شاور يمكر مكرًا

أحس مَلِك بيت المقدس وقُواده بالفزع الأكبر، عندما علِموا بمجيء أسد الدين؛ فقضَوا ليلهم كله واليوم التالي وهم يحزمون أمتعتهم ويعُدون العُدة للرحيل. فلما تم استعدادهم غادروا المعسكر إلى الصحراء الشرقية وهم يتجنبون أن يُقابِلوا جيش أسد الدين.

ووصل أسد الدين بعد رحيلهم بأيام إلى القاهرة، فعسكر بأرض اللوق خارجها، ووجد شاور أنه لا سبيل إلى المُقاوَمة؛ فآثَر أن يُصانِعه ويُصادِقه، فما كاد يعلم بوصوله حتى أرسل إليه الهدايا والإقامات، ثم صحِب الأمير شمس الخلافة وذهب في اليوم التالي لزيارته في معسكره. فلما دخل في خيمته وقف وحيَّا الأمير شمس الخلافة تحية الصديق المَشوق لرؤية صديقه، ولكنه تردَّد في أن يمد يده لشاور، ووقف الرجلان لحظة ينظر كل منهما لرفيقه نظرة تملؤها المعاني المُتضارِبة المُتعارِضة. ورأى شمس الخلافة حرج الموقف، فتقدَّم لإنقاذ شاور وقال: أيها القائد الجليل القدر، عفا الله عما سلف، وقد جاء الوزير شاور لزيارتكم بعد أن ترك خلفه الماضي بجميع ما فيه من إحَن وخلاف.

ثم أخذ بيد كل منهما، ووضعها في يد الآخر، وتصافَح الرجلان وتعاهدا على أن ينسى كل منهما ما كان بينهما من أسباب النزاع، وجلس الثلاثة يتحدثون حديث ود وصفاء ومَحبة وإخاء. وأراد شاور أن يُزيل ما في نفس عدُوه بالأمس من أثر سيِّئ، وأن يُبرِهن له على صدق توبته، فقال: إن مصر تُرحِّب بكم اليوم بعد أن عانت من الفرنج ما عانت، وإني لأذكُر الآن سابق مشورتكم أن نتَّحد معًا فنُهاجِم الفرنج هنا لنقضي عليهم. فهل لديك مانع اليوم من أن نُجدِّد هذا العزم؛ فهم لا يزالون في صحراء مصر لم يُغادِروها بعد؟

فعجِب أسد الدين من هذا الرأي، يتقدم به شاور اليوم، وقد رفضه بالأمس والفرصة سانحة، فأجابه بلهجة الواثق من نفسه المُستخِف برأيه، وقال: لقد كان هذا رأيي أيها الوزير والفرنج على البَر الغربي، وليس لهم وَزَر، أما الآن فلا؛ لأنهم على البَر المُتصِل ببلادهم، وقد وصل جندي إلى هنا بعد أن أنهكهم التعب وأكَدهم السير، فوجدنا الله سبحانه وتعالى قد كفانا شرهم، فنحن اليوم في حاجة إلى الراحة والاستجمام.

فاغتمَّ شاور لهذا الرد، وأيقن أن أساليبه المُلتوِية لا تُجدي مع هذا الرجل الصريح، وأيقن أيضًا أن أسد الدين قد أتى هذه المرة وفي نيته البقاء في مصر، وزاد في يقينه ما رآه من كثرة الجند والعتاد وهو مُقبِل على المعسكر مما لم يرَه في المرتَين السابقتَين؛ فخرج حزينًا كاسف البال، مُضطرِب الفكر، يسمع لشمس الخلافة ولا يكاد يُجيب إلا بلا أو بنعم، بل كثُر ما استعاد ما ألقى إليه مما لفت نظر رفيقه، فالتفت إليه وقال: لقد انتهى الأمر يا صديقي، وأصبح النضال أمرًا مستحيلًا، وقد يجُر عليك شرًّا كثيرًا لو حاولته، وأسد الدين رجل صريح وكريم، فما يضيرك أن تُصافيه وتُهادِنه لتُحافِظ على ما بقي لك من سلطان؟ فذلك خير لك وللبلد، وها أنت ذا قد لاحظت بنفسك طيب قلب الرجل؛ فإنه صفح وعفا بعد كلمات قليلة قلتها.

فتظاهَر شاور بأنه يُوافِق شمس الخلافة على رأيه وإن كانت نفسه حينذاك كالبركان المُضطرِم تكاد تنفجر، فتُصيب بحُمَمها وغضبها هذا القائد الوافد المُنذِر بزوال مُلكه وختام حياته، فقال: صدقت يا شمس الخلافة، إن أسد الدين رجل كريم وطيِّب القلب، وسيكون جيشه الكبير الشجاع خير حصن لمصر، يرُد عنها عادية الفرنج إن أزمعوا عودة.

ثم سكت لحظة وقال: ولكنني لا أخشى إلا هذا الفتى صلاح الدين. إن له لَنظراتٍ نفاذة قوية لا أطمئن إليها؛ لأني أُحِس كلما نظر إلي أنه يكشف خبيئة نفسي، ويدري كل ما يجول فيها.

وكان الرَّجلان قد قرُبا من منزل شمس الخلافة، فاستأذن من الوزير ودخل، واستمر شاور في طريقه حتى وصل دار الوزارة، وصعد إلى غرفته الخاصة وخلع ملابسه، وأطرق يُفكِّر طويلًا، ويستعيد ما مرَّ به طولَ أيام حياته من مِحَن وخطوب ومن عز ومَجد، ومضت الساعة تلو الساعة، وخيَّم الظلام وهو غارق في أفكاره، لم يُنبِّهه إلا أشعة القمر تدخل من فتحات النافذة في خيوط مُتفرِّقة، فتُنير بعض ظلام الغرفة، فترك الأريكة التي يضطجع عليها، وقام إلى النافذة ينظر من خلالها، فرأى القمر يُشرِق بدرًا كاملًا، وقد سطع نوره فملأ الأرجاء، وأضفى على قصور القاهرة المُتفرِّقة وحدائقها حُلَّة من نور بهي وضَّاء، ونفذ بعض هذا النور إلى نفسه فرفعها قليلًا عن عالم الحُكم وشهواته، ورأى نفسه إنسانًا ضعيفًا لا صديق له يُشارِكه رأيه أو يحنو عليه في محنته، وتذكَّر كيف قضى عمره الطويل في نضال مُتلاحِق في سبيل شهوة زائلة ومَجد زائف، وأخذ يُفكِّر في هذا الكون المُتسِق العجيب الاتساق؛ يُولَد الناس ويدبُّون في الحياة يُلاحِق بعضهم بعضًا يشقَون ويسعدون، وتشملهم آيات الحزن أحيانًا طوالًا، وقد يمسُّهم الفرح لحظاتٍ فيُزيل ما علِق بنفوسهم من هذه الآيات، وساءل نفسه وهو ينظر إلى هذا البدر المُنير: كم أشرق هذا البدر بنوره على أقوام صفَت لهم الأيام فنعِموا وقطفوا من أزهار الحياة وثمارها! وكم أشرق وهو في رحلته أيضًا على أقوام آخرين، أصابتهم الأقدار بمحنها وويلاتها، والبدر كما هو يسير سيرته، ويرتحل رحلته! يجد فيه البعض لونًا من ألوان الجمال، ويُسامِره البعض فيُفضون إليه بما يقضُّ مَضاجعهم، ويخِز نفوسهم من آلام. ونظر أيضًا وأطال النظر فوجد سماء مصر الصافية، وقد انتثرتْ في جميع أرجائها النجوم اللوامع تُحيط بهذا القمر الساطع، وكأنها الحاشية أو الجند يسيرون في حراسته وحمايته، يتضاءل نورها إذا سطع بدرًا فلا تلتفت إليها الأنظار، ويلمع ضوءُها فتتباهى إذا اختفى، فلا يُنير العالم غيرها. وترك هذا العالم إلى نفسه، وراح يتساءل: تُرى أتكون حياته كحياة هذا القمر؟ لقد بدأ حياته جنديًّا صغيرًا، كما بدأ هذا البدر فكان هلالًا، ثم ارتقى وارتقى حتى أصبح وزيرًا فكان ملأ السمع والبصر، كما يبدو هذا البدر الآن يجذب إليه الأنفُس والأنظار، وستمضي الأيام فيُصبِح البدر محاقًا لا يكاد يُضيء. تُرى أوَصل هو إلى محاقه أم قرُب من هذا المحاق؟

ولم يكد يصِل في تفكيره إلى هذه النهاية حتى اتجه بعقله ونفسه إلى معسكر أسد الدين يستعرض ثانية مَجلسه ذلك اليوم هناك، وما دار بينه وبين أسد الدين أولًا، وبينه وبين شمس الخلافة ثانيًا من حديث؛ فعادت إليه الهموم تتكالب، وما درى أن شخصًا مُتخفِّيًا كان يدبُّ في ذلك الحين في طريقه إلى معسكر أسد الدين. فلما وصل قاده الجند إلى خيمة القائد، ولشَدَّ ما كانت دهشته عندما خلع الزائر رداءه، وأزال تنكُّره؛ فإذا به الخليفة العاضد نفسه، ذهب ليُرحِّب بأسد الدين. فلما استقر به المُقام تحدَّث إليه في شئون كثيرة، ثم أسرَّ إليه برغبته الشديدة أن يسعى لقتل الوزير شاور؛ لأنه لا يثق به، ولا يأمنه على نفسه، وعلى أسد الدين نفسه، وأبان له أن وجوده بلاء وشر على البلد وأهله، فمن الخير أن يقضي عليه.

لم يدرِ شاور من أمر هذه الزيارة شيئًا؛ لأنه كان غارقًا في أحلامه وتأمُّلاته التي أقضَّت مَضجعه تلك الليلة، فلمْ ينَم إلا قُبَيل الفجر، ولم يكُن في نومه أحسن حالًا منه في يقظته؛ إذ لاحَقته الأحلام المُزعِجة المُفزِعة، فاستيقظ مقبوض النفس، تعلو وجهَه غبرة، وترهقه قترة. إن حُلمًا من بين الأحلام التي رآها أفزعه وأرعبه؛ فقد رأى أنه دخل دار الوزارة، فوجد على سرير مُلكه رَجلًا وبين يدَيه دواة الوزارة وهو يُوقِّع منها بأقلامه، فسأل عنه، فقيل هذا رسول الله ، وهو يعلم علم اليقين أن الأحلام جميعًا تحتمل أكثر من تأويل واحد إلا الحلم يظهر فيه رسول الله، فإنه حلم صادق بظاهره وباطنه لا تأويل له ولا تفسير، وتداعت الذكريات في نفسه فتذكَّر حلمه الذي رآه وهو نائم تحت النخيل في العريش، الحلم الذي رأى فيه الرجل ذا وجه الأسد يزوره في بِيعته ثلاث مرات، فإذا كانت الزيارة الثالثة انقلب أسدًا ثم انقض عليه فصرَعه، تذكَّر هذا فثارت به آلامه وشجونه وأحزانه، وراح يُدبِّر في نفسه أمرًا، ويمكر مكرًا. والله أشد مكرًا، وأجل تدبيرًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤