المؤامرة الثانية

ومرَّت شهور بعد ذلك وأهالي الفسطاط لا يرَون الشيخ عبد الرحمن إلا وفي صحبته شيخ غريب ذو لحية سوداء وبيده سبحة لا تُفارِقه، وتساءل الناس من يكون ذلك الشيخ؟ وأجاب البعض أن هذا شيخ جليل من علماء كردستان وفد على مصر زائرًا، وقد عرض عليه الشيخ عبد الرحمن أن يُضيفه في داره، فقبِل وهو الآن ضيفه، وكثرت الأقاويل، وتعدَّدت الروايات والكل يُبالِغون في وصف الشيخ وأخلاقه وعلمه الغزير.

ولم يكُن هذا الشيخ غير خشترين، فقد اختار له عبد الرحمن هذا الزِّي ليختفي وراءه، وأجاد خشترين تمثيل دور الفقيه؛ لما كان له من شغف قديم بالعلم والدراسة، ولكثرة ما كان يقرأ في كتب الفقه ويُجالِس الفقهاء ورجال الدين ويُناقِشهم ويُساجِلهم.

وكان عبد الرحمن يُلازِمه دائمًا في غُدُوه ورواحه أول الأمر، فلما اطمأن الناس إليه وقلَّ استغرابهم وتساؤلهم ترك له الحرية يخرج من المنزل أنَّى شاء ويذهب إلى حيث يُريد، ويعود وقتَ تحلو له العودة.

وعاد عبد الرحمن يومًا إلى داره، وفتح الباب ودخل إلى حديقة داره الصغيرة التي لا تحوي غير نخلتَين وشجرة ليمون وشجرة رمان وكَرمة عنب، فرأى خشترين جالسًا تحت شجرة الليمون وبيده خنجر يُقلِّبه بين يدَيه؛ فعجب له وتقدَّم فحيَّاه، ولكنه وجده مُطرِقًا ينظر إلى الخنجر؛ فلمْ يرفع وجهه، ولم يردَّ التحية، وأعاد السلام مرة ثانية وسأله قائلًا: ما بالك يا خشترين لا تردُّ تحيتي؟

ورفع خشترين رأسه، ونظر إلى عبد الرحمن بعينَين تملؤهما العبرات، وقال: لستُ جديرًا بسلامك يا شيخ عبد الرحمن؛ لا، ولست جديرًا أيضًا بالإقامة معك.

فتألَّم عبد الرحمن لرفيقه، وحسِب أنه يخضع الآن ليقظة من يقظات ضميره؛ فيتألم لما فعله مع أبي الحسن، فأراد أن يُخفِّف عنه بعض ما يُحِس، فابتسم وقال: إن الندم يا صديقي نوع من الاعتراف بالذنب وطلب الاستغفار، غفر الله لك وسامحك، وتأكَّد أن أبا الحسن لو كان هنا الآن لعفا عنك. فضحك خشترين ضحكة مريرة، وقال: إن الأمر أخطر مما تظن، وأخطر مما فعلت مع أبي الحسن. ففغَر عبد الرحمن فاه، وأسرع يسأله: أخطر مما فعلت مع أبي الحسن! وماذا يكون هناك أخطر من الوشاية برجل بريء؟! قُل لي. أسرع.

فارتبك خشترين وتردَّد أن يُفضي بسِره إلى عبد الرحمن، واكتفى بأن نظر إليه نظرة طويلة وكأنه يستشيره ويسأله النصيحة، ثم تذكَّر جُرمه؛ فأحنى رأسه، وأخفى وجهه بين يدَيه، وراح يبكي بكاءً قويًّا.

وتوافدت الظنون على عبد الرحمن، وأنشأ يسأل نفسه: تُرى ماذا فعل الرجل؟ وأي ذنب هذا الذي أيقظ ضميره وأسلمه فريسةً للندم وتأنيب النفس حتى راح يبكي هذا البكاء المُر؟ ووجد أن من واجبه مهما كان الجُرم عظيمًا أن يقِف إلى جانب ضيفه من هذه المحنة النفسية العنيفة؛ فهو أحوج الناس اليوم إلى قلب عطوف يطمئن إليه، ليتدارك خطأه إن كان هناك مجال لذلك، أو ليستغفر ربه إن كان قد فات الأوان، فجلس إلى جانبه وربَّت على كتفه، وقال: لا تبتئس يا خشترين، ولا تستسلم للحزن هكذا، فأنت رجل حرب وجِلاد، وأخبرني بما فعلت فأنا صديقك، علِّي أجد لك مخرجًا؛ فعاد إلى خشترين قبس من روح الجندية القديمة، فمسح دموعه وقال: لا بد مما ليس منه بُد. اسمع يا صديقي. سأحدثك عن كل شيء.

– قُل ولا تخَف.

– هناك مُؤامَرة تُدبَّر منذ زمن للقضاء على صلاح الدين وإعادة الفاطميِّين.

فذُعِر عبد الرحمن وأدرك أن الأمر جِد خطير، فقال في استنكار: مؤامرة للقضاء على صلاح الدين؟ وأنت من مُدبِّريها؟!

فأجاب خشترين وفي قوله رنة الأسف: أجل وأنا من مُدبِّريها.

– وهل كدتُم كيدكم وتم الأمر؟

– تم نصفه وبقي نصفه.

– إذن لا زال هناك أمل في إصلاح ما أفسدتم؟

– أجل هناك أمل.

– حدِّثني عن كل شيء إذن بالتفصيل لنتدبَّر الأمر معًا.

– اسمع يا صديقي، وانظر إلى هذا الوشم في ظاهر يدي؛ إنه أصل البلايا.

– وكيف؟!

– جلست يومًا في مسجد عمرو أشرح بعض آي الذكر الحكيم لنفرٍ من المُصلِّين، ثم مرَّ على مَجلسنا الشاعر عمارة اليمني، وتركنا وبعُد، ولكنه عاد فوقف خلف الجالسِين، وأخذ يرمُقني بنظرات فاحصة، ثم جلس يستمع حتى انتهى الدرس وهو يُراقِبني مُراقَبة دقيقة.

وخرجتُ من المسجد فإذا به يتبَعني، واقترب فحيَّاني باسمي؛ فذُعِرت وخِفت، وارتبكت وأنكرت تحيته، ولكنه أبان لي أنه قد عرفني بعلامات كثيرة أخصُّها صوتي، وهذا الوشم في ظاهر يدي رآه وأنا أستعين بيدي أُشير بها أثناء الشرح.

فدُهِش عبد الرحمن لهذا الحديث، وقال: عجيب أمر هذا اليمني! إن ذكاءه خارق، وإنني لأتوجَّس خيفة من هذا الذكاء، وخاصة وهو لا ينعم الآن بما كان ينعم به أيام الفاطميِّين ووزرائهم. ولمَ لم تُخبِرني بهذا في حينه يا خشترين؟

– استمع يا شيخ عبد الرحمن لبقِية القصة. مشينا نتحدث قليلًا، ثم دعاني لزيارته في داره، وألحَّ في الدعوة فقبِلت وذهبت، وهناك استمالني بأسلوبه المعسول حتى مِلت إليه، ثم أبان لي عن غرضه أن أنضمَّ إليه في عمل عظيم يكون لي من ورائه خير كثير، وظل يشكو صلاح الدين وأهله، ويترحم على أبناء فاطمة ووزرائهم، ويذكُر جودهم وإكرامهم له، ويُثير سخطي على هذه الدولة الجديدة دولة بني أيوب، ويقول: «أترضى أن تعيش مُختفيًا هكذا تحيا حياة الفقهاء البائسة وأنت رب السيف ورجل الحرب والنزال؟!» وأفلح الرجل في استثارتي وسمعت إليه وعلمت أن فئة من الرجال تعمل لإعادة بني فاطمة، فيهم قاضي القضاة وداعي الدعاة وبعض رجال الجيش، وفيهم من الفقهاء زين الدين المصري، وفيهم رجال من فرنج مصر والشام.

– وأين تجتمعون؟

– في كنيسة خرِبة في طرف من أطراف الفسطاط.

– وما سبيلكم لتحقيق هذه الأمنية؟

– كانت خُطتنا ذات شقَّين، نفذ شِق منها وبقي شِق. كنا نرى أن جيش صلاح الدين في مصر قوي، فأردنا إضعافه، وقد أفلحنا في هذا، وكان سلاحنا في هذا الشق عمارة.

– وكيف؟

– ظل عمارة كعادته يمدح صلاح الدين وإخوته وبني أيوب جميعًا، علَّه يظفر بفيض المال الذي كان يفيض عليه دون حساب زمن الفاطميِّين؛ فلمْ ينَل إلا العطاء القليل، إلا أنه وجد شمس الدولة تورانشاه أكرم بني أيوب وأسخاهم إذا أعطى، فتقرَّب إليه وأكثر من مدحه، فعهدنا إليه أن يُحرِّضه على الخروج لفتح اليمن؛ ليكون له مُلك كمُلك أخيه صلاح الدين في مصر، وما زال بتورانشاه يُنشِده القصيدة تِلو القصيدة، وينقل إليه أحاديث اليمن، ويُهوِّن عليه أمر فتحها، حتى بات تورانشاه لا يُفكِّر إلا في اليمن، وطلب من أخيه صلاح الدين أن يسير لفتحها فأذِن له.

فقال عبد الرحمن: وهكذا نجحتم في شطر جيش صلاح الدين شطرَين، شطرٍ سار لليمن وشطرٍ بقي في مصر، وخُيِّل إليكم أنكم أضعفتم بهذا قوة صلاح الدين في مصر. وما هو الشق الثاني من الخطة يا خشترين؟

– الشق الثاني يتلخص في الاستعانة بالفرنج، وقد تواعَدنا معهم أن يحضروا إلى مصر متى سافر تورانشاه، فإذا حضروا أشعلنا نار الثورة في مصر، وتعاونَّا على إعادة الفاطميِّين إلى العرش، وطرد صلاح الدين وبني أيوب.

سمع عبد الرحمن القصة، فعجِب لهذه التيارات الخفيَّة تتخذ سبيلها وتُمهِّد لأحداث قوية عاصفة وهو مُغمَض العينَين لا يُحِس، ونظر إلى خشترين فوجده قد قبض على خنجره من جديد، فسأله: وما هذا؟

قال: إنني أُحِس الآن ضميري يخِزني وخزًا وجيعًا، وأجد أنني كنت غير مُوفَّق منذ وفدت على هذه الديار. أغراني شاور فخنتُ أسد الدين وبقيت هنا، ثم عرفت سِر أبي الحسن فأنبأت شاور به وكنت السبب في سجن هذا الرجل الهرِم، وأخيرًا خانَني الحظ، وخضعت لرغبة هذا الشاعر اليمني، واشتركت في التآمُر على صلاح الدين، وها أنا ذا الآن أجدني كرديًّا، فكيف أتآمُر ضد صلاح الدين وهو كردي؟ ولَطالما خضتُ معه المعارك ونِلنا النصر سويًّا؛ ولهذا أُفضِّل أن أقتل نفسي لأنجو بها من هذا الألم الذي أنوء به.

وأدرك عبد الرحمن أن الرجل صادق التوبة، وأنه نادم حقًّا على ما فعل، وإلا لما روى له أخبار المؤامرة في تفصيل وهو الذي أقسم ألا يبوح بسِرها؛ فأخذ منه الخنجر وقال: يا خشترين، أنت تعرف أن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، وقد اعترفت الآن بأخطائك كلها، فهل تُريد أن تزيدها خطأً، بل جُرمًا جديدًا لا يغتفر، تُريد أن تموت كافرًا؟! لا لا يا صديقي، إن أمامك الفرصة المُواتِية للتكفير عن هذه الأخطاء جميعًا.

فنظر إليه خشترين، وقال: وكيف؟

– تستطيع أن تذهب إلى صلاح الدين، فتُخبِره خبر المؤامرة؛ ليتدارك ما فاته، ويُعاجِل المُتآمِرين قبل أن تتمَّ لهم رغبتهم.

– وماذا يفعل بي صلاح الدين بعد ذلك؟

– يعفو عنك.

– أتظنني أبلَه إلى هذا الحد يا شيخ عبد الرحمن؟

– لا يا خشترين. لا تظنن أني أغدر بك، بل اذهب فافعل كما أشرت عليك وأنا زعيم أن يعفو عنك صلاح الدين.

– لا يا صاحبي. أنا لا أستطيع.

– إذن اترُكني أُمهِّد لك السبيل. سأذهب إلى القاضي الفاضل، وأرجوه أن يستسمح لك صلاح الدين؛ وحينذاك تستطيع أن تُفضي إليه بحديثك وأنت مُطمئن.

واتفق الرجلان على هذا، وخرج عبد الرحمن وقصد إلى دار القاضي الفاضل، ودخل فوجد الفقيه زين الدين في حضرته؛ فعجِب لهذا الأمر، ودُهِش كيف لا زال القاضي الفاضل — وهو الرجل المُتقِد الذكاء — يثق بهذا الفقيه الذي يتآمَر على سلامة الدولة وسلطانها؟! وجلس ينتظر أن تنتهي المُقابَلة ليسرَّ إلى القاضي الفاضل بما يُريد، فلمْ تنتهِ، وطال الوقت وهو قلِق لا يكاد يستقر، وأخيرًا مال إلى القاضي الفاضل، وهمس في أُذنه بعض كلمات؛ فضحِك الفاضل وقال: وماذا يمنعك؟ قُل ما عندك؛ فلسنا نُخفي عن الفقيه زين الدين شيئًا وإن عظُم.

فارتبك عبد الرحمن وزادت حيرته، ولم يدرِ كيف يفعل، ولكنه قال: لا يا سيدي القاضي، لا أستطيع، لا أستطيع.

ولاحَظ الفاضل حيرته، فقهقه وقال: وكيف لا تستطيع؟ قُل ولا تخَف، وتأكَّد أن أُذنَين اثنتَين تستمعان إليك؛ فزين الدين كشخصي وأنا أثق به ثقتي بنفسي.

فبلغت به الدهشة مَبلغًا عظيمًا، وبدأ يشكُّ في القاضي الفاضل نفسه، وأخيرًا قدَّر الفاضل حيرة عبد الرحمن فترك مَجلسه، وبعُد به إلى ركن قصي من أركان الغرفة، فأسرَّ إليه عبد الرحمن بمُوجَز الخبر، ولشَدَّ ما كانت دهشته عندما لاحَظ أن الفاضل علِم بالمؤامرة ومُدبِّريها فردًا فردًا، وذُعِر عندما وجده يأخذه من يده ويتقدم إلى الفقيه زين الدين قائلًا: هذا عبد الرحمن يا صديقي يشي بك، ويقول إنك تتآمر على الدولة وسلطانها.

فأظهر زين الدين الخوف، وقال في ارتباك: فعلتَها يا عبد الرحمن، ولم تُراعِ فيَّ حق الصداقة التي بيني وبينك؟

ثم سكت لحظة وقال: وحق الأستاذية يا عبد الرحمن؟ هل هذا وفاء التلميذ لمُدرِّسه؟

واضطرب عبد الرحمن وأراد أن يقول شيئًا ليعتذر أو ليُبرِّر فعلته، ولكن الكلمات تعثَّرت في فيه، وكان القاضي الفاضل يقِف خلفه واضعًا يده على فمه يُخفي ضحكة تُريد أن تنطلق فلمْ يستطع، فانفجر ضاحكًا وربَّت على كتف عبد الرحمن، وقال يُطمئِنه: لا تخَف يا عبد الرحمن. إن صديقنا الفقيه زين الدين اشترك مع المُتآمِرين ليأتينا بسِرهم، فهو أكثر الناس إخلاصًا لمصر ولصلاح الدين، وإنا نشكر لك غَيرتك، والآن أرجو أن تأذَنا لي حتى أذهب لصلاح الدين، فأُبلِّغه هذا الخبر الجديد، وأسأله العفو عن خشترين إكرامًا لك يا عبد الرحمن.

– شكرًا لك أيها القاضي. إن الرجل نادم غاية الندم، ومن الخير أن نعفو عنه فنكتسبه إلى جانبنا.

ونظر القاضي الفاضل إلى عبد الرحمن نظرةَ العالم بخفايا نفسه، وقال مُبتسِمًا: إن صلاح الدين يُقدِّر الإخلاص والوفاء يا عبد الرحمن، وسأطلب لك منه جائزة تقرُّ بها عينك وتبعث السعادة إلى نفسك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤