من مشاكل القرية

إذا كنت سمعت بالجنائن المعلَّقة وتريد أن تراها فهلمَّ إلى لبنان؛ ففي نحور شماريخ الجبال قرى معلقة حقًّا، تبص حين تضربها الشمس كأنها عقود المرجان، ويتلألأ زجاجها في الفضاء كأنه بحيرة الفضة البيضاء سائلة …

أنوار تموج وتمور١ فتخالها في صراح ونطاح، بيوت منثورة هنا وهناك تحفُّ بها جنائن غنَّاء تحدث الزنديق بنعمة ربه، وكرم الأرض وسخائها. وحسبه شهادة الطيور الآمنة، المسبِّحة في كل آن من منحها تلك الوكنات المطمئنة.

وإذا عرفتَ طبيعة الأرض أكبرت عزم الفلاح اللبناني، فقد فتَّت معوله تلك الصخور فاستحالت ترابًا.

وإذا رأيت القيامة تقوم بين أبطال قصتنا اليوم على شبر أرض فلا تتعجب، فالأرض في لبنان عزيزة وخصوصًا في الجبال. ليس في لبنان قرى يملكها واحد من الناس، فالأرض تكاد تكون موزعة بين اللبنانيين بالقسطاس والميزان، إذا استثنينا بعض الديورة.

التراب عزيز في هذا الجبل، فهو قشرة يكاد يبلغ قعرها المحراث، فإذا رأيت أبا فارس الذي نروي لك حكايته يبذل هذه الجهود الجبارة، فلا تقل: ما أتعس القروي اللبناني! إنه يفتش عن حفنة تراب. لا يا سيدي، إنه وإياك بألف خير، فجنينة ابو فارس تدرُّ له آلاف الليرات من نقد اليوم، وإليك حكاية هذا الاقتصادي العنيف:

السماء تطش٢ والفعلة يزمجرون ويتبخترون في الخندق، لا تسمع إلا بب بب بب بب، معاول تشرئب لتنقض، سواعد مفتولة فتل شزر،٣ وأعضد منتفخة تكاد تخرج من الجلد، وألحاظ تنظر بغيظ مخلوط بتهديد إلى عين الشمس الملتفة بغلالة من الغيم.
كانوا يعملون صاخبين تحت نقط المطر، وكان لسان حالهم يقول للشمس: تخبي، وللغيوم: أمطري ما شئت، فلا بد من إتمام نهارنا وقبض الأجرة كاملة، لو جرى هذا الخندق كالنهر ما خرجنا منه قبل الغياب، علينا أن ننقب من الفجر إلى النجر،٤ فلننقب، ليس الإنسان طينًا فيذوب.

وهكذا ظلوا يعملون تحت رذاذ المطر، ولو تركوا معاولهم وكفوا عن عملهم ربع ساعة للحقهم الحسم والحطُّ من أجرة يومهم، كلها ربع مجيدي، فما يبقى إذا امتدَّ إليها قلم أبو فارس البارع في الجمع والطرح؟ له عليهم عادة يعرفونها: إذا كفُّوا عن العمل قبل المغرب بنصف ساعة شطب قلمه ربع النهار ليكون الحساب مقومًا لا عوج فيه.

رأى أبو فارس شجرات جاره غضة ترشح الماويَّة من فروعها وجذوعها، فأدرك أنها تسابق شجراته العزيزة على السماد الذي يكدسه في أرضه كل سنة، فهو لا يستحي أن يلمَّه عن الطريق، وإذا عابه أحد هز رأسه وقال مبررًا عمله: لو كان الحرامي يفهم ما سرق غير الزبل.

رأى أبو فارس أن يحفر خندقًا على الحد ينتفع به من جهات: أولها تقطيع جذور أشجار جاره واستئصالها، وثانيها بناء حائط يصون به أرضه؛ لأن جاره لا يراعي شجرات أبي فارس عند الفلاحة، فكثيرًا ما يكسر غصونها حين يحرث أرضه، ناهيك بأنه لا يكمُّ٥ فدانه، فينتش رأس غصن من هنا وورقة من هنالك … وثالثها حفظ التراب فلا تذهب حبة من عنده إلى أرض جاره، فقد كادت أرضه أن تحفى لأنها منحدرة غير مستوية.

قطع الفعلة جذورًا واهية فور الشروع في العمل، فتهلل أبو فارس كأنه ملك البصرة … ولما تعمقوا في النقب رأوا مشهدًا لم يكن في الحساب: كانوا يحسبون أن الأشجار تعرف التخوم والحدود، فإذا بظاهر الأرض مقسوم، أما قلبها فمشاع، تسرح فيه الجذور وليس من يقول لها: قفي عندك، هذا حدك. إنها لا تخضع لنواميس الناس وعرفهم.

رأوا الجذور رائحة جائية، متشابكة متعانقة في قلب الأرض كأنها تقول في نفسها: إن سطح الأرض للناس فليقتتلوا عليه، أما قلبها فلنا، نحن الجذور، نعيش فيه بسلام واطمئنان حتى يفرِّقنا هادم اللذات …

قال كبير الفعلة: اندهوا٦ أبو فارس.

فطار إليهم إذ سمع اسمه، خاف أن تذهب دقيقة ضياعًا، ولعجلته عثر، ولكنه ما بالى بسقطته، فهرول وهو يمسح ما علق بذيل شرواله من تراب وزبل … ثم أدرك أنه رمى الزبل في أرض جاره فانحنى يلمه ورماه في أرضه. كان أمرهم بقطع الجذور المنسابة من عند جاره، فلما رأى جذور أشجاره تسعى في أرض جاره وراء رزقها بهت واحتار، ولكنه اختار أهون الشرين فصاح بالفعلة: سلمت أيديكم يا شباب، استريحوا، الله يعطيكم ألف عافية، لفوا سيكارة.

هذي أول مرة يسمعون فيها كلمة سلمت أيديكم، فهو لا يرضيه فاعل مهما جدَّ واجتهد، وشعاره مع الفعلة: من يأخذ مالي آخذ روحه.

قعد الفعلة باسمين، وفتح أبو فارس كيسه ولفَّ سيكارة، إنها لا تُلفَّ وقت الشغل إلا بفرمان يصدره صاحب الورشة، وكثيرًا ما يتقاعس أبو فارس عن إصداره متناسيًا ساعة الراحة … فشكروا للجذور التي اعترضت عملهم فاستصدرت الفرمان.٧

تمددوا على التراب كأنهم على فراش ناعم، فالمطر العابر لم يبلل الأرض، وأخذوا يتنادون. أما أبو فارس فكان يفكر بماذا يعمل، لقد نبش الأساس فهل يطمُّه؟ وأي فائدة جنى؟ ثم ما نفع حبة تراب يحرص عليها ويتكلف ما يتكلف ما دامت الجذور لا تقتسم الأرض كالناس؟ وجرَّته فكرته إلى ناحية مجهولة فاضطرب، ولكنه أخفى اضطرابه. مرَّت في خاطره نزوات فلسفية لم يستطع التعبير عنها … وتذكر إذ ذاك جارَيهِ بو طنوس وبو خليل اللذين اختلفا على شبر أرض فاستخفَّ عقلهما.

وفي تلك الدقيقة الخطيرة من تاريخ حياته التفت إلى فوق فرأى على عرض الطريق شيخين قاحلين يابسين. كان هذان الشيخان واقفين ينظران هازئين بعمل أبو فارس الشحيح، ساءهما أن يعييهما الفصل في قضية «الحد» المستعصية بين بو طنوس وبو خليل، فشقت الضيعة حزبين.

قال أحد الشيخين: الشر شرارة، كان الخلاف على شبر أرض فصار غرضية وحزبية، انشقوا وشقوا الجوار معهم.

فقال الشيخ الآخر: لا تشغل بالك، تجيء ساعة تنحل القضية فيها من تلقاء نفسها.

وسكتا ليهيِّئا ما يقولان، فصاح أبو فارس: بو يوسف، أهلًا وسهلًا، جئت بوقتك، عمي بطرس تفضل معه، انزلوا، منظر غريب، وتأملوا ما أقل عقلنا نحن البشر.

فأجاب بو يوسف: خير إن شاء الله.

ومشى مشية المقيَّد يتبعه بطرس، يهدجان وتغرق أرجلهما بالتراب المبثوث، وما أشرفا على الخندق حتى قال أبو فارس: بحياتكم، تأملوا، هذا «شلش» عريشة جاري، تأملوا ما أبعده يا بشر! وهذا شلش لوزتي رائح صوبه بالسلامة، فماذا نفعني عملي؟

فتناظر الشيخان وارتجفت ذقناهما، ومرَّ في رأسيهما فكر واحد، فأطرقا، والفعلة يمزحون حولهم ويضحكون كأنهم لم يعملوا نهارهم كله أشق الأعمال، ولا يعنيهم ما يعمل الشيخان وبو فارس، كل ما يعنيهم أن يطول الحديث لتطول الاستراحة، ففتحوا أكياسهم ولفوا سيكارة ثانية.

فمرمر بو فارس وقال: والله العظيم احترت في أمري، مدوني برأيكم.

فقال بو يوسف: رأيي أن الإنسان قليل العقل، الشجر أدرك من البشر، بو طنوس وبو خليل ركبهم الدين وباعوا ما فوقهم وما تحتهم من أجل اختلافهم على الحد، على شبر أرض، انشقوا وشقوا الضيعة والجيرة والبلاد، حرُّوا الدنيا كلها، أشعرت ألسنتنا من الترجي، وكل واحد منهم يريد أن يأكل خصمه، ومحاكم هذا الزمان — والحمد لله — تطوِّل الحبل. باب الشريعة واسع، كلما انسد باب يفتح «الأبوكاتية»٨ عدة أبواب. بو طنوس، امشِ معي، وأنت يا فارس رافقنا.

فتردد أبو فارس لأن الفعلة قاعدون، خاف أن يخسر شيئًا من عرق جبينهم، فأبدى حركات لولبية أسفرت عن تحويل الفعلة إلى عمل آخر، ولحق بالشيخين.

وبعد هنيهة رجعوا ثلاثتهم ومعهم بو طنوس وبو خليل، وقفوا جميعًا خاشعين ينظرون إلى الجذور وقفة موسى بجانب الطور، صمتوا كأنهم يتلقون درسًا في علم الاجتماع من تلك الجذور الخرساء …

وطال السكوت فقال بو يوسف: الشجر أكملُ عقلًا منا نحن البشر، فمن يعتبر؟

فصاح بو طنوس: فهمنا، فهمنا يا عمي، تصافينا.

وقال بو خليل: نعم، نعم، وإن لم يبق على خميرنا طحين.

١  تمور: تتحرك كثيرًا وبسرعة.
٢  الطش: المطر الخفيف.
٣  الشزر: الشدة والصعوبة، وغزل شزر: أي على غير استواء.
٤  النجر: التسكير، ومن الفجر إلى النجر: (مثل) كانوا فيما مضى يقفلون الباب عند المساء بوضع وتد من الوراء كي لا يفتح من الخارج، والمثل يعني التأخير بالعمل.
٥  كم: وضع ما يشبه الكمامة لمنع ثيرانه قضم أغصان الشجر.
٦  اندهوا: نادوا.
٧  الفرمان: عهد السلطان للولاة.
٨  الأبوكاتية: المحامون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤