على باب الله!

رءوس شهوركم وأعيادكم كرهتها نفسي، وإن أكثرتم من الصلاة فلا أسمع لكم.

أشعيا

رأيتهم ليلة عيد الميلاد.

ثالوث غريب الزي والوجه واللسان: أب صدِّيق يحبو إلى الخمسين، وأم فتية لا ترفع بصرها حياءً وخفرًا، وصبي فيه من الحسن كل معنى طريف.

تحير البؤس في وجوههم ثلاثتهم، وفاحت رائحة الفقر من أردانهم، يمشون كمن لا عهد له بهذه الأرض، فكأنهم رجال الكهف قد بعثوا.

أبصرتهم عند خمسة أبواب، وتواروا عني في ثلاثة، ثم ما عدت رأيتهم.

نظرت هذه العائلة عند بوَّابة دير يعدُّ رهبانه فطور الميلاد، فاللحوم تُعذَّب على النار، ورائحة قتارها تفتح لهى المكظوظين. أما عن الخمور المعتَّقة فلا تسل، فأصغرهن سنًّا تذكر حكم الأمير بشير، تتلألأ في الأباريق البلورية وقد اشتعل رأسها شيبًا، والديوك تنقف أعناقها انتقامًا من «جدها» ديك بطرس الجاحد، والفواكه تُنقَّى وتُصفَّف.

هناك بباب ذاك الدير سمعت هذه العائلة البائسة تطلب خبزًا باسم من قال: وكنت جوعانًا فأطعمتموني. ثم رأيتها تصرف خماص البطون، اشتهى الصبي ليمونة فمد إليها يده فانتزعت منه وفركت أذنه …

وعند باب دير آخر سمعت الأم تطلب من الراهبة قميصًا عتيقًا لولدها المقرور، ولزوجها الحافي حذاء مرقعًا، ولها فسطانًا كيف كان، فردت الراهبة في وجهها الباب، ولولا لطف الله لهرس أصابع الصبي.

وعلى باب قصر سيدة مترفة لمحت الأم تعرض ولدها خادمًا باللقمة، ثم لا تستجاب طِلبَتها. وتؤتى تلك السيدة بجرو كلب فتشبعه ضمًّا وشمًّا وتقبيلًا، ولا تستحي. تطعمه أشكالًا وألوانًا من الطعام والحلواء، «وابن الإنسان» ببابها يأكل بعينيه ما لا يشتهيه ابن الكلب، ثم لا يُجَاد عليه به.

وعن باب «قيصر» شاهدت صاحب إذنه يطردها ويدفعها إلى الشرطي، ليتهم سجنوها فاستراحت!

ورأيتها أمام بيت «قيافا» تضحك بملء فيها، كأن ما فيه من أصباغ وألوان وتماثيل أنساها بؤسها، ثم خشن الصبي الوديع وجذب ذيل أمه صارخًا: أماه، لا نريد قوتًا من هنا فخبزهم مُرٌّ.

وفي نصف الليل مرت «العائلة» أمام باب الكنيسة، وبعد تردد دخلتها …

ها هي بين المعيِّدين تحدِّق إلى المغارة مستغربة … ولما خطر رئيس الكهنة بطيلسانه وتاجه وصولجانه، دهش الصبي وتزعزع. وتعالى الغناء: المجد لله في العلا وعلى الأرض السلام. فقطب وعبس كأنما عاودته ذكرى قديمة، ولما خشخشت الفلوس، وتعالى صراخها على «الصينية» الفضية هتف الصبي: بيتي بيت الصلاة يدعى … وهجم على الطبق، فضربه الشرطي وطرده؛ لأن السوط لم يكن معه فيعرفونه به، كما عرفناه عند كسر الخبز.

وبعد القداس صادفتها تطوف في المدينة، طلبت مأوًى وقوتًا فأعياها، واستجارت برواق الهيكل من الليل المطير فقلَّعوها، فتاهت في المدينة، وما انفكت سائرة حتى تجاوزتها نافضة غبارها عن أرجلها.

انتهت إلى قرية ما دخلها الملوك فأفسدوها، كان فقراء الضيعة ساهرين، على عادتهم، يهجسون بملكوت الله، يتذاكرون حكاية الميلاد في الماضي السحيق، فرحبوا بالعائلة البائسة ورثوا لحالها، أدخلوها بيتًا قزمًا وأضرموا النار حتى تلاقت سماء البيت واللهب، ثم مدُّوا لضيوفهم سفرة من «حواضر» البيت القروي.

أثَّر منظر الصبي بإحدى النساء فاهتزت للكرم وهرولت إلى بيتها، ثم رجعت ومعها بيضة، هي البيضة الوحيدة في القرية، خبَّأتها أم يوسف لمثل هذه الساعة العصيبة.

وعظمت غبطة القرويين بضيوفهم الثلاثة، أما ربحوا أجرًا ليلة العيد؟ أما أطعموا فقيرًا وقبَّلوه باسم يسوع؟

وتعالى الدعاء لأم يوسف من جميع قراني البيت، قد بيَّضت وجه الضيعة، فمن عنده بيض في كانون غير أم يوسف الدهرية؟

وعمل الخيال عمله فرأت الضيعة في ضيوفها رمز «العائلة المقدسة» فاقتسموها بينهم: أنامت أم يوسف الصبي مع أولادها، ونامت المرأة عند امرأة أخرى، ونام الأب في بيت ثالث.

ونما إيمانهم بما رأوا فصار يقينًا، فأسرع شيخ صديق يخبر القرية بما رأى، فتحامل الكاهن العجوز على نفسه وجاء، ولَشدَّ ما دهش الناس إذ لم يروا أحدًا، إلا ورقة تحت المخدة حيث كان الصبي نائمًا، وقد كتب عليها: جاء إلى خاصته وخاصته لم تقبله …

فلما قرأها الخوري سمعان صك وجهه وقال: ما كان أسعد سمعان الشيخ! وما أتعسك يا خوري سمعان! وأجهش، ثم شرع يبكي كالطفل.

وطار الخبر إلى المدينة مع الصبح، كتب الخوري سمعان إلى رئيسه الروحي بما وقع في قريته، فاستهزأ وغضب، دعا إليه أحد خوارنته وأمره أن يكذب الخبر في قداس الساعة العاشرة، فامتثل الكاهن وقال للشعب بعد تلاوة الإنجيل:

أيها الأبناء الأعزاء

بلغت مسامع راعينا الصالح الكلي الاحترام تلك الإشاعة المضحكة التي جاءتنا اليوم، صباح هذا العيد المبارك، من قرية بطباب، فالصبي الوقح الذي تجاسر ومد يده إلى «الصينية» في قداس نصف الليل ستؤدبه حكومتنا الجليلة، أيَّدها الله، متى قبضت عليه. هي جادة خلفه، ولكنني على قصر معرفتي، أرجِّح، بل أؤكد، أن غضب ربنا حلَّ عليه فانشقَّت الأرض وبلعته مع أبيه وأمه.

يا إخوتي المباركين، إن سيدنا يسوع المسيح، له المجد، لا يظهر بهذا الشكل الزريِّ، بل يأتي ببهاء ومجد عظيمين ليدين الأحياء والأموات، هكذا قالت الرسل.

نحن منتظرون، أيها الإخوة الأحباء، أن نلقى ربنا في السحب، كما يقول مار بولس الرسول، فلا تخافوا من هذه الأخبار والأراجيف ولا تصدقوها.

إن ربنا قال لنا من فمه القدوس: أنا معكم إلى منتهى الأجيال.

أما «جدنا» الخوري سمعان الذي روَّج هذا الخبر وصدقه من كل عقله، فهو — كما تعرفون — صار «اختيار» الله يساعده ويساعدنا عليه وعلى أخباره.

فضحك فريق، وتنهَّد آخر.

ومضى الخوري يتم قداسه، ثم لمَّ الصينية كالعادة، ولم يحدث شيء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤