باريس ٧٦

السادسة والنصف، وباريس وبوليفار سان ميشيل. ماذا أيقظتني في الخامسة بعد نوم ساعتين فقط .. أهي الحُمى الباريسية التي تجتاحني كلما هبطت هذه المدينة؟ كان حظِّي معها سيئًا دائمًا .. أول مرة كانت ثورة الجزائر وعلاقتنا المتوترة بفرنسا. ما إن رأوا في المطار — مطار لا بورجیه — جوازَ سفري المصري حتى وُوجِهتُ بالوجه الصارم لباريس — بوليسها الفرنسي — وبأتوبيس يحملني قسرًا من المطار الجنوبي إلى المطار الشمالي لأُوضَع في الطائرة المتجهة لبيروت. المرة الثانية لم يصرحوا لي إلا بأربع وعشرين ساعة، قضيتها كلها بلا لحظة نوم. هذه المرة أحببت أن أراها بلا مكياج .. لترى أي مدينة على حقيقتها العارية استيقظ في الخامسة وطُف بشوارعها .. لم أكن أتصور أن شوارع باريس تحمل كل هذه الكمية من الزبالة والقذارة وبقايا الليل. هذه ثالث عاصمة عالمية أزورها في رحلتي تلك، وكلها بلا استثناء قد بدأت القذارة تزحف إلى شوارعها، تكاد في بعض أجزائها أن تقترب اقترابًا مخيفًا من قذارة شوارع القاهرة. كأن عالَم مطلع القرن النظيف المثالي قد اختفى .. الصراع الرهيب الدائر بين الإنسان والنظام في كل مكان جعل اليأس يدبُّ في القلوب على هيئة إهمال؛ سواء في النظافة الشخصية أو النظافة العامة. الإنسان المهموم قذارة. عمال النظافة یكنسون باريس. عمال معظمهم من عرب الشمال الأفريقي .. كثيرون هم هنا كثيرون. يُنظفون باريس، ويحاولون تجميلها، ومع هذا فهم مكروهون من الفرنسيين. كلمة عربي هنا لها وقعٌ آخر غير وقعها في لندن أو نيويورك. فالعرب هنا هم البروليتاريا اليدوية التي يُعهد إليها بأشق الأعمال. حين تُوفي جمال عبد الناصر صنع له العمال العرب جنازة في نفس الوقت الذي خرجت فيه جنازته من القاهرة روَّعت الحكومة الفرنسية في ذلك؛ إذ شُلَّت الحياة تمامًا في باريس، حتى إنها أنشأت بعد هذا قسمًا خاصًّا في وزارة الداخلية للعمال العرب.

مشيت في بوليفار سان ميشيل، قلب الحي اللاتيني، حي الجامعات والطلبة، والبوهيميين والكوشار، ومقصد السياح. ربما كراهية الفرنسيين للأغراب سببها كثرة السياح. «واسألنا نحن!» وأكثر الأحياء ازدحامًا بالسياح هو الحي اللاتيني .. فرجة باريس، ربما لهذا فضَّلت أن أرى باريس بلا سياح، في الصباح الباكر .. أرى الباريسيين يخرجون إلى العمل. لا ألمح ابتسامة على وجه أحد .. جادون وجادات، مسرعون ومسرعات، والساعة تقترب من السابعة .. غريب هذا. المدينة التي تصدِّر إلى العالم كله أدوات المكياج والتجميل نادرًا ما تضع نساؤها المساحيق. بلا مساحيق، أرى باريس تستيقظ لتوِّها من النوم، لم تغسل وجهها بعد، ولكن الوجوه نظيفة، والقوامات رشيقة. حتى الكبار ومتوسطو العمر ليس فيهم سمين أو مجَعْلَص أو تخينة أو تخين.

فجأة وجدتني وجهًا لوجه أمام باريس أخرى، مختلفة تمامًا عن تلك التي لخَّصها رفاعة رافع الطهطاوي، أو انفعل بفنها وبفكرها توفيق الحكيم، وبرقصها على البارود أحمد الصاوي محمد. باريس بلا هالة من جمال ونور. باريس التي تكدح وتعيش. باريس التي تخلصت من كل علامات البرجوازية في المأكل والمشرب والملبس. أكاد لا أعرف الفقير من الغني، والعاملة من صاحبة المتجر. كلهن تقريبًا بالبنطلونات البلوجينز، وكأنما كلما كان البنطلون قديمًا كان أشْيَك، تخلصوا من عقدة الأثواب والوجاهة مثلما فعل الصينيون في الشرق البعيد، ليس بناء على توجيهات حزبٍ وإنما — فيما أعتقد — بناء على اندثار التقاليد البرجوازية القديمة؛ من تنابز بالأزياء، وتصنُّع في تسريحات الشعر ومكياج الوجوه. كأنما أصبح الهدف أن الأجمل هو الأكثر أصالة. والأصالة أن تكون شكلك أنت لا شكلك المصنوع. وأن ترتدي ما يُريحك، أو ما يدفئك، أو ما يُبرد جسدك لا ما تتيه به على الآخرين، والطعام أصبح هو المغذي فقط وليس الشهي، لم تعد الموائد العامرة هي المقياس، ولا اللذة في الطعام هي الهدف. الهدف — لا بد — متعة أرقى من الزي وأرقى من حشو المعدة. الهدف — لا بد — إمتاع العقل والقلب.

كانت الشوارع لا تزال شبه خالية ولهذا كانت تبدو لي مزدحمةً بالإعلانات والملصقات، لم أر عاصمة في العالم فيها كل هذا الكم من الملصقات، والغريب أنها كلها إما عن مسرحيات، أو معارض فنية، أو حفلات موسيقية. حتى رمسيسنا الكبير تحتل الإعلانات عنه — في المقاهي والمطاعم — مكانًا بارزًا. المتعة هنا هي الاستمتاع بالجمال الأرقى .. وليس أجمل ولا أرقى من الفن في كافة أشكاله وصوره. هذه هي مدينة فنانة، أو مدينة فنانين. خُيِّل لي وأنا موزع البصر على الأفيشات، أن نصف سكان هذه المدينة على الأقل فنانون وفنانات. هذه مدينة التعبير عن النفس. المتعة الحقة أن يُعبِّر الإنسان عن غايته، حبًّا أو فنًّا أو شذوذًا إذا أراد. لا بد أن هذا هو السبب في الصوت العالي الذي يتكلم به الباريسيون والباريسيات. هذه مدينة لا همس فيها .. رأيك تقوله واضحًا وصريحًا ودون خجل وبصوت عالٍ. فرأيك هو أنت. وما دمت لا تخجل من نفسك لأنك أنت .. وسعيد بأنك أنت فلتفخر بذاتك وبرأيك وبذوقك وبشخصيتك وبتفردك. الناس هنا لا يتقولون على بعضهم البعض؛ لأنهم يقولون لبعضهم البعض، وفي مواجهة بعضهم البعض. أتكون هي الثورة الفرنسية؟ قال فيها الشعب الفرنسي ومنذ مائتي عام رأيه الجماعي في الملكية والاستبداد والتفرقة. وكانت النتيجة أنه بعد أن تحرر جماعيًّا، بدأ يتحرر فرديًّا، ووصل التحرر الفردي إلى حدِّ الاعتداد الكامل بالذات والرأي ووجهة النظر، حتى عاملة التليفون في الفندق، لا تقول لك: نعم يا سيدي. إنها تقول، وبلا همس: إني أسمع. عجيب هذا؛ بينما الإنجليزية مليئة بكلمة «يا سیدي»؛ فأنت لا تسمع في الفرنسية إلا كلمة: يا سيد. وكل الناس سيد. مصيبة. إني أسمع. لم أستطع هضمها في أول الأمر، ولكنِّي حين لم أجد علامة واحدة من علامات النفاق في هذا المجتمع بدأت أدرك. يا لها من كلمة نقولها منافقين: سيدي .. مع أننا جميعًا ندرك ونعلم أنه لا أحد سيد أحد. ولأن الفرنسيين كانوا السابقين، فقد حذفوها من اللغة. ولا أعرف في الفرنسية ما يقابل في الإنجليزية كلمات: سیدي .. وماي لورد، وماي لیدي … إلخ. كل هذه الكلمات الكبيرة المنافقة التي تُقال تأدبًا. ولماذا لا يكون التأدب هو المصارحة والإحساس بالمساواة الكاملة. هنا حقيقة تلمح شعارات الثورة الفرنسية وقد أصبحت واقعًا ملموسًا ومقدَّسًا. هنا تفهم لماذا أصبح الشارع الفرنسي الآن يكاد يكون كله يسارًا محضًا .. فكلمة اليسار نفسها اخترعتها فرنسا، ومنها عمَّت العالم. وفي بوليفار سان ميشيل نفسه والساعة قد بدأت تُشرف على الثامنة أرى المعركة بعيني قائمةً على قدمٍ وساق بين قلاع اليمين الأخيرة وزحف اليسار. ولكنها في رأيي تكاد تكون معركة ممتعة. فها هي صورة ماركس بلحيته الشهيرة؛ ولكنه بوجه ضاحكٍ كالجد السعيد؛ بل إن يده مرسومةٌ في الصورة على شكل إشارة «الهيتش هايك» تدعو الشباب إلى مهرجان سیاسي موسیقي راقص يُقيمه الحزب الشيوعي. وأحسن مجلة أطفال تصدر في فرنسا تصدر عن الحزب الشيوعي. وهي مجلة ممتعة حقًّا، فليس فيها أي دعايةٍ رخيصة، ومادتها رائعة إلى الحدِّ الذي يُرغم أطفال «اليمين» أهلهم على شرائها لهم. معركة راقية متحضرة حقًّا، حتى إن اليمين لا يقول عن نفسه أبدًا: إنه يمين، ولا يقاوم الشيوعية بتلفيقه تُهم الإلحاد والعمالة للاتحاد السوفييتي، وكل هذه الوسائل الفجَّة التي تُستعمل في عالمنا الغريب الثالث. إنما هي معركةٌ أساسها الحرية. فاليمين يحاول أن يجتذب الناس عن طريق إفهامهم أنه الحريص أكثر على الحرية، بينما اليسار وصل في حرصه على الحرية إلى حدِّ تنازل الحزب الشيوعي الفرنسي عن واحد من أهم أركان الحركة الشيوعية وهي فكرة دِكتاتورية البروليتاريا. إن كلمة الدكتاتورية هذه تُعادل الموت هنا أو الطاعون، فالحرية للباريسي والباريسية أهم من أي مبدأ أو دين، بل هي تكاد تصبح هنا دینًا، دین العصر، إنهم هنا يحاولون حتى الانعتاق من عبودية العمل. يومان إجازة في الأسبوع وعلى الريف فورًا؛ فالمدينة حتى لو كانت باريس عبودية أيضًا، والريف هو الحرية. هو الهواء والخضرة والانطلاق.

والحرية هنا ليست معادلًا للفوضى، فأنت حرٌّ بقدر ما الآخرون أحرار .. والأطفال جمال. وأجمل ما فيهم أن كثيرين يذهبون منهم إلى المدرسة في سن الخامسة أو السادسة بمفردهم، ولم أر عساكر — أو بالأصح عسكريات — المرور في باريس إلا بين السابعة والثامنة والنصف، فقط عند التقاطعات لعبور التلاميذ الصغار. بعدها تركب العسكرية موتوسيكلها الصغير الأنيق وتذهب لتعود في المساء حين يعود الأطفال. كدت أروع وأنا أُشاهدهم صغارًا جدًّا، سائرين بمفردهم، ولكنهم مسئولون. من فرط ما أُرضعوا مسئولية المحافظة على أنفسهم .. لم أُشاهد أحدهم يجنُّ ويندفع إلى الشارع، فقط عند الإشارة، وفقط حين تقف العربات بيد العسكرية المرفوعة.

•••

في الضحى تمتلئ الشوارع بربَّات البيوت والعواجيز .. وأستغرب لهذا العدد من العواجيز الأصحاء تمامًا في هذه المدينة، لكأنهم وحدهم ملايين. كل ربة بيت وكل عجوزٍ، يتسوق خبزه وطعامه، وفي يد كل منهم رغيف فرنسي في طول نبوت الغفير، أقف عند الجزار .. أقرأ أسعار اللحوم .. يُذهلني أن سعر الكيلو مائة وخمسون قرشًا. أرخص من القاهرة، في حين أن متوسط الأجور يكاد يُعادل عشرة أمثال الأجور في القاهرة. ولا أحد يشتري كیلوًا، إن اللحم هنا يُباع بالحتة والقطعة، ويكفي لكل شخص في اليوم الواحد قطعة .. بخلًا؟! سمِّه ما شئت، لماذا لا تُسمِّیه تدبيرًا؟ لماذا لا تقول: إنه شبع؟ فليس مثل الجوعان حبًّا في الطعام ونهمًا لالتهامه. غريبة هي هذه المدينة .. مدينة الفرد الأعظم .. أنا قادمٌ من نيويورك حيث العمارات هائلة الضخامة، والمؤسسات الحوتية الرهيبة، والسوبر ماركت في حجم الحي الكامل، هذه مدينة البوتيكات والدكاكين الصغيرة .. الصغيرة .. جزار، بقَّال، دكانة ملابس، مطعم، قهوة … وهكذا .. عشرات ومئات وآلاف، مثلما يحفل بهم شارع فيكتور هوجو يحفل بهم شارع بلزاك. جميل جدًّا هذا. لا يوجد اسم ملك أو حاكم على شارع .. حتی بونابرت بجلالة قدره مطلق اسمه على شارع غير مهمٍ أبدًا؛ بينما اسم فولتير يأخذ شارع نهر السين كله. مدينة ملوكها الشعراء والكُتاب والفنانون. أخيب الملوك سطوةً ولكن أعظمهم خلودًا.

هل يوجد عندنا شارع باسم لطفي المنفلوطي أو ميخائيل رومان؟

•••

باريس الواحدة صباحًا .. لم أنم .. قضيت اليوم كله سائرًا على أقدامي. وها هو الليل يُوغل في تقدمه ولا أشعر بذرة تعبٍ واحدة. الأصدقاء المصريون معي نضرب في ليل باريس. بقدر ما أحببت باريس النهار ها أنا ذا أقف في شبه انزعاجٍ أمام باريس الليل .. الازدحام رهيبٌ وكأنه مولد الحسين في قلب باريس .. الصعاليك أشد صعلكة من مجاذيب الحسين .. غانيات باريس علنًا هكذا، وبالبنطلون القصير، الساخن وكثيرات ومنتشرات، ولهن مناطق نفوذ ويكدن يكن بلا زبائن .. يُخيل لي أن وزارة السياحة الفرنسية تدفع لهن أجرًا؛ فمشهدهن سياحي أكثر منه مشهد «عمل». المضحك أنهن واضحات جدًّا وصريحات جدًّا وبلا نفاق. مهنة يقمن بها في وضح الليل. بل أعجب إضراب هو ما قمن به منذ شهور واحتللن الكنائس لتخلصهن الحكومة من سطوة الفتوات، وظهرت بعضهن على شاشة التليفزيون يشرحن قضيتهن العادلة. إنه فعلا مجتمع يكره التخفي والنفاق. مجتمع الشجاعة حتى في بيع الجسد. إن أي عاصمة في العالم فيها أكثر من هذا العدد بكثير من نساء المهنة، ولكن الفرق أن باريس لا تتخفى ولا تتنكر، الفرق أن باريس تلميذاتها لا يوردن للشقق، ولكنهن يحببن علنًا ويجلسن على المقاهي ويدخنَّ علنًا .. الفرق أن نساء المهنة في باريس معروفات وعددهن معروف .. أما الأدهى فهو أن يكون كل شيء محظورًا في العلن ويباح في السر وبجبنٍ شديدٍ.

الفرق أن لا أحد هنا يُقيم من نفسه وصيًّا على الآخرين، ويخاف منه الآخرون. والنتيجة ظلام النفاق، وما أبشع ما يدور في ظلام النفاق!

•••

باريس الخامسة صباحًا .. بعدُ لم أنم .. فمنذ الثانية وعقلي يُفكر في القاهرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤