حزبية بلهاء

ملَّ العقَّال حياة القرية الصاخبة بعد ما تعودوه من العيش الهنيء الهادئ، رجعوا إلى أنفسهم فأدركوا أن في تقسمهم أحزابًا سلب راحة وضياع مال، عرفوا أنهم آلات مسخرة يديرها فلان وفلان طمعًا بوجاهة محلية رخيصة، فحاولوا إصلاح الحال، ولكنهم لم يقدروا على توجيه بنيهم؛ لأن كلًّا منهم يتعصب لرجل تعصبًا أعمى. إذا اجتمعوا في عرس تشاجروا، وإن ضمهم مأتم حوَّلوه ساحة عراك، وإذا جاء عيد — وما أكثر أعيادهم — تسيل دماؤهم على حبل الجرس، وتنوب العصي والشتائم عن تسابيح العيد وتهاليله، وهكذا أصبحت تلك المواسم مآتم للأمهات.

ورثى وجوه١ القرى المجاورة لمنقلب جارتهم المضحك المبكي، فتوافدوا إليها لإصلاح ما أفسدته الحزبية البلهاء، ورتق ما فتقه الشيطان، ولكنهم خابوا؛ فكل زعيم من هؤلاء الزعانف يدَّعي البراءة ويتنصل من التبعة ملقيًا المسئولية على كتفي خصمه، وإذا دعاهم المصلحون إلى اجتماع طمعًا باستحيائهم إذا وقعت العين على العين، لاذوا بمحاذير كاذبة، ومضوا في غوايتهم يشدد بعضهم بعضًا، أو يقهرون خصومهم ويمحقونهم.

وهكذا صارت القرية الآمنة وكر شغب وعش نكايات: كبس بيوت واستغاثات، نبابيت ودبابيس تنطق بتمجيد رءوس فارغة، فلم يُرَ بعد هذا من يتجول وحيدًا، يسيرون في الأزقة والدروب ثني وجماعات، معتمدين على خناجرهم وسكاكينهم. وقد تطلق مفرقعة فيعلو صراخ من يحب الاتهام زورًا وبهتانًا، وترفع الشكوى حتى أزعجت برقياتهم مركز المتصرفية.

وبلغت أخبار القرية مسامع السيد المغبوط٢ فوجه إليها أحد أعضاء ديوانه، فعاد كما جاء. زعم لصاحب الغبطة أن القلوب قاسية متحجرة لا يسمعون كلام الله، فالسعي عبث، والتعب ضائع مع أناس همج٣ أو كالهمج؛ فرأى غبطته أن يرميهم بالمرسل البطريركي الخوري يوسف اللاذقاني لعله يلقي في تلك القلوب الصخرية بذور المحبة، وأمره أن يعمل لهم «رياضة» روحية، لا تنقضي حتى يتوبوا ويعودوا إلى الله، فقد تعوَّد هذا الأب الحسن السيرة أن يتغلب على الشيطان الرجيم ويطرده من كل قرية عشش فيها.
الخوري يوسف طويل جدًّا، كأنه القناة المثقفة، أصفر كالزعفران، لحيته كالتي رآها ابن الرومي في وجه حبيب قلبه البحتري، أنفه معقوف كمنقاد النسر، أهوج،٤ ناري الطبع يهبُّ كالبنزين إذا امتدَّ إليه أقل قبس،٥ يحب حتى الهوس حلَّ المشاكل، وكلما تعقدت ازداد فيها رغبة. وثق الناس بفضائله المسيحية حتى غالوا فيها، فنسبوا إليه المعجزات وخصوصًا بعد غيابه سنوات في المهجر.

وبلغ الضيعة خبر مقدمه، فاهتزت قلوب العجائز لهذه البشرى، وحمدن الله الذي سيكحل عيونهن برؤية اللاذقاني قبل الوفاة، والتماس بركاته ودعاه.

أما البنيَّات فطرن فرحًا بتشريفه، وهو من عرف لدى الخاص والعام بالحملة على الشبان الذين يؤجلون الزواج، فإذا دخل قرية واعظًا يعنيه قبل كل شيء أن يعرف «اللفايات»؛ أي تردد الشباب على هذه وتلك، فيستأصلها إما بزواج مقدس يباركه هو قبل تحوله عن القرية، أو بقطع كل علاقة بين هذي وهذا، ففي شرعه أن كثرة الترداد تفسد النيات السليمة وتفرط ما نوى الشباب على عقده.

وإذا درى بعلاقة جنسية غير نقية شهَّرها٦ من على المذبح، وإذا نصح المتحابَّين وما ارتدعا لجأ إلى «الحرم». وصاحب الغبطة لا يرد لمرسله طلبًا، وبالجملة هو عدو العشاق الأكبر، جبَّار في الكنيسة، لا يحابي ولا يصانع، شعاره في أعماله الرسولية الآية القائلة: «هو ذا الفأس ملقاة على أصول الأشجار، فكل شجرة لا تثمر ثمارًا صالحة تقطع وتلقى في النار.»

ألقى مقدمه الرعب في قلوب الرعية وخصوصًا الزعماء، خافوا على عنادهم من الاندحار فأتمروا على الثبات في وجهه.

قال أحدهم وهو كبيرهم: اعقلوا يا جماعة، أنتم لا تعرفون اللاذقاني، هذا خوري لا يلعب، توقَّوه،٧ قلت لكم، فبكلمة واحدة منه يخرب بيوتكم إلى أبد الآبدين، البطرك يسمع له ويصدقه، والحكومة تلبي البطرك، وقد فهمت أنه جاءنا واعظًا، ويصير قاضيًا إذا خالفناه، ويرمينا بحجره، توقَّوه يا جماعة.

فتناظر الشبان ثم قالوا: يفرجها الله، أهلًا وسهلًا باللاذقاني.

وسألوا أم طنوس، جدة الوجيه الذي ينتصرون له، عن اللاذقاني؛ لأنه نزل في بيتهم يوم كان زوجها وكيل وقف الضيعة، فأخذت تخبر أخبارًا عن عجائبه أشبه بحكايات ألف ليلة وليلة، منها أنها امتحنته ليلة، فوضعت له شمعة حدَّ مخدته ولم تترك له علبة كبريت، وهذا الخوري يستحيل أن يكلم امرأة ليلًا، فتحسس فلم يجد علبة النار، فنفخ نفخة غضبان لحرمانه صلاة الليل، فاشتعلت الشمعة وركع يصلي فرضه.

وروت عجوز أخرى أنه كان يخبز «البرشان»٨ للقداس، ففرت دجاجة بعثرت ما أعدَّه الخوري قربانًا وحطمته، فزجرها داعيًا عليها: ليتك في بوز٩ «الواوي»! ففرت الدجاجة فتلقاها ابن آوى غنيمة باردة ببركة اللاذقاني ودعاه الصالح …
وظلت الضيعة هائجة مائجة منتظرة المرسل، والمرسل لا يأتي، إلى أن ظهر يومًا بغتة. دخل الكنيسة صباح الأحد، والناس في القدَّاس، فعرفه من الخبر من لم يعرف وجهه، وساد الهيكل سكون عميق. مشى في صحن الهيكل بوقار، فخلت سروة تمشي، واستقر على «الخورس»١٠ خاشعًا مصليًا، وقبل نهاية القداس مشى إلى المذبح وقرأ على الناس مرسوم صاحب الغبطة، ودعاهم جميعًا إلى حضور الوعظ: مرتين للرجال والنساء معًا، صباحًا ومساءً، ومرة للنساء وحدهن عند العصر، وتسهيلًا لأشغال الضيعة، وعد بانتهاء وعظة الصباح مع شروق الشمس، والابتداء بعظة المساء بعد الغروب، فالحضور واجب ولا سيما أن القرية خلت من المحبة المسيحية، فلا بد من إعادة السلام إليها طوعًا أو جبرًا.

فهزَّ المعتدُّون بأنفسهم رءوسهم، وقال فتى جاهل: نبض المحترم قوي. فأسكته القاعدون حده.

ومشى الوعظ بحسب البرنامج الذي تعوَّد وعَّاظ الرياضات١١ اتباعه: محبة القريب، السعادة الأبدية، جهنم، الدينونة، عواقب الإنسان الأربع. فكانت ترتج الكنيسة وترتعد الفرائص١٢ عندما كان اللاذقاني ينتفض على المذبح صارخًا: تذكر عواقبك يا إنسان.

كان اللاذقاني يؤخر المواعظ الراعبة إلى آخر الرياضة، ويقلل الأنوار في الهيكل عند إلقائها، فيمتلئ الشعب رهبة إذ يرى على المذبح شبحًا رهيبًا كأنه مارد ألف ليلة وليلة.

ورأى أن مواعظه لم تؤتِ الثمر المطلوب فأخذه العجب، ورماهم بأرهب عظاته. العظات معدَّة، وهو يعرفها واحدة واحدة، فيختار منها ما يطابق مقتضى الحال. كان إذا ألقى أصغر قنابله ترتفع الآهات وتعلو الزفرات ويتصاعد النحيب من زوايا الكنيسة، فما بال الضيعة قاسية قلوبها؟ إذن فليلقِ قذيفة من العيار الثقيل.

والتفت فرأى دموعًا تترقرق على وجنتي المعَّاز الهرم مخايل ساسين، ونظره عالق دائمًا بوجه الخوري لا يتحول عنه أبدًا. أفرح المشهد قلب اللاذقاني، وظن أن كلامه وحركاته أثرت بالمعاز فراح يبالغ فيها.

والتفت مثنى وثلاث ورباع فرأى الدموع تطَّرد فوق خد المعاز فحدثته نفسه باستغلالها، فحوَّل وجهه صوب الموعوظين وصاح: قال السيد في إنجيله الطاهر حين وعظ على الجبل: طوبى للنقية قلوبهم فإنهم يعاينون الله. عجيب غريب، لا يؤثر كلامي إلا في المعاز، أما الوجوه والأعيان فقلوبهم متصلبة. نعم، نعم، إن حناجرهم قبور مفتحة، وسم الأفاعي تحت شفاههم، كما قال النبي داود.

وسكت هنيهة، ثم تنحنح وقال: إن دموع العم ميخائيل ترد غضب الله عنكم أيها الأشرار، فدمعة توبة صادقة تخمد نار جهنم، ولكن يا ميخائيل، بالله قل لي ما يبكيك؟ أنا متأكد أنك نقي القلب وستعاين الله.

فتنهد مخايل وأجاب بعدما ألحَّ عليه الخوري مرات: يا حبيب قلبي أنت، يا معلمي خوري يوسف! عندما تلوح بيدك وتشترب (تشرئب) أتذكر فحلنا١٣ «برُّوش» الذي أكله الذئب عام أول.
١  وجوه: أعيان زعماء القوم.
٢  السيد المغبوط: البطريرك.
٣  الهمج: الرعاع من الناس، الحمقى.
٤  أهوج: سريع الغضب والانفعال.
٥  قبس: شعلة من النار.
٦  شهّر: فضح.
٧  توقوه: داروه.
٨  البرشان: خبز يكرس للقداس.
٩  بوز: فم.
١٠  الخورس: مقام خدمة الدين من البيعة.
١١  الرياضات: الوعظ الديني.
١٢  الفريصة: اللحمة بين الجنب والكتف ترتعد عند الفزع، أي فزع فزعًا شديدًا.
١٣  الفحل: ذكر المعزى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤