد ستة أدوارٍ ولا تلهث، صحتك بُمب، ماذا تريد أكثر؟

– أريد الحقيقة.

– والحقيقة أمامك واضحةٌ كالشمس. أنت وحالتك أحقُّ من الحقيقة. ولكن الدبابيس والمسامير تقرص، وبشدة أكثر، وتصر، وكان لا بد أن أسافر …

واسمحوا لي أيها السادة — أليس هكذا يقولون؟ — أن أقف هنا وقفةً مع دولتنا، ومع حكومتنا.

الحق أني كنت طوال حياتي أحسُّ، ليس فقط بالغربة في بلدي وبين أهلي وعشيرتي، ولكني أحسُّ بالغربة التامة تجاه دولتي وحكومتي. ربما منذ اليوم الذي بدأ صدامي الأول معها، وعلى ورقةٍ صغيرة ممضاة باسم وزير الداخلية في ذلك الحين تمَّ اعتقالي، وفي المعتقل عرفت وجهًا آخر للدولة، ذلك الوجه القبيح تمامًا. الأقبح من وجوه كل من رأيتهم من سجَّانين ومسجونين في معتقل القلعة، وأبو زعبل، والسجن الحربي، وسجن مصر، الأقبح حتى من وقع ضربات النبابيت على قدميَّ العاريتين، وكنت لسذاجتي أظن النبُّوت أقل إيلامًا من الخيزرانة الرفيعة إذا لسع القدم، ولكن اتضح أن الخيزرانة إذا كانت سكينًا رفيعًا فالنبوت ساطور مسنون على حجر جرانيت.

ولكن ذلك زمن مضى تمامًا، وعفا الله عمَّا سلف، واتفقت واختلفت وأیَّدت وعارضت فكريًّا وفنيًّا وبشخصي الضعيف أكثر المرات. ذلك ملف — على حد القائل — لا وقت لفتحه، فلسنا بسبيل السياسة، ولسنا بسبيل إظهار اليد المكسورة، أو الذراع المقطوعة نشحذ بها أو عليها الشفقة أو المجد، فقد كان لا بد من الصدام، وكنت أعتقد أن الحق معي، وكانت تعتقد أن الحق معها، سلاحها الأقوى، هذا صحيح، ولكن من يختار الصدام يختار في نفس الوقت ما يتبعه من جروح ولكمات وكدمات، وإلا فليذهب ويبحث لنفسه عن لعبة أسلم.

لسنا بسبيل السياسية. نحن بسبيل ذلك الموقف «الوجداني» من الدولة والحكومة. وهنا بالتحديد أتحدث عن موقفي أنا. وجدانيًّا كما قلت أحسُّ بالغربة. وأنا أحس أني لم أمت. أني مطاردٌ أو مطرود، أو بالأصح غير مرغوبٍ فيه. كنت أجد في معسكر القراء والناس عزائي وشفائي. حتى وأنا شبه معزول عن الناس، ولكن الاتصال الروحي موجودٌ. بل ربما زاده البعد وجدًا وحياةً ودفئًا.

والحقيقة أني حين طلبت أن أُسافر للعلاج على نفقة الدولة تصورت لأمر ما أنني أطلب ما لا حق لي فيه. إلى أن أقنعني جرَّاح قلبنا الكبير حمدي السيد، والعبقري الجديد جلال الزيادي أن من حقِّي أن أسافر، فهناك قانون يعطي الحق لأي مواطنٍ لا علاج له هنا أن يُعالج بالخارج وعلى نفقة الدولة، ومع ذلك كان خجلي واضحًا وأنا أطلب من الصديقين الكبيرين يوسف السباعي كوزير للثقافة، وإحسان عبد القدوس كرئیس مجلس إدارة الأهرام في ذلك الوقت.

والحق إني فوجئت!

فلم أكن أتصور أن الموافقة ستتم بهذه السرعة، ليس هذا فقط، بل لم أكن أتصور أن الدولة ممثلةٌ في السيد ممدوح سالم، بل رأس الدولة ورب العائلة الأكبر الرئيس أنور السادات سیُبارك هذا الطلب بنفسه. ذلك أنِّي علمت أن السيد الرئيس لا تزال في نفسه بقية من آثار أيام ما قبل ٦ أكتوبر العظيم، آثار حين يذكرها في خُطَبه أحسُّ بملامحه قد علتها غلالة من مرارةٍ وكأنه ما كان ينتظر منا — نحن الكتَّاب — أن نضج بالحال على هذا النحو الذي كتبنا له فيه ما سُمِّي بعد هذا بالعَريضة. والحق أني للآن لم أزل لا أدري ماذا بالضبط ضايق الرئيس السادات في هذا الذي فعلناه. إننا أيامها لم نكن نقرأ الغيب، ولم نكن نعرف ما يدور بخَلَده لندرك أنه قد انتوی المعركة ويُعد لها. وكلماتنا لم تكن سوى رسالة يكتبها مخلصون تمامًا لبلدهم ولرئيسهم، يطلعونه فيها على مكنون الشعور العام تجاه حالة اللاسلم واللاحرب التي كنا نخوضها. وماذا ينتظر الصديق من أصدق الأصدقاء أكثر من أن يواجهه بالحقيقة؟ وإلا كان منافقًا ومختالًا. كنت أتصور أن السيد الرئيس يغضب لو نحن عرفنا ما يجيش في صدور الناس وسكتنا عن إبلاغه به، إنها حينئذ كانت تعتبر أمام ضمائرنا وأمامه مؤامرة صَمْت منا عن إيصال الحقيقة والشعور. وأنا لا أعرف كيف تحوَّل عملٌ صادق كهذا إلى مؤامرة كتابة في نظر السيد الرئيس، إلا إذا كان بعضهم قد تطوع وقلب الآية. وليست هذه أول مرة تحدث، وربما لن تكون الأخيرة، فما أكثر الذين تطوعوا؛ أو بالأصح تطوع ليكون حاجزًا بين الكُتَّاب والمثقفين ورئيسنا الراحل جمال عبد الناصر، وربما لو كانت قنوات الاتصال ظلت مفتوحةً لعرف عبد الناصر كثيرًا من الحقائق من هؤلاء الذين «قلوبهم على ألسنتهم»، ولما ارتُكِبت كثير من الأخطاء نتيجةَ مسايرة الأهم الذي كان يكونه المحيطون به حوله ويعزلونه عزلًا عن التيارات والنبضات والآهات؛ بل وأحيانًا الحقائق والأحداث.

كانت نيتنا سليمةً إذن ونحن نوقِّع هذه الرسالة التي رأينا أن نعهد بكتابتها إلى أكثرنا تعقُّلًا وحكمة، وهو أستاذنا توفيق الحكيم.

كنت كلما لمحت هذه الغلالة من المرارة تكسو وجه الرئيس أحسُّ أن شيئًا ما قد قام بيننا وبينه، وأنْ هكذا شاءت الظروف والحظوظ، ولم يعد باليد حيلة.

والحق أن مرارة أكثر كانت تشيع في حلقي كلما حدث هذا، فالفن والفكر والثقافة كائنات مرهفةٌ تقتل روحها ربما بلمسة أصبع أو بإشاحة وجه، وهذا العهد الجديد: ثورة التصحيح والانفتاح وترسيخ الديمقراطية؛ مطالب كانت من أعز أمانينا، وقد جاء هذا الرجل الكبير يحققها ويدعو لها. والفن والفكر والثقافة لا بد أن تكون موجات صوته ودعوته ونبضات رسالته التي تجعلها تستقر في أعماق النفوس والقلوب، وتصبح داخل شعبنا واقعًا حيًّا يعتزون به ويدافعون عنه ضد أي غاصبٍ أو دكتاتور.

ولكن الغلالة ظلت موجودةً.

ورغم الغلالة فها هو الرجل الكبير، بذلك الجزء الأكبر والأعظم من نفسه، المصري الشهم الجدع. يقرر — وفورًا — أن أُمنَح كافة التسهيلات لعلاجي.

•••

واتضح أن الهاجس كان على حقٍّ، وأنه عبثًا لم يتحول إلى إبر ومسامير وغيوم وظلام. ففي الغرفة شبه المظلمة، وعلى جهاز تليفزيون يُضخِّم الصورة رأيت السلك الرفيع يدخل من شريان يدي ويأخذ طریقه بدرايةٍ مذهلةٍ ليصعد إلى الشريان الإبطي، ثم الأورطي، ثم ينثني وكأنما يقوده كائن بشري بدركسیون مركب في نهايته، مع أن شيئًا لا يقوده أو يتلاعب به سوى أصابع أمهر طبيب قلب في العالم بعمل «قسطرة» للقلب. اسمه میسون سونز، ولو رأيته لحسبته شخصية من شخصيات الكاوبويز، حتى لغته تحفل بكثير جدًّا من التعبيرات غير الطبية وحتى غير اللائقة، ولكنه عبقريٌّ؛ ذلك لأنه أول من فكر في عمل أشعة لشرايين القلب عن طريق ذلك السلك المجوف الرفيع المصنوع من مادة قابلة للثني بناء على تحكم خارجي، وبهذا السلك العجيب حدث الانقلاب التام في طب القلب. وباتت كل المعلومات التي درسناها عن طب القلب في صدر شبابنا وأفنينا فيها أعيننا وذاكرتنا تبدو كمعلومات الأطباء عن أسباب المرض قبل أن يكتشف «باستير» عالَم الميكروبات ويثبت أنها هي — وليست الجن أو العفاريت — التي تسبب المرض.

درسنا — ولا زال طلبة الطب عندنا يدرسون — أن «الذبحة الصدرية» أو «الأزمة القلبية» أو «الجلطة التاجية» مصيبةٌ كبرى، إن حلَّت بإنسان فلا قيامة له بعدها. وامتد هذا العجز العلمي من الأطباء وأساتذته إلى الناس، فأصبحت الكلمة: يا عيني عنده القلب. أو: ده مسكين «عنده» القلب. ومعناها بأكثر التفسيرات تفاؤلًا أنه سينتهي بالكاد في عام أو عامين (كتاب الطب الذي عندي يحددها — يا للعبقرية — بثلاثة أعوام)، وأنه سيعيش خلال هذه المدة على ريجيم دقیقٍ وحياة بالقطَّارة، شبه عاجز، محكوم عليه بالإعدام، ينتظر — ويا للهول بالريجيم — يوم التنفيذ.

وذلك كله بالطبع لم يكن جهلًا من الأطباء أو قصور نظر، في الحق كان هو نتيجة للمتوفر أمامهم من سبل التشخيص والعلاج، فالقلب ذلك العضو الرهيب الغامض المثير لم يكن أحد قد أوغر داخله حيًّا، ولم يكن أحد يعرف الكثير جدًّا من أسراره، إذا انسد الشريان عليه العوض، إذا فسد الصمام فالنهاية الموت بالهبوط. الطب بعقاقيره وسماعته وحتی برسام قلبه كان عاجزًا عن أن يدرك، وإذا أدرك عاجز عن أن يُعالج إلا ببضعة عقاقير لا تفعل أكثر من أنها تؤجل النهاية.

وكان على تِكْساسيٍّ مغامر شديد الاعتداد بنفسه كثير السباب أن يقتحم — على طريقة المافيا — وكر القلب الدفين، و«يخترع» جهازًا لتصوير القلب من الخارج والداخل، وبالشريان والوريد، وأدق الدقيق من الأوعية. وهذا هو میسون سونز الذي قارب الستين والذي كان قد احتفل من أيام «بالقسطرة» رقم ١٦ ألفًا التي قام بإجرائها بنفسه (لكي ندرك ضخامة الرقم لا بد أن نعرف أن عدد القسطرات التي أُجريت على يدي كل أطبائنا ربما يتجاوز المائة بقليل)، هذا هو میسون سونز يدخل — بدراية معجزة، وفي ثوان — السلك في الأورطي، ثم يوجهه ليدخل من البُطين الأيسر، ويثنيه ليواجه مدخل الأوعية التاجية ويحقن مادة مشعَّة ترسم بعد ثانية شجرة الشريان الأيمن كاملة ثم يعيد توجيهه — يا للبراعة — ويحقن فتحة الشريان الأيسر فترتسم شجرته أمام عیني كاملة، ثم يقيس الضغط داخل الأُذين، ثم يخترق الصمام ويصبح طرف السلك في البطين العظيم، ويحقن، وينقبض البطين وينبسط ويصبح السر القلبي فيلمًا سينمائيًّا علنيًّا كاملًا أراه أمامي، ويسجله شريط تليفزيوني وسينمائي، ويحادثني، وينسى دائمًا أني طبيبٌ، ويشرح لي ما أراه، والحق، مع أني طبيبٌ أعرف القلب وتشريحه، إلا أني كنت في حاجةٍ ماسة لهذا الشرح؛ فقد كنت مبهورًا بقلبي المتلفز أمامي، بكل دقيقةٍ فيه، بكل مليمتر من شرايينه، بكل شيء.

•••

في كليفلاند — حيث يوجد أكبر مستشفى لجراحة القلب في العالم — جالية مصرية، بل أكاد أقول: شعبٌ مصريٌّ بأكمله. شعبٌ قوامه سبعون عائلة، معظمها من إخواننا المسيحيين، والأقلية مسلمون، ومعظم هذا الشعب من الأطباء، وللصدف الغريبة معظمهم يعملون أطباء تخدير، بل توجد بالذات أجمل طبيبة مصرية رأيتها في حياتي، متزوجة وتعمل طبيبة أمراض نفسية في نفس المستشفى. شعب مصري صغير استأجر لنفسه كنيسة، ويستعد لإقامة جامع، بل إن الكِرازة المُرقُسية هنا أرسلت لهم قسيسًا شابًّا كنت قد قابلته مرة أثناء محاضرة لي في مدرسة الجيزويت، وكان ثوريًّا جدًّا في آرائه، وعجبت حين ذكر لي صديقي العزيز الدكتور فتحي بهیج مستشارنا الثقافي في واشنطن أن الذي سيقابلني في كليفلاند ليأخذني إلى المستشفى هو الأب ميخائيل، وكم أسعدتني المفاجأة أن أرى ثائر الإكليريك وقد نَمَت له لحيةٌ سوداء كبيرة، وبقلنسوته وردائه الأسود الذي نتعرف منه دائمًا على قُسُسِنا الأقباط المميزين وجدته أمامي يستقبلني هو ووفد من الجالية في مطار كليفلاند الكبير.

بل إن الأب میخائیل — زيادة في الترحيب بي — دعاني للذهاب إلى الكنيسة المصرية يوم الأحد — اليوم التالي لوصولي — لأحضر الصلاة، ولكي يدعو لي الرب أن يأخذ بيدي. وكانت تلك أول مرة أحضر فيها صلاة مسيحية، وارتبكت، ماذا أفعل؟ وقلت لنفسي: أُصلي أنا الآخر صلاتي، فرُحت أتلو الفاتحة والتحيات وسورة: قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ المحببة إلى قلبي. وقضيت في كليفلاند شهرًا أو أقل قليلًا، وتصوروا، لم أتغدَّ أو أتعشَّ أنا وزوجتي على حسابي مرة أبدًا! حدث ذلك التنافس الطعامي الخلَّاق بين الصعايدة والبحاروة، وبين المسيحيين والمسلمين، وبين الأطباء وغير الأطباء. ذلك التنافس الشريف حقًّا الذي زوَّد وزني خمسة كيلوجرامات بأكملها.

دخل عليَّ الدكتور فوزي أسطفانوس، الذي يشغل في مستشفى كليفلاند الهائل مركزًا دقيقًا جدًّا، ربما أدق من ذلك الذي يشغله الدكتور الباز في أبحاث الفضاء، إذ هو رئيس قسم التخدير بجراحة القلب. وإذا عرفنا أن الثورة في جراحة القلب حدثت نتيجة لاكتشافات متلاحقةٍ جديدة في عمليات التخدير لأمكننا أن ندرك أن دور طبيب التخدير في عملية القلب لا يقل — بل ربما هو أدق — من دور الجراح، فالخطأ في التخدير يُميت فورًا. ولكن الدكتور أسطفانوس لا يكتفي بهذا، فهو دينامو الجالية المصرية المسيحية في كليفلاند، جمعيات، لقاءات، ندوات، غير أبحاث تُنشر، ومتابعة غريبة لأحدث ما وصل إليه البحث في التخدير بالنسبة لعمليات القلب بالذات. طبيب آخر كان يعمل نائبًا علينا في قسم الدكتور محمد إبراهيم في قصر العيني اسمه الدكتور الطرزي أصبح رئيس قسم أبحاث أمراض القلب في هذا المركز الطبي المهول. هذا غير سبعة أو ثمانية أطباء مصريين آخرين يعملون في وظائف مختلفة بنفس المركز. شعب كامل من أمهر وأخلص أطبائنا ومهندسينا ومحاسبينا، وحتی قضاتنا ومحامينا وجدتهم في أمريكا وإنجلترا وأطراف الأرض. كم نزفنا من ذكائنا، ولا زلنا ننزف.

دخل فوزي، متجهم الوجه، معقود السحنة.

كنت لم أفرغ بعد من هواجسي بعد انتهاء عملية القسطرة. والحق أنِّي كنت خائفًا جدًّا منها، فنتائجها التي سمعت بها في مصر كانت مروعة؛ الموت، الشلل، جلطة الشريان، غير ما خفي أو لم يكن في الحسبان. مذهول — لا أزال — بالسهولة المعجزة التي صنع بها سونز القسطرة، سبع دقائق فقط استغرقتها، لم أشعر بشيء مطلقًا سوی بعض الغثيان.

أأكون قد قضيت أحقابًا أخاف من شبح لا وجود له.

أم أن الأشباح موجودةٌ فعلًا، فقط قضت عليها خبرة ستة عشر ألف مرة قام فيها سونز بالعملية، حتى أنه عملها لنفسه ذات مرة.

قال فوزي بصوتٍ خفيض: إنيورزم. لفت فنتریكیوالا إنيورزم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤