لا! يا بونا

السنبلة تعطيك صورة ست الإخوة، فهي مثلها استواء قامة وانحناء رأس، تزدحم في وجهها المعاني الطريفة: فالعينان كالماويتين١ تجول فيهما عذوبة مرحة، وتستقر في أعماقها أحلام قصية، والأنف كأنه أصبع الإرادة العنيفة يملي ولا محيص،٢ ولولا ما في فمها وعينيها من وداعة، لكانت أصدق تمثال للعناد، في خديها نونتان٣ تتحدثان عن أنوثتها المثالية كلما ابتسمت، ذات منطق فعَّال، يوقظ ما في صوتها من غُنَّة٤ كوامن النفس، وإذا صمتت انبرى جمالها يصدق قول الحكماء: السكوت من ذهب.

سمَّوها ست الإخوة لأنها أخت سبعة، كان لها عمة تدللها وترعاها بمقامهم جميعًا، وكلما خطرت أمامها رافقتها بنظرة كلها محبة وقالت: سبحان الخالق، كأنَّها أنا!

وبلغت ست الإخوة أجلها فتهافت الشباب عليها، وقعد لهم ذوو قرابتها بالمرصاد، فقد جرت العادة على أن يكون أمر البنت شورى بينهم … تألب عليها بنو عمها، وإخوتها، وأعمامها، وأخوالها، وأمها العنيدة، حتى والدها المفلوج؛ ليزوجوها شابًّا دميمًا،٥ ولكنَّه منسوب العم والخال، كثير المال … كان لكلٍّ منهم مأرب إلا أمها التي ذاقت طعم القلة فتمنت البحبوحة لبنتها، بعدما علَّمها الدهر أن الحب ماضٍ والثروة باقية.

وبعد طوفان من النصائح الثمينة، قالت الأم لبنتها تسهيلًا لأمر هذا الزواج، وفكًّا لهذه المشكلة: عوِّدي نفسك عليه.

فضحكت ست الإخوة وقالت: أهو أكلة يا أمي؟

فأجابتها: أي نعم، كل شيء عادة.

وجرَّبت ذلك ست الإخوة فوجدت مرشح أهلها قريبًا أكره منه بعيدًا.

أما عمتها التي تحبها فكانت تنفض طوقها كلما استشارتها وتجيبها: أنت حرة، من يغصبك عليه؟!

ولما أطبقت الكماشة فكيها على ست الإخوة كانت تقف عمتها ست البيت حيالها، وتهم بالكلام ثم تنثني، وكثيرًا ما كانت تدنو منها فتضع يدها على كتفها، وترفع حاجبيها وتكاد تنطق، ثم تعدل ولا تقول شيئًا. وإذا كانت ست الإخوة قاعدة وضعت عمتها يديها على خصرها وانحنت نحوها، ثم تستوي ولا تقول شيئًا.

فقالت لها ست الإخوة يومًا: احكي يا عمتي، لا تبلعي كلامك. ولكن العمة انقلبت وهي تقول: ماش،٦ ماش.

فقالت البنت لنفسها: حيَّرتني عمتي يا بشر!

وتذكرت يومًا كلمة كان يرددها أبوها كلما اغتاظ من عمتها: قصتها لا تنتهي إلا في القبر. فراحت تبحث عن تلك القصة.

إن المعضلات٧ كالأنشوطة،٨ فبينا تراها معقدة إذا بها تنحل بغتةً. فقالت ست الإخوة: عمتي! عملتِ أحسن عمل واسترحتِ من هموم الدني.

فتجهَّم وجه العمة وقالت: هذي إرادة الله فيَّهْ، تعب ساعة ولا كل ساعة، الله ساعد.

فاستنجدت ست الإخوة بما عندها من دلال وغنج وقالت لعمتها: الله، الله قال لك: ابقي عزبة يا عمتي!

فضحكت ست البيت وقالت: ليتك تقبريني ما أحلاك! ذكرتِني أيام عزي. لا يا حبيبتي، الله ما قال لي لا تتزوجي، ولكن الناس. كل البلاء من الناس.

– لا تضحكي عليَّ … كيف؟ بحياتك فهِّميني، الفخ منصوب قدَّامي.

فسكتت العمة وحدقت إلى بنت أخيها، فكادت أسرارها تنهض من أثلام وجهها، وفتحت فمها لتقول شيئًا، ولكنها أطبقته، فغمرتها البنت بالقُبل، فأبعدتها عنها بلطف، وقالت لها وعيناها تتغرغران بالدموع: قومي، روحي نزور القربان٩ ونرجع.
وهناك في ظل الكنيسة العتيقة التي كانت هيكلًا لأدونيس منذ ألفي سنة، وقفت ست البيت واتسعت حدقتاها فبدت كنبيٍّ يوحى إليه، فضربت كفها على خد باب الهيكل وقالت بلهجة جندي يتحدث عن معركة ربحها هو: «لو كان لهذا الحيط لسان حكي وشهد! قصتي قصة عظيمة يا بنتي، كل من عرفوها صاروا في ديار البلى،١٠ ما بقي منهم إلا واحد لا غير، هو أبوك. قصتي مثل قصتك تمامًا يا حبيبتي.
سمعتِ قول المثل: «عروس في الإكليل لا تعرف لمن تصير»؟ أنا صدقته بالفعل. اسمعي الخبر: كنت أحبه من كل قلبي، صدقيني إذا قلت لك: حبه معشش في عظامي. شب مثل السبع، طلعة أسد، ولفتة نمر، ما خلَّوني آخذه، قطعوا «التحليلة»١١ ليزوجوني غيره، وعينوا الوقت يوم الخميس في جمعة المرفع.١٢ تواجهنا قبل الإكليل بيوم، فضربت صدري وقلت له: أنا لك.

فتعجب المسكين وقال: والتحليلة؟!

فقلت: لها حلة.

وقعدنا نتفق على خطة … فجنَّ المسكين، وسقط على يدي، فقلت له: اقعد بعيدًا، ما لك حق. وحق القربان الطاهر، ما سمحت له ببوس ذيل فسطان عمتك.»

فقالت ست الإخوة: بحياتك يا عمتي، سمِّي لي إياه.

فضحكت وقالت: اسمه مثل اسم صاحبك: مخايل.

فشهقت ست الإخوة وضربت كفيها على ركبتيها، فقالت العمة: اسمعي، اتفقنا على خطة ما عملتها مرأة قبل عمتك الحقيرة بعيونكم.

– لا يا عمتي، حاشا قدرك.١٣

– بلى يا عيون عمتك، كل ابن عصر يستصغر من كان قبله.

وسكتت ست البيت هينهة حسبتها بنت أخيها ساعة، وتعلقت عيناها بوجه عمتها فتصورتها بنت ثلاثين، انبثق في وجهها نور جديد كان أشد وضوحًا في عينيها، لم تشأ البنت أن تقطع صمت عمتها.

كانت ست البيت مكركمة١٤ في ثيابها ككل عجوز في شباط، ولكن ست الإخوة خالَتْهَا غصنَ بانٍ، ولما لم تستطع صبرًا قالت لها: وماذا صار يا عمتي؟
فهمهمت١٥ العجوز، ثم تنهَّدت وقالت: برَّزوا١٦ عمتك برزة ما لها مثيل، وعمتك كانت ست زمانها، وطلعنا من البيت بين حداء١٧ الشباب، وزغاريد١٨ النساء، ووقفنا في صحن الكنيسة، جماهير، كانت الكنيسة محشوة مثل الرمانة، وبدأ الخوري يكلل، وتعجب الناس من وجود مخايل فشكروه.
وقرأ الشماس «الرسائل»:١٩ يا أيتها النساء، اخضعن لأزواجكن كما لربنا؛ لأن الرجل رأس المرأة؛ فاصفر وجه مخايل، فغمزته فاشتد حيله.٢٠

وتابع الشماس: لأن الرجل رأس المرأة، كما أن المسيح رأس الكنيسة، وكما أن الكنيسة تخضع للمسيح، هكذا فلتخضع النساء لأزواجهن في كل شيء.

وبعد «البولص»٢١ قرأ الخوري الإنجيل: «ذكرًا وأنثى خلقهما، لأجل ذلك يترك الرجل أباه وأمه ويلزم امرأته، ويكونان كلاهما جسدًا واحدًا، فما جمعه الله لا يفرِّقه الإنسان.»

وأخذ الخوري يوجه إليَّ النصائح، فقال كما سمعت عدة مرات في الإكليل: وأنت أيتها العروس المباركة قد سمعت ما قلته لزوجك.

فصار مخايل يخضرُّ ويصفرُّ ويزرقُّ مثل جمل اليهود،٢٢ فغمزته فتنشط. وأتم الخوري: فالوصية لكما معًا، فعليكِ أن تكوني خاضعة لزوجك كما للرب، ومطيعة له في كل شيء ما عدا الخطية. قدِّمي له كل كرامة ومحبة، واخدميه في جميع لوازمه. كوني وديعة، فاضلة، عفيفة، حسنة الأخلاق كالنساء التقيَّات، فالمرأة العاقلة خير من الجوهرة الثمينة.
فضحكت البنت حين سمعت عمتها تروي كل ما جاء في رتبة٢٣ تكليل العرسان عن ظهر قلب، وقالت لعمتها: حفظتِ كل هذا! الخوري العتيق بالكد يعرفه.

فأعجب العمة هذا الثناء وقالت لبنت أخيها: عمتك بنت أخوية، كانت ريسة، لا أحد غيرها من بنات الضيعة كان يقرأ ويكتب، صوت حلو، وتلحين ملائكي يُسكِت الخوري والشمامسة.

ثم استأنفت الحديث بقولها: لا تضيعيني، خليني أكمل لك قصتي: وجدَّ الجد فقال الخوري للعريس: أيها الابن الحبيب لاوندس، أتريد أمة٢٤ الله، ست البيت هذه، الواقفة هنا، زوجةً لك؟ فكان لاوندس أرشق من النسيم وجاوب: نعم، نعم، يا معلمي.

والتفت إليَّ الخوري وقال: وأنت أيتها الابنة المؤمنة، ست البيت، أتريدين عبد الله لاوندس هذا، الواقف هنا، زوجًا لك؟ فما جاوبت.

قال البعض: مستحية، مستحية.

وقال غيرهم: قالت نعم، كلِّل يا محترم.

فقال الخوري: ما سمعت، وأعاد السؤال.

فأجبته: لا، يا بونا.

فطلع صوت من خلفي يقول: البنت صندوق مقفول،٢٥ هذي ما صارت.

وماجت الخليقة، وكل من معه كلمة قالها. هذا يقول لي: عيب. وهذا يقول: لا تخيبينا يا ست البيت. وأنا مصرة لا أقبل.

فقال الخوري: وأخيرًا يا بنتي؟

فجاوبته: الأخير مثل الأول.

وهمَّ الخوري بقلع البطرشيل،٢٦ فقال عمي: امهل يا بونا،٢٧ أنا أقنعها.

فطار صوابي إذ ذاك وقلت للخوري: اشهد يا محترم، أخذت مخايل بطرس زوجًا لي.

وصرخ مخايل من بين الناس: اشهد يا بونا، أخذت ست البيت زوجةً لي.

وحمي الشر يا بنتي، وجرى الدم …

انقسمت العرب عربين،٢٨ ما بقي على المذبح شموع وشماعدين، كسروا العكاكيز، ضرب بالكتب، بالمباخر، بحُقِّ البخور،٢٩ ما سلم إلا «الكاس».

مسكين هذاك الخوري، كان روح قدس! فشل، ورقصت لحيته على الحبل.

– وأنت ايش عملتِ؟

– أنا ايش عملت؟ كنت حاطة روحي على كفي.

– والزواج؟

– ثبت يا بنتي، ولكنهم «حرمونا»٣٠ مدة، فخرَّقت في البيت.

– وأخيرًا؟

– وأخيرًا، الكنيسة حليمة، حلَّوا الحرم، وسبقني مخايل إلى أميركا كما اتفقنا، وهناك مرض المسكين بالحمى ومات، ورجعت عمتك من مرسيليا.

سمعتِ قصة عمتك يا بنتي؟ هذي هي.

فقالت ست الإخوة: إذن «اشهد يا بونا» تُغنِي عن صلاة الإكليل.٣١

– معلوم، معلوم، كأن «الصلاة الفرنجية» معمولة لحفظ حرية البنت الضعيفة.

– وإذا كان العمل جائزًا وصحيحًا، فلماذا حرموكم؟

– الزواج صحيح ولكنه غير جائز، وقلَّما يحدث، ويعدُّ تمردًا على ما رسمته أمُّنا الكنيسة المقدسة؛ ولهذا ما استصوب الناس عملي، ولكن أنا رأيته أحسن من تركيب القرون … مسألة الحب طبيعة لا تتطلب فلسفة، والضعيفة فيها بطل، فكيف إذا كانت جبَّارة مثل عمتك؟

المسيح أقام العازار من الموت لأنه كان يحبه، فكيف أقبر قلبي إلى الأبد؟ لي فرد قلب.

سمعتِ قول المثل: «ظلمك خوريك» لا تصدقي، لا الدين ولا الخوري ولا الشرائع تظلم، الحق كله على الأهل، وعلى البنت الجبانة.

قولي لا، واستريحي طول العمر. الناموس ضروري، وإلا صارت الناس مثل البهائم، ولكن الناموس لا يجبر الناس. ايش معنى قولهم: بسمت الله ورسوله؟ أي: بناموس الله. وإذا تعدى الناس على الناموس فالحق عليهم.

صدقيني إذا قلت لك: لا تمر جمعة حتى أبصره في نومي، وهذي أكبر تعزية.

فتبسمت ست الإخوة، فقالت لها عمتها: اضحكي، صدقيني إذا قلت لك: كلما قلت فعل الاعتراف ووصلت إلى قولي «مار مخايل وجبرايل»، يقشعر شعر بدني، وأهتز من كعب رجلي إلى قرص مخي.٣٢

مسكين مخايل! لا تضحكي يا بنتي، الحب المتين لا يموت، وكل فرس لها خيال.

قومي نرجع، اكتمي السر ودبِّري أمورك، البنت من طبعها الحياء، قوِّي قلبك وكبري رأسك، لا تنساقي مثل النعجة … خلاصك في يدك يا إسرائيل.

ولما اشتد الضغط على ست الإخوة دخلت على أبيها الذي ما عاق دفنه إلا بقية نفس تتردد بين الجلد والعظم، وهناك صرَّحت لوالدها بما في نفسها.

فألقى عليها والدها نظرة يأس، ثم اصطكت أسنانه، وقال بصوت كأنه آتٍ من بعيد: البنات من صدور العمات، روحي يا بنتي، الله يستر عليك، نحن في غنى عن «صلاة فرنجية» ثانية … بيتنا معوَّد …

١  الماوية: المرآة.
٢  محيص: محيد، مهرب.
٣  نونة: نقرة.
٤  غنة: صوت من الأنف.
٥  دميم: حقير، قبيح المظهر.
٦  ماش: لا شيء.
٧  المعضلات: الأمور المشكلة، الضيقة المخارج.
٨  الأنشوطة: العقدة التي يسهل حلها.
٩  القربان: مكان صغير في الكنيسة يُحفَظ فيه الخبز المكرس.
١٠  ديار البلى: الفناء، الموت.
١١  التحليلة: الإذن بالزواج من مرجع ديني.
١٢  المرفع: أيام معلومة تتقدم الصوم عند المسيحيين، وهو الزمن الذي ترفع فيه بعض المأكولات؛ أي ينقطع عنها المسيحيون ولا يعودون إليها إلا بعد عيد الفصح.
١٣  حاشا قدرك: كلمة يستعملها المتحدث اللبق بعدما يهين رفعًا لقدر السامع عما ذكر.
١٤  مكركمة: مكومة.
١٥  همهمت: تكلَّمت بكلام غير مفهوم.
١٦  برزوا: ألبسوا لباس الإكليل.
١٧  حداء: أهازيج الأفراح والمواسم.
١٨  زغاريد: غناء النساء في الأفراح.
١٩  الرسائل: اسم لكتاب جُمِعت فيه أقوال رسل المسيح.
٢٠  حيله: قوته.
٢١  البولص: فصل من كتاب كنسي.
٢٢  جمل اليهود: حيوان يشبه الحرضون يتلون بلون الموضع الذي يعيش فيه.
٢٣  رتبة: مجموعة صلوات وقراءات وأناشيد دينية مرتبة لإقامة احتفال ديني معين.
٢٤  أمة: خادمة.
٢٥  البنت صندوق مقفول: شبهت بصندوق مقفول لا يُدرَى ما يحويه (مثل لبناني).
٢٦  البطرشيل: وشاح كنسي يلبسه الكاهن في عنقه لدى قيامه بالاحتفالات الطقسية.
٢٧  بونا: لقب للكاهن.
٢٨  انقسمت العرب عربين: أي انقسم أهل البيت فريقين.
٢٩  حُق البخور: وعاء نحاسي يوضع فيه البخور.
٣٠  الحرم: قرار يصدره مرجع ديني كبير يمنع من يُرمَى به من الاشتراك في الصلوات والمراسم والحقوق الدينية؛ أي الفصل عن الكنيسة.
٣١  صلاة الإكليل: مراسم الزواج.
٣٢  مخي: رأسي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤