في ضيافة نور الدين

جلس السلطان الملك العادل نور الدين محمود في قلعة دمشق بعد عودته من الشمال وانتصاره على الفرنج وأخذه حمص، وكان معه في مجلسه وزيره المُوفَّق بن القيسراني، وقاضيه كمال الدين الشهرزوري، ومن كبار قُواده ورجال دولته نجم الدين أيوب وولده صلاح الدين وشهاب الدين الحارمي، وعين الدولة الياروقي، وجماعة من القضاة والفقهاء والشعراء، وكانوا جميعًا يُقدِّمون التهاني لنور الدين لانتصاره على الفرنج في حمص، فتكلَّم القواد والكبراء والقضاة، ثم تقدَّم واحد من الشعراء وأخذ يُنشِد قصيدته مُهنِّئًا.

وبينا هو في إنشاده يقول البيت ويُعيده، والجمع يُبدون استحسانهم وإعجابهم بما يقول، إذ بالحاجب يدخل ويقول: مولاي، إن بالباب تاجرًا من قرية بُصرى، اسمه الحاج عبد الصمد يُلِح في طلب المُقابَلة لأمر سِري هام، وقد حاولت ردَّه الآن، وأبدَيت له الأعذار الكثيرة بأن مولاي مشغول مع قُواده ورجال دولته، فأبى أن يُذعِن بل زاد إلحاحًا وإلحافًا في طلبه.

فالتفت نور الدين إلى جلسائه وقال: ومن يكون الحاج عبد الصمد؟ إني لا أعرفه!

فقال القاضي كمال الدين الشهرزوري: إنه تاجر طيِّب القلب من بُصرى، وهو رجل مُتديِّن كثير البِر بالفقراء والمُعوَزين.

فقال نور الدين: تُرى ماذا يكون هذا الأمر الخفي الهام الذي دفع هذا الرجل الطيِّب إلى الإلحاح في طلب مُقابَلتي؟ إنه — كما تقول — رجل يشتغل بالتجارة، وأظنه لا يُعنى بشئون الدولة أو الحرب.

– لا أحسبه يُعنى بها يا مولاي، بل إنه لا يُعنى إلا بتجارته وأولاده.

– ومع هذا لا بد أن نراه. أدخِله أيها الحاجب.

فقال الحاجب: ولكنه يُريد مُقابَلة مولاي على انفراد، فالأمر خطير كما يقول.

– غريب أمر هذا الرجل! لقد اشتقت إلى رؤيته.

ثم التفت إلى الجالسِين وقال: هل تأذنون يا صحبي فتنتظرون لحظات في الإيوان المُجاوِر؟

فقالوا جميعًا: سمعًا وطاعة، لعله رسول خير.

وخرجوا واحدًا إثر الآخر وهم يتهامَسون مُتسائلين عن هذا الرجل وعما يقصد إليه بهذه الزيارة، ولكن نور الدين نادى وقال: يا نجم الدين، ابقَ أنت لحظة.

ثم انتظر حتى خرج جلساؤه، فقال: أتظنني أُخفي عنك سرًّا يا نجم الدين؟! ابقَ؛ فقد أكون في حاجة إلى رأيك.

– أشكر مولاي على هذه الثقة، وأرجو أن أكون أهلًا لها.

وتقدَّم الحاجب يستأذن للزائر، ودخل رجل رَبْعة أقرَب إلى القصر ذو وجه أبيض مُستدير تزينه لحية بيضاء، يلبس مَلابس التجار وبيده سبحة، فقال: سلام الله على مَلِكنا العادل نور الدين، حفظه الله وأيَّده بروح من عنده.

– السلام عليك يا حاج، تفضَّل تقدَّم فاجلس هنا بجانبي.

– شكرًا لمولاي السلطان.

ثم نظر التاجر إلى نجم الدين أولًا ولنور الدين ثانيًا كمن يُريد أن يقول: هل أستطيع أن أرى مولاي السلطان على انفراد؟ ففطِن نور الدين لقصده وقال: لا تخشَ شيئًا يا حاج عبد الصمد، إن نجم الدين هذا بطل من أبطال جيشي، وله رأي حصيف، وهو مِني بمَثابة الأخ لا أُخفي عنه شيئًا؛ فاطمئن على سرِّك، وهاتِ ما عندك، ولعله خير.

– خير إن شاء الله يا مولاي، لقد نزل عندي منذ مُدة ضيفٌ عزيز، وقد بعثني إلى مولاي في رسالة.

– إن ضيفك ضيفنا يا حاج، وإنا لنُكرِمه لأجل خاطرك.

– أكرمك الله يا مولاي وزادك مَجدًا وأعزَّك، وكتب لك النصر على أعدائه. إن ضيفي أيها السلطان هو وزير مصر شاور.

فأُخذ نور الدين وبدتْ على وجهه علائم الدهشة، واعتدل في جلسته ثم نظر إلى الرجل وإلى نجم الدين وقال: شاور؟! تُرى ما الذي أتى به؟! إنه إذن في ضيافتي حقًّا.

– مولاي يعلم ما كان بينه وبين ضرغام، ولقد عرفت أنا شاور وهو والٍ على قوص إذ أنقذ لي تجارتي من أيدي اللصوص، وقد لجأ إليَّ مُتنكِّرًا بعد أن فرَّ من مصر.

– إننا نُغيث كل لاجئ يا حاج عبد الصمد، فهل لشاور من حاجة فنقضيها؟

– لم يُخبِرني بشيء. ولو سمح مولاي له بالمُثول بين يدَيه لعرَف رأيه، إنه الآن في مملكتي فلا بد أن يكون ضيفي.

ثم استدعى الحاجب وقال له: نادِ ابن الصوفي والقاضي كمال الدين والوزير ابن القيسراني. فلما حضروا قال نور الدين: إن شاور وزير مصر لجأ إلينا بعد فراره منها، وهو الآن في ضيافة الرجل الكريم الحاج عبد الصمد، فأرجوا أن تذهبوا إليه في الغد الباكر وتدعوه ليُقيم في جوسق الميدان الأخضر، وتأمروا رجال القصر وخدمه بإحسان ضيافته وإكرامه، وسلِّموا عليه وعرِّفوه أعذارنا في التقصير في حقه، وسلُوه فيما قدِم وما حاجته؛ فإن كان ورد علينا مُختارًا للإقامة أفردنا له من جهاتنا ما يكفيه، ويقوم بأرَبه وأوَده، ونكون عونًا له على زمانه، وإن كان ورد لغير ذلك فليُفصِح عن حاجته.

فقال الجمع: سمعًا وطاعة يا مولانا.

•••

وقبِل شاور دعوة نور الدين ونزل بجوسق الميدان الأخضر ضيفًا عليه، ونقل إليه الوفد رسالة السلطان فشكر إحسان نور الدين وكرَمه، ولكنه أبى أن يُبين عن غرضه، فلما ألحُّوا عليه أجاب: إذا لم يُبيَّت الرأي جاء فطيرًا.

فقال ابن الصوفي: إن مولانا السلطان يُريد جوابًا على رسالته.

فقال شاور: إن رأى نور الدين — أطال الله بقاءه — الاجتماع بي فله عُلو الرأي. فاستأذَنوا وعادوا إلى نور الدين يُبلِّغونه رغبة شاور، فقال: لا مانع عندي من مُقابَلته.

ثم نظر إلى نجم الدين وقال: فليكُن اجتماعنا به بعد أيام في الميدان الأخضر عند ذهابنا للَعب الصولجان.

وبعد أيام كان الميدان الأخضر يبدو في أروع زينته؛ تخفق في أنحائه الرايات، والجند والقُواد في أماكنهم ومعهم أبواقهم وطبولهم، وأُعِدت المَقاعد المُذهَّبة لجلوس نور الدين وضيفه.

وخرج نور الدين من القلعة في أحسن زي وأكمل شارة، وحوْله وُجوه دولته وخواص مملكته؛ فلما وصل إلى الميدان دُقَّت الطبول والكوسات، ونُفخ في الأبواق؛ فخرج شاور من الجوسق راكبًا، وسار الرجُلان حتى التقَيا في وسط الميدان، فتبادَلا التحية دون أن يترجَّل أحد منهما لصاحبه، ثم سارا من مَوضِع اجتماعهما وهو نصف الميدان إلى آخره وهما يتبادلان الحديث، وعادا بعد قليل إلى المكان المُعَد لجلوسهما فجلسا، وبدأ اللعب، ونور الدين يشرح لضيفه كل صغيرة وكبيرة.

وكان الشوط الأول بين نجم الدين أيوب وشهاب الدين الحارمي، ونظر شاور فوجد كلًّا من الرجُلين قد امتطى صهوة جواده، ووقف في ناحية من الميدان وخلفه خشبتان مُثبَّتتان في الأرض تُعيِّنان الهدف، وبيده عصًا طويلة معقوفة النهاية، وأذِن نور الدين ببدء اللعب، وأُلقِيت الكرة وسط الميدان، وتقدَّم كل منهما، وظلَّا يتبادلان الكرة قذفًا بهذه العصا، وكُلَّما بعدتْ جريا خلفها وهما يميلان على جواديهما أمامًا وخلفًا، ويمينًا ويسارًا في مَهارة وخفة عجيبتَين، والحضور جميعًا يُتابِعون الكرة واللاعبَين بأنظارهم، ويُبدون إعجابهم بكل رمية مُوفَّقة.

وبعد لحظاتٍ بعدتْ الكرة عن هدف نجم الدين، وقربت من هدف غريمه، ونجم الدين وراءها يُتابِعها، ورفع شهاب الدين يده بالصولجان ليضرب الكرة فيُبعِدها عن هدفه، ولكن نجم الدين قفز بجواده قفزة سريعة، فكان في لمحة بين شهاب الدين والكرة، وجواده لصق بجواد مُنافِسه، ونقل الصولجان في حركة سريعة إلى يده اليسرى، وهوى به على الكرة فضربها ضربة قوية اندفعت إثرها من تحت الجوادَين تجري حتى استقرت داخل الهدف فصاح الجميع صيحة الإعجاب، وصفَّق الجند والقُواد، وابتسم نور الدين وقال لضيفه: إن هذين من كبار قُوادي، ومن أمهر من يلعب هذه اللعبة. فقال شاور: ولكن يبدو إليَّ أن نجم الدين أمهرُ من صاحبه، بل يُخيَّل إليَّ أيضًا أنه قد يكون أمهرُ قُوادك لعبًا.

– إنه ماهر حقًّا، ولكن ابنه صلاح الدين أمهرُ منه؛ إنه يكون على جواده أخفَّ من الريشة وأسرع من الريح، وسآمُر أن يكون الشوط الثاني بينه وبين أبيه لتحكم بنفسك.

وبدأ الشوط الثاني بين الأب وابنه، وظلا يُبديان من فنون المَهارة في اللعب ما يُثير حماس الشهود، وقربت الكرة من هدف نجم الدين، فصدَّها في ضربة قوية رفعتها عن الأرض فطارت في الجو، فاستعد صلاح الدين لتلقِّيها، ورفع الصولجان فردَّها في قفزة سريعة قوية كادت تُصيب رأس نجم الدين فانحنى لها، ومرَّت كالسهم إلى أن استقرت داخل الهدف؛ فهلَّل الشهود جميعًا وصفَّقوا، ولم يتمالك نور الدين نفسه فصفَّق معهم إعجابًا واستحسانًا وصاح وضيفه: مرحى، مرحى صلاح الدين.

وقال نور الدين: إن هذا الشاب ذا الخمسة والعشرين عامًا أمهرُ اللاعبِين بين جنودي وقُوادي، وإني أُحِب هذه اللعبة حبًّا جمًّا وأُتقِنها، ولكن لا يغلبني فيها إلا صلاح الدين؛ ولذلك كثيرًا ما أدعوه ليُشارِكني اللعب.

•••

وبعث نور الدين إلى مُقدَّم عسكره أسد الدين شيركوه، فاستدعاه من إقطاعه «الرحبة» وجمعه وأخاه نجم الدين وابنه صلاح الدين، فعرَض عليهم ما دار بينه وبين شاور من حديث وسألهم رأيهم، فقال نجم الدين: الأمر لمولانا السلطان، ولكنني أرى أننا يجب أن ندَّخر جنودنا وقُوانا كلها لمُناوَأة أعدائنا الفرنج، فهم يزدادون كل يوم خطرًا بمن يأتيهم من وراء البحار.

فقال نور الدين: وما رأيك أنت يا أسد الدين؟

قال: إن ما يقول أخي حق، ولكنني أرى أن نُجيب دعوة شاور؛ فقد لجأ إلى مولانا السلطان مُستعينًا به.

ثم سكت لحظة وقال: وأظن أننا نستطيع أن نطَّلع على أحوال مصر؛ فالأمور فيها كما يبدو لي على غير ما نُحِب، وإني لأخشى أن يُطمِع هذا الخلل في أحوالها الفرنج فيها فينقضُّون عليها، ولكن لا بد لمولانا السلطان أن يتأكَّد من وُعود شاور وشروطه.

فقال نور الدين: إن شاور يعرض أن يكون لي ثلث خراج مصر، وأن يكون نائبي بها، وقد تردَّدت كثيرًا في قبول رجائه خوفًا على جندي من خطر الطريق، فالفرنج يملكون مدن الساحل كما يملكون قلعتي الكرك والشوبك، كما أنني أُضعِف من قوتي هنا في الشام إذا أرسلت لمصر جزءًا من جيشي، وربما أطمَع هذا الفرنج فيُغيرون على بلادي، ولكنني مع هذا أُوافِق أسد الدين على رأيه؛ لأن الأخبار تصِل إليَّ من مصر أن أحوالها نهبٌ مُقسَّم بين الجند والأمراء، وضرغام قد استبد بالأمر وأخذ يقتل أمراء جيشه حتى كاد يُفنيهم، واستبد بالأمر دون الخليفة العاضد حتى أصبح لا يملك من الحكم شيئًا، فهذه حال تُطمِع الفرنج في مصر كما تقول يا أسد الدين، وإلى هذا كله لو أن جنودي انتصروا وعاد شاور إلى الوزارة لكان لنا ثلث خراج مصر وهو مَبلغ لا يُستهان، نستعين به على حرب أعدائنا من الفرنج.

وقال أسد الدين: وسيَدين شاور لمولانا السلطان بالولاء، وهذه خطوة في سبيل الاستيلاء على مصر.

ونظر إلى نجم الدين وقال: ألا ترى رأينا يا أخي، فإني أراك صامتًا.

– في الحق أنه كلام جميل، وكسب عظيم لو تحقَّق.

فقال نور الدين: وما الذي يمنع من تحقيقه؟

– يمنع من تحقيقه من سيتولى تحقيقه، شاور.

فقال أسد الدين: شاور! وكيف؟

فتقدَّم صلاح الدين لأول مرة يُبدي رأيه، وقال: أجل يا عمي — شاور — إني أُوافِق أبي على رأيه، إن لهذا الرجل نظرات ماكرة تبدو نفسه الخبيثة من خلالها واضحة جلية، إنني لم أرتَح لهذا الرجل منذ رأيته، ولقد شمَمت من حديثه أنه يكاد يقتل نفسه لضياع السلطة من يديه، وتبيَّن لي أيضًا أن الغاية لديه تُبرِّر الوسيلة؛ فهو يُريد العودة إلى الوزارة مهما كلَّفه ذلك من ثمن، وهو يسُب ضرغامًا ورجال ضرغام والخليفة العاضد، وهو يلعن أهل مصر الذين يُقدِّمون إليه المال ويُعينونه على مَعيشة الترَف والبذَخ التي يتحرَّق شوقًا للعودة إليها الآن، أتظُنه يفي لمولانا السلطان إذا عاد للحكم؟!

فقال نور الدين: ولكنني وعدتُ الرجل يا صلاح الدين.

– لم أكُن أعلم أنك وعدتُه يا مولانا، وما دمتَ وعدت فلا بد من الوفاء.

وقال نجم الدين: ما دمتُ وعدت فالخيرة في ما اختاره الله، فلتأمرْ جيوشك يا مولاي بالاستعداد.

فنظر نور الدين إلى أسد الدين وقال: وقد اخترتك يا أسد الدين لتكون مُقدَّم الجيش السائر إلى مصر لما أعلمه من شجاعتك ويُمْن طالعك، فإني أتفاءل بك خيرًا، ولم يحدث أن عهدتُ إليك بغزو إلا كان النصر على يديك، فاختر جندك وقُوادك من الغد واستعِد للسفر.

– أنا سيف من سيوف مولانا فليُوجِّهه أنَّى شاء، ولكنني أرجو أن يصحبني أخي نجم الدين أو ابنه صلاح الدين.

– لك ما تُريد.

ثم نظر إلى نجم الدين وابنه وقال: أيكما يُريد السفر مع أسد الدين؟

فقال نجم الدين: ليأمرْ مولانا صلاح الدين بالسفر مع عمه.

فقال نور الدين: — عظيم — سِيرا على بركة الله وليكُن التوفيق والنصر حليفكما إن شاء الله! وسأسير أنا بجندي عند رحيل جيشكما إلى بلاد الفرنج لأشغلهم عن التعرُّض لكم حتى تصِلوا مصر سالمين بعون الله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤