أمريكا ٧٦

قالت لي السيدة الطيبة قنصل الولايات المتحدة بالسفارة الأمريكية: إني آسفة جدًّا، ولكننا لن نستطيع أن نُعطيك فيزا الدخول إلى بلادنا إلا بعد استئذان واشنطن.

وسألتها بحيرةٍ: هل تستأذنون واشنطن في كل فيزا تعطونها؟

فقالت: لا .. ولكنك لسوء الحظ في القائمة السوداء، ولا بد أن نستأذن واشنطن لاستثنائك هذه المرة فقط من القائمة؛ بل إني آسفةٌ أيضًا إذا أقول لك إنك في كل مرة ستطلب فيها فيزا للولايات المتحدة سيكون علينا أن نستأذن واشنطن.

قلت: سيدتي .. ولكنني كنت في أمريكا منذ أربعة أشهر، وأعطيتموني فيزا في الحال ودون استئذان واشنطن. فماذا حدث؟

نظرت لي من فوق حافة منظارها الطبي وقالت: لقد مُنحت الفيزا خطأ في المرة السابقة. أخطأ الموظف المسئول؛ فقد كان المفروض أن لا يمنحك الفيزا إلا بعد استئذان واشنطن.

قلت: ولكنني غير ذاهبٍ من تلقاء نفسي .. أنا مدعو لمؤتمر عن الأدب العربي تُقيمه جامعة برنستون ونادي القلم الدولي في نيويورك والدعوة مرفقة بطلب الفيزا!

قالت: هذا صحيحٌ، ولكن الإجراءات هي الإجراءات، وأنت تعرف طبعًا ما هي الإجراءات.

عنَّ لي أن أُحاورها فقلت: هل ممكن أن أعرف لماذا أنا في قائمتكم السوداء؟

نظرت لي نظرةً شبه ماكرة شبه مُتخابثة هذه المرة وفتحت ملفًّا ضخمًا أمامها وقالت …

قالت كلامًا كثيرًا جدًّا: في سنة كذا حضرت مؤتمر كذا، وكتبت كذا وقلت كذا وكذا .. سجل دقيق حافلٌ وكأنْ لم يكن هناك عمل للقسم القنصلي الأمريكي إلا رصد تحركاتي وسكناتي وكتاباتي الشخصية. ثم راحت تنصحني أن أحاول رفع اسمي من القائمة السوداء.

– وكيف يُرفع يا سيدتي العزيزة؟

– بأن تُثبت حسن نواياك وموقفك لمدة خمس سنوات متصلة، ليس فقط تجاه الولايات المتحدة، ولكن تجاه أي حكومةٍ أو نظام حكم في العالم!! وكدت أضحك وأنا أسمع السيدة الطيبة وهي تذكر لي شروط «الولد الطيب» في عُرْف الإجراءات القنصلية الأمريكية. كدت أضحك لأن هذه هي مأساة الولايات المتحدة، شديدة الديمقراطية بالنسبة لرعاياها، شديدة التوجس والدكتاتورية بالنسبة للآخرين. إجراءات تعتبر أن كل ثوريٍّ في العالم هو بالضرورة عدوٌّ للأمن الأمريكي، كل متحرر، كل مناهض، كل من يجرؤ أن يكتب أو يقول أو يفعل هو بالضرورة عدوٌّ للولايات المتحدة. وهل من المستغرب بعد هذا أن يعتبر كل هؤلاء الولايات المتحدة ضدهم. إن المرحوم دالاس قد مات؛ ولكن الدالاسية لا تزال موجودةً، أو على الأقل هكذا بدت لي وأنا أحاور السيدة القنصلية وأختم حديثي معها بقولي: إذا كانت هذه هي إجراءات الدخول للجنة نفسها فأنا أُفضل الجحيم الذي أحتفظ فيه بحقِّي أن أقول ما أريد قوله، وأحضر ما أريد حضوره، وأُهاجم أو أشيد بما أريد مهاجمته أو الإشادة به.

وصرفت نظرًا عن الندوة وعن السفر.

ولكن السفارة دقَّت لي تليفونًا في اليوم التالي بأن الفيزا جاهزةٌ.

•••

وهكذا سافرت مرة أخرى إلى نيويورك، وحسن أني قُرصت هذه المرَّة قبل أن أذهب، فقد كان انطباعي عن زيارتي الأولى — تلك التي زُرت فيها المعاهد والمستشفيات والجامعات — انطباعًا مبالغًا في تفاؤله؛ ذلك أنِّي وجدت أمامي أمريكا أخرى غير التي رأيتها عام ١٩٦٦م حين زرتها بدعوة من جامعة شيكاغو لأول مرة.

في ذلك الوقت، أقولها بصراحة: لم أر أمريكا الواقع، ولكني رأيت ما كنت أتخيله أنا عن أمريكا. كانت أزمتنا كوطن في ذلك الوقت بلغت القمة مع الولايات المتحدة. لقد بدأت الثورة المصرية بعين من الرضا من أمریكا .. الرضا عن خروج الإنجليز من مصر وخروج الفرنسيين من الشمال العربي الأفريقي، خروج الاستعمار القديم. وكان طبيعيًّا أن تبدأ الأمور تتأزم حين بدأت معظم دول العالم الثالث التي استقلَّت — وعلى رأسها مصر — ترفض أن تحل الولايات المتحدة محل الاستعمار القديم لملء ما يُسمَّى في ذلك الوقت بالفراغ ومشروع أيزنهاور لملء الفراغ، وكان الصدام محتمًا، ولكنه في الحقيقة كان صدامًا فوقيًّا، بين مصر الثورة الدولة والدولة الأمريكية. ولكنه انعكس على الشعبين وبمثلما كان الأمريكان يرون في كل مصريٍّ عبدَ الناصر آخر عدوًّا لهم، فقد كنا نحن أيضًا نرى في كل أمريكي مندوبًا للمخابرات المركزية الأمريكية حتى يُثبت العكس، وأحيانًا دون أن يُثبت العكس. وهكذا، وفي حالة توجُّس تام ذهبت لأمريكا عام ١٩٦٦م، رأيت قارة غنية تمامًا، جديدة تمامًا، كل شيء فيها مُیسَّر وبسيط، ولكنني كنت أحسُّ في كل فرد أراه الدولة التي تُعادينا، والنظام الاقتصادي الرهيب الذي يدعم الدولة ويهدد بالسيطرة على العالم كله. ولم أكن مُجحفًا في وجهة نظري تلك. فالتاريخ الحديث لأمريكا ينقسم قسمين في رأیي:

قسم يبدأ من الحرب العالمية الثانية وينتهي بحرب فيتنام، وقسمٌ آخر جدید تمامًا يبدأ منذ انتهت حرب فيتنام بهزيمة ساحقة لطريقة القوة القاهرة التي حاول بها النظام الأمريكي أن يفرض طريقته على دول العالم الثالث، ومن ثَم يفرضها على المعسكر الاشتراكي نفسه، وبهذا تتم له السيطرة العالمية الكاملة. كانت فيتنام درسًا كبيرًا حول مجرى السياسة الأمريكية تمامًا، ثم كانت حرب ٧٣ المجيدة درسًا، آخر فبمثل ما أوجدت حرب فيتنام جنوب شرق آسيا وحقَّه الكامل في استقلاله وحريته، أوجدت حرب ٧٣ العرب وحقَّهم الكامل في الاستقلال والسيادة. أنا لا أتحدث هنا عن الالتفاف حول نتائج الحرب ومحاولة تمييعها، فالحرب في حدِّ ذاتها كانت عملًا من أمجد أعمال تاريخنا الحديث كله، بها وُجِدنا، وكان مفروضًا أن بها — وبغيرها لو احتاج الأمر — أن نستمر، ولكن تصوروا هذه الحرب المجيدة بيننا وبين أعدائنا الحقيقيين تنتهي إلى حرب قذرة قذرة في لبنان داخل صفوفنا نحن، وكأنها الطعنات يوجِّهها الإنسان ضد عدوه ودفاعًا عن نفسه .. تنتهي بأن يوجهها الإنسان لنفسه هو، ولصدره، ولينتحر.

•••

في المرة السابقة وهذه المرة أُتيح لي أن أُشاهد أمريكا أخرى، أمريكا الشعب والشارع، أمريكا الثقافة والصحافة والفكر. ويا له من تغير!

مشيت في شوارع نيويورك أنا وصديقي الشاعر العراق اليساري الكبير عبد الوهاب البياتي نتحدث في هذا. سنين طويلة قضيناها نتحدث عن أمريكا وكأنها كتلة صمَّاء لا تستطيع أن تُفرق فيها بين الشعب والدولة، ولا بين النظام ورجل الشارع، كله أمريكاني وكله استعماري وكله عدو .. وفي الوقت الذي يوجد فيه بالولايات المتحدة أكثر من أربعين أو خمسين مركزًا لدراسة منطقتنا العربية والشرق الأوسط عامة، لا يوجد لدينا ولا لدى أي بلدٍ عربيٍّ مركز واحد لدراسة أي من الدول العظمى، ونحن نجهل ما يعتمل في صدر الشعب الأمريكي بمثل ما نجهل ما يعتمل في صدر الشعب السوفييتي، في حين أننا منذ سنوات طويلة — وإلى سنوات طويلة قادمة — سنظل في كل خطوةٍ نخطوها نواجه أيهما أو كليهما معًا. نواجه ونحن نجهل، نواجه ونحن على الأقل لا ندرك أن تغيرات خطيرة تجري في كل من المعسكرين، وأننا لا بد أن نلحق بها.

فيتنام جاءت فكشفت للمواطن الأمريكي أن أمريكا ليست دائمًا على حقٍّ، أقصد أمريكا النظام والسياسية والمؤسسات الكبرى .. إنها ممكن أن تُخطئ، وتُخطئ ببشاعة، وتتورط، وتورط معها الشعب بأكمله. وجاءت فضيحة ووترجيت؛ لتُثبت للشعب أن ليس المؤسسات والنظام والدولة هي وحدها التي تُخطئ؛ ولكن القادة والرؤساء هم الآخرون يخطئون ويقومون بأعمال غير أخلاقيةٍ أحيانًا. لقد تركت أمريكا ورجل الشارع هناك يكاد يُشير إلى كل مسئولٍ وكل سناتور وكل مرشحٍ أو رئيس بأصابع اتهام بلغ بها الشك حد الرجفة.

أذكر هذا السناتور الأمريكي الذي رأيته بعيني في التليفزيون يعترف أنه كان على علاقة جنسيةٍ بسكرتيرته، وأنه آسف إذ يقول هذا، وأنه يرجو أن تغفر له زوجته وأن يغفر له أبناؤه. وجدتُني يعصرني التساؤل: أهذا موقف يدفع إليه الناس باسم الأخلاق والطهارة؟ إن انتحاره الحقيقي وضرب نفسه بالرصاص كان أسهل. باسم الأخلاق العامة يقف الشيوخ والمسئولون عُراة هكذا وقد أُجبر كل منهم على إبداء عورته. ولكنها حُمَّى التطهر التي تجتاح المجتمع الأمريكي، كالصبي الذي اكتشف فجأة والديه يعبثان ففقد الثقة في كل والد وكل والدة، وكل كبير وكل مسئولٍ. حين يؤنب الأب الأمريكي ابنه على طول شعره، ويقول له الابن: ولكن كل المتهمين في فضيحة ووترجیت كان شعرهم قصيرًا!

•••

إن من الممتع حقًّا أن يحيا الإنسان لبعض الوقت في مجتمع كالمجتمع الأمريكي؛ لا تخفي صحافته أو تليفزيونه شيئًا مطلقًا. حتى مساعدات المخابرات الأمريكية لبعض الحكومات والبعض الأشخاص يقولونها علنًا وبالأسماء.

كینِدي يُثبت أنه مسئولٌ عن قتل لومومبا، وكان يريد اغتيال كاسترو. روبرت أخوه يحفر في حياته الشخصية حتى يعثروا له على مارلين مونرو، أو لأخيه على سكرتيرة توصد أمامه باب الرئاسة. وعملية الكشف قائمةٌ على قدمٍ وساق. المهاجرون الأمريكيون الأُوَل كانوا إما من ضحايا التعصب الديني أو كانوا من المتعصبين البروتستانتيين الذين يبغون التطهر الكامل في عالمٍ جديد .. كروموسوم التطهر يعود ليظهر بعد مائتي عام من الاستغلال والوجود. شارع يريد أن ينفي حكامه وحكومته من أي شبهة فساد؛ ولكنه الفساد الخلقي أولًا، فقد تجاوز الشارع الأمريكي مرحلة الماكارثية واعتبار السياسي تهمة. فالآن نجد في قلب الجامعات الأمريكية والمؤسسات من يُشهرون أنهم شيوعيون أو ماويون، أو حتى من أنصار جيفارا وكاسترو. والحرية السياسية في القمة، ولكن المضحك أن هذه الحرية السياسية لا تمتد لتشمل العالم، فهي وقف على استعمال المواطن الأمريكي. وكذلك هذا التطهر الخلقي قاصرٌ على السياسيين الأمريكان وحدهم، أما أن تتعامل الدوائر الأمريكية مع سیاسي مرتشٍ أو داعرٍ لبلد أجنبيٍّ فهذا في عرف الشارع أو السلطات مسألة مشروعة تمامًا وخلقية. مسألة تكاد تقترب بنا اقترابًا غريبًا من الشريعة اليهودية .. ففي عرف اليهود الزاني هو من يزني مع يهودية، أما إذا زنى مع غيرها فلا يعتبر زانيًا. وهكذا يقترب أكثر من تشخيص الحالة الأمريكية فواضح أن المسألة لم تعد مجرد بصمات يهودية وإسرائيلية على الفكر الأمريكي المعاصر. المسألة أن العناصر المفكرة اليهودية نجحت خلال سنوات من الدأب والصبر والمواظبة على مزج التعاليم اليهودية بالديانة المسيحية، وإلى تكوين نوعٍ من المركب يسمُّونه اﻟ Judo Christianity يصنع العمق الروحي لأقوى وأغنى دولة وُجدت في العصر الحديث .. دولة يُسمِّيها البعض الدولة الرومانية الحديثة .. دولة القوة من أجل القوة. ولقد اكتشف اليهود هذا، فطوال تاريخهم وهم يحاولون السيطرة على العالم، وحين كانت ألمانيا مرشحةً لحكم العالم تدفقت إليها قوافل المهاجرين اليهود ليحكموا الدولة التي ستحكم العالم، وكانت النتيجة تذمُّر الألمان على هيئة نازية أشبعتهم تنكيلًا وذبحًا، ونفس الشيء كاد يحدث في إنجلترا حين كانت بريطانيا العظمى مرشحةً لتسود العالم، وهذه المرة نجحت التجربة، وأصبح اليهود قوة عاتية في الولايات المتحدة، حكامها الروحيون والماديون، وتفَجُّر الاتهامات الخُلقية التي توجَّه إلى السياسية الأمريكية — فيما أعتقد — انحرافٌ موحى به من اليهود والمسيطرين على أجهزة الفكر والإعلام في أمريكا بهدف صرف الناس عن الاتجاه السياسي — مع أنه الأهم — إذا كانت المسألة تتناول رئيسًا أو سياسيًّا، إنهم يُجرون للسياسيين محاكمات تفتيش خلقية؛ في حين أن حساب السياسي هو حساب سیاسي أولًا وأخيرًا. فماذا يهمني إذا كان هذا الحاكم فاضلًا من وجهة نظر أخلاقه الشخصية؛ ولكن سیاسته ترسلني إلى الجحيم، ولكنها اليهودية والبروتستانتينية التي تريد أن تصنع المسكون الروحي الداخلي لأمة من أعظم وأقوى الأمم التي ظهرت على سطح الأرض. والمضحك أيضًا أن أمريكا بينما تُحاسب سياسييها خُلقيًّا تحاسب السياسيين خارجها سياسيًّا أولًا وعقائديًّا، ولا يهمها أبدًا المسألة الخلقية في كثير أو قليلٍ.

ولكن الشرح حدث. منذ سنة ١٩٦٦م وأنا أرى المقدمات، ولكن طمستها هزيمة ٦٧. أثناء حرب ٧٣ دقَّ — وللأبد — إسفين في هذا التزاوج غير المنطقي بين البروتستانتينية واليهودية؛ إذ كان تزاوجًا لمصلحة اليهود على طول الخط. إسرائيل كانت تكسب وأمريكا تخسر، وليس صدفة أن العرب هم الآخرون كانوا يخسرون. ربما حرب ٧٣ جمعت الخاسرين معًا، وبدأت «زمزقة» ما تحدث في هذا الزواج اليهودي الأمريكي. وكنت وأنا أدبُّ في شوارع نيويورك مع عبد الوهاب البياتي نلمح آثارًا واضحة للزمزقة المخيفة. نيويورك وإمبراطوريتها المهولة أشرفت … بل هي تفلس فعلًا. نيويورك معقل الرأسمالي اليهودي ذلك الذي حكمها ومنها حكم أمريكا ردحًا طويلًا، ومن هوليوُد إلى مانهاتن كان يمتد نفوذه، ها هو الآن ينحسر. وها هو الرئيس الأمريكي جيرالد فورد لا يريد أن يُعطي لنيويورك البلدية والمؤسسات المائة، ودیونها تصل إلى المليارات، وأسفلت الشوارع حافلٌ بأبشع المطبَّات، وعمال النظافة مضربون، وكل بضعة أمتار إضراب، ولم أر في حياتي هذا العدد من لافتات «للإيجار»، «المبنى كله للبيع أو للإيجار». نیویورك كلها وكأنها تقدم نفسها للبيع أو الإيجار، فهل من شارٍ أو مستأجرٍ؟ .. ينظر الرئيس الأمريكي من واشنطن متدفئًا برأسمال أمريكي قُح؛ اغتنى كثيرًا بالبترول، وبأزمة البترول، وحتى بالمقاطعة البترولية حتى يستأسد وينظر شذرًا إلى نيويورك ویتركها تلعق أسفلتها الأسود وتجأر بشكاواها.

وفي نفس الوقت — وكان الاقتصاد هو محرك التاريخ فعلًا — بدأ الشعب الأمريكي ينظر إلى إسرائيل نظرة أكثر موضوعية، وإذا به يكتشف أن هناك فلسطين وفلسطينيين، وأنه مستعدٌّ أن يحل مشكلة شعب متشرد، ولكن ليس على أساس تشريد شعب آخر .. ومع هذا فقد فوجئتُ وأنا أرى الحيز الذي أصبحت فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية تحتله من وسائل الإعلام هنا! شاهدت برنامجًا استغرق نصف ساعة بأكملها — وهذا في عرف التليفزيون الأمريكي شيء كثير جدًّا — عن المستشفى أو أحد المستشفيات التي أقامته فتح لخدمة جرحى حرب لبنان من مسلمين ومسيحيين ويهود، وكان الذي يتحدث طول الوقت هو مدير المستشفى شقيق ياسر عرفات. ولا تخلو نشرة أخبار من خبر، ومعظم الأخبار محايد أو مُنصف، إن شيئًا ما يتغير في تفكير الناس هنا، ويتغير إلى الأحسن. شيء ما؛ مثل التغير الذي بدأ يحدث للمجتمع ككل، حتى بدأ بعض الناس يعترفون أنهم فقراء فعلًا وأن هناك أغنياء، في حين أنها مسألةٌ لم تكن واردة أبدًا عام ١٩٦٦م، حدث أن زرت جامعة إنديانا وجلسنا نتناول العشاء في منزل الدكتور ليجاسك أستاذ الأدب العربي في الجامعة وقصَّ علينا قصة المنزل الفاخر الذي يسكنه، وقال: إن المدينة قد أنشأته أصلًا هو ومئات غيره ليسكن فيه الفقراء أو أصحاب الدخل المحدود، ولكن حين تمَّ البناء رفض الفقراء أن يسكنوا في تلك البيوت باعتبار أن من العار أن يعترف الإنسان أنه فقيرٌ، فالفقر في أمريكا لم يكن — كما تواضع الناس هنا — مسألة نظام اقتصادي؛ ولكن معناه أن الفقير إنسان دنِس أولًا، وإلا لما كتب الله عليه الفقر. اختفى هذا الآن تمامًا، وهدر الاعتراف بالفقر، وتدفقت المطالب الاقتصادية والاجتماعية، وبدأ المجتمع الأمريكي يُدمدم بتحولات اشتراكية جعلت الخوف يدبُّ إلى قلب طبيب مصري صديق وغني هنا، يقول لي: أنا خائفٌ أن تصبح أمريكا شيوعية في القريب العاجل. ترى لو أصبحت كذلك فأين يذهب إنسان مثلي؟ إني لا أهزل .. أنا أفكِّر جادًّا .. أتعرِف أني لا أضع علامة طبيب على سيارتي، فلو وضعتها لوجدتها مسروقة حتمًا؛ فمن المعروف أن الأطباء هنا أغنياء ويكسبون كثيرًا، والناس أصبحوا ينظرون شذرًا إلى الأغنياء هنا.

والشارع الأمريكي ينظر أيضًا شذرًا إلى المؤسسات الهائلة الضخامة، فهي ليست مؤسسات أو شركات .. إنها دول، ودول كبرى، ميزانية أقلها شأنًا تُعادل أضعاف أضعاف ميزانية دولة بأكملها من دول منطقتنا .. أرباح بعضها يقدر بمئات المليارات من الدولارات، أي أرقام وعلى يمينها ثمانية أو ربما تسعة أصفار.

وهل يمكن الإحاطة بقارة في موضوع؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤