شاور في طريقه إلى الشام

استمرَّ شاور وجنده الثلاثة يعدُون مُسرِعين كمن يفِر من عدُو داهم أو وحش ضارٍ، حتى وصلوا إلى صحراء عين شمس فتفرَّقوا في سيرهم قليلًا، وتنفَّس شاور الصُّعَداء، وقال لصحبه: أظننا بعِدنا قليلًا عن الخطر فلنتمهَّلْ في سيرنا لنُرِح هذه الجياد، فقد أُنهِكت؛ والآن لنتدبَّر الأمر فيما بيننا، لقد كان عقلي أسرع من هذا الجواد فاستعدتُ كل ما حدث طول الطريق، واستعرضت كل الحلول المُمكِنة للخروج من هذا المَأزِق، وقد رأيت أنه من الأفضل أن أفِر إلى الشام؛ أما أنتم فإني في حاجة إلى بقائكم ها هنا في مصر، وسأكتب إليكم، ولتكونوا عيونًا يَواقِظ ترى كل شيء وإن حقُر، وإياكم أن تبدر منكم بادرة يشتمُّ القوم منها إخلاصكم لي وصلتكم بي؛ هذه هي وصيتي في إنجاز، فإني لا زلت قريبًا من الخطر، وقدَّم يده إليهم واحدًا واحدًا يُحيِّيهم وهو يقول: أستودعكم الله.

فتندت عيونهم بالدموع وقال واحد منهم: رافقتْكم السلامة في حِلِّكم وتَرحالكم يا مولانا الوزير، سنكون عند حسن ظنكم بنا.

وألوى شاور عنان جواده، وربَّت على عنقه يُلاطِفه ويستحثُّه، وقال يُخاطِبه: الآن لم يبقَ لي من رفيق غيرك يا «منصور» فأعِني بكل ما تملك من خفة وسرعة وجلَد.

وكان «منصور» جوادًا عربيًّا أصيلًا اشتراه شاور صغيرًا مُذ كان هو واليًا على قوص، وربَّاه واعتنى به فحفظ له الجواد حق الرعاية والجميل، ونجَّاه في أكثر من مَأزِق، وقد أحسَّ منذ اللحظة الأُولى أن صاحبه في ضِيق فضاعَف من سرعته، وكان في عَدْوه يطوي الأرض تحته طيًّا وكأنه طائر مُراعٌ تتعقبه النسور الكواسر.

وكان الجو قائظًا والحر لافحًا، والعَرق يتساقط من الجواد وراكبه، ولكن شاور لم ينِ لحظة عن التفكير فيما قد يعترضه من عقبات؛ فكَّر أولًا في لباسه الذي يرتديه، فقد ينِم عنه إذا رآه من يعرفه، وفكَّر في الطريق وصعابه، وفكَّر أخيرًا في الشام وإلى من يلجأ فيها، وقد هدَتْه سرعة الخاطر إلى حلول ارتضاها وعمِل على تنفيذها، وترك النجاح في ذلك إلى توفيق الله سبحانه وتعالى وإلى الظروف.

رأى أولًا أن يتخلَّص من مَلابسه، ورأى ثانيًا أن يتَّجه في سيره إلى بلبيس ثم منها إلى الفرما، وهذا طريق يعرفه جيدًا، فقد اجتازه مرارًا، ثم هو يعرف أنه إذا اتَّجه من الفرما شرقًا وصل إلى العريش، ومنها يُمكِنه أن يتَّجه إلى الشام.

واستمرَّ في عَدْوه بجواده وهو يتحاشى أن يقرُب من القُرى المأهولة بالسكان؛ والصحراء خالية حوالَيه يُلقي بطرفه أمامه فلا يُحِس كائنًا حيًّا في أية ناحية من نواحِيها، ومالت الشمس تنحدر نحو مَقرها الليلي رويدًا رويدًا، وحل الأصيل فلطُف الجو قليلًا، وهبَّت نسمات مُنعِشة بعثت النشاط في نفس شاور، اطمأن لها الجواد فضاعَف سرعته.

ثم قاربت الشمس المَغيب وضعُفت حرارتها ولم تعُد غير قرص أصفر باهت، ولمَح شاور عن بُعد فتاة أعرابية تهُش على أغنامها مُتجِهة شمالًا، فحدَّ من سرعته إلى أن حاذاها فحيَّاها ثم سألها: إلى أين رَواحك يا أخت العرب؟

– إلى خيامنا المضروبة قِبلَي بلبيس.

– وهل تبعد بلبيس عنا كثيرًا؟

– لا، لقد غدتْ قريبة؛ انظر إلى هذه النخلات البعيدة، إن خيامنا هناك، وإذا اتَّجهت …

ولكن شاور لم يُلقِ بالًا إلى بقية حديثها، فقد رأى أعرابيًّا يعدو مُسرِعًا مُتجِهًا نحوه فأوجس خيفة، وانتظر حتى قرب منه وحيَّاه فردَّ التحية، ونظر فوجده من أعراب الصحراء الشرقية الذين يُربُّون الأغنام على حواشي الحقول وفي الصحراء، ويتَّجرون بها مع سكان الوادي، وكان الرجل يرتدي عباءة صوفية سوداء، وعلى رأسه عقال؛ فخطرتْ لشاور فكرة طارئة سريعة وقال للأعرابي: أظنك في طريق أَوْبتك للفسطاط أو القاهرة يا شيخ العرب؟

– لا، إنني أقصد قرية عين شمس، ففي أطرافها ترعى أغنامي ويسكن أولادي.

– ولكنك تأخَّرت يا شيخ العرب، فقد قاربت الشمس أن تغيب.

– لم أتأخَّر كثيرًا فسأصِلها وقت العشاء أو بعدها بقليل؛ فجوادي هذا يُسابِق الريح لو أراد.

فألقى شاور على الجواد نظرة سريعة فعرف — وهو الخبير بجياد الخيل — صِدق مقالة الرجل، ولكن ماذا يهُمه هو وصل الرجل أم لم يصِل، إن هذه تَعِلة كان يُريد بها أن يستأنس الرجل ويجُره إلى الحديث، فعرَّج على ما يُريد وقال: إنني من جند الخليفة يا شيخ العرب، وقد خرجت في رسالة هامة مُتجِهًا إلى الشام، ونسيت لسرعتي أن أصطحب عباءتي، فهل تبيعني عباءتك هذه؟ فأنت تعلم أن برد الصحراء في الليل شديد، وقد أنام في الطريق فأتَّخذها غطاءً، ولك مني إذا عدتُ إن شاء الله كل إكرام ورعاية.

فلمْ يتردد الأعرابي بل خلع عباءته وأعطاها لمُحدِّثه، فقدَّم إليه شاور يده بالثمن، فتناوَله الأعرابي وهمَز جواده يستحثُّه على استئناف السير.

بادَر شاور بعد ذلك بلُبس العباءة فأخفى بها مَلابس الجنود، وخلع منديله فاتخذه عقالًا؛ فأصبح من يراه وقتذاك لا يشُك في أنه أحد الأعراب المُرتحِلين عبْر الصحراء في كل لحظة، وساعَده على تقوية هذا المَظهر سحنتُه العربية، إذ كان أسمر الوجه طويله ذا أنف عربي مُستطيل وعينين سوداوَين. ولا غَرْو فهو من سلالة عربية خالصة.

وأحسَّ شاور بالجوع يأكل أحشاءه، فقد كان صائمًا، ورأى أن يُعرِّج على بلبيس ليشتري منها طعامًا له ولجواده ثم يستأنف رحلته، وقد ذهب فاشترى ما أراد واتجه إلى الصحراء ثانية حتى استراح قليلًا وأكل أكلة خفيفة وأطعم جواده، ثم امتطاه فوجده قد استعاد نشاطه، وزاده الأكل قوة فاستحثه على العَدْو السريع، وكان الجواد مُخلِصًا في إجابة الدعوة فعدا أسرع ما يستطيع العَدْو، حتى وصل نصف المرحلة إلى الفرما، وهناك وجد شاور أن الليل قد أسدل أستاره، وأنه يستطيع أن يبيت ليلته حيث وصل على أن يستأنف الرحلة في الغد المُبكِّر، ولكنه وجد — بعد تفكير قليل — أن السفر في الصحراء نهارًا شاقٌّ ومُنهِك له ولجواده. حقيقةً إنه الآن مُجهَد وجواده مُتعَب، وكلاهما في حاجة إلى الراحة ليُصبِحا أوفر نشاطًا وأقدر على تحمُّل مَشاقِّ السفر، ولكنه بعد تفكير قليل وجد أن الأفضل أن يُتابِع رحلته في الليل والهواء مُنعِش جميل، حتى يصِل إلى الفرما وهو مكان هادئ آمِن، فيستريح هناك وقتًا من نهاره أو نهارَه كله ثم يستأنف السفر إلى الشام.

استأنف شاور بعد هذا القرار سيره نحو الشمال ولكنه رفَق بالجواد، فكان كلما وجده قد أحسَّ التعب يتركه يسير سيرًا رفيقًا فيه بعض الراحة والاستجمام من تعب اليوم السابق.

وفي ظهر اليوم التالي وصل إلى الفرما فاستراح قليلًا وأراح جواده، ثم استأنف رحلته في الأصيل مُتجِهًا إلى الشرق يقصد العريش، فقضى الليل كله مُرتحِلًا، ولم تكَد تباشير الفجر تظهر وعلائم نور الصباح تلوح في الأفق حتى انتبه شاور — وكانت قد أخذته سِنة من النوم وهو على جواده — على نسمات قوية باردة تلفح وجهه وتعبث بمنديله وأطراف عباءته، ففتح عينيه ونظر فوجد البحر أمامه وسمع الأمواج تهدر عن بُعد، ووجد عن يمينه وشماله الأرض يُغطِّيها بعض الزرع، (والشواديف) وأكواخ الزراع مُنتثِرة هنا وهناك، وخلف هذا كله أشجار النخيل تنمو في غير ما نظام، فتُضفي على هذه البقاع جمالًا سحريًّا رائعًا، فراح شاور يملأ صدره بهواء الصباح النقي اللطيف، وراح يملأ نفسه من هذا الجمال الإلهي الهادئ الخالي من كل ما يشوبه من تغيير أو تزييف، ولكنه لم يلبث أن صحا من هذه الغفوة الروحية على أصوات الكلاب النابحة تنحدر إليه من كل كوخ ومن بين النخيل، فاستمر في سيره البطيء؛ لأنه رأى أنه لو تريَّث أو وقف أو أسرع فعدا بجواده لهاجَمته الكلاب من كل حدْب وصوْب، وقد تُصيب الجواد وهو عُدته القوية في هذه السفرة.

غير أنه ما لبث أن وجد هذه الكلاب قد تكالَبت وتكاثَرت وكلها تجري نحوه وهي تعوي عواء المُتحفِّز للهجوم، وكأن الجواد قد أحسَّ بخطرها الداهم فتقاعَس للوراء قليلًا ثم شبَّ بمُقدَّمه إلى أعلى وصهل صهيلًا قويًّا، فأخذ شاور يُلاطِفه ويُهدِّئ من خوفه، وإذا به يسمع صوتًا فيه قوة يصيح بهذه الكلاب مُهدِّدًا، ونظر فوجد رجلًا شيخًا ذا لحية كثَّة بيضاء ووجه أبيض تشوبه حمرة يتقدم نحوه وبيده عكاز يهُش به على هذه الكلاب ويزجرها، فخفتتْ أصواتها وكأنها رجل مُغضَب يُحاوِل أن يكبت غضبه ويكتم ثورة نفسه. وقال شاور: السلام عليكم يا أخا العرب.

– وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. تفضَّل.

– هل هذه العريش يا والدي؟

– نعم — إنها هي — تفضَّل.

– إن كلابكم هذه لا تُشجِّع على إكرام الضيف.

– لا عليك منها، فهذا شأنها مع كل طارق غريب.

– ولكنها كثيرة، وكانت تختبئ وكأنها جند في كمين يستعدُّ لمُلاقاة العدُو، فقد هاجمتني من كل مكان.

– إن هذا مَوسِم البلح فهي تحرس النخل وأصحابه.

تفضَّل، تفضَّل.

– والله إني لفي سفر سريع، ولكن الجواد مُتعِب وأُحِب أن أستريح قليلًا، فهل يُمكِن أن تُضيفني بعض الوقت؟

– على الرحب والسعة يا بُني، تفضَّل.

فتزل شاور وقاد الجواد خلفه، وتقدَّم إلى الرجل فصافَحه، وسارا جنبًا إلى جنب يقصدان الكوخ فربط شاور الجواد إلى نخلة هناك، وأمر الرجل بعض أولاده فأحضروا حصيرًا فرَشه بعيدًا عن الكوخ ودعا صاحبه إلى الجلوس، ثم سأله: من وين وإلى وين يا شيخ العرب؟

– أنا آتٍ من القاهرة في طريقي إلى الشام.

– القاهرة! يقولون إنها بعيدة يا ولدي.

– أجل — إنها لبعيدة — ألمْ ترَها من قبل؟

– كلا، إنني لم أُغادِر أرضي هذه منذ وُلدت.

– يا سلام! لم تُسافِر أبدًا!

– أبدًا.

وهنا خرج من الكوخ رجل فيه شَبه كبير من هذا الشيخ، وهو يحمل على كتفه بعض شِباك الصيد، وخلفه طفلان صغيران قد تعلَّقا بأذياله واختفَيا وراءه يرقُبان الرجل الغريب في دهشة واستطلاع، وقال الرجل: أنا ذاهب يا أبي وسأنتظرك.

– سألحق بك بعد قليل يا حمدان، ولكن أين صفية؟ هل خرجت؟

– إنها تنتظر حتى تُرضع السَّخْلة الصغيرة ثم تخرج، ولم يكَد يُتِم حديثه حتى سمع مأمأة الأغنام والشياه تخرج مُتتابِعة من الكوخ، وخلفها صَبية مُشرِقة الوجه تهُش عليها بعصًا في يدها، وتحمل إلى صدرها باليد الأخرى سَخلة صغيرة تحنو عليها وكأنها طفلها الرضيع، ثم قالت الصبية: أنا ذاهبة يا أبي.

– رافقتْك السلامة يا بُنيتي، ولكن احترسي ولا تتأخَّري عن الغروب.

ثم التفتَ الرجل إلى شاور وقال: رمضان كريم يا صاحبي، إن هذا مَوعِد الفطور، ولكن اعذرنا، وحبذا لو بقيت معنا حتى الغروب فنأكل سويًّا!

– الله أكرم يا والدي، أشكرك على هذا الكرم.

– والآن، ها هي الدار تحت أمرك، إن شئت أن تستريح فإني لاحِق بابني فهو ينتظرني لأُساعِده في إنزال قارب الصيد إلى البحر، ثم أجلس هناك بعض الوقت عند الشاطئ قُرب نخلات لي أحرسها حتى يعود برزقه.

– لا، إنني أُحِب هواء البحر، وأُفضِّل أن أصحبك إلى هناك حيث أستريح وأتحدَّث إليك قليلًا.

– تفضَّل إذن.

وسار الرجل بقَامة مُنتصِبة يدِب على ثلاث: قدمَيه وعصًا في يده يتوكَّأ عليها، وإلى جانبه شاور يتبعه جواده، حتى وصلا الشاطئ فنظر شاور فوجد صفوفًا طويلة من النخيل على طول الشاطئ وكأنها حرسٌ يقِظ يحمي المدينة من طغيان البحر، وألفى بعض الصيادين يتعاونون على إنزال قوارب الصيد إلى الماء، وكان الجو صحوًا والهواء سَجْسجًا، والشمس لا تزال تحبو خطواتها الأُولى نحو النهار، وكأنها في الأفق البعيد خارجة من لُجَج الرمال بعد أن نفضت عنها أدران اليوم السابق، فوقفتُ مُعجَبًا بهذا المَنظَر لحظة ثم سحب جواده فربطه إلى نخلة هناك ووضع عنه عُدته وراءه وقدَّم له بعض الماء والأكل، وتلفَّت حوله فوجد الشيخ واقفًا على الشاطئ يرمق ابنه وحفيدَيه في رحلتهم اليومية سعيًا وراء رزقهم، فجلس تحت النخيل ينتظره حتى عاد، وأخذا في الحديث فراح الرجل يُفضي إلى جليسه بدخيلة نفسه، ويُحدِّثه عن أولاده وبناته؛ فابنه هذا يحترف مِهنة الصيد، وولدان آخران يزرعان الأرض حول كوخه، وله بنت تزوَّجت، وصفية التي رآها تخرج لترعى أغنامها، وطفلة أخرى صغيرة تُساعِد أمها في أعمال المنزل.

ثم وجد العريشي أن صاحبه لا يُصغي إلى حديثه ولا يُشارِكه فيه، وبدرتْ منه التفاتة نحوه فوجده يُهوِّم ورأسه تعلو وتنخفض، فهزَّه من كتفه ليُوقِظه، وقال: اصحَ يا شيخ العرب، إنك تنام وأظنك مُتعَب من رحلتك، فنمْ هنا على هذا المكان المُمهَّد تحت هذه النخلات.

– أجل، والله إني لمُتعَب، اسمح لي يا صاحبي، وسأترك هذا الجواد في رعايتك.

وراح شاور في سُبات عميق، ونام نومًا لذيذًا هانئًا هادئًا حتى انقضى مُعظَم النهار، والشيخ قريب منه يجدل الخوص ليصنع منه بعض السِّلال، فسمع النائم يصيح ويقول: اتركني، اتركني، وأنت أغِثني أغاثك الله. فجرى نحوه ولكنه وجده لا يزال نائمًا فعاد إلى عمله، وبعد قليل سمعه يُناديه: يا شيخ، يا شيخ، ما اسمك؟

– لقد استيقظتَ أخيرًا! اسمي حسان، وأنت؟

– أنا، اسمي، اسمي منصور يا شيخ حسان.

– لعلك نعِمت بالنوم في هذا المكان الهادئ يا شيخ منصور؟ ولكنك كنت تصيح وتستغيث منذ لحظات؟!

– نعم يا صاحبي، لقد رأيت حُلمًا مُزعِجًا؛ رأيت كأنني أسير في مَزرعة كبيرة مُترامِية الأطراف فيها من كل فاكهة زوجان، وفيها الزهر والورد والريحان، وفيها الماء ينساب في الجداول يروي الأراضين وفيها الطيور تُغرِّد على الأشجار، وكأن هذه المزرعة وما تحوي مِلك يميني، ورأيت زائرًا يزورني وهو رجل له وجه مثل وجه الأسد، ويُقيم عندي أيامًا، وتكرَّرت زيارته لي ثلاث مرات، ولكنه في المرة الثالثة انقلب أسدًا حقًّا، وهاجَمني يُريد قتلي فاستغثت بمن حوْلي. آه! إنه حُلم مُريع مُفزِع.

– لا عليك يا شيخ منصور! فهذا أثر الجوع والتعب، وهذا صوت جوادك أيضًا يطلب الطعام، وقد أطعمته مرة وأنت نائم ولكنه جاع ثانية.

وأفطر شاور هذا اليوم على مائدة الشيخ حسان، وكان قوامها السَّمك المَشوي — من صيد ولده حمدان — وخبز الشعير، ثم أعطى شاور لأولاد الشيخ وأحفاده بعض المال، وكان كريمًا حتى بهَرهم بكرمه، وودَّعهم ليستأنف رحلته.

وانطلق به الجواد قويًّا نشيطًا سريعًا، وقد أنْسته الراحة تعب الأمس، وكان شاور يُفكِّر طول الطريق في هذه الحياة الراضية المَرضية التي يحياها هذا الشيخ حسان، وتذكَّر قوله له إنه لم يُغادِر هذه الأرض منذ وُلد، وردَّه عليه عندما سأله: أتُطيق المَعيشة طول حياتك في مثل هذا المكان المُوحِش؟ إذ قال: وماذا أبغي غير ما أنا فيه؟ هذه الأرض يزرعها أولادي وأُعاوِنهم في حرثها، وهذا ابني الكبير يرتزق مما يبيع من صيده، وهذه ابنتي صفية ترعى الأغنام طول يومها، ولقد بلغت الثمانين من عمري وأنا في صحة جيدة والحمد لله، هذه نعمة من ربي له الحمد والشكر.

وقارَن شاور حياته بحياة هذا الرجل، واستعرض في مُخيِّلته كفاحه الطويل المُضني في سبيل المُلك ومَجده الزائل، وها هو الآن مُشرَّد في الصحراء لا يدري أين تقوده الأقدار؛ إلى حَتفه أم إلى مَجده ثانية؟ وأُسرته وأولاده في مصر. تُرى كيف حالهم؟ وماذا فعل بهم ضرغام؟

أين هذا كله من هذه الحياة الهادئة الآمنة التي يحياها الشيخ حسان وحوْله أولاده وأحفاده يكدحون كدحًا يسيرًا في سبيل الرزق، ويقنعون بما يُشبِع جوعهم ويكسو عُريهم، وحسْبهم بعد هذا هدوء البال واطمئنان النفس، والصحة، أجل والصحة؛ إن هذا الشيخ ذا الثمانين سنة كان يبدو في مِشيته وكأنه أصغر منه سنًّا.

ولكن نفس شاور الطموح عادت تُناقِش هذه الأفكار، وتُذكِّره بأُبهة الوزارة ومَجد السلطان وعز المُلك، ونشطت غريزة الانتقام تُثيره ضد ضرغام، هذا الخارج على طاعته، المُغتصِب لجاهه ووزارته، ولا بد أنه قتل أهله وولده أو سجنهم فكيف يسكت عن الثأر؟ إنه لا يكون شاور إذا لم ينتقم من غريمه.

والآن ليذهبْ إلى بُصرى وهي قرية على بُعد أميال من دمشق، وفيها تاجر يعرفه أغاثه مرة إذ لجأ إليه وهو والٍ على قوص بعد أن هاجَمه اللصوص في الطريق بين عيذاب وقوص، فسلبوه ماله وتجارته، فأصدر أوامره الشديدة يومئذٍ إلى رجاله أن يقتفوا آثار اللصوص، وقد قبض عليهم وأُعيدت التجارة وأُعيد المال لهذا التاجر، فشكر لشاور هذا الصنيع، ودعاه لزيارته في بُصرى ليرُد له الجميل، وما كان يدري وقتذاك أن الأقدار ستدفعه إلى تحقيق هذا الطلب — بالذي لم يحمله مَحمِل الجِد — وزيارة هذا الرجل في مثل هذه المِحنة.

وفي بُصرى يستطيع أن يُمهِّد السبيل للاتصال بأحد الطرفين: نور الدين في دمشق أو الفرنج في مدن الساحل.

واتخذ شاور طريقه إلى الشام، وكان كلما سار مرحلة سأل من يُقابِل عن الطريق، حتى وصل إلى بُصرى بعد ترْكه العريش بيومين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤