حجارة الضيعة

أبو نعوم فات التسعين بضع خطوات وظل يروح ويجيء. لم تهرهر١ التسعون جدران بنيته الشامخة. هيكل ضخم، أحكم بنيانه مناخ قريته الجبلية، فكأنما استعيرت مواده من صخور ضيعته السمراء. حاجبان ثقيلان، ورأس مدوَّر أسمر، نحاسي، خربش٢ الزمن حول أنفه الأفطس خطوطًا مزرقَّة كأنها الزنجار.٣
ما شانَ٤ ذلك الوجه الصلب في شيخوخة أبي نعوم المباركة إلا رمد ربيعي اجتمع أشده في السبعين، فصارت حدقتاه كعيني الوروار. وفي الثمانين ارتخى جفناه فانقلبا ظهرًا لبطن. أما عقله وجميع حواسه فما أخذت منها الأيام شيئًا، عقل ابن ثلاثين لولا أنه يحدث نفسه بصوت عالٍ.
يقعد على صُفَّة٥ قرب حائط الكنيسة يتشمس. إن شرَّقت الشمس شرَّق معها، وإن غرَّبت غرَّب، ومتى غابت يغيب في فراشه. وفي هذه الجلسات قلما يسكت، يهرف٦ مراجعًا ذكرياته، لم يتعلم ليكتبها ويُحصَى بين المؤلفين؛ لذلك كان يحدِّث بها نفسه إلقاءً وإيماءً كأنه يكرر دورًا تمثيليًّا ليجيد إخراجه على المسرح، وأن الليلة ليلة تمثيل الرواية.
تجري على لسانه أقوال حكيمة لو قالها في الأربعين والخمسين لأحصي مع الحكماء الكبار، ولكن الشيخوخة متَّهمة،٧ وإن قالت من الأقوال أثقبها. لو نطق في الأمس بما يقوله اليوم لأحصي مع أبي فلان وفلان وفلان، حكماء الضيعة السعيدي الذكر …
يقع رف٨ دوري على سنديانة الكنيسة فيتهلل أبو نعوم لِلَغط٩ تلك العصافير وثرثرتها. قد تزرق أحيانًا عليه فيمسح صديريته باسمًا، ولا يتقزز منها فكأنَّها من حفدته، وإذا غرَّد الحسون رجَّح رأسه لتلك الموسيقى التي ألفها، وإذا رأى السنونو تباشر ولوى كتفه كأنه يرمي عنها شباط الثقيل، وعلل نفسه بالعيش إلى العام المقبل، ثم يلجُّ في تحديث نفسه بنبرات عنيفة تارة، وخفوتٍ طورًا.
وفي يوم من أيام نيسان البسَّامة قعد أبو نعوم على حائط قبالة الكنيسة، لم يستطع استقبال الشمس بعينيه المتهدِّلتين١٠ فولَّاها ظهره، ثم أوغل في ذكرياته وعلا صوته بسردها: حجارة مخرشبة،١١ ولكني أراها مثل البدور، كل ثقب من ثقوبها بوز١٢ يحكي وعين تنظر. ما أجمل حديثها وأحلاه! كأنها تقول لي: «أبو نعوم، أهلًا وسهلًا، مرحبًا يا عشير الصبا، مرحبًا يا ابني الصغير، أنا ربَّيت جد جد جدك، تحت جناحي تخبَّا في الضيقات والشدائد، وفي حضني كان يحدِّث ربه بكل هدوء وخشوع، وتحت أرجل منبر اعترافي طرح خطاياه فخرج من بركة التوبة أبيض مثل الثلج. ضمن هذه الحيطان تبارك إكليل جدك الأعلى منذ أجيال، وأنت واحدة من ثمرات بركتي، وها هم ناموا حولي جميعًا، وها أنا أرعى قبورهم كحارس لا ينام، وناطور لا يغفل.

قم يا ابني، قم قبِّل خدَّ بابي الأملس، قبله لتحس شفتاك طعم شفاه أجدادك الأقدمين، إن شفاههم الصلبة قد نعَّمت هذا الخد فصار مثل الحرير».

وتحلحل أبو نعوم رويدًا رويدًا، ثم نهض ومشى مشية المقيَّد، وقال بصوت عالٍ: أمرك يا عيوني!

وتقدم من خدِّ الباب فقبَّله وقال: هه! هذي بوسة ثانية، وهذي ثالثة. والتفت بجدار الكنيسة كأنه يسأله: أبوس بعد؟ … ثم ترامى على خد الباب وقبَّله قبلات لا تحصى، وقفل راجعًا. رأى جرنًا في ساحة الكنيسة فوقف عليه وقال: هذا جرن الشباب، هذا أيضًا يقول لي: تذكر، يا بو نعوم، يوم كنت شيخ الشباب، يوم كنت تلعب بهذا الجرن١٣ لعبًا، كنت تقيمه فوق رأسك خمس مرات حتى إذا انتهيت رفعوك على الأيدي.

واقترب من الجرن، وبعد ألف جهد استطاع تحريكه، فهزَّ رأسه وقال: هاتيك أيام وهذي قبالها.

وما استقر حيث كان حتى رأى دودة سارحة على طرف عباءته، فقال لها: هه! من قبر من طلعت؟ ومن جثة من تغذيت؟ على مهلك، لا تخافي، على كل حال أنت منا وفينا، أنت بنت ضيعتنا.

وفي الغد دقَّ قداس الأحد فكان أبو نعوم أول الملبين، قعد يتشمس في مكانه منتظرًا ابتداء القداس، جلس وحده، ولكن واحدًا تعود أن يدوِّن أخباره في دفتر لتظل تاريخًا للضيعة، قعد حده فطفق يروي له ما شاهد وما سمع من أخبار أمراء لبنان من فخر الدين وآل سيفا إلى المير يوسف والمير بشير الجالس سعيدًا على كرسي إمارة الجبل.

وأقبل شاب غريب في يده طبر،١٤ وتحت زنَّاره من وراء خنجر جزيني، ملثَّم بكوفية شامية مفتلة الهداب.١٥ شاب معتدٌّ بنفسه يعرف شابًّا وأكثر من الضيعة، فسلموا عليه واحتفوا به.

سأل أبو نعوم الشاب القاعد حده: من أين هذا الشب؟ فأجابه الفتى: غريب.

فقال: أهلًا وسهلًا، من رأس شفتيه.

وابتدأ القداس فدخلوا الكنيسة جميعًا، وكان آخرهم أبو نعوم، فقبع في مكانه المحفوظ حد العِضادة١٦ بجنب الباب. رأى، وهو داخل، الطبر معلقًا بمفتاح الباب فهز رأسه وعبَّس.

وانتهى القداس فكان أبو نعوم أول الخارجين، وأخذ الطبر وقعد على الصُّفَّة، فأقبل الشاب مسلِّمًا على الشيخ، وقال له: أعجبك الطبر يا جدي؟

فأمسكه أبو نعوم بيده المرتجفة وقال له: عندنا مثله كثير يا ابني، تعلَّم في المستقبل ألَّا تعلق طبرك بمفتاح باب الكنيسة، هذا خرق لحرمة الضيعة، أخذتُه فكَّة مُشكِل، وإلا كان وقع الشر. يا أولاد، هذا من جيراننا وضيفنا، قوموا بواجبه. هذا طبرك يا شب، ثاني مرة خذ حذرك.

وذهب الناس إلى بيوتهم، وراح الشاب مع أصحابه.

وأحبَّ أبو نعوم أن يتمشى في ذلك اليوم المشمس، كان يجد لذة في النظر إلى حجارة الضيعة ويطلق عليها لقب الأصحاب. كان ينفر من الحيطان المرمَّمة، ويأسف لأنها تغيرت عن عهده.

وبلغ في نزهته برج الضيعة القديم، فرأى أن حجارة منه قد أُخِذت فثار وهاج. خبَّروه أن بطرس — وجيه الضيعة — احتاج إليها ليكمل مدماكًا في بيته الجديد، فأخذ يرغي ويزبد كأنما قتل أحد أولاده: لا كبير ولا صغير، هذه حجارة عاشرت جدودنا وأفضلت عليهم وحمتهم، لولاها ما بقَّى منها المماليك من يخبر، فبدلًا من أن نبني البرج نهدمه؟ يا خيبتنا تجاه الأجداد!

ومضى يعدد مآثر تلك الحجارة التي اقتُلعت من مكانها كأنه يرثي ولدًا له مات في عز شبابه: حجارة دهرية تخبر عن تاريخ جدودنا وأعمالهم، هي وحدها تربطنا بضيعتنا وبلادنا، أنطمع بها وننقلها من وطنها؟ أؤكد لكم أنها توجَّعت، والله العظيم إنها حزنت لما فارقت أخواتها بعدما عاشت معهم مئات السنين. قولوا للشيخ يردها مثلما كانت، وإلا فإنها تنتقم منه ومن الضيعة.

وقعد على حائط البرج يبكي، ثم تناسى المصيبة فطفق يحدِّث نفسه بصوت عالٍ: «هذا البرج حمى الضيعة مرَّات، هذا أخو الكنيسة في الساعات السود، كيف يأخذ منه واحد حجرًا، وفي الضيعة حجارة مرمية على الطرقات، والمقلع على رمية حجر من بيته؟ أيُّ معنًى يبقى للضيعة إذا راح البرج؟ في كل حجر من حجاره وجه جد من جدودي. آه، كلما تغير حيط من حيطان الضيعة أحسُّ كأني فارقت واحدًا من عشرائي!»

«يا مرين، يا مرين، هاتي لي أتغدا يا جدي.»

ولما تيقن أنها سمعت قال لنفسه: أريد أن آكل بين أصحابي وأحبائي.

ثم أخذ يُمِرُّ يده بحنو على وجه حجر أمثل في البرج كأنه يداعب جدًّا محبوبًا، وألقى نظرة على الجبال القائمة حوله، فخال أنه أحاط نظرًا بالمسكونة كلها، فقال: ما أجملك يا بلادنا وما أحلاك!

وسأل نفسه كعادته: قولتكم هاتيك الدني حلوة مثل هذي الدني. من يدريك؟ سلمها ربانية يا بو نعوم.

وفيما هو في هذه النجوى، جاء بضعة كهول ليقفوا على رأيه، الطاعون تفشَّى في البلاد وظهر في القرى المجاورة فماذا يعملون؟

فصلَّب أبو نعوم يده على وجهه وقال: الله يرد البلية عن الضيعة، زنِّروا الكنيسة.

فاستغربوا كلمته، فأفهمهم كيف، فطافوا على بيوت الضيعة واحدًا واحدًا، وعاد أبو نعوم بعدما تغدى إلى مجلسه على الصُّفَّة عند الكنيسة.

وجاءوا بالحوائج التي يعملون منها زنَّارًا: من هنا ملاءة، ومن هناك كوفية، ومن عند هذا ملحفة، وجمعوا كثيرًا من الحرير غير المفصل والمخيط من حياكة نساء الضيعة وبناتها.

وحل أبو نعوم كمره عن وسطه ودفعه إليهم، فقالوا له: تعطينا زنَّارك؟! اتركه، أخذنا من بيتك.

فصاح بهم: خذوا بدني أيضًا، بدني من ضيعتي ولها.

وبعد تزنير الكنيسة أمر أبو نعوم أن يحرسوا مدخل القرية، ويمنعوا الغرباء من دخولها.

ولما أمنوا شر الطاعون فكوا الزنَّار، فكان على من يريد استرجاع حاجته أن يدفع فكاكًا، وإذا تُرِكت تُباع بالمزاد وثمنها للكنيسة.

وردوا على الشيخ كمره، فقال لهم: فكاكه فيه، نذرته دفع بلاء عن الضيعة.

كان في كمره خمس ذهبات ادخرها ليومه الأسود، ولكن الضيعة وفته حقه حين مات، فجهزوه من مال الوقف، ودفنوه في الكنيسة تقديرًا لإخلاصه.

١  هرهر: نثر.
٢  خربش: خربش الكتاب أو العمل: أفسده، وخرابيش الخط ما فسد منه. وهنا وضع خطوط ملتوية.
٣  الزنجار: صدأ النحاس.
٤  شان: عاب.
٥  صفة المسجد: مقعد حجري بالقرب منه مظلل.
٦  هرف: أطرأ في المدح إعجابًا.
٧  الشيخوخة متهمة: بفساد العقل.
٨  الرف: الجماعة من الطير أو الماشية.
٩  لغط: أصوات مبهمة لا تفهم.
١٠  متهدل: مُسترخٍ، وما تهدل من الأغصان تراخى.
١١  مخرشبة: كثيرة الثقوب.
١٢  بوز: فم.
١٣  جرن: حجر مقعَّر للماء وغيره.
١٤  الطبر: الفأس من السلاح.
١٥  الهداب: القسم المتدلي من الشيء.
١٦  العضادة: عامود من الحجر يقوم عليه البناء الحجري المعقود.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤