جذور الأيديولوجيا الحنيفية

يبدو أن التوحيد بمعناه الحنفي يعود إلى زمن بعيد، فحوالي القرن الأول قبل الميلاد كان بعض أهل اليمن يعبدون إلهًا باسم «ذوي سموي» أو إله السماء، كإله واحد، وقد ذكرت نقوش المسند اليمنية عبادة إله واحد يُدعى «رحمن»، ويرى الباحثون أنهما كانا مسمَّيَيْن لواحد. وتؤكد «ثريا منقوش»: «أن عُبَّاد هذا الإله كانوا يُعرَفون بالأحناف.»١ ويذهب الدكتور «جواد علي» إلى افتراض أن تكون عقيدة حنفاء مكة التي نادى بها عبد المطلب بن هاشم، بعد سبعة قرون؛ امتدادًا لحنيفية رحمن اليمن؛ رب السماء «ذوي سموي»، ويلمح إلى ذلك في قوله عن أحناف مكة: «لا نستطيع أن نقول إنهم نصارى أو يهود، إنما أستطيع أن أشبِّه دعوة هؤلاء بدعوة الذين دعوا إلى عبادة الإله رب السماء «ذوي سموي»، أو عبادة الرحمن في اليمن.»٢

ويذكر الفخر الرازي أن عقيدة أحناف اليمن، كانت أركانًا أربعة هي: حج البيت، واتِّباع الحق، وملة إبراهيم، والإخلاص لله وحده. ثم يضيف قوله: إن عدم معرفة هؤلاء لتاريخ نشوء عقيدتهم؛ «فقد نسبوها إلى إبراهيم النبي العبري»! (لنا في جذور هذا الأمر بحثٌ خاص، ألقينا فيه الضوء على مساحات مظلمة في تاريخ هذه العقيدة، بعنوان: النبي إبراهيم والتاريخ المجهول.)

ويذهب الألوسي إلى أن الصابئة هم قوم النبي إبراهيم (عليه السلام) وأهل دعوته؛٣ مما دفع بعض العلماء إلى حسبان الحنفاء صنفًا عن الصابئة، وبالتحديد: الصنف المؤمن أو مَن بقي على الإيمان منهم.٤ وكان منهم بالجزيرة العربية نفر غير قليل، «وكانوا يقيمون الصلاة عدة مرات في اليوم كفرض إجباري للإيمان، يقومون فيها ويركعون، ويتوضَّئُون قبلها، ويغتسلون من الجنابة، ولهم قواعد في نواقض الوضوء.»٥ (ولعل ذلك يفسر لنا لماذا أطلق أهل مكة على مَن يتبع دعوة الإسلام ويشاهدونه يؤدي هذا الشكل من الصلوات: أنه قد صَبَأ!)
ولا بأس هنا من التعريف السريع بأهم حنفاء الجزيرة، أو مَن شاء حظُّهم أن يذكرهم التاريخُ ولو بكلمات، ومنهم — كما أشرنا — قس بن ساعدة الإيادي، الذي يكاد يُجمِع المؤرخون على موته قبل البعثة بقليل، وقد ورد أن «النبي كان يسمع إليه في سوق عكاظ». ونقل الألوسي بعضَ ما نُسِب إلى قس فقال: «ومن خطباء إياد قس بن ساعدة، وهو الذي قال فيه النبي لجارود: يا جارود، فلست أنساه بسوق عكاظ على جمل أورق، وهو يتكلم بكلام ما أظن أني حفظته. فقال أبو بكر: يا رسول الله فإني أحفظه، كنت حاضرًا ذلك اليوم، فقال في خطبته: «أيها الناس، اسمعوا وعوا، فإذا وعيتم فانتفعوا، إنه مَن عاش مات، ومَن مات فات، وكل ما هو آتٍ آت، إنَّ في السماء لَخبرًا، وإنَّ في الأرض لَعِبَرًا، جهاد موضوع، وسقف مرفوع، ونجوم تَمُور، وبِحَار لن تَغُور، ليلٌ داج، وسماء ذات أبراج، أقسم قس قسَمًا حتمًا، لَئِنْ كان في الأرض رِضًا لَيكونن بعده سخط، وإنَّ لله دينًا هو أحبُّ إليه من دينكم».»٦ ثم يعلن توحيده الخالص النقي، مناديًا: «كلا، بل هو الله المعبود الواحد، ليس بمولود ولا والد، أعاد وأبدى، وإليه المآب غدًا.»٧ ثم يرسل شعره قائلًا:
في الذاهِبينَ الأوَّلِيـ
ـنَ مِنَ القرونِ لَنا بَصائِر
لمَّا رأيتُ مَوارِدًا
لِلْموتِ ليسَ لها مَصادِر
ورأيتُ قَوْمي نَحْوها
تَسْعى الأَصاغِر والأَكابِر
لا يَرْجعَنْ قَوْمي إلَـ
ـيَّ ولا مِنَ الباقِينَ غابِر
أَيْقنتُ أنِّي لا مَحا
لَةَ حيثُ صارَ القومُ صائِر٨

ويقول أيضًا:

يا ناعِيَ المَوتِ والْأمواتُ في جَدثٍ
عَلَيهمُ مِن بَقايا برعمٍ خِرقُ
دَعْهم فإنَّ لَهُم يَومًا يُصاحُ بِهِم
فهُمْ إذا انْتَبَهوا من نَوْمِهم فرِقُوا
حتَّى يَعُودوا لحالٍ غَيرِ حَالِهُمُ
خَلْقًا جَدِيدًا كما مِن قبْلِه خُلِقوا
فيهم عُراةٌ ومِنْهم في ثِيابِهُمُ
مِنها الجديدُ ومِنها المبهجُ الخَلِقُ
حتى قال رسول الله : «والذي بعثني بالحق، لقد آمَنَ قس بالبعث.»٩
  • ومن الحنفاء «سويد بن عامر المصطلقي»، ذكرت المصادر أنه كان على دين الحنيفية وملة إبراهيم، وقد جاء في شعره ذكر المنايا وحتمها، وأن الخير والشر مكتوبان على النواصي، وأنه ليس للمرء يدٌ فيما يصيبه من القَدَر، فكل شيء محتوم مقدور. قال مسلم الخزاعي المصطلقي: «شهدت رسول الله وقد أنشده منشد قول سويد بن عامر المصطلقي:

    لا تَأْمنَنَّ وإنْ أمسيتَ في حَرَم
    حتى تُلاقِيَ ما يَمْنِي لك المانِي
    فالخيرُ والشرُّ مَقْرونانِ في قرن
    بكلِّ ذلكَ يَأْتيكَ الجَدِيدانِ
    فكلُّ ذِي صاحبٍ يوْمًا يُفارِقُهُ
    وكلُّ زادٍ وإنْ أَبْقيْتَه فانٍ
    فقال رسول الله : لو أدركتُه لَأسلَمَ.»١٠
  • ومنهم أيضًا — قبل عبد المطلب — «وكيع بن سلمة بن زهير الإيادي»، الذي بنى صرحًا بأسفل مكة، جعل فيه أَمَة يُقال لها حزورة، وبها سُمِّيت حزورة مكة، جعل فيها سُلَّمًا يرقاه، زاعمًا أن الله يناجيه فيه، وكان يتكلم بالخير، وزعم العرب أنه صِدِّيق من الصِّدِّيقين.١١ وهو بهذا المعنى رجل متألِّه مُدَّعي الوحي متنبئ، وذكروا عنه كلمات مسجوعة مثل: «إن ربكم لَيجزين بالخير ثوابًا، وبالشر عقابًا، وإن مَن في الأرض عبيد لمَن في السماء، هلكَتْ جرهم وزيلتْ إياد، وكذلك الصلاح والفساد.» أو مثل: «مَن رشد فاتبعوه، ومَن غوى فارفضوه، وكلُّ شاة برجلها معلَّقة.»١٢
  • ومنهم أيضًا «أبو قيس صرمة بن أبي أنيس»، وهو من بني النجار أهل يثرب؛ أنسباء البيت الهاشمي. وتقول الأخبار إنه فارق الأوثان واغتسل من الجنابة، وتطهَّرَ ودخل بيتًا له اتخذه مسجدًا لا تدخله طامث ولا يدخله جُنُب، وقال: «أعبد رب إبراهيم.» وكان قوَّالًا بالحق، معظِّمًا لله. وقال ابن حجر: إنه لما قَدِم النبيُّ إلى يثرب، أسلَمَ وحَسُن إسلامه، وهو شيخ عجوز، وكان ابن عباس يختلف إليه ويأخذ عنه الشعر،١٣ ومن هذا الشعر قوله:
    فَوَاللهِ ما يَدْري الفَتى كيفَ يتَّقي
    إذا هُو لم يَجْعلْ له اللهَ واقِيا
    ولا تحفلُ النَّخلُ المُعيمةُ ربَّها
    إذا أصبحَتْ ريَّا وأصْبح ثاوِيا

    وقوله:

    يا بَنِي الأيَّامِ لا تَأْمنُوها
    وَاحْذَروا مُكْرَهًا ومُرَّ اللَّيالي
    وَاعْلَموا أنَّ مُرَّها لِنَفاذِ الْـ
    ـخَلْقِ ما كانَ مِن جَدِيدٍ وَبالِي

    وقوله:

    سبِّحُوا اللهَ شَرْقَ كلِّ صَباحٍ
    طَلعَتْ شَمْسُه وكلَّ هِلالِ
    عالِمُ السِّرِّ وَالبَيانِ لَدَيْنا
    ليسَ ما قالَ رَبُّنا بضَلالِ١٤
  • ومنهم أيضًا ورقة بن نوفل الذي قال عنه الألوسي أنه ممَّن وحَّد الله، وترك الأوثان وسائر أنواع الشِّرك، واجتهد في طلب الحنيفية دين إبراهيم، ثم تنصَّرَ، لكنه لم يتبع النصارى في التبديل، وظلَّ موحِّدًا.١٥ وقد سأل رسول الله عن ورقة، فقالت له خديجة (رضي الله عنها): إنه كان صدقك، وإنه مات قبل أن تظهر. فقال رسول الله : رأيته في المنام وعليه ثياب بيض، ولو كان من أهل النار لَكان عليه لباس غير ذلك.١٦

    وقس هو الذي كان ينادي الناس ناصحًا:

    لا تَعْبُدونَ إلهًا غيرَ خالِقِكُم
    فإنْ دَعَوْكُم فقُولوا: بَينَنا حَدَدُ
    سُبْحانَ ذِي الْعَرْشِ سُبْحانًا نَعُوذُ به
    وقبْلُ قدْ سبَّحَ الجُودِيُّ والجُمدُ
    مُسخَّرٌ كلُّ ما تحتَ السماءِ لَه
    لا يَنْبغي أنْ يُناوي مُلْكَه أَحدُ
    لا شيْءَ ممَّا نَرى تَبْقى بَشاشَتُه
    يَبْقى الإلهُ ويُودِي المالُ والولَدُ

    وهو الذي قال في «زيد بن عمرو بن نفيل» رفيقِه على دَرْب الحنيفية بعد موته:

    رَشدْتَ وأنعمْتَ ابْنَ عَمْرٍو وإنَّما
    تجنَّبتَ تَنُّورًا مِنَ النارِ حامِيا
    بدِينِك ربًّا ليسَ رَبٌّ كمِثْلِه
    وترْكِكَ أَوْثانَ الطَّواغِي كَمَا هِيَا
    وإِدْراكِكَ الدِّينَ الَّذي قدْ طلبْتَه
    ولم تَكُ عَن تَوحيدِ ربِّكَ ساهِيا
    فأصبحْتَ في دارٍ كريمٍ مُقامُها
    تُعلَّلُ فيها بالكَرامةِ لاهِيا
    تُلاقِي خَلِيلَ اللهِ فِيها وَلَم تَكُنْ
    مِنَ الناسِ جبَّارًا إلى النارِ هاوِيَا
    وقد تُدرِكُ الإِنْسانَ رَحْمةُ ربِّهِ
    ولَوْ كانَ تَحْتَ الأَرْضِ سَبْعينَ وَادِيا١٧
  • ومنهم «عامر بن الظرب العدواني»، وكان من حكماء العرب وخطبائهم، وكانت له نظرات وآراء في العقيدة؛ تتضح في قوله في وصية طويلة منها: «إني ما رأيت شيئًا قطُّ خلَقَ نفسَه، ولا رأيت موضوعًا إلا مصنوعًا، ولا جائيًا إلا ذاهبًا، ولو كان يُمِيت الناسَ الداءُ لأَحْياهم الدواء … إني أرى أمورًا شتى وحتى. قيل له: وما حتى؟ قال: حتى يرجع الميت حيًّا، ويعود اللاشيء شيَّا …»١٨ وقالوا عنه: إن إيمانه بملة إبراهيم، دفعه إلى تحريم الخمر على نفسه،١٩ وفي ذلك يقول:
    إنْ أَشْرَبِ الخَمْرَ أشرَبْها لِلَذَّتِها
    وَإِنْ أَدَعْها فإنِّي ماقِتٌ قَالِ
    لَوْلا اللَّذَاذةُ والْفِتْيانُ لم أَرَها
    وَلَا رَأَتْني إلَّا مِن مَدى الغَالِ
    سَأَّالةٌ لِلفَتى ما ليسَ يَملِكُه
    ذهَّابةٌ بعُقولِ القومِ والمالِ
    مُورثةُ القَوْمِ أَضْغانًا بِلا إِحَنٍ
    مُزْريةٌ بالفَتى ذِي النَّجدةِ العالِ
    أَقْسمتُ باللهِ أَسْقِيها وأَشْربُها
    حتَّى يُفرِّقَ تُرْبُ القَبْرِ أَوْصالِي٢٠
  • ومنهم «علاف بن شهاب التميمي» الذي آمَن بوحدانية الله وبالبعث والنشور والحساب والثواب والعقاب، وهو القائل:

    ولقَدْ شَهدتُ الخَصْمَ يَومَ رفاعَة
    فأخذتُ منه خطَّةَ المغْتالِ
    وعلمتُ أنَّ اللهَ جازٍ عبْدَه
    يومَ الحسابِ بأحْسنِ الأَعْمالِ٢١
  • ومنهم «المتلمس بن أمية الكناني» الذي كان يخطب في فناء الكعبة مناديًا بنبْذِ الفرقة القَبَلية عن سبيل نبْذِ الأوثان، والاتجاه إلى ربِّ كعبة مكة. وكان يقول لهم: «إنكم تفرَّدتم بآلهة شتى، وإني لَأعلمُ ما الله راضٍ به، وإن الله ربُّ هذه الآلهة، وإنه لَيحبُّ أن يُعبَد وحْدَه.»٢٢
  • ومن الحنفاء أيضًا مَن حاز بعض الشهرة، مثل «زهير بن أبي سلمى»، وذُكِر أنه كان يتألَّه ويؤمن بالبعث والحساب، ويُروَى أنه كان يمر بالعضاة قد أورقَتْ بعد يُبْسٍ فيقول: «لولا أن تَسُبَّني العرب، لَآمنتُ أنَّ الذي أحياك بعد يُبْسٍ سيُحيِي العظامَ وهي رميم.» وقد سلكه ابن حبيب ضمن مَن حرَّموا على أنفسهم الخمرَ والسُّكْر والأَزْلام،٢٣ وهو القائل مُقسِمًا بالكعبة:
    أَقْسمْتُ بالبيتِ الذي طافَ حَوْلَه
    رِجالٌ بَنَوْه مِن قُرَيشٍ وَجرهم
    يَمِينًا لَنِعْمَ السَّيِّدانِ وُجِدْتُما
    على كلِّ حالٍ مِن سَحِيلٍ ومُبرَمِ٢٤

    وهو القائل:

    ومَهْما تَكُنْ عندَ امْرِئٍ مِن خَلِيقةٍ
    ولو خالَها تَخْفى عَلى الناسِ تُعْلَمِ
    ومَن هابَ أَسْبابَ المَنِيَّةِ يَلْقَها
    ولَوْ رامَ أَسْبابَ السَّماءِ بِسُلَّمِ٢٥

    ثم هو يحدِّد موقفه واضحًا من لَعَقة الدمِ في حِلْف الأحلاف المناوِئ للمطيبين في قوله:

    أَلَا أَبْلِغِ الأَحْلافَ عنِّي رِسالةً
    وَذُبْيانَ، هَلْ أَقْسمتُمُ كلَّ مقْسَمِ
    فَلَا تَكْتُمُنَّ اللهَ ما في نُفُوسِكُم
    لِيَخْفى ومَهْما يُكتَمِ اللهُ يَعْلَمِ٢٦

    ثم يقول مؤمنًا:

    أَلَا ليْتَ شِعْري هلْ يَرى الناسُ ما أَرَى
    مِنَ الأمْرِ أوْ يَبْدُو لَهُم مَا بَدا لِيَا
    بَدَا ليَ أنَّ اللهَ حقٌّ فزَادَني
    إلى الحقِّ تَقْوى اللهِ ما كانَ بَادِيَا٢٧

إن الفكر السليم لَيَعْزو انتشار الحنيفية في الجزيرة والحجاز إلى تمهيد هؤلاء وتوطئتهم، حتى تحوَّلت إلى تيار قوي قبل الإسلام. وإن أهم رجالات الحنيفية وأساتذتها — وربما كان أولهم من حيث الأهمية والأثر — هو «عبد المطلب بن هاشم»، إضافةً إلى اثنين من تلامذة الحنيفية الكبار هما: «زيد بن عمرو بن نفيل بن حبيب»؛ ذاك الذي استطاع جَدُّه إقناعَ الفيل محمود بالعودة إلى اليمن راشدًا، وكان حليفًا لعبد المطلب؛ والثاني «أمية بن عبد الله بن أبي الصلت»، وكان جَدُّه حليفًا بدوره لعبد المطلب، ورفيقه في رحلته لتهنئة ابن ذي يزن باستقلال اليمن.

ويؤكد الدكتور «جواد علي» أن أهم العلامات الفارقة التي ميَّزت الحنفاء عن غيرهم، هي: «الاختتان، وحج مكة، والاغتسال من الجنابة، واعتزال الأوثان، والإيمان بإله واحد بيده الخير والشر، وأن كل ما في الكون محتوم مكتوب.»٢٨ وفي مِلَل الشهرستاني نجد أن الحنفاء كانت تقول: «إننا نحتاج في المعرفة والطاعة إلى متوسط من جنس البشر، تكون درجته في الطهارة والعصمة والتأييد والحكمة فوق الروحانية، ويلقي إلى نوع الإنسان بطرف البشرية.»٢٩

«إذن هي النبوة! ولا بد للأحناف من نبي!»

وهنا يقول لنا الدكتور أحمد الشريف: «والدليل على أن الجاهليين كانوا يتطلعون إلى نظام جديد، أنهم كانوا — حسب تفكيرهم — يتحدثون عن علامات ونُذُر تُنبِئ عن قرب ظهور نبي منهم؛ وقد روى القدماء معجزات ونُذرًا قالوا إنها وقعت قبل ظهور الإسلام؛ إرهاصًا به ومنبئةً بقرب ظهوره، وتلك الروايات — إنْ صحَّتْ — كانت دليلًا على أن الجاهليين تطلَّعوا إلى الإصلاح، وإلى ظهور مُصلِح من بينهم، «وكان الإصلاح قديمًا لا يأتي إلا على أيدي الحكماء والأنبياء»، وهذا التطلُّع الطبيعي في كل جماعةٍ إحساسٌ ضروري يسبق كل حركة إصلاحية ويمهِّد لها … وكانت البيئة مستعدة لقبول النظام الجديد؛ لأنها بيئة لها وَحْدتها المتميزة، من الناحية اللغوية، ومن ناحية الجنس … وكان من المتوقَّع لو لم يظهر الإسلام أن يدخل العرب في أحد الدينَيْن، لولا أنهم بدءوا نهضةً قومية … لذلك يريدون ديانة خاصة يعتبرونها «رمزًا لقوميتهم … ديانة تعبِّر عن رُوح العروبة» وتكون عنوانًا لها؛ لذلك بحث عقلاؤهم عن الحنيفية؛ دينِ إبراهيم الذي كانوا يَعُدُّونه أبًا لهم … وقد ظهرت حركة التحنُّف قبل الإسلام مباشَرةً، وكانت رمزًا إلى أن الروح العربي كان يتلمَّس يومئذٍ دينًا آخَر غير الوثنية. والإسلام حين جاء … كان دليلًا على «نضوج ديني فلسفي، استعدَّ له العرب في القرون المتطاولة السابقة» … وكذلك كانوا يحسُّون بأن عدم وجود دولة تجمعهم أمرٌ فيه ذِلَّة وعار … في هذه الظروف المواتية من الناحية الدينية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية؛ ظهرت النهضة العربية، وكانت دينية، والدين كان عاملًا من عوامل التطوير والتقدم في العصور القديمة، ولم يتنازل الدين بعض الشيء عن هذه الناحية، إلا بانتشار العلوم، «ووجود العوامل التي تنافسه في القيام بهذا الدور في العصر الحديث».»٣٠

المهم، أنه عندما وصل الحنفاء إلى النتيجة المحتومة، بدأت مباراة تتسم بسموِّ الروح الرياضية ورُقِيها؛ فأخذوا يتنافسون في الترفُّع عن صغائرِ الأفعال. وهذه الأفعالُ التي تعفَّفوا عنها هي التي أصبحت فيما بعدُ أفعالًا شريرة، ويجب تجنُّبها في نظر الناس، أما عندما جاء الإسلام فقد أوجب تحريمها. ومن هؤلاء الروَّاد الذين لا ينبغي أن يتخطَّاهم البحث المحايد، مَن يصح الوقوف معهم رويدًا.

  • الوقفة الأولى: مع «زيد بن عمرو بن نفيل»؛ الذي تَعُود أَرُومته إلى قصي بن كلاب، وأمه هي أمية بنت عبد المطلب! ويُعَد ثاني الروَّاد الحنيفيين أثرًا وأكثرهم خطرًا بعد عبد المطلب بن هاشم. وعنه يقول ابن كثير: «إنه اعتزل الأوثان، وفارَقَ الأديان؛ من اليهود والنصارى والمِلَل كلها، إلا دين الحنيفية، دين إبراهيم، يوحِّد الله ويخلع مَن دونه … وذُكِر شأنه للنبي فقال: «هو أمَّةٌ وَحْده يوم القيامة … يُبعَث يومَ القيامة أُمَّةً وَحْده» … وكان يُحيِي الموْءُودة؛ يقول للرجل إذا أراد أن يقتل ابنته: «لا تقتلْها، أنا أكفيك مؤنتها.» فيأخذها … وكان يقول: «يا معشر قريش، إياكم والزنا، فإنه يورث الفقر …» فقال رسول الله : «يُحشَر ذاك أمَّةً وَحْده، بيني وبين عيسى ابن مريم» (إسناده جيد). وأتى عمر بن الخطاب وسعيد بن زيد إلى رسول الله فسألاه عن زيد بن عمرو بن نفيل، فقال: «غفر الله له ورحمه، فإنه مات على دين إبراهيم …» مات زيد بمكة، ودُفِن بأصل حراء، قال رسول الله : «دخلتُ الجنة فرأيتُ لزيد بن عمرو بن نفيل دوحتَيْن».»٣١
    ويقول البيهقي في دلائل النبوة: إنه التقى برجل من أهل الكتاب، فقال له عليك بالدين الحنيف؛ «قال: دين إبراهيم، لم يكن يهوديًّا ولا نصرانيًّا، ولكن كان حنيفًا مسلمًا. ومن ثَمَّ عاد مؤمنًا بدين إبراهيم وحنيفيته الإسلامية.»٣٢ ولكلام البيهقي هنا مصداقية خاصة يدلِّل عليها شعرُ زيد ذاته الذي أفصح فيه عن «إعلان حنيفيته تحت اسم الإسلام». وعندما تنبَّأ المصطفى محمد ، كان يترحم على زيد ويقول: «قد رأيته في الجنة يسحب ذيولًا.»٣٣ وعرف عنه الجاهليون دأبَه الذي لا يَكِلُّ ولا يَمَل؛ متنقلًا دومًا، يدعو لنبذ الأسلاف المتفرقة في أرباب شفيعة، والعودة إلى أبٍ واحد يجمع العربَ هو إسماعيل بن إبراهيم، وإلى ربٍّ واحد هو ربُّ إبراهيم؛ مباشَرةً ومن دون وسيط، نبذًا للفرقة القَبَلية، وتهيئةً للوَحْدة. ثم لا يأتي شهر رمضان إلا ويصعد إلى غار حراء متحنِّفًا متحنثًا معتكفًا يتأمل ويتعبَّد.٣٤

    وفي «البداية والنهاية»، يطالعنا زيد بشعره قائلًا:

    أسلمت؟!

    أسْلمتُ وَجْهي لمَنْ أَسْلمَتْ
    لَه الأرْضُ تَحملُ صخْرًا ثِقالَا
    دَحاها فلَّما رَآها اسْتَوتْ
    على الماءِ أرْسَى عَلَيْها الجِبالَا
    وَأَسْلمتُ وَجْهي لمَنْ أَسْلمَتْ
    لَه المُزْنُ تَحمِلُ عَذْبًا زُلالَا
    إذَا هِي سِيقتْ إلى بَلْدةٍ
    أطاعَتْ فصَبَّتْ علَيْها سِجَالَا٣٥
    (وَلْيلحظْ قارئنا أننا نستند هنا في أمر هذا الشعر إلى مصادره الأصلية، إضافة إلى العودة إلى حلِّ مسألةِ الانتحال فيه، والأخذ بما انتهى الباحثون لتأكيده غير منحول؛ فهي مهمة لها رجالها المتخصصون، وإليهم مرجعنا في الأمر، وينسحب ذلك على كل ما أوردناه من أشعار الحنفاء.)٣٦
    وفي «السيرة النبوية» لابن هشام، نجد زيدًا إذا دخل الكعبة قال: «اللهم لو أني أعلم أي الوجوه أحبُّ إليك لعبدتك به، ولكنني لا أعلمه.» ثم يسجد على الأرض.٣٧ ويؤكد «ابن هشام» أنه حرَّمَ على نفسه أمورًا — نقلها الناس عنه من بعدُ كتشريعات؛ لانبهارهم بشدة ورعه وعلمه وتقواه — مثل: «تحريم الخمر والميتة والدم ولحم الخنزير، وما أُهِلَّ به لغير الله من ذبائح تُذبَح على النُّصب.»٣٨ نعم، لقد أصبحت هذه تشريعات لمجرد امتناع زيد عنها، «وربما كان امتناعه عن بعضها لا لعيبٍ فيها، وإنما لأنه كان لا يسيغها»، ومع ذلك كان لإعجاب الناس به دور كبير في تحوُّلها إلى قوانين متعالية.
    وتروي لنا الأخبار أن زيدًا قد عاصَرَ النبي محمدًا ، وأنه التقاه. عن عبد الله بن عمر: أن النبي لقي زيدًا بأسفل بلدح، فدعاه إلى تناول طعام مما يذبح للأرباب، فقال زيد للنبي : «إني لست آكل ما تذبحون على أنصابكم.» ويعلِّل ابن هشام أكل النبي، قبل بعثه نبيًّا، لأضحيات أو قرابين الأصنام بقوله: «إن رسول الله كان يأكل مما ذُبِح على النُّصب، فإنما فعل أمرًا مباحًا، وإن كان لا يأكل فلا إشكال»!٣٩ ويورد لزيد شعره القائل في فراق الوثنية:
    أَرَبًّا واحدًا أمْ أَلْفَ ربٍّ
    أدينُ إذا تقسَّمتِ الأُمُورُ
    عزلتُ اللات والعُزَّى جميعًا
    كذلك يَفعلُ الجَلدُ الصَّبُورُ
    فلا العُزَّى أدينُ ولا ابْنَتَيْها
    ولا صَنَمَيْ بَنِي عمرٍو أَزُورُ
    ولكِنْ أَعْبدُ الرَّحمنَ رَبِّي
    لِيَغْفرَ ذَنْبيَ الربُّ الغَفُورُ
    فتَقْوى اللهِ ربِّكُمُ احْفَظُوها
    متَّى ما تَحْفَظُوها لا تَبُوروا
    تَرَى الأَبْرارَ دارُهُمُ جِنانٌ
    ولِلكفَّارِ حامِيةٌ سَعِيرُ
    وَخِزْيٌ في الحياةِ وإنْ يَمُوتُوا
    يُلاقُوا ما تَضِيقُ بهِ الصُّدُورُ٤٠
    «وقال حجير بن أبي إهاب: رأيت زيد بن عمرو بن نفيل، وأنا عند صنم بوانة — بعدما رجع من الشام — وهو يراقب الشمس، فإذا زالت استقبل الكعبة، فصلَّى ركعة وسجدتين، ثم يقول: هذه قبلةُ إبراهيم وإسماعيل، لا أعبد حجرًا ولا أصلي إلا إلى هذا البيت حتى أموت. وكان يحجُّ فيقف بعرفة، وكان يلبِّي فيقول: لبَّيْك لا شريكَ لك، ولا ندَّ لك. ثم يدفع من عرفة ماشيًا وهو يقول: لَبَّيْك متعبِّدًا لك مَرْقوقًا.»٤١

    وقالت أسماء بنت أبي بكر: «رأيت زيد بن عمرو بن نفيل قائمًا؛ مسندًا ظهرَه إلى الكعبة، يقول: يا معشر قريش، ما منكم أحد على دين إبراهيم غيري.» وكان إذا خلص إلى البيت استقبله ثم قال: لبيك حقًّا حقًّا، تعبُّدًا ورِقًّا، البرَّ أرجو لا الخال، وهل مهجِّرٌ كمَن قال، ثم قال:

    عذتُ بما عاذَ به إبراهيم
    مَسْتقبِلُ الكعبةِ وهو قائِم
    يَقُولُ أنفي لكَ عانٍ راغِم
    مَهْما تجشَّمني فإني جاشِم٤٢

    ويقول أيضًا:

    إلى اللهِ أُهدِي مَدْحي وثَنائِيَا
    وقَوْلًا رَصِينًا لا يَنِي الدَّهْرَ باقِيَا
    إلى المَلِكِ الأَعْلى الَّذِي لَيسَ فوْقَهُ
    إلهٌ وَلَا ربٌّ يَكونُ مُدانِيَا
    رَضِيتُ بِكَ اللَّهُمَّ ربًّا فلَنْ أَرَى
    أَدِينُ إلهًا غَيْرَكَ اللهَ ثانِيَا٤٣
  • الوقفة الثانية: مع «أمية بن عبد الله بن الصلت»: الذي تَصِله أمه رقية بنت عبد شمس بن عبد مناف ببيت عبد مناف بن قصي،٤٤ وهو صاحبُ القولِ المأثور:
    كلُّ دِينٍ يَومَ القِيامةِ عِندَ اللهِ
    — إلَّا دِين الْحَنِيفِيَّةِ — زُور
    وكانَ يحاور أبا سفيان ويقول له: «والله يا أبا سفيان، لَنُبعَثن ثم لَنُحاسَبن، وليَدخُل فريقٌ الجنة، وفريقٌ النار.»٤٥ وحولَ عقيدته في البعث والحساب يقول شعرًا:
    باتَتْ هُمُومي تَسرِي طَوارِقُها
    أكُفُّ عَيْني وَالدَّمْعُ سَابِقُها
    ممَّا أَتاني مِنَ اليَقِين وَلَم
    أُوتَ بِراةً يَقُصُّ ناطِقُها
    أمْ مَن تَلظَّى عَليه واقِدةُ النَّـ
    ـارِ مُحِيطٌ بِهِم سُرادِقُها
    أمْ أسْكُنُ الجنَّةَ الَّتِي وُعِدَ الْـ
    أَبرارُ مَصْفوفةٌ نَمارِقُها
    لا يَسْتوِي الْمَنزِلانِ ثَمَّ وَلَا الْـ
    أَعْمالُ لا تَسْتوِي طَرائِقُها
    هُمَا فَرِيقانِ فِرْقةٌ تَدْخُلُ الْـ
    ـجَنَّةَ حفَّتْ بِهِم حَدائِقُها
    وفِرْقةٌ مِنْهُمُ قَدْ أُدخِلَتِ النَّـ
    ـارَ فساءَتْهُم مَرَافِقُها٤٦
    ويقول جواد علي: إن أُميَّة حرَّمَ على نفسه الخمر، وتجنَّب الأصنام، وصام، والتمس الدين، وذكر إبراهيم وإسماعيل، وكان أول مَن أشاع بين القرشيين افتتاح الكتب والمعاهدات والمراسلات بعبارة: «باسمك اللهم» (استعملها النبي محمد ثم تركها واستعمل: بسم الله الرحمن الرحيم). وقد روى الإخباريون قصصًا عن التقاء أمية بالرُّهْبان، وتوسُّمهم فيه أمارات النبوة، «وعن هبوط كائنات مجنَّحة شقَّتْ قلبه ثم نظَّفته وطهَّرته تهيئةً لمنحه النبوة».٤٧ وأمية هو القائل في رب الحنيفية الخلَّاق:
    إلهُ العَالَمِينَ وكُلِّ أَرْضٍ
    وربُّ الرَّاسِياتِ مِنَ الجِبالِ
    بَناها وابْتَنَى سَبْعًا شِدادًا
    بِلا عَمدٍ يُرَينَ ولا حِبالِ
    وسَوَّاها وزَيَّنَها بنُورٍ
    مِنَ الشَّمسِ المُضِيئةِ والهِلالِ
    ومِن شُهبٍ تَلَأْلَأ في دُجَاها
    مَرامِيها أشَدُّ مِنَ النِّصالِ
    وشَقَّ الأَرْضَ فانْبَجَسَتْ عُيونًا
    وأَنْهارًا مِنَ العَذْبِ الزُّلالِ
    وبَارَكَ في نَواحِيها وزَكَّى
    بِها مَا كانَ مِن حَرْثٍ ومَالِ
    ويُعتبر أمية أحسن الحنفاء حظًّا في بقاء الذكر، فقد بقي كثير من شعره وحُفِظ قسط لا بأسَ به من أخباره، وسببُ ذلك عند «جواد علي» بقاؤه إلى ما بعد البعثة، واتصاله بتاريخ النبوة والإسلام اتصالًا مباشرًا، وملاءمة شعره بوجه عام لروح الإسلام، برغم أنه حضر البعثة ولم يُسلِم، ولم يرضَ بالدخول في الإسلام؛ لأنه كان يأمل أن تكون له النبوة، ويكون مختارَ الأمة وموحِّدَها؛ ولذلك «برز كنموذج للاستقامة والإيمان والتطهر والزهد والتعبد»، وقد مات سنة تسع للهجرة بالطائف «كافرًا بالأوثان وبالإسلام»!٤٨ ويذكر الإخباريون المسلمون أنه لما سمع بخبر البعثة ذهب ليُسلِم، لكن بعض أهل مكة علموا بمسيره، فأرادوا ردَّه عن غايته، فالتقوه عند القليب حيث قبَرَ المسلمون ساداتِ قريش في بدر الكبرى، ولِعلمِ القرشيين بحكمة أمية — التي دعَتْه من قبلُ إلى تقدير السادات من حكماء مكة وأشرافها — فقد قالوا له: هل تدري ما في هذا القليب؟ قال: لا. فقالوا له: فيه شيبة وربيعة وفلان وفلان. فجدع أنف ناقته، وشقَّ ثوبه وبكى قائلًا: «لو كان نبيًّا ما قتل ذوي قرابته.» وعاد يرسل نُواحَه شِعْرًا يرثي قتلى بدر من أهل مكة، في قصيدته الحائية التي يقول في بعضها:
    أَلَّا بَكَيْت عَلى الكِرا
    مِ بَنِي الكِرامِ أُولِي الْمَمَادِحْ
    كَبُكا الحَمامِ عَلى فُرُو
    عِ الْأَيْكِ في الغُصْنِ الصَّوادِحْ
    إنْ قَدْ تَغيَّرَ بَطْنُ مَكَّـ
    ـةَ فَهْيَ مُوحِشَةُ الْأَبَاطِحْ
    مِن كُلِّ بِطْرِيقٍ لِبِطْـ
    ـرِيقٍ نَقِيِّ اللَّوْنِ وَاضِحْ
    وَمِنَ السرَاطِمةِ الجلَا
    جِمةِ المَلاوِثةِ المَنَاجِحْ
    الْقائِلِينَ الْفاعِلِيـ
    ـنَ الْآمِرِينَ بكُلِّ صالِحْ
    الْمُطْعِمِينَ الشَّحْمَ فَوْ
    قَ الخُبْزِ شَحْمًا كالْأنَافِحْ
    خَذَلَتْهُمُ فِئةٌ وَهُمْ
    يَحْمُونَ عَوْراتِ الفَضَائِحْ
    وَلَقَدْ عَنانِي صَوْتُهُمْ
    مِن بَيْنِ مُسْتَسْقٍ وصَابِحْ٤٩
    وقال الإمام أحمد: «حدَّثنا إبراهيم بن ميسرة أنه سمع عمرو بن الشريد يقول: قال الشريد: كنت رِدْفًا لرسول الله (أيْ راكبًا معه على بعير واحدة) فقال لي: أَمَعَك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء؟ قلت: نعم. قال: فأنشدني بيتًا. فلم يزل يقول لي كلما أنشدته بيتًا: إيه. حتى أنشدته مائة بيت.»٥٠ ومن هذا الشعر ما يصح الوقوف معه كنموذج — لا شك رائع — لمعتقدات واحد من رجالات الحنيفية (مع ملاحظة أن هذا الشعر قد يختلف الأمر في نسبته إليه أو إلى زميله في الحنيفية زيد بن عمرو بن نفيل، وما عدا ذلك فمتفق عليه)؛ فهو يقول في إيمانه:
    الحمدُ للهِ ممْسَانا ومصْبحَنا
    بالخيرِ صبَّحَنا ربِّي ومَسَّانا
    ربُّ الحَنِيفةِ لَمْ تَنْفَدْ خَزائِنُها
    مَمْلوءَة طبَّقَ الآفاقَ سُلْطانا

    وفي إيمانه — مثل عبد المطلب وزيد — بيومِ بعثٍ ونشور، يقول:

    ويوْمُ مَوْعدِهم أنْ يُحشَروا زُمرًا
    يوْمُ التَّغابُنِ إذْ لَا يَنْفعُ الحَذَرُ
    وأُبرِزُوا بصَعِيدٍ مُسْتَوٍ جُرُزٍ
    وأُنزِلَ العَرْشُ وَالْمِيزانُ والزُّبُرُ

    ويستطرد شارحًا مفصِّلًا عن هذا اليوم:

    عندَ ذِي العرْشِ يُعرَضونَ عَلَيْهِ
    يَعْلمُ الجَهْرَ وَالكَلامَ الخَفِيَّا
    يَوْم نَأْتيهِ وَهْوَ رَبٌّ رَحِيمٌ
    إنَّه كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيَّا
    رب كُلًّا حتمته وَارِد النا
    رِ كِتَابًا حتمته مَقْضِيَّا

    ويحذِّر من عذاب الآخرة فيقول:

    وَسِيقَ الْمُجْرِمونَ وهُمْ عُراةٌ
    إلى ذاتِ المَقامِعِ وَالنَّكالِ
    فنَادَوْا وَيْلَنا وَيْلًا طَوِيلًا
    وَعَجُّوا في سَلاسِلِها الطِّوالِ
    فَلَيْسُوا ميِّتِينَ فيَسْترِيحُوا
    وكُلُّهُمُ بحَرِّ النارِ صَالِي
    وحَلَّ المتَّقُونَ بدارِ صِدْقٍ
    وعيشٍ ناعِمٍ تحتَ الظِّلَالِ
    لَهُمْ ما يَشْتهونَ ومَا تَمَنَّوْا
    مِنَ الْأَفْراحِ فِيها والْكَمالِ

    وعن إبراهيم (عليه السلام) وابنه إسماعيل (عليه السلام) — اللذين يُرجِع إليهما الحنفاءُ عقيدتَهم — يحكي قصة الذبح والفداء، في حوار طويل ممتع، نجتزئ منه:

    أَبُنَيَّ إنِّي نَذَرْتُكَ لله
    شَحِيطًا فاصْبِرْ فدًا لَكَ خَالِي
    فأجابَ الغُلامُ أنْ قالَ فِيهِ
    كلَّ شيْءٍ للهِ غَيْر انْتِحالِ
    فَاقْضِ مَا قَدْ نَذَرْتَهُ للهِ واكْفُفْ
    عَنْ دَمِي أنْ يَمَسَّهُ سِرْبَالِي
    بَيْنَما يَخْلعُ السَّرَاوِيلَ عَنْه
    فَكَّهُ رَبُّهُ بِكَبْشٍ حَلَالِ

    وعن يونس يقول:

    وأنْتَ بفضْلٍ مِنكَ أَنْجبْتَ يُونُسَا
    وقَدْ بَاتَ فِي أَضْعافِ حُوتٍ لَيَالِيَا

    وعن عيسى وأمه يقول:

    وفي دِينِكُم مِن ربِّ مَرْيَمَ آيَةٌ
    مُنَبِّئةً بالعَبْدِ عِيسَى بنِ مَرْيم
    تَدَّلى عَلَيْها بعْدَما نامَ أَهْلُها
    رَسُولًا فلَمْ يَحْصُرْ وَلَمْ يَتَرَمْرَم
    فقَالَ: أَلَا لَا تَجْزَعِي وتُكَذِّبِي
    مَلائِكةً مِنْ ربِّ عادٍ وَجرْهمِ
    أَنِيبِي وأَعْطِي ما سُئِلتِ فإنَّنِي
    رَسُولٌ مِنَ الرَّحمنِ يَأْتيكِ بِابْنمِ
    فقالَتْ لَهُ: أَنَّى يَكُونُ وَلَمْ أَكُنْ
    بَغِيًّا وَلَا حُبْلَى وَلَا ذَاتَ قيِّمِ؟
    فسَبَّحَ ثُمَّ اغْتَرَّها فَالْتَقَتْ بِهِ
    غُلَامًا سَوِيَّ الخَلْقِ لَيْسَ بِتَوْءَمِ
    فقالَ لَهَا: إِنِّي مِنَ اللهِ آيَةٌ
    وعَلَّمَني واللهُ خَيرُ مُعَلِّمِ
    وأُرسِلْتُ لَمْ أُرْسَلْ غَوِيًّا وَلَمْ أَكُنْ
    شَقِيًّا وَلم أُبعَثْ بفُحْشٍ ومَأْثَمِ
    ويقول «جواد علي» ما نصه: «وفي أكثر ما نُسِب إلى هذا الشاعر من آراء ومعتقدات، ووصفٍ ليوم القيامة والجنة والنار؛ تشابُهٌ كبير وتطابُق في الرأي جملةً وتفصيلًا، لِمَا ورد عنها في القرآن الكريم، بل نجد في شعر أمية استخدامًا لألفاظٍ وتراكيبَ واردة في كتاب الله والحديث النبوي قبل المبعث، فلا يمكن — بالطبع — أن يكون أمية قد اقتبس من القرآن؛ لأنه لم يكن منزلًا يومئذ. وأما بعد السَّنَة التاسعة الهجرية، فلا يمكن أن يكون قد اقتبس منه أيضًا؛ لأنه لم يكن حيًّا؛ فلم يشهد بقية الوحي! ولن يكون هذا الفرض مقبولًا في هذه الحال … ثم إن أحدًا من الرواة لم يذكر أن أمية ينتحل معاني القرآن وينسبها لنفسه. ولو كان قد فعل لَمَا سكت المسلمون عن ذلك، ولَكان الرسول أولَ الفاضحين له.»٥١ وهذا — بالطبع — مع رفض فكرة أن يكون شعره منحولًا أو موضوعًا من قِبَل المسلمين المتأخرين؛ لأن في ذلك تكريمًا لأمية وارتفاعًا بشأنه، وهو ما لا يُقبَل مع رجل كان يهجو نبي الإسلام بشعره، ولا يبقى سوى أنه كان حنيفيًّا مجتهدًا استطاع أن يجمع من قصص عصره، وما كان عليه الحنفاء من رأي في شعره، خاصةً مع ما قاله بشأنه ابن كثير: «وقيل إنه كان مستقيمًا، وإنه كان أولَ أمره على الإيمان، ثم زاغ عنه.»٥٢ ولا ريب أن الاستقامة تفرز الاستقامة وتلتقيها، وربما كتب ما كتب إبَّان هذه الفترة التي يحددها لنا ابن كثير، ولا ريب أنها كانت قبل البعثة النبوية؛ لأنه بعده — ولا شك — زاغ عن إيمانه واستقامته؛ إذ رأى الملك والنبوة يخرجان من بين يديه؛ بعد أن أعدَّ نفسه لهما طويلًا.
١  ثريا منقوش: التوحيد يمان، ص١٥٩.
٢  د. جواد علي: المفصل، ج٥، ص٥٩.
٣  الألوسي: بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب، القاهرة، ١٩٢٤م، ج٢، ص٢٢٥.
٤  ابن الجوزي: تلبيس إبليس، تصحيح محمد منير الدمشقي، المطبعة المنيرية، ص٧٤.
٥  العقاد: إبراهيم أبو الأنبياء، دار الكتاب العربي، بيروت، ١٩٦٧م، ص١٤٤.
٦  الألوسي: بلوغ الأرب، ج٢، ص٢٤٤.
٧  الشهرستاني: الملل والنحل، المطبعة الأزهرية، القاهرة، ١٩٥١م، ج١، ص٩٦.
٨  عبد القادر البغدادي: خزانة الأدب، تحقيق عبد السلام هارون، دار الكتاب العربي، ١٩٦٧، ج٢، ص٢٦٤.
٩  الجاحظ: البيان والتبيين، تحقيق عبد السلام هارون، القاهرة، ١٩٤٨م، ج١، ص٣٠٩.
١٠  الألوسي: بلوغ الأرب، ج٢، ص٢١٩ و٢٥٩.
١١  ابن حبيب: المحبر، ص١٣٦.
١٢  الألوسي: بلوغ الأرب، ج٢، ص٢٦٠.
١٣  ابن هشام: السيرة، ج١، ص٥١٠.
١٤  ابن حجر العسقلاني: الإصابة في تمييز الصحابة، مطبعة السعادة، القاهرة، ١٣٢٣ﻫ، ج٣، ص٢٦٢.
١٥  ابن هشام: السيرة، ج١، ص٥١١ و٥١٢.
١٦  الألوسي: بلوغ الأرب، ج٢، ص٢٧٢.
١٧  الأب لويس شيخو: شعراء النصرانية في الجاهلية، مكتبة الآداب، الحلمية الجديدة القاهرة، ١٩٨٢م، ج٤، ص٦١٧، ٦١٨.
١٨  الألوسي: بلوغ الأرب، ج٢، ص٣٧٥.
١٩  ابن حبيب: المحبر، ٣٢٩.
٢٠  الألوسي: بلوغ الأرب، ج٢، ص٢٧٦. (القَسَم هنا بالنفي.)
٢١  نفسه: ص٢٧٧.
٢٢  الموضع نفسه.
٢٣  ابن حبيب: المحبر، ص٢٣٨.
٢٤  د. جمال العمري: الشعراء الحنفاء، ص١٦٤.
٢٥  ثعلب: شرح ديوان زهير، الدار القومية للطباعة والنشر، القاهرة، ١٩٦٤م، ص٣٥.
٢٦  نفسه: ص٢١٩.
٢٧  نفسه: ص٢٨٤.
٢٨  جواد علي: المفصل، ج٥، ص٢٩٠.
٢٩  الشهرستاني: الملل والنحل، تحقيق محمد سيد كيلاني، نشر مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، ١٩٦١م، ج١، ص٢٣١.
٣٠  د. أحمد إبراهيم الشريف: مكة والمدينة، ص٢٣٩–٢٤١ و٢٤٥.
٣١  ابن كثير: البداية والنهاية، ج٢، ص٢٢١، ٢٢٤.
٣٢  البيهقي: دلائل النبوة، ج٢، ص١٢٣ و١٢٤.
٣٣  الطبري: التاريخ، ج٢، ص٢٩٦.
٣٤  المسعودي: مروج الذهب، ج١، ص٧٠. وانظر أيضًا بوعلي ياسين: الثالوث المحرم، الطليعة، بيروت، ط٤، ١٩٨٠م، ص٧٠ و٨٥.
٣٥  ابن كثير: البداية والنهاية، ج٢، ص٢٢٥.
٣٦  د. جمال العمري: الشعراء الحنفاء، رسالة دكتوراه ناقَشَ فيها صاحبها مسألة الانتحال في أشعار الحنفاء، وأخذنا منه ما اتفق عليه مع لجنة المناقشة من شعر غير المنحول.
٣٧  ابن هشام: السيرة، ج١، ص٢٠٨.
٣٨  نفسه: ص٢٠٦.
٣٩  نفسه: ص٢٠٧، ٢٠٨. وانظر أيضًا: البيهقي: ج٢، ص١٢٥، ١٢٦. وقد ذكر ابن الكلبي في كتاب الأصنام ص١٢: «إن النبي ذكر العزى يومًا، فقال: لقد أهديتُ للعزى شاةً عفراء وأنا على دين قومي.»
٤٠  الشهرستاني: الملل والنحل، ج٢، ص٢٤٨. وانظر أيضًا: ابن هشام: السيرة، ج١، ص٢٠٨ و٢٠٩.
٤١  ابن سعد: الطبقات الكبير، طبعة لندن، ٩٣٢ﻫ، ج٣، ق١، ص٢٧٦.
٤٢  الأصفهاني: الأغاني، دار الكتب المصرية، القاهرة، د.ت، ج٣، ص١٢٣.
٤٣  ابن هشام: السيرة، ج١، ص٢٢٧.
٤٤  ابن كثير: البداية والنهاية، ج٢، ص٢٠٥.
٤٥  نفسه: ص٢٠٦.
٤٦  نفسه: ص٢٠٩.
٤٧  جواد علي: المفصل، ج٥، ص٢٨٠ و٢٨١. وانظر ابن هشام: السيرة، ج١، ص٢٠٨ و٢٠٩. وانظر أيضًا ابن كثير: البداية والنهاية، ج٢، ص٢٠٦–٢٠٨.
٤٨  نفسه: ٣٧٧ و٣٧٨ و٣٨٣.
٤٩  لويس شيخو: شعراء النصرانية، ج٢، ص٢٢٣.
٥٠  ابن كثير: البداية والنهاية، ج٢، ص٢١٢.
٥١  جواد علي: المفصل، ج٥، ص٣٨٤ و٣٨٥.
٥٢  ابن كثير: البداية والنهاية، ج٢، ص٢٠٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤