العصبية والسياسة

وعَظُم الأمر على الحزب المناوئ فذهَبَ رءوسُ القوم: عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو سفيان بن حرب بن أمية، وغيرهم من الأشراف، لمقابلة أبي طالب عمِّ محمد ليَثنِيه عما اعتزم، فكانَ أنْ ردَّهم أبو طالب ردًّا حسَنًا، ولم يتوقف النبي عما اعتزم؛ فعادوا إلى أبي طالب مرةً أخرى، فقالوا له: «يا أبا طالب، إنَّ لك سنًّا وشرَفًا ومنزلةً فينا، وإنا قد استنهيناك عن ابن أخيك فلم تَنْهَه عنا، وإنا واللهِ لا نصبر على هذا؛ مِن شَتْم آبائنا، وتسفيهِ أحلامنا، وعيبِ آلهتنا، حتى تكفَّه عنا، أو نُنازِله وإياك حتى يهلك أحدُ الفريقَيْن …» فعظَمُ على أبي طالب فراقَ قومه وعداوتهم.

ودعا أبو طالب ابن أخيه وكاشَفَه بما كان من أمر بني العمومة، فقال: «يا ابن أخي، إن قومك قد جاءوني فقالوا: كذا وكذا … فأبقِ عليَّ وعلى نفسك، ولا تحمِّلني من الأمر ما لا أطيق.» محاولًا بذلك وقفَ أمرٍ قد يجر حربًا لا تُبقِي تجارة ولا نسلًا. لكن هذا الاجتماع التاريخي بين العم وابن أخيه، لم ينتهِ كما بدأ، بدليلِ أن أبا طالبٍ ختمه بقوله: اذهب يا ابن أخي، فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبدًا. وكانت النتيجة التي سجَّلتها كتب التاريخ الإسلامي أن … حقَبَ الأمر، وحَمِيت الحرب، وتنابَذَ القوم، وبادَى بعضُهم بعضًا. وقام حزب عبد الدار يستجمع حلفاءه لمواجهة ما بدأت نذره في الأفق،١ برغم نداء بعض العقلاء، مثل عتبة بن ربيعة الذي التقى النبي، وأدرك الأهداف الكبرى للدعوة؛ فقام يقول لقريش:
يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها بي، وخلُّوا بين هذا الرجل وما هو فيه فاعتزلوه، فوالله لَيكوننَّ لقوله الذي سمعتُ منه نبأ عظيم، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإنْ يظهر على العرب فمُلْكه مُلْككم، وعِزُّه عِزُّكم، وكنتم أسعدَ الناس به.٢

وعلى الطرف الآخر، أعلن الهاشميون أنهم قد منعوا فَتاهم، «برغم عدم متابعة دعوته دينيًّا»، اللهم إلا أفرادًا فرادى؛ فكانت عصبيتهم القَبَلية دِرعًا قويًّا لدعوة حفيد عبد المطلب، التي استنفرت الحزب المناوئ الذي أصرَّ على زعمه أنها دعوة لو كُتِب لها النجاح لَصار الأمر كله إلى البيت الهاشمي.

وفي روايتها عن هذه المَنَعة الهاشمية تقول سيرة ابن هشام: «وقد قام أبو طالب حين رأى قريشًا يصنعون ما يصنعون في بني هاشم وعبد المطلب؛ فدعاهم إلى ما هو عليه من منع رسول الله والقيام دونه، فاجتمعوا إليه وقاموا معه، وأجابوه لما دعاهم إليه، إلا ما كان من أمر أبي لهب.»٣

وأبو لهب هو عبد العزى بن عبد المطلب عمُّ النبي ، ولُقِّب بهذا اللقب لحُمْرةٍ شديدة في وجهه وحسن، وهو مَن تبَّتِ الآياتُ الكريمة يدَيْه؛ لأنه كان حريصًا على مُسالَمة بيت عبد شمس المناوئ؛ لأنَّ امرأته — في الآيات حمَّالة الحطب — كانت في الصدارة من شريفات البيت الأموي، وكانت شقيقة أبي سفيان رأس هذا البيت.

ويتجلى مدى قدرة هذه المَنَعة الهاشمية وقوتها، وأثرها على نفوس الأطراف المناوئة، في قول نعيم بن عبد الله لعمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، وقد الْتَقاه يسعى لقتل محمد : «والله لقد غشَّتْك نفْسُك في نفْسِك يا عمر، أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلتَ محمدًا؟» وبهذا يمكن إدراك ما وصل إليه حال بني العمومة وحزبهم، وأبناء عبد مناف الهاشميين الذين ظهر فيهم نبي الأمة وموحِّد كلمتها. لكن كان كلُّ الهمِّ لدى الأحلاف أنه يمكنه بدعوته حيازةُ كلِّ الأَلْوية لبيته وعشيرته.

وفي أشعار أبي طالب اعتزازٌ واضح بأهله وبنيه ورهطه؛ مع عمقٍ غيرِ خافٍ في النظرة السياسية للوضع المكي، ومثال لذلك قوله:

إذا اجْتَمعتْ يومًا قريشٌ لمَفْخَرٍ
فعبدُ منافٍ سِرُّها وصَمِيمُها
وإنْ حُصِّلتْ أَشْرافُ عبدِ مَنافِها
ففي هاشمٍ أَشْرافُها وقَديمُها
وإنْ فَخرتْ يَوْمًا فإنَّ محمَّدًا
هُوَ المُصْطفى مَن سِرُّها وكَرِيمُها
تَداعَتْ قُريشٌ غَثُّها وسَمِينُها
عَلَيْنا فَلَمْ تَظْفَرْ وطاشَتْ حُلومُها٤

نعم، ليحلم بنو عبد الدار، ليحلم نوفل، ليحلم بنو عبد شمس، ليحلم الأمويون ما شاءوا؛ فالرؤية التنبُّئِية لأبي طالب تتوقع أو تخطط لتطيش هذه الحلوم؛ لأن هاشمًا ستقف مع محمد حتى تنصره وتنتصر به. ويوضح جانب آخر من شعر أبي طالب سرَّ هذا الجهر في مواجهة حزب عبد الدار بقوله:

ولمَّا رأيتُ القومَ لا وُدَّ فِيهمُ
وقَدْ قَطعُوا كلَّ العُرَى والوَسائِلِ
وقَدْ صَارَحُونا بالعَداوةِ والأَذَى
وقَدْ طَاوَعُوا أمْرَ العَدُوِّ المُزايِلِ
وقَدْ حالَفُوا قوْمًا عَلَيْنا أَظِنَّةً
يَعَضُّونَ غَيْظًا خَلْفَنا بالأَنامِلِ
وَأَحْضَرتُ عِندَ البيتِ رَهْطِي وَإِخْوتِي
وأَمْسَكتُ مِن أَثْوابِهِ بِالوَصائِلِ٥
ويُفهَم من أبيات أبي طالب هنا أنه لما رأى العداوةَ باديةً في الحزب المناوئ، وأنهم برغم عُرَى القرابة حالَفوا ضدهم أحلافًا؛ غيظًا وكمدًا وحسدًا، لأن منهم نبيًّا، جمع رهطه وأهله وتعاهدوا عند الكعبة وهم يمسكون بأرديتها. وعلى الطرف الآخر، نجد عمرو بن هشام الملقَّب بأبي جهل يقول: «ماذا سمعت؟ تنازعنا نحن وبني عبد مناف الشرف؛ أَطْعَموا فأَطْعَمْنا، وحمَلُوا فحمَلْنا، وأعطَوْا فأعطَيْنا، حتى إذا تحاذينا على الركب وكنا كفَرَسَيْ رهان، قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء! والله لا نؤمن به ولا نصدِّقه.»٦ ثم يرسل شعره قائلًا:
أَتُونا بإفكٍ كَيْ يَضلُّوا عُقولَنا
وليسَ مُضِلًّا إِفْكُهم عقْلَ ذِي عَقْل٧
ومن الجدير بالذكر أن عمرو بن هشام لم يكن رجلًا أحمقَ أو أبله؛ بدلالةِ تحاكُمِ العرب إليه من النُّفُورة والمشاوَرة والمخايَرة منذ حداثته؛ حتى إنهم أدخلوه دار الندوة صبيًّا، وقال عنه حكيم فزارة «قطبة بن سيار»، لما تنافر إليه ابن طفيل وعلقمة بن علاثة: «عليكم بالحديد الذهن، الحديث السن.»٨

وعلى ذلك، فلم يكن أمام عبد الدار وعبد شمس — منعًا للحرب — إلا أن تُطبَّق على بني هاشم عقوبات التجار، بمحاصرتهم اقتصاديًّا؛ فكان أنْ جاءهم الردُّ من أبي طالب بتحدٍّ هاشمي سافِرٍ في قوله:

كَذَبتُم وبَيتِ اللهِ نَتُركُ مَكَّةَ
ونَظْعَنُ إلَّا أَمْركم في بَلابِلِ
كَذَبتُم وبَيتِ اللهِ نُبْزي محمَّدًا
ولمَّا نُطاعِنْ دُونَه ونُناضِلِ
ونُسْلِمه حتَّى نُصرَّعَ حَولَهُ
ونُذهَلَ عَن أَبْنائِنا والحَلائِلِ
ويَنْهَض قَومٌ في الحَدِيدِ إلَيْكُمُ
نُهوضَ الرَّوَايا تحتَ ذاتِ الصَّلاصِل
وإنَّا لَعَمْرُ اللهِ إنْ جَدَّ مَا أَرى
لَتَلْتَبِسَنْ أَسْيافُنا بالأَمَاثِلِ
فإنْ يُلْقيَا أو يُمكِنُ اللهُ مِنْهُما
نَكِلْ لَهُما صاعًا بصَاعِ المُكايِلِ٩

وإلى رءوس حزب عبد الدار: أبي الوليد، وعتبة، وأبي سفيان، يتوجه مستميلًا متحبِّبًا محذِّرًا:

وسَائِلْ أَبا الوليدِ: مَاذا حَبَوْتَنا
بسَعْيِكَ فِينا مُعْرِضًا كالمُخاتِلِ
وكنتَ امْرَأً ممَّنْ يُعاشُ برَأْيِه
ورَحْمتِه فِينا ولسْتَ بجاهِلِ
فَعُتْبةَ لا تَسْمَعْ بِنا قوْلَ كاشِحٍ
حَسُودٍ كَذُوبٍ مُبغِضٍ ذِي دَغاوِلِ
ومَرَّ أَبُو سُفْيانَ عَنِّي مُعْرِضًا
كَمَا مَرَّ قَيْلٌ مِن عِظامِ المَقاوِلِ
يَفِرُّ إلى نَجدٍ وبَرْدِ مِياهِهِ
ويَزْعُمُ أنِّي لستُ عَنْكُم بغافِلِ
وَيُخْبِرُنا فِعْلَ المُناصِحِ أنَّه
شَفِيقٌ ويُخْفِي عارِماتِ الدَّواخِلِ١٠

ولما لا يجد وُدًّا، يعلن أهداف البيت الهاشمي السياسية، بوضوحٍ جهيرٍ ومباشِر، فيقول:

جَزَى اللهُ عنَّا عبدَ شَمسٍ ونُوفَلًا
عُقوبةَ شَرٍّ عاجِلًا غيرَ آجِلِ
بمِيزانِ قِسْطٍ لا يُخَسُّ شَعِيرةً
له شاهِدٌ مِن نفْسِه غَيْر عائِلِ
فأَبْلِغْ قُصَيًّا أنْ سيُنشَرُ أَمْرُنا
وبَشِّرْ قُصَيًّا بعْدَنا بالتَّخاذُلِ
وكانَ لَنا حوْضُ السِّقايةِ فِيهمُ
ونحنُ الكُدَى مِن غالِبٍ والكَواهِلِ
شَبابٌ مِنَ المُطيِّبِينَ وهاشِمٍ
كَبِيضِ السُّيوفِ بينَ أَيْدي الصَّياقِلِ
فمَا أَدْرَكُوا ذَحْلًا وَلَا سَفَكُوا دَمًا
وَمَا حَالَفُوا إلَّا شِرارَ القَبائِلِ
بضَرْبٍ تَرى الفِتْيانَ فِيهِ كأنَّهُمْ
ضَوارِي أُسودٍ فوْقَ لَحْمٍ خَرادِلِ١١

وعن شدة تعلُّقه بابن أخيه وكَلَفِه به، وأنه لولا المسَبَّة والعار لآمَن بدعوته الدينية، يقول:

لَعَمْرِي لقَدْ كلفتُ وَجْدًا بأَحْمَدَ
وَإِخْوتِه دَأبَ المُحِبِّ المُواصِلِ
فَلَا زالَ في الدُّنْيا جَمالًا لأَهْلِها
وزَيْنًا لمَنْ وَالَاهُ رَبُّ المَشاكِلِ
فمَنْ مِثلُه في الناسِ أيُّ مُؤَمَّلٍ
إذا قاسَهُ الحُكَّامُ عندَ التَّفاضُلِ
لكِنَّا اتَّبَعْنَاهُ عَلى كلِّ حَالةٍ
مِنَ الدَّهْرِ جِدًّا غَيْرَ قوْلِ التَّهازُلِ
لقَدْ عَلِمُوا أنَّ ابْنَنا لَا مُكذَّبٌ
لَدَيْنا وَلَا يُعْنَى بقوْلِ الأَباطِلِ١٢
فأَصْبحَ فِينا أَحْمَد في أَرُومةٍ
تُقصِّرُ عنَّه سَوْرةُ المُتطاوِلِ
حَدِبتُ بنَفْسِي دُونَه وحَميْتُه
ودَافعْتُ عَنْه بالذُّرَا والكَلاكِلِ
فأيَّدَه رَبُّ العِبادِ بنَصْرِهِ
وأظهَرَ دِينًا حَقُّه غَيرُ باطِلِ١٣
١  ابن هشام: السيرة، ج١، ص٢٣٨ و٢٤١.
٢  نفسه: ص ٢٦٢.
٣  نفسه: ص٢٤٢.
٤  الموضع نفسه.
٥  نفسه: ص٢٤٥.
٦  ابن سيد الناس: عيون الأثر، ج١، ص١٤٠.
٧  ابن هشام: السيرة، ج٢، ص٢٤٧.
٨  جواد علي: المفصل، ج٥، ص٢٣٥.
٩  الشهرستاني: الملل والنحل، ج٢، ص٢٤٠؛ وانظر ابن هشام: السيرة، ج١، ص٢٤٧.
١٠  ابن هشام: السيرة، ج١، ص٢٤٨ و٢٤٩.
١١  نفسه: ج٢٢، ص٢٤٩ و٢٥١.
١٢  نفسه: ج١، ص٢٥١.
١٣  البيهقي: دلائل النبوة، ج٢، ص٤٤٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤