حريق الفسطاط

كان شاور يعتقد أنه يستطيع أن يُخرِج الفرنج من مصر وحدَه؛ إذ كان يطمع أن يُغري مَلكهم بالمال، فأرسل جُباته وجهابذته إلى الأقاليم يجمعون المال من الفلاحين والتجار، واستعمل هؤلاء كل صنوف القسوة وألوان العذاب حتى سخط الشعب عليهم وعلى شاور. غيْرَ أن مري لم تخدعه رسائل شاور المُتتابِعة، ووعوده المُتتالِية؛ فتقدَّم بجيشه وعسكرَ عند بِركة الحبش قِبلي الفسطاط، واتخذ الأُهْبة لمُهاجَمة العاصمتَين؛ القديمة والجديدة. فذُعِر شاور وقرَّر أن يحرق الفسطاط بما فيها كي لا يملكها العدُو، فأرسل المُنادين يجوبون خِطَطها وحواريها وأزِقَّتها، يُنذِرون سُكانها كي يحملوا مَتاعهم ويُسرِعوا بإخلائها.

ارتاع سكان الفسطاط وبلغ الذُّعر في نفوسهم أقصاه؛ فكان كلٌّ منهم يحمل ما خفَّ وزنه وغلا ثمنه، ويُحاوِل أن يفرَّ بنفسه وأولاده، وزاد الإقبال على الدواب لحمل الناس والمتاع حتى بلغت أجرة الجَمل إلى القاهرة ثلاثين دينارًا، وتشتَّت الناس أيديَ سَبَأ؛ فرحل البعض إلى القاهرة والبعض إلى الصعيد أو إلى مدن الدلتا وقُراها وهم يبكون مساكنهم ومتاعهم ومدينتهم الجميلة بأسواقها ومساجدها، الغنِيَّة بتجارتها وصناعتها، العظيمة بآثارها ودُور عِلمها.

وفي اليوم التاسع من صفر سنة ٤٦٥ فرَّق شاور رجاله ومعهم عشرون ألف قارورة نفط وعشرة آلاف مَشعَل، فأشعلوا النار في جميع أنحاء المدينة.

ووقف شاور على جبل المقطم يرقُب مدينة عمرو بن العاص العظيمة وهي تحترق، والنار تأكلها وتأكل معها تراثًا جليلًا ظل المصريون يُقيمون صَرْحه ويشيدون أركانه ويبنون عُمُده خمسة قرون ونصف قرن، وكان كل لسان من ألسِنة النيران يتصاعد مُترنِّحًا، ويندلع في صوت صارخ أجَش، يبكي المدينة الجميلة ويلعن شاور.

وفي الوقت نفسه كان الفقيه زين الدين المصري يقِف إلى جانب القاضي الفاضل في داره التي هاجر إليها بالقاهرة، ليُشرِفا من إحدى النوافذ على هذه المدينة الأثيرة لديهما العزيزة إلى نفسَيهما، ويبكيان فيها أوقاتًا جميلة قضَياها في المسجد الجامع، أو في دارَيهما، أو دور أصحابهما، وينقمان على هذا الرجل شاور فِعلَته النَّكراء، ويرثيان لسكان المدينة، ويأسفان لما حلَّ بهم من ذعر وخوف وضياع أنفُس وأموال، وكان الرَّجلان يدعوان الله مُخلِصين له الدعاء بقلبَين عامرين بالإيمان أن يدفع عن أهل مصر هذا البلاء، ويُغيثهم برحمة من عنده، ولم يلبثا أن وجدا شوارع القاهرة تزدحم بالفقراء من الناس، وقد علا عَويلهم واشتد بكاؤهم؛ فقال القاضي الفاضل: لا حول ولا قوة إلا بالله. لا حول ولا قوة إلا بالله.

انظر. انظر يا زين الدين.

ثم غطَّى عينَيه بيده لئلا يرى. ونظر زين الدين فرأى فقراء الفسطاط ومُعوِزيها الذين لم يجدوا أجْر الدابة التي تحملهم، وقد طارَدتهم النار فلجئوا إلى القاهرة يتدافعون بالمناكب في حالٍ تُبكي أقسى القلوب وأغلظها؛ فهذا شابٌّ مسكين يحمل أباه المريض على ظهره، وخلفه زوجه وأولاده يتعلقون بأذياله، وهذه صبيَّة شاردة تبكي وتصرخ صُراخًا يُقطِّع نِياط القلوب تُنادي أُمها ولا مُجيب، وهذه امرأة ضعيفة لا رَجل لها تحمل طفلها الرضيع ويتبعها ولدانِ وطفلة، وخلفها عجوز تحمل حصيرًا بالية وقُلة ماءٍ هما كل ما تملك من حُطام الدنيا، وهي تتعثر في مِشيتها تكبو ثم تقِف لتكبو ثانية، والجميع يتزاحمون ويتدافعون لا يجدُون دُورًا تُؤْويهم أو رَجلًا يُطعِمهم.

رأى زين الدين هذا كله فترَك النافذة وهو يقول: اللهم الطُف بعبادك، وأغِثهم برحمتك.

وخرج القاضي الفاضل فدعا جماعة من هؤلاء اللاجئين إلى داره وأعطاهم بعض الطعام، وترك صديقه زين الدين ليُعنى بأمرهم، وخرج على بغلته فالتفَّ الناس حوْله وهم يصرخون ويُولوِلون ويطلبون منه العون والنجدة، فطيَّب خاطرهم ووعدهم أنه سيسعى لدى الخليفة والأمراء ليُوجِدوا لهم مأوًى وطعامًا، فصاحوا جميعًا يُحيُّونه ويدعون له، وتقدَّم شابَّان عن الجميع فأخذا بزمام البغلة يشُقان للقاضي الطريق وسط الزحام الشديد، إلى أن وصل إلى قصر الخليفة فطلب الإذن ودخل، فقال: يا أمير المؤمنين، لقد مسَّ شعبَك الضرُّ والجوع بعد أن أشعل الوزير شاور النار في الفسطاط، وها هم سكان المدينة الفقراء يملئون شوارع القاهرة وأزِقتها لا تكاد تُغطِّيهم الملابس البالية، ولا يكاد يُمسِك جوعَهم شيء وهم يئنُّون ويبكون، ويضِجون بالعويل والصراخ. وأنتم يا مولاي مَلاذُ الجميع وكهفهم ونصيرهم، فجُد لهم بما يُطعِمهم من جوع، وما يُكسيهم من عُرِي، وهؤلاء أمراء الدولة قد امتلأت خزائنهم بالمال والطعام، فليأمرْهم مولاي أمير المؤمنين أن يُفسِحوا لهؤلاء اللاجئين الضالين أمكنة في دُورهم، ويُعنَوا بأمورهم. أغِثْنا يا مولاي من هذا الفزع الأكبر! أغثنا!

فتأثَّر الخليفة العاضد، وتندَّت عيناه بالدموع. ولا غَرْو فهو شاب في السابعة عشرة من عمره، أُلقِيت إليه مقاليد الأمور في بلدٍ تعقَّدت أمورها، فهاجَمهما العدُو واستبدَّ بها رجل لا يسعى إلا لمَجده وإن جاع الناس واحترقت البلد. ومسح الخليفة الدموع من عينيه وقال: أيها القاضي، مُر المُشرِفين على مطبخ القصر أن يُوزِّعوا ما عندهم من طعام على هؤلاء المساكين. وسأدعو الأمراء الآن وأحثُّهم على العناية باللاجئين وإيوائهم وإطعامهم. والله يُقوِّينا على فعل الخير، ويُؤيِّدنا بروح من عنده، ويُنقِذنا من هذا الشر الذي يُحيط بنا من كل مكان.

وذهب القاضي الفاضل إلى مطبخ القصر، فجمع ما به من طعام وحمله مع الحاملين، وخرج لتوزيعه على أولئك الفقراء المساكين؛ فتكالبوا عليه وعلى من معه يتدافعون ويخطفون ما يُقدَّم إليهم، ويضِجون فرحًا وسرورًا، ويهتفون في صوت واحد: حفظ الله سيدنا القاضي! نصر الله مولانا القاضي! فتركهم وأخذ يشُق طريقه إلى منزله، وعيونه تملؤها العَبَرات وهو يُناجي ربه في سريرته أن يُغيث هذا الشعب المسكين ويُنقِذه من أيدي ظالمِيه وأعدائه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤