عودة شاور

لم يكُن ضرغام في سيرته مع الناس، بعد توليه الوزارة، أفضل من شاور؛ فقد عانى المصريون من ظلمه كثيرًا، وكثُرت مُصادَراته لأموال التجار والزراع وأرباب المَعايش، وعاث جنده في البلد فسادًا حتى أشاعوا الرعب في نفوس الجميع، وأصبح الناس خائفين على أنفسهم وأموالهم، فجمعوا الأقوات والماء، ولزموا مَساكنهم، لا يُغادِرونها إلا إلى المَساجد حيث يُؤدُّون الصلاة ويبتهلون إلى الله سبحانه وتعالى أن يكشف عنهم تلك الغمة.

وعلِم ضرغام بأن شاور قد لجأ إلى البطل نور الدين يستنجد به، فكتب إليه رسائل كثيرة يجرح فيها شاور، ويُمنِّيه بالطاعة والولاء، ولكن نور الدين كان قد وعد شاور بالمُساعَدة فلمْ يُلقِ بالًا لرسائل ضرغام.

ووصل جيش أسد الدين — بعد قليل — ومعه شاور إلى بلبيس، فأرسل ضرغام أخاه ملهمًا على رأس الجيش المصري لمُقاتَلة أسد الدين.

كان جيش أسد الدين أقل من جيش مصر عددًا وعُدة، ولكنه أقوى روحًا وأشدُّ إقدامًا، كما كان يمتاز بشجاعة قُواده؛ أما جيش مصر فقد كانت تُعوِزه القيادة الجريئة منذ أفنى ضرغام خيرة رجال الجيش وقُواده ذبحًا وقتلًا؛ ولهذا لم يجد أسد الدين من جيش ملهم مُقاوَمة جِدية وسرعان ما انتصر عليه.

وقد كان الفضل الأكبر في هذا النصر لمكر شاور ودهائه؛ فقد بدأت المعركة عند بلبيس، ووقف الجيشان مُصطفَّين مُدة من النهار دون قتال، وأشار شاور على أسد الدين أن يأمر جنده بالوقوف، هكذا دون حرب، فوقفوا إلى أن حمي النهار، والتهب الحديد على أجساد الرجال، فضرب أكثر أهل مصر الخيم الصغار، وخلعوا السلاح، ونزلوا عن الخيول، وجلسوا في الظل، فأمر شاور عند ذلك الناس بالحملة، فكان النصر لجيش أسد الدين، والهزيمة لجيش ملهم، وكان أسعد أهل مصر من ركِب فرسه، وأطلق عنانه، وولَّى مُنهزِمًا، وتركوا خِيَمهم وأموالهم، فاستولى عليها جند أسد الدين.

وتقدَّم جيش أسد الدين حتى وقف على أبواب القاهرة، فاستعد ضرغام لمُلاقاته، وأعوَزه المال للدفاع، فأخذ أموال الأيتام المُودَعة في صندوقهم؛ فكرهه الناس، واستعجزوه، ومالوا مع شاور، فتنكر لهم ضرغام، وأخذ ينالهم بعقابه الشديد، فزاد بُغْضهم له.

وأخيرًا خرج بفُلول جيشه، وقاتَل قتال المُستميت، غير أنه لم يلبث أن وجد أن لا فائدة من القتال، فكرَّ راجعًا إلى القاهرة، وأمر بضرب الأبواق لتجتمع الناس، فضُربت الأبواق والطبول ما شاء الله أن تُضرَب من فوق الأسوار، فلمْ يخرج إليه أحد، وانفضَّ عنه الناس، فسار إلى الميدان قبالةَ باب الذهب — من أبواب القصر — ومعه خَمسمائة فارس ونادى الخليفة ضارعًا مُستغيثًا وهو يقول: أُريد أمير المؤمنين يُكلِّمني لأسأله عما أفعل.

وظل يُردِّد النداء ولا مُجيب؛ لأن العاضد كان يكرهه كُرهًا شديدًا، فقد كان مُدة وزارته كالمحجور عليه، وكانت قد وصلته كُتُب شاور يعتذر فيها عن الماضي، ويطلب منه الإذن بالدخول إلى القاهرة.

لم يجد ضرغام لنفسه مَخرجًا من هذا المَأزِق الحرِج، وسُدَّت أمامه السُّبُل، فلبث واقفًا يُنادي الخليفة إلى العصر، ويتضرَّع إليه، ويستحلفه بحق آبائه وأجداده، والناس تنحلُّ عنه حتى بقي في نحو ثلاثين رَجلًا، كل ذلك والخليفة لا يُجيب، حتى سمع ضرغام الأبواق والطبول وجند أسد الدين، وقد دخلوا من باب القنطرة ومعهم شاور، فذهب على وجهه مُنهزِمًا، وخرج من باب زويلة، والعامة تلعنه وتقول: «يا ضرغام، هاتِ مال الأيتام! ضرغام عدُو الإسلام.»

وتتبَّعه رجل من جند الشام حتى ظفر به فقتله، وحمل رأسه إلى أسد الدين.

وهكذا انتهت حياة وزير، وعاد إلى الوزارة شاور وكان أول ما فعل بعد عودته أن أمر بإطلاق سراح المساجين الذين أسرَهم ضرغام أثناء غيبته وهم نفرٌ من رجال الدولة كانت لهم بشاور أو بأفراد أُسرته صلات.

وكان أول من أطلق سراحه القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني أحد كُتاب ديوان الإنشاء، فقد ظل سجينًا مُدة غِياب شاور عن مصر، لا لذنب إلا أنه كان مُتصِلًا بالكامل بن شاور وكانت تربط الرَّجلين أَواصِر الود والصداقة.

وذهب عبد الرحيم إلى مَنزله بالفسطاط فرحَّب به أهله فرِحين، وسرعان ما انتشر خبر العفو عنه فتوافَد الناس على داره مُهنِّئين، وكان في مُقدِّمتهم الفقيه الشاعر عمارة اليمني، والفقيه الجندي عيسى الهكاري إمام أسد الدين شيركوه.

وبيْنا هو في داره يُرحِّب بمُهنِّئيه، ويتجاذب وإياهم أطراف الحديث إذ أقبل عليه صديقاه الحميمان: الفقيه زين الدين والشيخ أبو الحسن، فأسرع إليهما الفاضل مُحيِّيًا ومُرحِّبًا، وتقدَّم فاحتضن زين الدين وهو يقول: أهلًا بالصديق العزيز، أهلًا وسهلًا.

– أهلًا بك أنت يا عبد الرحيم، حمدًا لله على سلامتك وألف حمد، وشكرًا له أن دالَت دولة الظلم.

ثم التفتَ عبد الرحيم إلى أبي الحسن وقال: مَرحبًا، مَرحبًا يا أبا الحسن، إنك صديق الجميع الوفي، كيف أطفال مَكتبك؟ ألا زالوا مُجِدين في حفظ القرآن؟ إن لك عند الله أجرًا عظيمًا، ولقد صدق رسول الله إذ يقول: «من كان لله كان الله له.» تفضَّلا، تفضَّلا.

وجلس الرَّجلان يُعيدان التهنئة لصديقهما عبد الرحيم ويُشارِكهما في ذلك الحاضرون، إلى أن قال القاضي الفاضل وأشار إلى رجل يرتدي مَلابس الجند وعمامة الفقهاء: هذا صديقي الفقيه عيسى الهكاري يا زين الدين، وكان يُحدِّثنا قبل مَجيئك عن البطل نور الدين وشدة إيمانه بالله.

ثم التفت إلى الفقيه عيسى وقال: والآن زِدني من حديثك الشهي يا عيسى؛ إنه يحيي مَوات نفوسنا ونحن في بلد لا يُفكِّر أحد من رجال الدولة فيها في الله سبحانه وتعالى. واستأنف عيسى حديثه فقال: والله إن هذا الرجل أهل لكل خير؛ فهو لا يعيش إلا للإسلام والجهاد في سبيله، وسلاحه القوي في جهاده إيمانه بالله سبحانه وتعالى. وإني لأذكر أن نور الدين خرج إلى الجهاد في سنة ست وخمسين وخمسمائة — أي منذ ثلاث سنوات — فقضى الله بانهزام عسكر المسلمين، وبقي المَلك العادل مع شرذمة قليلة وطائفة يسيرة واقفًا على تلٍّ يقال له تلُّ حبيش، وقد قرُب عسكر الكفار بحيث اختلط رَجَّالته المسلمون مع رَجَّالة الكفار، فوقف المَلك العادل بحذائهم مُولِّيًا وجهه إلى قِبلة الدعاء حاضرًا بجميع قلبه مُناجِيًا ربه يقول: «يا رب العباد — وأنا العبد الضعيف — ملَّكتني هذه الولاية وأعطيتني هذه النيابة؛ عمرتُ بلادك ونصحتُ عبادك وأمرتُهم بما أمرتني به ونهيتُهم عما نهيتني عنه، فرفعتُ المُنكَرات من بينهم وأظهرت شعار دينك في بلادهم، وقد انهزم المسلمون وأنا لا أقدر على دفع هؤلاء الكفار أعداء دينك ونبيك محمد ولا أملك إلا نفسي هذه، وقد سلَّمتُها إليهم ذابًّا عن دينك وناصرًا لنبيك.»

ثم سكت الفقيه عيسى لحظة وقال: فاستجاب الله تعالى دعاءه، وأوقع في قلوب أعدائه الرعب، وأرسل عليهم الخذلان؛ فوقفوا في مَواضِعهم وما جسروا على الأقدام عليه، وظنوا أن المَلك العادل عمل عليهم الحيلة، وأن عسكر المسلمين في الكمين؛ فإن أقدموا عليه يخرج العسكر من الكمين، فوقفوا وما أقدموا.

فقال القاضي الفاضل: مَرحى، مَرحى! إن هذا رَجل الإسلام وبطله، والله لَكأن هذا إلهام من الله سبحانه وتعالى، ولولا ذلك لهُزم المسلمون وأُسروا.

وقال أبو الحسن: صدق رسول الله: «من كان لله كان الله له.» إن هذا هو الذي يستحق أن يكون الله له يا صديقي عبد الرحيم، لا أبو الحسن الرَّجل الفقير الذي يُعلِّم الصبيان القرآن.

ومال زين الدين على صديقه أبا الحسن وهمس في أذنه: والله إني لأتمنَّى في نفسي لو أن رجال هذه الدولة كانوا حاضرين هذا الحديث.

وبدا الفرح على الفقيه عيسى، وانفرجت أسارير وجهه، وملكت نشوة السرور عليه نفسه وكأنه تلميذ بارٌّ يستمع لتقريظ الناس لأستاذه، وراح يزيدهم من أخبار نور الدين، فقال: إن هذا صديقنا الفاضل عبد الرحيم سجنه ضرغام تسعة أشهر وهو بريء؛ لا لشيء إلا لأن الكامل بن شاور كان يختص به، ولكن استمعوا كيف يُعامِل نور الدين الفقهاء والعلماء والفقراء في مَملكته؛ قال لنور الدين مرة نفرٌ من أصحابه: «إن لك في بلادك إدرارات كثيرة، وصلات عظيمة للفقهاء والفقراء والصوفية والقُراء، فلو استعنت بها الآن لَكان أمثَل!» فغضب نور الدين وقال: «والله إني لأرجو بأولئك النصر فإنما تُرزَقون وتُنصَرون بضعفائكم، كيف أقطع صلات قومٍ يُقاتِلون عني وأنا نائم في فراشي بسِهام لا تُخطئ، وأصرفها إلى من يُقاتِل عني إذا رآني بسِهام قد تُخطئ وتُصيب؟! ثم إن لهؤلاء القوم نصيبًا في بيت المال أصرفه إليهم كيف أُعطيه غيرهم؟!»

فصاح الحاضرون؛ فقد كانوا جميعًا فقهاء: الله أكبر! الله أكبر!

وقال الفقيه عمارة: إن هذا الرجل العظيم يُعيد سيرة الصحابة والخلفاء الأوَّلين، زاده الله عزًّا ومَجدًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤