أبو الغنباز

بينا كان طنوس يقص على واحد من «الزمرة»١ أخبار عبثه بجريس في سهرة أمس الأول، إذا بزوجته لوديَّا تتمرمر، وتقول: حرام عليكم، اتركوا هذا المسكين، كفاه عذاب، خف على «عواقبك»٢ يا طنوس، ربنا قادر أن يبتلينا بولد أقرع وقواق (لجلاج) مثله وأكثر منه.

فصاح طنوس: اضحكي في عبك يا حرمة، إذا حصلنا على هذه النعمة. الضيعة محتاجة دائمًا إلى واحد على شكله.

– يه، يه، يه، ما أقل دينك! أنت هرطوقي.٣
فاستلَّ طنوس يده التي استحالت دبوسًا،٤ وكشَّر وهجم، فردته ضحكة زوجته لوديا من نصف الطريق، وهكذا كان يسلم جلدها من الرصِّ واللبد.

ليس لطنوس سمات تميزه من أهل قريته، فأكثر القرويين من نمط واحد، إلا أنه كان مهذارًا يتحدث كأنه يمثل، يحشو كلامه ﺑ«فهمت» و«سمعت» و«لحظت» مشفوعة بنكعة أو لكمة لتفهم غصبًا عن رقبتك … أحصوا عليه هذه الكلمات الثلاث في سهرة واحدة، فوردت في كلامه أكثر من مائتي مرة.

ولعل سيرة طنوس مع عجله «عيُّوق» عوَّدته مثلها مع الناس، فعصاه كانت تنهض أبدًا وترتمي على ظهر ذاك الثور لسبب ولغير سبب؛ فصار عيوق مثلًا يُضرب في القرية. إنْ ضرب أب ولده ضربًا موجعًا صاحت أمه: ليتها تنكسر من الكوع، أهو عيُّوق؟ وإذا اشتد الضرب بين اثنين قالوا: ضربٌ عيُّوقي.

وأدركت عيُّوق السن فجاء قصَّاب ليشتريه، فخمن ما عليه من لحم تخمينًا لم يعجب طنوس، فلكمه قائلًا: قوِّ قلبك، فهمت؟ ثم نكعه ليقول له: لحظت؟ لا يغرك صغره، هذا ملبود.

وغابت الشمس فتعشى طنوس وتمشَّى. حان وقت السهرة وهو لا يهنأ له عيش إن لم يسهر حيث يكون جريس الأقرع، فطاف حول بيوت القرية، حتى إذا حزَّر أين هو، دخل، ومسَّى، وقعد. نظر إلى جريس فرآه مغتمًّا، ظن أنه يتصنع في الجد ليتأبى عليه ويكف عنه شره، فمسَّاه خصيصًا، فردَّ جريس المساء من رأس شفتيه، فغمز طنوس الحاضرين صارًّا أصابعه إشارة الاستعداد للمعركة.

كان جريس يوشوش صديقه سركيس بلجلجته المعهودة: عا عا عا عصيت، عا عا عا على الأطباء، ما قدر واحد منهم عا عا على إنبات شعرة في مخي.٥

وكان جريس متهالكًا على الحديث، يعاني ما تعانيه الحبلى ليخرج كل كلمة من كلماته، بينا كان طنوس يتهزأ به، يفتح فمه ويغلقه مثله، مضحِّكًا الناس.

– ايش العمل يا بشر؟ عجزت والله، كلما جاء «مغربي» يأخذ مني المبلغ المرقوم.

فأجابه سركيس: سلم أمرك لربك.

فقال جريس متوجعًا: لربي سلمته من زمان، لم تبق كنيسة من كنائس الله إلا نذرت لها، أمس زرت «الحرضيني»٦ وأخذت عن قبره سل تراب.

فالتفت إليَّ سركيس التفاتة استغراب ولم يَفُه بكلمة، فقال جريس: والله العظيم، قلت لك سألني عن الحالة. هيه، هيه، كان في قربوس رأسي شعرة طارت.

فقال سركيس: لا تقطع الأمل يا صاحبي.

فضحك جريس ضحكة هي بالبكاء أشبه، وقال: عشرين سنة قضيناها طالبين رحمة الله، احْزِر ماذا كانت النتيجة؟

– أنت أخبر، قل.

– مصيبة أكبر.

وانحنى على أذنه يصب فيها سر الفاجعة.

فالتفت سركيس كالمتعجب، فقال جريس: والله، لعنة الله على الكذاب، كنت بفرد همٍّ فصرت بهمَّين.

قال جريس هذا وطفق يتأمل وجه صاحبه سركيس ليرى أثر كلامه فيه، فرآه يمطُّ شفتيه، يصرهما كأنه يتأهب لضحكة، فقال جريس: كل هذا هيِّن يا شيخ، ولكن من يخلصنا من طنوس إذا درى.

ثم أطرقا صامتين حتى انتهيا إلى قول أحدهم: هاتوا الورق.

فصاح صاحب البيت: مساند وطراريح، ضوئي القنديل الكبير يا مرين، وأشار بأصبعين، ففهمت مريم وأشعلت القنديل نمرو ٢.

كان من عادة طنوس أن يلعب ضد جريس، أما تلك الليلة فقال: رفيقي جريس، فنسي جريس مصيبته: العليا والسفلى، المكشوفة والمستورة، فانبسط وجهه وقعد، ودار الورق دوراته، فاحتدم اللعب والجدال حتى كاد يعلق الشر. تكافأ الخصمان فمكنا قعدتهما لربح الدقِّ (الشوط) الأخير، وأشار كل فريق إلى ورقه، وانتظر جريس إشارة رفيقه طنوس، ولكن طنوس لا يشير، تساقط الورق من الأيدي وجريس حيران لا يدري ما يلقي ولا ما يبقي، فصاح بطنوس: أششش أشر. ولكن طنوس لم يخرج عن صمته، ففأفأ جريس وتمتم، فقال طنوس متباردًا: لا بد من التأشير يا شريك.

– معععلوم.

فأبدى جريس علامة أص الديناري وقال: أقرع. (أي وحيد من نوعه).

فانتفض جريس كما لدغته عقرب وقال: كا كا كا كيت وكيت من … ولما رأى طنوس متأهبًا للصرع أتم قائلًا: من دين لعب الورق. وانصرف غضبان.

وأصبح المسكين فإذا حمله الجديد قد ثقل عليه، كان يشكو خفة فوق، فصار يشكو ثقلًا تحت. فتقٌ ولد كبيرًا … ثم أخذ ذلك الهم يتضاعف يومًا فيومًا حتى كان يبوح الشروال بالسر، ففصَّل غنبازًا ستره به، فخلق موضوعًا جديدًا لعبقرية طنوس. أطلق طنوس على جريس لقب الشدياق، وصار غنبازه حديث الضيعة، وخصوصًا على التنور حيث تمتزج القهقهة بالرَّقِّ.٧
تقوَّلوا عليه ما شاءوا، إلا صاحبه سركيس فكان يهز رأسه ويتمثل: الذي درى درى، والذي ما درى قال: كفُّ عدس.٨ أما طنوس ذاك المخرج الرائع فكلَّف مَن نظم له هذه «الردة»:٩
يا مشرشح يا بو الغنباز
لململو ديالو وقصُّو
اخبز خبزك عند الخبَّاز
لو خبزو وأكل نصو
ورددها الصبيان ترديدًا ضيَّق الضيعة على جريس، فمشى إلى بيروت مشية توجع القلب، مشية البغلة المشدود خناقها لئلا تتعس.١٠ وبلغ أسكلة١١ جبيل بعد ألف جهد، فإذا بعربة تقف وصوت يصيح: اطلع يا جريس.

عرف جريس صوت صاحبه طنوس فاستعاذ بالله، ولكنه طلع وقعد حده، وهو يقول في قلبه: سفرة مشئُومة.

وقبل أن يبلغوا مخفر جسر بيروت حذَّرهم السائق من التبغ والسلاح. كانوا في ذلك الزمان يصادرون التبغ الكوراني، وتسهيلًا للتفتيش كان «الورديان»١٢ يزج «شيشًا» في الحمولة حتى إذا شك في عِدلٍ١٣ ما أمر بتفتيقه. وهكذا فعل حين أوقف عربة طنوس وجريس، أمر الركاب بالنزول منها و«شَيَّش» كيس خيش فيها، ثم فضَّ البُقَج١٤ كلها، وأخيرًا تحوَّل إلى المسافرين الستة فمدَّ يده إلى أعماق جيوبهم.

وجاء دور جريس فظن أن تحت غنبازه كيسًا، فأقبل عليه ليجسه، فامتنع عليه جريس وصرخ: فت فت فت …

ثم هرب من وجهه يقهقر في مشيته، والخفير لاحق به يسدد نحوه الشيش وهو يقول: معك تتن، نحن نعرف كل هذه الحيل.

فصرخ جريس: لا لا لا لا … فت فت فت.

فصاح الورديان: ضربة تفت رقبتك … وهجم عليه يريد أن يزج الشيش في موضع الظن، فانطوى جريس أمامه، وباح أخيرًا بالحرف الثالث، فاحمر وجه «الورديان» وأعاد شيشه إلى مخلاته.

أما طنوس فنكع١٥ جريس عند أذنه قائلًا له: ها ها، فهمت؟ عرفنا سبب لبسك الغنباز يا مضروب. لحظت؟ استعد لردة تسرُّ خاطرك.
١  الزمرة: الجماعة، الفوج.
٢  العقب: الخلف ومن يجيء بعده.
٣  هرطوقي: كافر.
٤  جمع أصابع يده على شكل مكوَّر.
٥  مخ: رأس.
٦  الحرضيني: اسم لقديس.
٧  الرق: رققه: قلل من غلاظته، وهنا عملية تحويل العجين إلى رغيف.
٨  كف عدس: مثل يضرب للدلالة على الكثرة المبهمة.
٩  الردة: بيت في الشعر العامي.
١٠  تتعس: تتعثر.
١١  أسكلة: منطقة في التقسيم الإداري.
١٢  الورديان: الرجل الذي يبحث عن التبغ المهرب من قِبَل شركة التبغ.
١٣  العدل: كيس كبير من الجنفيص.
١٤  البقجة: مجموعة أمتعة ضمن قطعة من القماش.
١٥  نكع: لكز بمرفقه أو بكوعه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤