الخليفة يستنجد بنور الدين

خرج القاضي الفاضل، وخرج الأمير شمس الخلافة، وبقيت فاطمة وحدَها في المكتبة تُفكِّر، وقد اتسعت أمامها ميادين التفكير: إن مصر تضطرب بالحوادث في الخارج؛ فالفرنج في بلبيس، وشاور يستعدُّ لصدِّهم، ورجال الدولة يتقابلون ويتشاورون علَّهم يجدون مخرجًا أو عونًا، وهي وسائر نساء مصر حبيسات الجدران والقصور كأنهن في سجن اختياري لا يدرين من الأمر شيئًا، ولا يشتركن في التفكير في مستقبل البلاد.

ألَسْن مصريات وهذا وطنهن كما هو وطن رجالهن من آباء وإخوة وأزواج وأبناء؟! ألا يخضعن للهزيمة كما سيخضع لها رجال مصر؟ ألنْ يُؤسَرن كما يُؤسَر المصريون إذا تغلَّب العدُو، لا قدَّر الله؟! وإذا انتصر المصريون ألا يَفرَحْن لهذا النصر؟! لمَ إذن يقَرْن في البيوت مُحتجَبات كالسائمة لا يفقهن شيئًا ولا يَعلَمْن شيئًا، ولا يشتركن في الدفاع عن البلاد بالقدْر الذي يستطِعن؟! هل في الدين ما يمنعهن عن القيام بهذا الواجب الشريف؟ كلا، إنها تَذكُر أن مُدرِّسها عبد الرحمن قد حدَّثها أكثر من مرة عن نساء المسلمين، اللاتي كُن يخرجن مع جيوش النبي لمُحارَبة الكفار، فيُحرِّضن الجند على القتال ويسقِين الماء ويُضمِّدن الجرحى.

وإنها لتَذكُر أنها كانت تشتعل حماسًا وهي تستمع لمِثل هذا الحديث، فتتمنى لو أن الزمن تقدَّم بها فكانت إحدى هؤلاء النساء لتفعل فعلهن، وتُضحِّي كما ضحَّين. وإن هذا الشعور نفسه ليُعاوِدها الآن فتُحِس أن كل جزء من جسمها يُناديها للحركة والعمل، عمل أي شيء تستطيعه لتُساهِم في الدفاع عن وطنها مصر، وعن دينها الإسلام ضد هذا العدُو المُغير. ولكن كيف يُتاح لها هذا وهي لا تُغادِر القصر إلا مُحجَّبة مراتٍ معدودات في السنة للنزهة في حدائق الروضة أو في حَرَّاقة أبيها الخاصة يوم الاحتفال بوفاء النيل؟

فكَّرت فاطمة في هذا طويلًا، وشعورها القوي وأملها الجامح يدفعانها، والحقيقة الواقعة المُؤلِمة ترُدها، وإذا بأحد الخدم يدخل فيقول: الشيخ عبد الرحمن حضر ويُريد مُقابَلة مولاتي.

فأحسَّت فاطمة بالفرح الشديد يغمُرها، وأخذ قلبها ينبض في سرعة غريبة، وأخذت تنظر إلى الخادم مشدوهة مُدة طويلة وهي لا تكاد تُصدِّق ما يقول، ثم نهضت واقفة وقالت: وأين هو؟

– في المَنظَرة تحت.

– ادعُه إلى هنا، وسأذهب لأُغيِّر ملابسي وأُوافِيه.

وخرجت فاطمة إلى غرفتها وظلَّت تُقلِّب ملابسها وهي حيرى؛ أيها تختار؟ وأطرافها باردة ترتعد لا تكاد تُمسِك ثوبًا حتى يسقط منها. وأخيرًا انتقت ثوبًا أبيض بسيطًا، وارتدَت فوقه قباءً واسعًا ذا أكمام طويلة أخضر اللون مُزركَشًا بالذهب مُطرَّز الأطراف باللون الأبيض، وتناولت منديلًا من نفس القماش واللون فتلثَّمت به، ونظرت إلى المرآة وأطالت النظر، ثم ذهبت إلى المكتبة؛ فلمْ تكَد ترى عبد الرحمن حتى اندفع الدم إلى وجهها فصبَغه بحُمْرة في لون الخمر جميلة، وأطرقت إلى الأرض حياءً، ثم مدَّت يدها إليه تُحيِّيه وهي تقول: حمدًا لله على السلامة، كيف قوص، وكيف صحة السيد الوالد؟

– أحمد الله وأشكره، كانت قد أصابته حُمًّى وعانى منها كثيرًا، ولكنه قارَب الشفاء الآن.

– الحمد لله، أكمل الله له الشفاء، ورزقه الصحة والعافية التامة.

وسكتت وسكت عبد الرحمن وهو ينظر إليها ويُعجَب بجمال وجهها المُستطيل ذي العينَين السوداوَين، والأنف الدقيق، والفم الصغير، والطرحة الخضراء تُحيط به كما تُحيط الهالة بالقمر، ثم قال: لقد وجدت أمامي هنا هذه الكراسة فقلَّبتها، فإذا بها أبيات من الشعر رائعة تدُل على ذوقٍ جميل وحسن اختيار.

فأفرح هذا التقريظ فاطمة وقالت تُجِيبه: لقد شغلت نفسي أثناء غياب سيدي الأستاذ بقراءة بعض الدواوين، وكنت أختار ما يُعجِبني من الشعر فأُدوِّنه في هذه الكراسة.

– ولكنني لاحَظت أن كراستكِ تحوي نوعَين من الشِّعر فقط؛ الشعر الذي يتحدث عن مصر، والشعر الذي يتحدث عن القلب. مما دلَّني على أنك ِكنت مُلهَمة في اختيارك.

– إنني لم أضع لنفسي خُطة مُعيَّنة عند الاختيار، ولكن هذا أمر طبيعي؛ فمن من الناس يحيا بلا وطن، ومن من الناس يحيا بلا قلب؟!

وهنا سمع المُدرِّس وتلميذته صوت الأمير شمس الخلافة يدخل غرفته المُجاوِرة ومعه ضيف، فقال عبد الرحمن: هذا صوت الأمير. ألا أذهب لأُسلِّم عليه؟

فقالت فاطمة في همس: لا، بل ابقَ قليلًا فإني أظنه مشغولًا مع ضيفه في أمر هام، ولا ترفع صوتك لئلا يسمعنا.

– إذن اسمحي لي أن أنتظر في المَنظَرة تحت؛ فإننا نسمع حديثهما واضحًا جليًّا.

– بل إني أُريدك أن تسمعه فهو حديث يهُمك.

– ولكن هذا ليس من الخلق الطيِّب؛ فقد لا يُريد الأمير أن نسمع حديثه.

– إن الأمر لكَما تقول، ولكن هذا الحديث يتعلق بمستقبل البلد، وواجبٌ عليك كمصري أن تعرفه، وإني لا أخشى أن تنقله إلى أحد؛ فإنك يا سيدي خير من يُؤتمن على الأسرار.

فقال عبد الرحمن في دهشة: ما هذا؟! إن هذا صوت الكامل بن شاور.

– نعم إنه هو. استمع الآن للحديث.

وهنا سمعا الأمير شمس الخلافة يقول لضيفه: يا كامل، إن عندي أمرًا لا يُمكِنني أن أُفضي إليك به إلا إذا أقسمت أنك لا تُطلِع أباك عليه.

– أُقسِم بالله ألا أُفضي إليه به. قُل ما هو؟

– أنت تعلم أن أباك عقد النية على الصبر والمُكافَحة وحدَه ضد الفرنج، وأنت تعلم أيضًا أنه لا يقوى على هذا الكفاح ويبدو إليَّ أنه سيُسلِّم البلد أخيرًا للأعداء، ولا يُكاتِب نور الدين.

– أعلم هذا.

– وأظنك تُدرِك معي أن هذا رأي خاطئ.

– أُوافِقك.

– إذن لا مَخرج لنا إلا الكتابة إلى نور الدين؛ ولهذا أرجو أن تذهب بنفسك إلى الخليفة، فتطلب منه أن يكتب هو إلى نور الدين يطلب النجدة.

أطرق الكامل طويلًا، وأنشأ يُفكِّر، وتنازَعته عواطف كثيرة، واحتدمت المعركة في نفسه. إن هذا الذي يطلبه شمس الخلافة يُوافِق هوًى في نفسه؛ فهو يُؤمِن معه بخطر الفرنج على البلد، وهو يُؤمِن معه أن جيش أبيه قد لا يصمد طويلًا أمام جيش الفرنج، فإذا انهزم كان لهزيمته نتائج جِد خطيرة، وضاعت مصر حصن الإسلام القوي، وانتقلت إلى أيدي الفرنج، ولكنه يعلم في نفس الوقت أن أباه يكره أسد الدين كرهًا شديدًا، ويأبى كل الإباء أن يستعين بنور الدين؛ لأنه أدرك تمامًا — من التجربتين السابقتين — أن أسد الدين يطمع في مُلك مصر، وأنه إذا أتى هذه المرة وجد تعضيدًا من المصريين وترحيبًا من الخليفة، وتأييدًا من رجال الدولة.

وإذا أتى أسد الدين وملك مصر، أليس في هذا نهاية لدولة أبيه وضياع لمَجده ومَجد أسرته؟ وماذا يكون مصير أبيه ومصير أسرته، بل ومصيره هو؟ أقربُ الظن أن يكون مصيرهم جميعًا الأَسْر إن لم يكُن القتل؛ فإن أسد الدين لا يُمكِن أن يكون قد نسي لأبيه غدره المُتكرِّر وحنثه في وُعوده.

جالت كل هذه الأفكار بخاطر الكامل، وقامت في نفسه ثورة عنيفة؛ أيَقبل ما عرضه عليه شمس الخلافة ويشترك معه في تنفيذ خُطته، فيكون في هذا خيانة لأبيه وأُسرته وقضاء على مَجدهما ومَجده وإن كان يُؤدِّي بذلك خدمة لمصر وللإسلام؟ أم يعتذر ويترك الأمور تجري في أعِنَّتها، فيكون بذلك وفيًّا لأبيه؟ أيهما أحق أن يتبع، وأيهما أحق أن يفوز بولائه ووفائه؟!

طال بالكامل التفكير ولجَّ به الألم واشتد به الحرج، ولكنه كان رجلًا مُؤمِنًا شديد الإيمان؛ فآثر أن يُوافِق شمس الخلافة على رأيه، راجيًا أن يُقدِّر له أسد الدين سعيه هذا إذا جاء فيعفو عن أبيه. ولم يشَأ أن يُفضي لمُحدِّثه بما جاش في نفسه، وإنما رفع رأسه بعد قليل وقال: إن أبي يخشى أن يملك أسد الدين مصر إذا حضر هذه المرة، ولكنني أُفضِّل أن يملِك البلدَ المسلمون على أن يملكها الفرنج. سأذهب أيها الأمير، وفي يقيني أن الخليفة سيُرحِّب بهذا الرأي؛ فهو أشد كرهًا للفرنج منا. ولكن …

– ولكن ماذا؟

– من الذي سيحمل الكتب إلى الشام؟!

سمعت فاطمة هذا الحديث كما سمعه عبد الرحمن؛ أما هي فكانت تعلم مُقدِّماته فلمْ تَعجَب له، أما عبد الرحمن فقد أخذته الدهشة، فكان يُتابِع الحديث بجميع حواسه، ولم يكَد يسمع هذا السؤال الأخير حتى وقف ونظر إلى فاطمة وهمَّ بالكلام، غير أن فاطمة سبقته فقالت: لقد كنت أذكُر قبل حضورك كلامك عن نساء المسلمين في عهد النبي، وما كُن يُؤدِّينه من خدمات في الحروب، وكنت أتمنى أن تُتاح لي فرصة أُؤدِّي فيها خدمة لديني في هذه الظروف العصيبة، وهذا أبي يُريد من يحمل رسالة الخليفة إلى نور الدين، وكم أتمنى لو كنت أنا هذا الرسول؛ فإني أُجِيد ركوب الخيل ويُمكِنني أن أتنكر في زي شاب.

فضحك عبد الرحمن مُعجَبًا بهذه الروح الوثابة وقال: بارك الله فيكِ وفي هذه الروح القوية. ليت كل نساء المسلمين كُن فاطمة! إنني أفخر بك الآن. ولكن هذه رحلة طويلة شاقة، ولقد هممت إذ وقفت الآن أن أذهب أنا للأمير فأعرض عليه نفسي لأكون رسوله إلى الشام. أتَأذَنين لي؟

وتركها وطرَق باب الغرفة المُجاوِرة ودخل مُحيِّيًا، فدُهِش الأمير شمس الخلافة وقال: أهلًا بالشيخ عبد الرحمن. متى وصلت؟ حمدًا لله على السلامة، وكيف صحة الوالد؟

فقال عبد الرحمن: شكرًا جزيلًا أيها الأمير، والحمد لله، فقد منَّ على والدي بالشفاء بعد أن قاسى آلام الحُمَّى مُدة ليست بالقصيرة، ولكن ليغفر لي سيدي الأمير جرأتي؛ فإني أعتقد أنني جئت في وقت غير مناسب، وليغفر لي جرأتي مرة ثانية؛ لأنني تطفَّلت فسمعت حديثكما الآن وأنا في المكتبة، وقد جئت أعرض نفسي على سيدي الأمير لأكون حامل رسالة الخليفة إلى نور الدين.

فعجِب الكامل ونظر إلى هذا الشيخ الجريء، ونظر إلى شمس الخلافة مُستفهِمًا، فقال شمس الخلافة: هذا الشيخ عبد الرحمن مُعلِّم ابنتي فاطمة، وهو من أفاضل الناس علمًا ودينًا وشهامة، وها أنت ذا تراه يُقدِّم نفسه لهذه السفارة الخطيرة في الوقت الذي يتردد فيه كبار رجال الجيش عن القيام بها لو سألتهم ذلك.

ثم التفت إلى عبد الرحمن وقال: إنني أثق بك يا شيخ عبد الرحمن، وأعلم مبلغ إخلاصك، وستكون سفيرنا إلى نور الدين إن لم نجد سفيرًا.

وذهب الكامل بن شاور في اليوم التالي إلى القصر الكبير، وطلب الإذن لمُقابَلة الخليفة. فلما مثَل بين يديه خلع سيفه وقبَّل الأرض ثلاثًا، ثم أفضى إليه برغبته فوجد منه أُذنًا صاغية، ولكنه تردَّد قليلًا قبل أن يُعلِن مُوافَقته؛ فقد تسرَّب الشك إلى نفسه، وأخذ يتساءل: أحقٌّ ما يقول الكامل؟ أجادٌّ هو في عرضه؟ ألا يُمكِن أن تكون هذه خدعة من شاور أراد بها أن يتعرف رأيه فيه، وحقيقة ميوله نحو أسد الدين؟ لقد كان من المُمكِن أن يتقدم إليه بهذا الاقتراح أي رجل من رجالات الدولة غير الكامل بن شاور، أما أن يتقدم هو فهذا أمر يُثير الشكوك.

لقد كانت هذه رغبته، ولقد بات ليلته يُفكِّر فيها ويلتمس السبيل إلى تنفيذها، وخاصة بعد أن أحس نساء القصر معه بالحيرة والقلق، وبعد أن شاهَد في أعيُنهن علائم الألم المكبوت وصُوَر الاستغاثة الصامتة كلما تحدَّث إليهن، غير أن حرصه وشكَّه دفعاه إلى إنكار هذا الاقتراح أولًا ليعرف مبلغ صدق مُحدِّثه، فنظر إلى الكامل نظرة طويلة ثم قال: قد يكون لهذا الاقتراح وجاهته، بل لعله الحل العملي الوحيد، ولكنني لا أستطيع المُوافَقة عليه؛ فأنت تعلم أن دولتنا قامت لتدعو إلى المذهب الشيعي وتُدافِع عنه، وقد بذل جدودي الجهود المُضنية في هذا السبيل. فهل أتقدَّم أنا الآن إلى الاستعانة بنور الدين، وهو رجل سُنِّي مُغالٍ في سُنِّيته، يَدين بالولاء لمُنافِسي الخليفة العباسي؟ إن معنى هذا زوال مذهبنا بل ودولتنا.

وسكت العاضد قليلًا ثم تنهَّد طويلًا وقال يُخاطِب نفسه: ربَّاه، هل قُدِّر لي أن أهدم بيدي ما بناه أبناء فاطمة في هذه القرون الطويلة؟

وأدرك الكامل صدق دعواه وحرج موقفه؛ فإنه كان يُعاني نفس الحرج والضيق، وإن اختلفت الأسباب. ولكنه أراد أن يُقنِعه بصواب رأيه، فقال: إن مولاي أمير المؤمنين مُسم قبلَ أن يكون شيعيًّا، وإنه ليعلم أن الفرنج قد قدِموا هذه المرة في عُدة وعتاد لا قِبَل لنا بهما، فهل يُؤثِر أن تنتقل مصر إلى أيدي المسيحيين مُحافَظةً على المذهب؟ وهل يُحافِظ المسيحيون على المذهب إذا هم ملكوا مصر؟ أما أسد الدين فقائد من قُواد الإسلام؛ فهو إن انتصر كان في نصره العزة والمَجد للإسلام، ولا أظن أنه يسعى لتغيير المذهب، ثم إنكم يا مولاي تستطيعون أن تصطنعوه وتُقرِّبوه إليكم بشيء من المال والجاه.

عجِب العاضد من هذا الحماس وهذا الصدق يشيعان في حديث الكامل، فأراد أن يتأكد من إخلاصه، فسأله: وهل حدَّثت أباك في هذا الموضوع؟

– لا يا مولاي، فأنا أعلم مبلغ الكُره الذي بينه وبين أسد الدين، وأنه يرى الاتفاق مع الفرنج خيرًا من الاستنجاد بنور الدين.

فاشتد العجب بالخليفة وسأل الكامل مرة ثانية: ألا ترى أن في انتصار أسد الدين — لو قدِم — خطرًا على أبيك؟

فأجاب الكامل بقوله: مولاي، لقد فكَّرت في هذا الأمر طويلًا، وترددت في الإقدام كثيرًا، وعانيت من نزاع نفسي وثورتها الشيء الكثير، ولكنني فضَّلت في النهاية سلامة الإسلام والدولة على سلامة أبي. ومن يدري؟ فقد نستطيع في المستقبل أن نُزيل ما بين أبي وبين أسد الدين من أسباب العَداء.

عند ذلك أدرك العاضد صدق مُحدِّثه وإخلاصه، وأكبَر فيه هذه الروح الطيبة؛ فأعلن إليه مُوافَقته. ولكنه عاد يُسائله: ولكن أتَرى نور الدين يُلبِّي نداءنا، ويُغيث لهفتنا؟

– على المرء أن يسعى يا مولاي، وليس عليه تحقيق الأمل.

– صدقت. على المرء أن يسعى، وليس عليه تحقيق الأمل.

سأُنادي القاضي الفاضل ليكتب الخطاب، واللهَ أسأل أن يكتب لنا التوفيق.

واستأذن الكامل وخرج، وترك الخليفة الشاب في لُجة من أحزانه، وغمرة من آلامه، يستعيد في نفسه هذا الحديث، ويدرُس الموقف ومُلابَساته. لقد قرأ تاريخ أجداده، ورأى في هذا التاريخ صفحات المَجد واضحة جلية. إنه ليَذكُر الآن ما قرأه عن حياة جَده الأعلى مُؤسِّس الأُسرة عبيد الله المهدي، وإنه ليستعيد أمام ناظرَيه صُوَر النضال القوي الذي خاض غماره، حتى استطاع أن يضع أوَّل لَبِنة في هذا الصرح المَشيد. فلما نجح وأقام دولته في المغرب لم يهدأ له بال حتى أسَّس لدولته عاصمة جديدة — هي المهدية — وافتنَّ في تحصينها؛ فأحاطها بالأسوار القوية والقلاع المتينة. فلما تم له ذلك قال قولته المأثورة: «الآن أَمِنت على الفاطميات.» أجل الفاطميات، بناته وزوجاته ونساء أسرته. إن من خُلُق العربي أن يفتخر دائمًا بحمايته لوطنه وحريمه. وقد ورِث هو مُلك الفاطميين، وفي حِماه الآن فاطميات يُهدِّدهن خطرٌ داهم. إنه خطر مسيحي، ومن واجبه أن يحميهن ويُدافِع عنهن، ولكن هذا الرجل شاور يملك قُوى البلد؛ فليس أمامه إذنْ إلا أن يستنجد بنور الدين، ولعله يستطيع أن يضرب شاور بأسد الدين؛ فإذا تخلَّص منه أمكنه — كما يقول الكامل — أن يصطنع أسد الدين ويُقرِّبه إليه.

وقد يستطيع أن يُغريه حتى ينقلب داعية لدولته ويُحارِب به نور الدين والخليفة العباسي. إن في تاريخ أسلافه سابقةً مُشابِهة؛ فقد استطاع الخليفة المُستنصِر الفاطمي أن يستميل إليه البساسيري — أحد قُواد العباسيين — بالمال والعطاء، حتى انقلب الرجل داعية له، ودخل بغداد عاصمة العباسيين وخطب له فيها.

وهكذا انفسحت الآمال أمامه، وهدأت في نفسه ثورة النزاع، فنادى قهرمانة القصر وطلب إليها أن تأتيه بذوائب من شعور نسائه.

وأرسل فاستدعى القاضي الفاضل، وأمره فكتب له الرسائل إلى نور الدين بأسلوبه البليغ، وسخَّم أعالِيها بالمِداد الأسود، ثم أخرج العاضد ذوائب الشَّعر ونظر إليها قليلًا، ولبث لحظة يُحاوِل أن يمُد يده بها إلى الفاضل ثم يُحجِم، وتندَّت عيناه بالدموع، ولكنه أسرع فقدَّمها إليه وهو يقول: خُذ يا عبد الرحيم هذه فارفقْها بالرسائل. هكذا أراد الله ولا رادَّ لقضائه.

وحمل القاضي الفاضل الرسائل إلى شمس الخلافة في داره، واتفق الرَّجلان على أن يكون عبد الرحمن هو رسولهما إلى نور الدين.

وكان عبد الرحمن في المكتبة مع تلميذته فاطمة، فناداه الأمير شمس الخلافة وقال: يا شيخ عبد الرحمن، إنني لا أشُك في إخلاصك لوطنك ودينك؛ ولهذا وافقتُ على أن تكون أنت حامل الرسائل إلى نور الدين، وهذه هي. ولكنك تعرف جيدًا أن مستقبل هذا البلد وأهلِيه يتوقف على نجاحك ووصول هذه الكتب إلى نور الدين نفسه، فكُن حريصًا عليها حرصَك على حياتك.

– لا تخَف أيها الأمير. سأجعلها في ثنايا قميصي اللاصق بجسمي، وسأصونها من أي مُعتدٍ إلى أن أُسلِّمها لنور الدين بيدي. والله يُوفِّقنا جميعًا لما فيه خير مصر والإسلام.

فقال شمس الخلافة: سِر على بَركة الله. وسأخرج أنا على جوادي إلى صحراء عين شمس، وأنتظرك حتى تُوافِيني فأُعطيك الجواد لتبدأ رحلتك محروسًا بعناية الله ورعايته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤