عبد الرحمن يُحذِّر

انقضى عام وبعض العام بعد خروج الجيش. وشاور فرِح مُغتبِط؛ فقد عادت إليه السُّلطة كلها كما كانت، فاستبد بها وجعل كل همه تتبُّع كل من علِم أنه قد كان بينه وبين أسد الدين صلة أو معرفة أو صحبة، فقتل نفرًا منهم وشرَّد نفرًا آخرين. وأصبح أهل مصر في خوف من عيون شاور وجنده، لا يكاد واحد منهم يتحدث عن أسد الدين أو رجاله إلا في اقتصاد وسرٍّ وكتمان.

وفي ضُحى يومٍ بيْنا أبو الحسن جالس في داره بالفسطاط، وأمامه تلاميذه من صبيان المدينة يحفظون القرآن، إذ دخل عليه صديقه عبد الرحمن القوصي، وقال: السلام عليك يا أبا الحسن.

– وعليك سلام الله ورحماته وبركاته. كيف حالك يا عبد الرحمن؟ تفضَّل.

وجلس عبد الرحمن وراح الرَّجلان يطرقان بحديثهما كل ناحية، والحديث ذو شجون. كل هذا وأبو الحسن مُنتبِه لصبيانه، كُلما أخطأ أحدهم أو تلعثم ردَّه إلى الصواب. فلما حل مَوعِد الظهر ختم كل صبي المُقرَّر عليه، وتقدَّم إلى شيخه فقبَّل يده وحمل لوحه وانصرف.

فلما خلا المكان بالرَّجلين، قال عبد الرحمن: جئتك اليوم مُحذِّرًا يا أبا الحسن.

فضحك أبو الحسن وقال: مُحذِّرًا! وممن يا بُني؟! فلستُ من رجال الدولة حتى يكون لي أعداء.

– لقد غدوتَ من رجال الدولة يا صاحبي. لا، بل من أخطر رجالها.

– وكيف؟

– أتذكر إذ كنا جلوسًا في سوق الورَّاقين منذ أسبوع تُساوِم ذلك الكُتبي لشراء كتاب «فضائل مصر» لابن زولاق.

– أجل أذكر ذلك جيدًا وأنه رفض بيعه بعشرة دنانير، وقد أخبرتني أنت أنك اشتريته منه بعد يومين باثني عشر دينارًا.

– ليس هذا موضوع حديثي يا أبا الحسن. أتذكر ذلك القائد الكردي الذي حضر ونحن جلوس فسلَّم عليَّ، وتقدَّم لشراء بعض الكتب؟

– أجل أذكره؛ فقد لفت نظري بِكلُّوتته الصفراء على رأسه بغير عمامة، وذؤابة شَعره الطويل مُرخاةً تحتها وملابسه الكردية؛ وذلك لكثرة ما رأيت جند أسد الدين واختلطت بهم — فهذه ملابسهم — وقد عرفت يومذاك أن هذا القائد ممن استفسدهم شاور من رجال أسد الدين.

– هذا صحيح يا أبا الحسن، وإن لهذا الرجل قصة.

– ومن من الرجال ليس له قصة يا عبد الرحمن؟ هاتِ ما عندك.

– هذا القائد اسمه خشترين الكردي، وهو كما تقول ممن استفسدهم شاور من رجال أسد الدين، وقد أقطعه شطنوف، ولكن لنتركه قليلًا لأبدأ لك القصة من طرف آخر. أنت تعرف أنني أنسخ الكتب منذ ذلك اليوم المشئوم الذي خرجت فيه. للأمير شمس الخلافة ولهذا الأمير ولعٌ شديد بالكتب واقتنائها، وله مكتبة كبيرة تضم كل طريف وتليد وعجيب، وقد وجدت في هذا العمل أكبر لذة؛ لأنني ما هاجرت من قوص إلا طلبًا للعلم، فكنت أقضي يومي كله في المكتبة أنسخ وأقرأ، واطمأن الأمير إليَّ وإلى عملي، وأعجبه خطي ونقلي؛ فزاد في أجري. وحمدتُ الله على ذلك.

– أعرف هذا كله يا عبد الرحمن، فماذا وراءه؟

– وراءه أن للأمير بنتًا صغيرة تبلغ من العمر نحو الثلاثة عشر أو الأربعة عشر عامًا.

– وأظنها ذات جمال باهر ساحر يا عبد الرحمن.

– إنها لكذلك. وتمتاز أيضًا بعقل راجح وذكاء نادر. ولكن دعنا من هذا، ففي ذات يوم …

فضحك أبو الحسن وقال مُلاطِفًا: أنا أستطيع أن أُكمِل لك القصة. وفي ذات يوم رأيتها وحدثتها فأعجبتك و…

فاحمرَّ وجه عبد الرحمن خجلًا وثار قائلًا: لا يا أبا الحسن. لست أُريد أن أقول هذا. دعني أُكمل قصتي. في ذات يوم جاء الأمير شمس الخلافة لينظر في بعض الكتب، فرآني مُنكبًّا على عملي، فحدَّثني عن رغبته في أن أتولَّى تفقيه ابنته هذه في دينها بعد أن حفظت القرآن، فترددت أولًا، ثم قبلت بعد إلحاح.

– أقول لك الحق يا صديقي، أنا لا أعرف صلة بين قصتك هذه وبين تحذيري الذي جئت من أجله.

فضحك عبد الرحمن وقال: ما لصبرك ينفذ بهذه السرعة يا أبا الحسن؟ هل أقول كما قال صاحب موسى إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا؟ لا بد من هذه المُقدِّمات لأصِل إلى ما أُريد قوله الآن.

– قُل يا سيدي.

– وفي قصر الخليفة جارية رائعة الجمال، بارعة في الغناء والعزف على العود، اسمها ريحانة، وهي تحضر دائمًا إلى قصر الأمير لتُعلِّم بنته الغناء والموسيقى. وهذه الجارية أيضًا تُحِب الكتب وتقرؤها؛ فكانت إذا حضرت ورأتني أُدرِّس لفاطمة بنت الأمير، جلست عن قرب تستمع إلى درسي حتى ينتهي، فتصحبها إلى غرفة أخرى حيث تبدأ درسها. وإن لها صوتًا حلوًا كان يصِل إليَّ وأنا أنسخ أو أقرأ؛ فيشغلني قليلًا عن عملي وإن كان يُرفِّه عني ويُخفِّف بعض ما أُحِس من ضيق.

فغضب أبو الحسن وصاح في رفيقه: والله لو كنتُ أيوب لنفد صبري!

فضحك عبد الرحمن وقال: انتهينا يا أبا الحسن. وصلنا إلى بيت القصيد: وهذا القائد الكردي خشترين كما رأيت؛ شغفٌ بالكتب، يُحِبها ويقضي معها وقتًا طويلًا. وكان لصداقته الأكيدة مع الأمير شمس الخلافة، يتردد على مكتبته فيختار بعض الكتب أو ينتحي ناحية فيقرأ. وفي هذا المكان رأى ريحانة وسمع صوتها. وأغلب ظني أنها أعجبته وأنه أحبها؛ فقد كثر حضوره إلى المكتبة عن ذي قبلُ، كما طالت مُدة إقامته بها.

فقال أبو الحسن: وما لي أنا يا سيدي ولهذه الجارية ومن يُحِبها؟! قُم بنا نُصلِّي الظهر ثم نتناول غداءنا، فقد بلغ مني الجوع مَبلغه.

– انتظر قليلًا يا أبا الحسن.

ومنذ يومين جلس إليَّ هذا القائد، يتجاذب وإياي أطراف الحديث عن الكتب قديمها وحديثها، ثم سألني: من هذا الشيخ المُسِن الذي كان يجلس معك عند الورَّاق يا شيخ عبد الرحمن؟

فعجبت وقلت: إنه رجل يُدعى أبا الحسن، وهو رجل طيِّب كريم النفس والقلب.

فردَّ مُتهكِّمًا: يبدو عليه هذا. ثم استأذن وانصرف.

وبالأمس عند الأصيل جاءني رسول من قصر الخليفة يطلبني لمُقابَلة القاضي الفاضل في ديوان الإنشاء، فذهبت وأنا خائف أن يكون في الأمر شيء، فأنت تعلم كثرة الوشايات والدسائس هذه الأيام وكيف تُودي بالأبرياء.

– أجل أعرف يا عبد الرحمن، وتأكَّد أن لا بد لهذا الظلم من آخِر. ولماذا كان يُريدك القاضي الفاضل؟

– كان في حضرته بعض الكُتاب، فتظاهَر أمامهم أنه يُكلِّفني بنسخ ديوان شعر كان بيده لأستاذه ابن قادوس الدمياطي رحمه الله، ورأيته يدُس في الكتاب ورقة صغيرة وينظر إليَّ، فلما خرجت تصفَّحت الديوان وقرأت الورقة، فإذا بها: «حذِّر صديقك أبا الحسن؛ فإن خشترين قد وشى به لدى الوزير شاور، وأخبر أنه رآه أكثر من مرة في مُعسكَر أسد الدين.» وقد جئتك اليوم مُحذِّرًا.

فربَّت أبو الحسن على كتف جليسه وضحك طويلًا ولحيته تهتز مع ضحكاته، وقال: لقد «حلونت» روحي يا عبد الرحمن، وكنت أظن الأمر أخطر من هذا. أتُحذِّرني من شاور!

– أجل. إنه لرجل غادر، وإذا صح لديه ما بلغه فسيأخذك بالعقاب شديد.

– وماذا تُراه يفعل؟

– إنه لا يعرف غير القتل والسجن والتشريد.

– وماذا بقي لي في الحياة يا عبد الرحمن أحرص عليه؟ لقد بلَونا الأيام حُلوها ومُرها يا بُني؛ فلنشرب الكأس حتى الثُّمالة.

– ولكن الله سبحانه وتعالى قال وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ فما دمتَ تعلَم مصدر الخطر فيجب أن تبتعد عنه.

– وبماذا تُشير يا عبد الرحمن؟

– الرأي عندي أن تختفي في مَنزل أحد أصدقائك حتى تنجلي الغمة.

– لا يا صديقي، فأنا لا أخشى شاور. والآن دعنا من هذا، هيا بنا نُصلِّي الظهر لئلا يفوتنا، ثم نأكل لقمة؛ ألمْ تشعر بالجوع يا أخي؟

وبدأ أبو الحسن الأذان في صوت خفيض، ولم يكَد ينتهي منه ويبدأ الصلاة وخلفه عبد الرحمن مُؤتمًّا به، حتى سُمِعت جلبة وقعقعة سلاح ثم دقٌّ قوي على الباب. فلما لم يجد الطارقون مُجيبًا حرَّكوا الباب فانفتح في سهولة ودخلوا، فإذا بهم بعض جند شاور. وراعهم أن وجدوا المكان قفرًا وبه حصير وقف عليها الشيخ الذي جاءوا للقبض عليه يُصلِّي وخلفه شابٌّ من ذوي العمائم، وكان الشيخ يقرأ — في صوت يتهدج من فعل السنين وضعف الشيخوخة — قوله تعالى: إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ * إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ * ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ.

– الله أكبر.

قالها الشيخ في صوت قوي فيه كل معاني الايمان بالله، وكأنه كان يقول للقوم وهو لا يُحِس بهم: لتأتِ جنود شاور كلهم، وليأتِ شاور نفسه؛ فهل يستطيع أن يَقرَبني وأنا بين يدَي الله القوي المُتعالِ، المُعِز المُذِل الجبار؟ اذهبوا لو كان في قلوبكم أثارة من إيمان بالله فقولوا لسيدكم: إن أبا الحسن بين يدَي ربه.

ولكن الجند كانوا في عجَب مما وجدوا، ينظر الواحد إلى الآخر ولا يتكلمون، ويستمعون إلى ذلك الصوت الضعيف الجميل رغم ضعفه وهو يتلو آي الله وحكمه؛ فخشعت قلوبهم لحظات، ووقفوا ينتظرون حتى ركع المُصلِّيان وسجدا ثم وقفا. وقرأ أبو الحسن الفاتحة بصوت أكثر ارتفاعًا، ثم بدأ يتلو بقية صورة يونس من حيث وقف، وأطال القراءة هذه المرة وكأنه يقول للجند: استمعوا لكلام الله خير لكم من أوامر شاور، وانتظروا ولو طال بكم الانتظار حتى الغد حتى أنتهي من مُقابَلة ربي، فهو ربي وربكم ورب وزيركم شاور. إنه أعلى يدًا، وأعز مقامًا.

هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ….

الله أكبر.

وركع أبو الحسن وركع عبد الرحمن وانتهَيا من الصلاة.

فالتفت أحد الجند وقال: يا أبا الحسن هل لك أن تصحبنا، فإن الوزير يطلبك؟

فلبس خُفَّيه، وقال: هيا يا سادة.

ولكن عبد الرحمن التفت لواحد من الجند وقال: لاحول ولا قوة إلا بالله! هلا انتظرتم قليلًا فإن الرجل لم يطعم بعد.

فقال أبو الحسن: لا يا عبد الرحمن، لقد اغتذيت وشبعت. إنني أُحِس بفيض من السرور يملأ عليَّ جوانحي ونفسي، فهذه خير صلاة صلَّيتها في حياتي. ألست تعلم أن التقوى هي خير زاد للمُؤمِن؟ والله إنني لأُحِس وكأنني أكلت خروفًا الآن!

وخرج أبو الحسن فأقفل داره وأعطى مفتاحها لعبد الرحمن، وقال: احتفظ به يا صديقي معك؛ فإن كان في العمر بقية وعدتُ أخذته منك، وإن كان من حظي أن ألقى الله سريعًا فوزِّع ما في الدار على الفقراء.

فتألَّم عبد الرحمن وبكى ومدَّ يده لصديقه مُحيِّيًا، ووقف يرمُقه بنظره مُودِّعًا وهو يسير بين الجند. فلما توارى عن ناظرَيه أحس كأن قلبه قد انفطر، وأحس في عقله نشاطًا قويًّا كأنه صحا من غفوة طويلة، فرأى أن يقصد في الحال إلى القاضي الفاضل، فيروي له ما حدث؛ لعله يجد لصديقه مَخرجًا، أو لعله يشفع له عند شاور.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤