الملاذ

وقع كل هذا في سبعينيات القرن الماضي، بالرغم من أنه في تلك البلدة والبلدات الصغيرة الأخرى المشابهة لها، لم تكن فترة السبعينيات كما نتصوَّرها نحن الآن، أو حتى كما عرفتها أنا في فانكوفر. كان شَعْر الصِّبْية أطولَ من المعتاد قبل ذلك، لكنه لم يكن يتدلَّى على ظهورهم، ولم يَبْدُ أن هناك أيَّ قدرٍ غير معتاد من التحرُّر أو التحدي السافر من جانبهم.

بدأ زوج خالتي في مضايقتي بسبب صلاةِ مبارَكةِ الطعام؛ لأني لم أكن أقوم بها. كنت وقتَها في الثالثة عشرة من عمري، وأعيش معه ومع خالتي، وذلك في العام الذي مكث فيه والداي في أفريقيا. إنني لم أَحْنِ رأسي مطلقًا من قبلُ أمام أي طبقِ طعامٍ.

قال العم جاسبر بينما كنتُ ممسكةً بشوكة الطعام في الهواء، وتوقَّفْتُ عن مضغ البطاطس واللحم اللذين كانا في فمي بالفعل: «بارِكْ لنا يا رب طعامَنا هذا ليفيد أجسادَنا، وبارِكْنا لنكون في خدمتك.»

قال: «هل تشعرين بالدهشة؟» وذلك بعدما أنهى الصلاةَ قائلًا: «بيسوع. آمين.» كان يريد أن يعرف إذا ما كان والداي يردِّدان صلاةً مختلفةً، ربما بعد فروغهما من تناوُل الطعام.

قلت له: «إنهما لا يردِّدان أي شيء.»

قال: «أَلَا يفعلان حقًّا؟» تفوَّهَ بهذه الكلمات باندهاشٍ مصطنَعٍ، وأضاف: «إنكِ بالقطع لا تعنين هذا؟ كيف لأشخاص لا يتلون صلاةَ مبارَكةِ الطعام أن يذهبوا إلى أفريقيا كي يَعِظوا الوثنيين؟ فكِّرِي في هذا.»

بَدَا أن والديَّ لم يقابِلَا في غانا — حيث كانا يعملان كمدرِّسين — أيًّا من الوثنيين؛ فالمسيحية منتشرةٌ بنحوٍ باعث على الدهشة في كل مكان حولهم، ويتجلَّى ذلك حتى في اللافتات الملصقة على ظهور الحافلات.

قلتُ، ولسببٍ ما استثنيتُ نفسي: «إن والدَيَّ من الموحِّدين.»

هز العمُّ جاسبر رأسَه وطلب مني أن أفسِّر له معنى الكلمة؛ أليسا مؤمنَيْن برب موسى؟ أو برب إبراهيم؟ هما بالقطع ليسا من اليهود ولا المسلمين، أليس كذلك؟

«في الغالب، كل شخصٍ له فكرته الخاصة به عن الإله.» قلتُ ذلك ربما بنحوٍ أكثر حَزْمًا مما توقَّعَ. كان لديَّ أخوان في الجامعة، لكنْ يبدو أنهما لن يصبحا من الموحِّدين؛ لذا كنتُ معتادةً على المناقشات الحادة الدينية — وكذلك تلك التي تحتوي على أفكار إلحادية — حول مائدة العشاء.

وأضفتُ قائلةً: «لكنهما يؤمنان بفعل الخير، وبأن يحيا المرء حياةً صالحةً.»

لقد أخطأتُ عندما قلتُ هذا؛ فلم يرتسم فقط على وجه زوج خالتي تعبيرٌ ينمُّ عن الارتياب — حيث رفع حاجبَيْه وأومأ برأسه في تعجُّب — وإنما بَدَتِ الكلمات التي خرجت من فمي غريبة حتى بالنسبة إليَّ أنا أيضًا؛ خلتها مجرد كلمات رنانة مفرغة من المضمون.

لم أكن راضيةً عن فكرة ذهاب والديَّ إلى أفريقيا؛ فقد كنتُ معترضةً على إلقائي هكذا إلى خالتي وزوجها، وذلك على حد وصفي للأمر، بل إنني ربما كنت سأخبر والديَّ الشديدَي الصبر، أن أعمالهما الصالحة ما هي إلا درب من الحماقة؛ ففي منزلنا كان لنا مطلق الحرية في أن نعَبِّر عن أنفسنا كما يحلو لنا. هذا بالرغم من أنني لا أعتقد أن والديَّ أنفسهما كان سيتحدثان أبدًا عن «الحياة الصالحة»، أو «فعل الخير».

شعر زوج خالتي بالرضا للحظةٍ، وقال إنه يجب علينا أن نتوقَّف عن الحديث في هذا الموضوع؛ لأنه هو ذاته بحاجةٍ إلى أنْ يعود إلى عيادته ليمارس أعمالَه الصالحة بحلول الساعة الواحدة.

أعتقد أن خالتي أمسكت حينها بشوكتها وشرعت في الأكل. لقد كانت ستنتظر حتى تنتهي تلك المشاحنة؛ قد يكون ذلك بدافع العادة، أكثر منه بدافع الانزعاج من وقاحتي. لقد كانت معتادةً على الانتظار حتى تتأكَّد من أن زوجها قد انتهى من كلِّ ما يبغي قوله، وحتى لو تحدثتُ إليها بطريقةٍ مباشِرة، كانت تنتظر وتنظر إليه لترى إنْ كان يريد أن يُجِيب هو نيابةً عنها. وكان دائمًا كلُّ ما تتفوَّه به مبهجًا، وكانت تبتسم بمجرد أن تعرف أنه لا بأسَ من ابتسامها؛ لذا كان من الصعب أن يعتقد المرء أنها شخصية مقهورة. وكان من الصعب أيضًا الاعتقاد بأنها أخت أمي؛ لأنها كانت تبدو أصغر سنًّا، وأكثر نضارةً وهندامًا، إضافةً إلى أنها كانت دومًا توزِّع تلك الابتسامة الوضاءة.

أما أمي فكانت تسبق أبي في الحديث إنْ كان لديها شيء تريد أن تفصح عنه حقًّا، وكان هذا ما يحدث في العادة. وكان أخواي — حتى ذاك الذي كان يقول إنه يفكِّر في اعتناق الإسلام كي يؤدِّب النساء — ينصتان إليها دائمًا معتبِرَيْن إياها مكافئةً لهما.

كانت أمي تقول في محاولةٍ منها لأنْ تكون محايِدةً: «إن حياةَ دون مكرَّسةٌ لخدمة زوجها.» أو قد تقول في غلظة: «إن حياتها تدور في فلك هذا الرجل.»

كان هذا شيئًا قد قالَتْه في ذلك الوقت، ولم يكن يُقصَد من ورائه دائمًا أي نوعٍ من الإساءة، لكني لم أَرَ امرأةً تبدو بهذا القدر من الصدق كالخالة دون.

كانت أمي تقول إن الأمر كان سيختلف تمامًا، بالطبع، لو رُزِقا بأطفال.

لنتخيَّل هذا؛ أطفال يعترضون سبيل العم جاسبر، ويسعون بقوةٍ من أجل الحصول على جزءٍ من اهتمام أمهم، وتراهم يمرضون، ويتجهَّمون، ويشيعون الفوضى في المنزل، ويرغبون في تناول طعامٍ لا يفضِّله هو.

هذا دربٌ من المستحيل؛ فالمنزل ملكه هو فقط، وقائمةُ الطعام هو الذي يختارها، وكذلك برامجُ التليفزيون والراديو. وحتى لو كان في عيادته بالجوار، أو في زيارةٍ منزليةٍ، يجب انتظار موافقته قبل القيام بأي شيء.

لكن شيئًا فشيئًا أدركتْ أن هذا النظام يمكن أن يكون نظامًا مريحًا للغاية؛ فها هي الملاعق والشوكات الفضية الخالصة اللامعة، والأرضيات الداكنة اللون المتلألئة، والأغطية الكتانية الباعثة على الراحة؛ كانت كل تلك الأشياء المنزلية الرائعة تشرف عليها خالتي، وتعمل برنيس الخادمة على نظافتها والحفاظ عليها. كانت برنيس تقوم بكل أعمال الطهي وكَيِّ مناشف المائدة؛ كان كل الأطباء الآخَرين في البلدة يُرسِلون الأغطية الكتانية خاصتهم إلى المغسلة الصينية، بينما كانت برنيس والخالة دون نفسها تعلِّقان أغطيتنا على حبل الغسيل، وهكذا تصبح ذات لون أبيض زاهٍ عند تعرُّضها للشمس، وعَطِرة من أثر الريح، وكذا تجد كل الملاءات وما شابَهها فائقةَ النظافة وذات رائحة جميلة. كان زوج خالتي يرى أن الآسيويين الصفر يضعون الكثيرَ من النشا عند غسلهم تلك الأشياءَ.

وكانت خالتي تقول بصوت هادئ يحمل بعض المزاح، كما لو أنه كان يجب عليها أن تعتذر لكلٍّ من زوجها ومَن يعملون في المغسلة: «إن اسمهم الصينيون.»

قال زوج خالتي بصوتٍ عالٍ: «بل الآسيويون الصفر.»

كانت برنيس هي الوحيدة التي كانت تردِّد تلك الكلمة بصورة تلقائية.

وبالتدريج أصبحت أقل ولاءً لمنزلي، بكل ما يَحْوِيه من جديةٍ فكرية وفوضى فعلية. بالطبع، كانت المحافظة على بيتٍ أو ملاذٍ كهذا تستنزف كلَّ طاقة أيِّ امرأةٍ؛ فلا يمكنكِ أنْ تفعلي هذا وأنتِ تكتبين بياناتٍ رسميةً عن الفكر التوحيدي، أو وأنتِ في طريقكِ للهروب إلى أفريقيا. (كنت أقول في بادئ الأمر: «إن والدَيَّ قد ذهبا «للعمل» في أفريقيا.» وذلك في كل مرة كان يتحدَّث فيها أيُّ شخصٍ في ذلك المنزل عن هروبهما، ثم سئمتُ بعد ذلك من تصحيح الأمر.)

كانت الكلمة المهمة هنا هي الملاذ. «إن أهم وظيفة لأي امرأةٍ هي أن تكون بمنزلة الملاذ لزوجها.»

هل قالت الخالة دون هذا بالفعل؟ لا أعتقد هذا؛ فهي تتجنَّب التصريح بمثل هذه العبارات. ربما قرأتها في واحدةٍ من مجلات الإدارة المنزلية الموجودة في هذا المنزل، والتي كانت ستصيب أمي بالغثيان.

•••

في البداية، أخذتُ أستكشف البلدة، وقد عثرتُ على درَّاجة قديمة ثقيلة الوزن في الجزء الخلفي من الجراج، وأخرجتُها كي أقودها دون التفكير في الحصول على إذنٍ بذلك. وبينما كنتُ أهبط أحدَ المنحدرات في طريق مفروش بالحصب حديثًا فوق الميناء، اختلَّ توازني؛ أُصِبتُ بخدوشٍ شديدة في إحدى ركبتَيَّ، وكان عليَّ أن أذهب إلى زوج خالتي في عيادته الملحَقة بالمنزل. تعامَلَ بخبرةٍ مع الجرح، وكان مركِّزًا بشدة في عمله وجادًّا مع بعض الرفق، ولكن دون إظهارِ أي مشاعر، ولا أي نوعٍ من المزاح. قال إنه ليس بمقدوره أن يتذكَّر من أين جاءت تلك الدرَّاجة؛ إنها بمنزلة وحش قديم غادَرَ، وإنني إذا ما كنتُ أحبُّ قيادةَ الدراجات فإنه يمكنني التفكير في إحضار درَّاجة ملائِمة لي. وعندما تعوَّدْتُ أكثر على مدرستي الجديدة، والقواعد المتعلِّقة بما تفعله الفتيات بعدما يَصِلْنَ إلى سنِّ المراهَقة، أدركتُ أنه كان غير مسموحٍ لنا بقيادة الدراجات؛ لذا لم أحصل على واحدةٍ. لكنْ ما أثار دهشتي هو أن زوج خالتي نفسه لم يُثِرْ أيَّ مسألةٍ تتعلَّق بقواعد اللياقة، أو ما ينبغي أو لا ينبغي أن تفعله الفتيات؛ فقد بدا أنه نسي في عيادته أنني شخص بحاجةٍ إلى مَن يقوِّمني في العديد من الأمور، أو لمَن يحثُّني، وخاصةً على مائدة العشاء، على أن أحذو حذْوَ الخالة دون.

«هل قدتِ الدراجةَ إلى هناك هكذا بمفردك؟» هذا ما قالَتْه عندما سمعَتْ بالأمر، وأضافَتْ: «عمَّ كنتِ تبحثين؟ لا عليكِ، فسرعان ما سيكون لديك بعض الأصدقاء.»

كانت محقة بشأن اكتسابي بعض الأصدقاء، وبشأن الطريقة التي يمكن أن تحد من الأشياء التي كان يمكنني فعلها.

لم يكن العم جاسبر مجرد طبيب، لكنه كان طبيبًا ذا مكانة كبيرة؛ فقد كان هو مَن وقف وراء بناء مستشفى البلدة، رافضًا أن يُطلَق اسمه عليه. لقد نشأ فقيرًا، لكنه كان ذكيًّا، وقد درس بالمدرسة حتى يتمكَّن من تحمُّل تكاليف دراسته للطب. وقد أجرى عمليات ولادة، وعمليات استئصال للزائدة الدودية في مطابخ المنازل الريفية، بعدما كان يشق الطريق بسيارته عبر العواصف الثلجية، وحتى في فترة الخمسينيات والستينيات، كانت تقع مثل هذه الحالات. كان يُنظَر إليه على أنه شخص لا يستسلم أبدًا، وكان يعالج حالات تسمُّم الدم والالتهاب الرئوي، وينجح في إنقاذ المرضى في الأيام التي لم تكن قد عُرِفت فيها العقاقير الجديدة بعدُ.

ومع هذا، كان يبدو هادئًا في عمله مقارَنةً بأسلوبه في المنزل؛ بَدَا الأمر كما لو أن المنزل في حاجةٍ إلى مراقَبة مستمرة، أما الإشراف في العيادة فلا ضرورةَ له بالرغم من أن المرء قد يعتقد أن العكس تمامًا هو المطلوب. حتى الممرضة التي تعمل هناك لم يكن يوجد في تعاملها معه أي شكل من أشكال الخنوع؛ فهي لم تكن كالخالة دون. أطلت برأسها من باب الحجرة حيث كان يعالج جروحَ ركبتَيَّ، وقالت إنها ستغادر إلى منزلها مبكرًا.

«عليك أن تجيب على مكالمات الهاتف، دكتور كاسل. تذكَّرْ أني أخبرتك.»

قال: «حسنًا.»

كانت بالطبع متقدِّمةً في العمر، ربما تخطَّتِ الخمسين، وامرأةٌ في مثل هذا العمر يمكن أن تحظى بقدرٍ من السلطة.

لكني لا يمكنني تخيُّل أن الخالة دون يمكنها أن تحصل أبدًا على هذا القدر. كانت لا تتغير في شبابها الزاهي الذي يحدوه الخوف. وفي أيام إقامتي الأولى معهما، عندما كنتُ أعتقد أن لديَّ الحقَّ في التجوُّل في أي مكان، صعدت إلى غرفة نوم خالتي وزوجها كي أُلقِي نظرة على صورةٍ لها موضوعةٍ على طاولة الفراش التي بجواره.

كانت لا تزال تتمتع بتلك المنحنيات الجذابة في جسدها، والشعر المموج ذي اللون الداكن، اللذين كانت تظهر بهما في تلك الصورة، لكنها كانت تضع فوق رأسها قبعة حمراء غريبة الشكل تُخفِي جزءًا من ذلك الشعر، وترتدي كيبًا ذا لون أرجواني. وعندما نزلت للطابق السفلي، سألتها عمَّا كانت ترتديه في تلك الصورة، فردت: «ماذا تقصدين؟ أوه! إنه لباس طالبات التمريض.»

«هل كنتِ ممرضة؟»

قالت: «أوه، لا.» ثم ضحكَتْ كما لو أن ذلك يحمل قدرًا من الجرأة الشديدة. ثم أضافت: «لم أكمل دراستي في هذا المجال.»

«هل هذا هو ما جعلك تلتقين بالعم جاسبر؟»

«أوه، لا. لقد كان يمارس الطب قبل ذلك بسنوات عديدة، لقد التقيتُ به عندما كانت زائدتي الدودية على وشك الانفجار. لقد كنتُ أُقِيم عند إحدى صديقاتي — أعني عند عائلة إحدى صديقاتي هنا — وشعرتُ بآلام شديدة لكني لم أَدْرِ كنْهَها، وشخَّصَ هو الحالةَ وأستأصل زائدتي الدودية.» أحمرَّتْ وجنتاها عند هذا الجزء أكثر من المعتاد، وقالت إنه ربما عليَّ ألَّا أصعد إلى غرفة النوم إلا عندما أحصل على إذنٍ بذلك، لكني فهمتُ أن هذا كان يعني أنه ليس من حقي ذلك مطلقًا.

«هل ما زالت صديقتك هذه تقيم هنا؟»

«أوه، يجب أن تعرفي أن المرء لا يحتفظ بصداقاته بمجرد أن يتزوج.»

وتقريبًا في نفس الوقت الذي علمتُ فيه هذه الحقائق، اكتشفتُ أيضًا أن العم جاسبر لديه عائلة، وذلك بخلاف ما كنتُ أعتقد من قبلُ؛ فقد كانت له أخت تحقِّق هي الأخرى نجاحاتٍ كبيرةً، على الأقل من وجهة نظري؛ فقد كانت عازفة؛ عازفة كمان. وكان اسمها مونا، وربما هذا هو اسم الشهرة، أما اسمها الحقيقي الذي عُمِّدَتْ به فهو مود، كان اسمها مونا كاسل. المرة الأولى التي علمتُ فيها بوجودها كانت عندما أقمتُ في البلدة لنحو نصف العام الدراسي، ولمحت في طريق عودتي من المدرسة إلى المنزل ذاتَ يومٍ ملصقًا من الملصقات الموضوعة على نافذةِ مكتبِ الجريدة، يعلن عن إقامة حفل موسيقي في مبنى البلدية بعد أسبوعين، وسيحيي الحفلَ ثلاثة عازفين من تورونتو. كانت مونا كاسل في الإعلان هي المرأة الطويلة القامة ذات الشعر الشائب، وكانت تُمسِك بيدها آلة كمان، وعندما عدت إلى المنزل أخبرت الخالة دون بتشابُه الأسماء، ولكنها قالت: «أوه، نعم. إنها أخت زوجي.»

ثم أردفت قائلةً: «لكن لا تذكري شيئًا عن هذا ثانيةً.»

ثم شعرَتْ أنَّ عليها أنْ تُفْصِح عن المزيد.

«أتعلمين أن زوجي لا يروق له مثل هذا النوع من الموسيقى؛ الموسيقى السيمفونية؟»

ثم أضافت المزيد.

قالت إن أخته تكبره ببضع سنوات، وقد حدث شيءٌ ما حينما كانا صغيرين؛ فقد رأى بعض الأقارب أنه لا بد من أخذ الفتاة ومنحها فرصةً أفضل لأنها تتمتع بموهبة موسيقية كبيرة؛ لذا فقد شبَّتْ بطريقة مختلفة، ولم تكن ثمة صفات مشتركة بينها وبين أخيها. وقد كان هذا بالفعل هو كل ما تعرفه عنها، وحتى هذا القدرُ الضئيل الذي حكَتْه لي خالتي من القصة، ما كان العم جاسبر ليرضى بأن تقصه على مسامعي.

قلتُ: «هل هو لا يحب حقًّا هذا النوع من الموسيقى؟ إذن ما نوع الموسيقى الذي يفضِّله؟»

«يمكنكِ القول إنه يفضِّل الأشكالَ الأكثر قدمًا من الموسيقى، لكنْ بالقطع ليس الموسيقى الكلاسيكية.»

«هل يحب فرقة البيتلز؟»

«أوه يا إلهي، بالطبع لا.»

«ولا موسيقى لورنس ويلك؟»

«لا يجوز لنا أن نناقش هذا، أليس كذلك؟ لم يكن ينبغي عليَّ الخوض في هذا.»

تجاهلتُ ما قالَتْه.

«إذن ماذا تفضِّلين أنت؟»

«إنني أحب كل أشكال الموسيقى.»

«لكن يجب أن تفضِّلي بعض الأشكال على الأشكال الأخرى.»

لم تقل شيئًا واكتفَتْ بواحدة من ابتساماتها الصغيرة. كانت ابتسامة يشوبها بعض التوتر، وكانت تشبه تلك الابتسامة التي تمنحها، على سبيل المثال، للعم جاسبر وهي تسأله عن رأيه في طعام العشاء، وإن كانت هذه الابتسامة تنمُّ عن قلقٍ أكبر. وكان في الغالب تقريبًا يعبِّر لها عن استحسانه، لكنْ مع إبداء بعض الملاحظات؛ فكان يقول: جيد، لكنه حار بعض الشيء، أو تنقصه بعض التوابل، وربما كان يقول إنه يحتاج إلى مزيدٍ من النضج، أو إنها قد تركَتْه ينضج لفترة طويلة. وذات مرة قال: «إنه لا يروق لي.» ورفض أن يفصح عن السبب، وتلاشَتِ ابتسامتها ومطَّتْ شفتَيْها وسيطرَتْ على أعصابها بنحوٍ بطوليٍّ.

ماذا كان يحتوي هذا العشاء؟ أعتقد أنه كان كاري، لكن ربما اعتقدت كذلك لأن والدي لم يكن يفضِّله، بالرغم من أنه لم تكن تصدر عنه أي شكوى عندما كان يُطهَى. وقد نهض زوج خالتي وصنع لنفسه سندوتشًا من زبدة الفول السوداني، وتأكيده على رأيه هو ما كان يرقى لمستوى الشكوى. ولم تكن خالتي تهدف إلى إثارة استفزازه من خلال تقديم أي نوعٍ من الطعام، وربما كان هناك شيء غير مألوف قليلًا في إحدى المجلات وبدا بمثابة وجبة جيدة. وحسبما أتذكر، تناوَلَ العم جاسبر وجبته عن آخِرها قبل أن يصدر حكمه؛ لذا فما كان يحركه ليس هو الشعور بالجوع، لكنها الحاجة إلى التفوُّه بعبارةٍ تنمُّ بصورةٍ تامة وقوية عن عدم استحسانه لنوع الطعام المقدَّم له.

يُخَيَّل إليَّ الآن أنه ربما يكون قد حدث شيء خطأ بالمستشفى في ذلك اليوم؛ فربما تُوفي أحدهم، ولم يكن من المفترض أن يحدث ذلك، وربما لم تكن المشكلة تكمن في الطعام على الإطلاق، لكني لا أعتقد أن ذلك قد خطر على ذهن الخالة دون، وإنْ حدَثَ ذلك بالفعل، فإنها لم تفصح عن شكوكها؛ فقد كانت آسفةً بشدة على ما حدث.

•••

في ذلك الوقت، كانت الخالة دون تواجِه مشكلة أخرى، ولكني لم أدركها إلا فيما بعدُ؛ فقد كانت لديها مشكلة مع الزوجين اللذين يقطنان في المنزل المجاور. لقد انتقلا إلى منزلهما الجديد في نفس الوقت الذي قَدِمتُ فيه أنا تقريبًا إلى منزل خالتي. كان الزوج هو المفتش على مدرسة المقاطعة، وكانت الزوجة معلمةَ موسيقى، وقد كانا تقريبًا في نفس عمر الخالة دون، وكان يصغران العم جاسبر. ولم يكن لديهما أطفال أيضًا، ممَّا جعلهما يتفرغان للحياة الاجتماعية. كما أنهما كانا في مرحلة التعرف على مجتمع جديد يبدو فيه كل شيء مُشرِقًا وبسيطًا؛ ومن هذا المنطلق، فقد دعَوَا الخالةَ دون والعم جاسبر إلى منزلهما لتناوُل بعض المشروبات. كانت الحياة الاجتماعية لخالتي وزوجها محدودةً للغاية، ومعروفٌ في المدينة أنها كذلك، حتى إن خالتي لم تعتَدْ أن تردَّ بالرفض لأي دعوة من قبلُ؛ وهكذا، وجدا أنفسهما يزورانهما، ويتناولان المشروبات معهما ويتجاذبان أطراف الحديث، وأتخيَّل أن العم جاسبر قد راقَتْ له تلك المناسبة، على الرغم من أنه لم يغفر لخالتي فداحة جرمها بقبولِ دعوةِ هذه الزيارة.

والآن قد أصبحت خالتي في مأزقٍ؛ فقد أدركَتْ أنه حينما يدعوك أحد لمنزله وتذهب بالفعل، فمن المفترض أن ترد أنت أيضًا له الدعوةَ؛ فتقدِّم له المشروبات وكذلك القهوة في المقابل، وليس ثمة داعٍ لإعداد طعام لهم. لكنْ حتى ذلك القدر الضئيل المطلوب لم تَدْرِ كيف تقدِّمه. لم يجد زوج خالتي ما يعيب الجيران، لكنه ببساطة لا يحبِّذ استضافةَ شخصٍ غريبٍ في منزله، تحت أي ظرف.

ثم لاحت إمكانيةٌ لحلِّ تلك المعضلة من خلال الأخبار التي أحضرتها إليها؛ فالموسيقيون الثلاثة الذين كانوا سيأتون من تورونتو — والذين من بينهم مونا بالطبع — كانوا سيقدِّمون عرْضَهم في مبنى البلدية لليلةٍ واحدةٍ فقط، وتصادَفَ أنها تلك الليلة التي سيكون فيها العم جاسبر خارج المنزل ويُضطر للبقاء خارجه لوقتٍ متأخِّرٍ بعض الشيء؛ فهي ليلة الاجتماع والعشاء السنويَّيْن العامَّيْن لأطباء المقاطعة. وهي ليست بوليمة، وكانت الزوجات غير مدعوَّات.

كان الجاران ينويان حضورَ الحفل الموسيقي، وكان لزامًا عليهما هذا، إذا ما وضعنا في الاعتبار مهنة الزوجة. لكنهما وافقَا على ردِّ الزيارة بمجرد أن ينتهي الحفل الموسيقي، لتناول القهوة والأطعمة الخفيفة، وأن يلتقَوْا — وهو الأمر الذي جاوزَتْ به خالتي حدودَها — الموسيقيين الثلاثة الذين سيأتون للزيارة أيضًا ويمكثون لبضع دقائق.

لا أدري القدْرَ الذي أفصحَتْ عنه خالتي بشأن علاقتها بمونا كاسل. وإنْ كان لديها القليل من حُسْن التقدير، فمن المفترض ألَّا تكون قد أفصحَتْ عن شيء. وحُسْنُ التقدير هو شيء تتمتَّع بالكثير منه معظمَ الوقت، وأنا على ثقةٍ من أنها قد أوضحَتْ بالفعل أن زوجها لن يتمكَّن من الحضور في تلك الليلة، لكنها ما كانت لتتجاوز حدودَ المنطق وتخبرهما بأنه ينبغي أن يُخْفَى أمر ذلك اللقاء عنه. وماذا عن إخفائه عن برنيس التي تعود لمنزلها في وقت العشاء، وبالقطع ستشتمُّ رائحةَ تلك الترتيبات؟ لا أدري. والأهم من هذا كله كيف استطاعت خالتي توجيه الدعوة للعازفِين؟ هل كانت على اتصالٍ بمونا طوالَ الوقت؟ لا ينبغي أن أفكِّر على هذا النحو؛ فليس من شِيَمها بالقطع أن تخدع زوجها هكذا على مدًى طويل.

أتخيَّل أنها قد تصرَّفَتْ بتهوُّر وكتبَتْ رسالةً وذهبت بها إلى الفندق الذي كان يُقِيم فيه أفراد الفرقة؛ فلم يكن لديها عنوانهم في تورونتو.

وحتى عندما دخلت الفندق، لا بد أنها تساءلَتْ عمَّن يمكن أن يكون قد لمحها، وتضرَّعَتْ للرب بألَّا تصل الرسالةُ إلى المدير، الذي كان يعرف زوجها، لكن الموظفة الجديدة، التي كانت سيدة شابة، كانت غريبة بعض الشيء عن البلدة، وربما حتى لا تعرف أنها زوجة الطبيب.

وربما تكون قد ألمحَتْ للعازفين أنها لا تتوقَّع أن يمكثوا إلا لفترة قليلة؛ حيث إن الحفلات الموسيقية مُتعِبةٌ للغاية، ويكون على العازفين فيها أن يشقُّوا طريقَهم إلى بلدةٍ أخرى مبكرًا في صباح اليوم التالي.

لكن لماذا تحمَّلَتْ تلك المخاطَرة؟ لماذا لم تستقبل الجارين فقط وترحِّب بهما بنفسها؟ من الصعب التكهُّن بذلك. ربما شعرَتْ بأنْ ليس بمقدورها إدارة الحوار بمفردها؛ ربما أرادَتْ أن تُظهِر لمحةً من الصداقة أو القَبُول لأخت زوجها، التي لم تلتقِ بها مطلقًا من قبلُ على حد علمي.

لا بد أنها كانت تشعر بالارتباك بسبب تآمُرها ذلك، فضلًا عن قلقها الشديد وتضرُّعها بأن يسير كلُّ شيء كما تريده، وأن يحالفها الحظ خلال الأيام السابقة على اللقاء، عندما كانت هناك خطورة بأن يكتشف العم جاسبر الأمرَ عن طريق الصدفة؛ فقد يلتقي بمعلمة الموسيقى، على سبيل المثال، في الشارع، وتشرع في التعبير له بحماسٍ عن شكرها وترقُّبها لِلِّقاء.

•••

لم يكن العازفون يشعرون بإرهاقٍ شديد بعد انتهاء الحفلة الموسيقية، كما قد يعتقد المرء، ولم تثبط همتهم بسبب صِغَر عدد الجمهور في مسرح مبنى البلدية، وهو الأمر الذي ربما لم يمثِّل مفاجأةً؛ فحماسُ الجارين، والدفْءُ الذي كان يشعُّ من غرفة المعيشة (حيث كان مبنى البلدية شديد البرودة)، وكذلك توهُّج الستائر القطيفة ذات اللون الأحمر الفاتح، التي كانت تبدو ذات لون كستنائي باهت أثناء النهار لكنها كانت باعثة على البهجة بعد أن يحل الظلام؛ كل تلك الأشياء كانت كفيلةً برفع معنوياتهم؛ فالوحشة التي لمسوها بالخارج كانت تتناقض مع ما شعروا به في الداخل، وقد أدَّتِ القهوة التي قُدِّمت إلى أن يسرِي الدفْءُ في أوصال أولئك الغرباء الذين أعياهم الطقس السيئ، فضلًا عن خمر الشيري الذي أعقب القهوة؛ فقد قُدِّم خمر الشيري أو البورت في كئوس من الكريستال ذات أحجام وأشكال ملائمة، بجانب قِطَعِ الكعك الصغيرة المزيَّنة بشرائح جوز الهند، والبسكويتِ الناعم الذي على شكلِ مُعَيَّنٍ أو هلالٍ، وبسكويتِ ويفر الشوكولاتة. إنني لم أرَ مثل هذه الأشكال من قبلُ؛ فأبواي كانا يُقِيمان حفلاتٍ يتناول فيها الضيوفُ الفلفلَ الحار في أواني من الفخار.

ارتدَت الخالة دون ثوبًا ذا تصميمٍ بسيط مصنوع من قماش الكريب باللون القرنفلي المائل لِلَّون الأصفر، وكان من ذلك النوع من الثياب الذي يمكن أن ترتديه امرأةٌ أكبر سنًّا منها ويجعلها وقورةً في ثوبٍ لا يخلو من زينة، لكن خالتي كانت تبدو وكأنها تشارِك في احتفالٍ فاضحٍ بعض الشيء. وكانت جارتها متأنقةً هي الأخرى، وربما بصورةٍ أكثر ممَّا تتطلَّبها المناسبة. أما الرجل القصير الممتلئ الذي كان يعزف على آلة التشيلو، فقد ارتدى بذلة سوداء، ورابطة عنق فراشية الشكل أنقذَتْه من أن يظهر بمظهر متعهِّد دفْنِ الموتى، وارتدَتْ عازفةُ البيانو، التي كانت زوجته، ثوبًا أسود اللون به الكثير من الكشكشة التي لا تلائم قوامَها العريض. لكن مونا كاسل كانت مُشرِقةً كالقمر بفستانها الانسيابي ذي الحِلَى الفضية؛ كانت ذات قوام ضخم، وأنف كبير كأنف أخيها.

لا بد أن الخالة دون قد أعَدَّتِ البيانو، وإلا لما التفوا حوله هكذا. (وإذا ما بَدَا أن وجود البيانو في المنزل شيء غريب، مع الوضع في الاعتبار آراء عمي عن الموسيقى التي سرعان ما سيكشف عنها، فلا يسعني إلا أن أقول إنَّ كل المنازل التي من نفس طرازِ منزلِ خالتي، وتنتمي لنفس الفترة التي كان موجودًا فيها؛ كان يجب أن تضم واحدًا.)

طلبت جارتنا أن تستمع إلى مقطوعة «موسيقى الليل الصغيرة» لموتسارت، وقد أيَّدْتُها في طلبها كنوعٍ من التباهي؛ والواقع أنني لم أكن أعرف شيئًا عن المقطوعة الموسيقية سوى عنوانها فقط، وذلك من خلال دراستي لِلُّغة الألمانية في مدرستي القديمة بالمدينة.

ثم طلب الزوج أن يستمع لمقطوعةٍ ما، وبالفعل عزفه العازفون، وعندما انتهوا طلَبَ الصفْحَ من الخالة دون بسبب وقاحته لأنه أسرع بطلبِ عزْفِ مقطوعته المفضَّلة قبل أن يتسنَّى للمضيفة أن تطلب اللحنَ الذي تُفضِّل سماعَه.

قالت الخالة دون إنَّ عليه ألَّا ينزعج بشأنها، فإنه يروق لها سماع كل شيء، ثم غرقت في موجةٍ من الخجل الشديد. ولا أدري إذا ما كانت تهتم بالموسيقى على الإطلاق، لكنْ بَدَا الأمر بالقطع كما لو أنها تشعر بالإثارة بشأن شيءٍ ما؛ ربما لأنها مسئولةٌ شخصيًّا عن هذا اللحظات، عن تلك البهجة المنتشرة في المكان.

هل يمكن أن تكون قد نسيَتْ، لكن كيف يتسنَّى لها هذا؟ ينتهي اجتماع أطباء المقاطعة، العشاء السنوي، وكذلك انتخاب المسئولين في الغالَب بحلول العاشرة والنصف، وقد أضحت الآن الحادية عشرة مساءً.

لقد فات الأوان، لقد فات الأوان. ولاحَظَ كلانا تأخُّرَ الوقت.

•••

إن الباب الخارجي الحاجز كان يُفتَح آنئذٍ، ثم الباب المؤدي إلى البهو الأمامي، ودون أن يتوقَّف العم جاسبر هناك كعادته كي يخلع حذاءَه العالي الرقبة، أو معطفه الثقيل أو وشاحه، دلف بخطًى واسعة إلى غرفة المعيشة.

لم يتوقَّف العازفون الذين كانوا في منتصف عزفهم لإحدى القِطَع الموسيقية، وحيَّا الجاران زوجَ خالتي بابتهاجٍ لكنْ بصوت خفيض مراعاةً للموسيقى التي كانت تُعزَف. وقد بَدَا بضِعْف حجمه الحقيقي بمعطفه الذي فكَّ أزراره، ووشاحه الذي حله، وبحذائه العالي الرقبة الذي كان لا يزال يرتديه. حدَّقَ بغضب، لكنْ لم تكن نظراته مصوَّبةً نحو شخصٍ بعينه، ولا حتى نحو زوجته.

ولم تكن هي تنظر باتجاهه، وقد شرعت في رفع الأطباق من المائدة التي بجوارها واضعةً كلَّ طبقٍ فوق الآخَر، ولم تلحظ حتى وجود بقايا الكعك التي تفتَّتت بدورها عند وضع الأطباق بعضها فوق بعض.

وبخطواتٍ ليست بسريعة أو وئيدة، سار عبر غرفة المعيشة المزدوجة، ومنها إلى غرفة الطعام، ومر عبر الباب الدوار إلى المطبخ.

كانت عازفة البيانو تجلس ويدها ساكنة فوق مفاتيح البيانو، وقد توقَّف عازف التشيلو عن عزفه، أما عازفة الكمان فقد استمرت في العزف بمفردها؛ ولا أدري حتى الآن إن كانت تلك طريقة عزف المقطوعة، أم أنها كانت تهزأ به عن عمد. لم ترفع بصرها — بقدر ما أستطيع أن أتذكَّر — لمواجهة ذلك الرجل المتجهِّم، واهتزَّ رأسها الضخم، الذي كان يكسوه الشعر الأبيض الذي يشبه شعره، لكنه كان أكثر جفافًا وتلفًا بفعل الطقس السيئ بعض الشيء، لكن ربما كانت تهتزُّ طوالَ الوقت من قبلُ.

عاد وهو يحمل في يده طبقًا مليئًا بقِطَع لحم الخنزير وحبات الفاصوليا. لا بد أنه فتح لتوِّه إحدى عبوات الطعام المعلَّب وأفرَغَ محتوياتها باردةً في الطبق. لم يأبه بخلع معطفه الثقيل، وشرع في تناوُل الطعام كما لو كان يجلس بمفرده ويشعر بالجوع، وظل كما هو لا يتطلَّع إلى أحدٍ وإنما كان يُحدِث ضجيجًا بشوكة الطعام. قد تعتقد أنهم لم يقدِّموا ولو القليل من الطعام في الاجتماع والعشاء السنويَّيْن لأطباء المقاطعة.

لم أَرَه يأكل على هذا النحو مطلقًا من قبلُ؛ فسلوكياته على المائدة كانت دومًا تحمل بعض الغطرسة، لكنها كانت مهذَّبة.

انتهت المقطوعة التي كانت أخته تعزفها، ربما بعد أن عُزِفت بالكامل، وقد انتهت قبل إحضار العم جاسبر لحمَ الخنزير والفاصوليا بقليلٍ. نهض الجاران واتجها نحو البهو الأمامي وارتديا ملابس الخروج وأومآ برأسَيْهما مرةً واحدةً تعبيرًا عن وافر امتنانهما، وذلك بعد أن تملَّكَهما اليأسُ من البقاء.

والآن شرع العازفون في المغادرة لكن دون عجالة؛ فعليهم حَزْم الآلات الموسيقية أولًا بنحوٍ مناسب، حيث لا يمكن أن تُدَسَّ بنحوٍ عشوائي فحسب في حقائبها. لقد رتَّبَ العازفون أشياءَهم بطريقتهم التي لا بد أنها المعتادة وبصورة منظَّمة، ثم رحلوا هم أيضًا بعد ذلك. لا يمكنني تذكُّر شيء آخَر ممَّا قيل بعد ذلك، وما إذا كانت الخالة دون قد استجمعت شتات نفسها كي تعبِّر عن شُكْرِها لهم، أو تَتْبَعهم حتى باب المنزل؛ فلم يكن بإمكاني أنْ أُعِير ذلك اهتمامًا لأن العم جاسبر قد شرع في الحديث بصوتٍ عالٍ جدًّا، والشخص الذي وجَّهَ إليه كلامَه هو أنا. أعتقد أنني أتذكَّر أن عازفة الكمان صوَّبَتْ إليه نظرَها حينما شرع في الحديث، لكنه تجاهَلَها تمامًا أو ربما لم يَرَها من الأساس. لم تكن نظرةً تنمُّ عن الغضب كما يتوقَّع المرء، أو حتى تُوحِي بالدهشة؛ لقد كانت متعبةً بشدة فحسب، وكان وجهها باهتًا بصورةٍ ربما لا يتخيَّلها المرء.

قال العم جاسبر موجِّهًا حديثَه نحوي كما لو أنه لا يوجد غيري بالمكان: «والآن أخبريني: هل يستمتع والداكِ بمثل هذه الأشياء؟ أعني، هذا النوع من الموسيقى؟ الحفلات الموسيقية وما شابَهَها؟ هل دفَعَا نقودًا من قبلُ من أجل الجلوس لساعتين وهم يتململان من التعب في مقعدَيْهما من أجل الاستماع لشيءٍ لن يتذكَّراه بعد انقضاء نصف يوم فقط؟ هل يدفعان النقودَ هكذا ببساطةٍ لكي يُخدَعا على هذا النحو؟ هل تعرفين إنْ كانا يفعلان ذلك أم لا؟»

أجبتُ بالنفي، وكانت هذه هي الحقيقة؛ فلم أَرَهما يذهبان إلى حفلة موسيقية من قبلُ، بالرغم من أنهما كانا يحبان الحفلات الموسيقية بوجهٍ عام.

«أرأيتِ؟ إنهما يتحليان بقدرٍ كبير من التعقُّلِ؛ الكثيرِ من التعقُّل الذي يمنعهما من الانضمام إلى كل هؤلاء الأشخاص الذين يُحدِثون كلَّ ذلك الهرج والتصفيق، ويستمرون في تلك الحماقة كما لو أن الأمر من إحدى عجائب العالَم، هل تعرفين تلك النوعية من الأشخاص التي أعنيها؟ إنهم كاذبون، مجرد كومة من روث الخيول؛ إنهم يفعلون ذلك على أمل أن يبدوا من أبناء الطبقة العليا، أو على الأرجح أن يجعلوا زوجاتهم يظهرْنَ بمظهرِ مَن ينتمينَ للطبقة العليا. تذكَّرِي ذلك عندما تخرجين إلى العالم. اتفقنا؟»

وافقتُه في ذلك. إنني لم أشعر بالدهشة على الإطلاق حيال ما قاله؛ إن الكثير من الأشخاص كانوا يفكِّرون على هذا النحو، وبخاصةٍ الرجال؛ فهناك الكثير من الأشياء التي يبغضها الرجال، أو التي ليس لها أي فائدة، كما كانوا يقولون. وهذا شيء صحيح تمامًا؛ فهم لا يرون طائلًا من ورائها؛ ومن ثَمَّ فهم يكرهونها. وربما كان ذلك هو نفس شعوري تجاه علم الجبر؛ فأنا أشكُّ بشدةٍ في أنه سيكون له أي استخدامٍ بالنسبة إليَّ.

لكني لم أرغب في تجاوُز الحدود بالرغبة في أن يُمحَى هذا العلمُ من الوجود تمامًا من أجل ذلك السبب.

•••

عندما هبطتُ للأسفل في الصباح، كان العم جاسبر قد غادَرَ المنزل بالفعل، وكانت برنيس تنظِّف الأطباق في المطبخ، والخالة دون تضع الكئوس الكريستالية في الخزانة المخصَّصة للأواني الخزفية. ابتسمَتْ لي لكنْ لم تكن يداها ثابتتَيْن تمامًا؛ لذا اصطكَّتِ الأكواب بعضها ببعض قليلًا مُحدِثةً صوتًا تحذيريًّا.

قالت: «إن منزل الرجل هو قلعته الحصينة.»

قلتُ لها كي أروِّح عنها: «هذه توريةٌ، إنك تقصدين العم كاسل (في إشارةٍ إلى النطق المتشابِه لاسمه ونطق المقابل الإنجليزي لكلمة «قلعة» في العبارة السابقة).»

ابتسمتُ ثانيةً، لكني أعتقد أنها لم تكن تعرف حتى ما الذي أتحدَّث عنه.

قالت: «عندما تكتبين لأمك في غانا، لا أعتقد أنه ينبغي أن تذكري لها … أعني أنني أعتقد أنه لا ينبغي أن تذكري لها تلك المشكلة البسيطة التي حدثت ليلة أمس؛ أعني أنها عندما ترى الكثير من المشكلات الحقيقية، والناس الذين يتضوَّرون جوعًا وكل تلك الأشياء، فسنبدو أمامَها أشخاصًا تافهين متَّسِمين بالأنانية.»

لقد تفهمتُ ما قالَتْه، لكني لم أهتم أن أقول لها إنه حتى الآن لم تَرِد أنباء بأن هناك مجاعةً في غانا.

وعلى أية حال لم أرسل لوالدَيَّ أية خطابات إلا في الشهر الأول فقط، وكانت مليئةً بالوصف الساخر والشكوى؛ أما الآن فقد أصبح الوضع أكثر تعقيدًا بدرجةٍ يصعب شرحها.

بعد حوارنا عن الموسيقى، أضحى تعامُل العم جاسبر معي أكثر احترامًا؛ فقد كان يستمع لآرائي عن الرعاية الصحية التي تقدِّمها الحكومة كما لو أنها آرائي وليست مستقاة من آراء والدَيَّ. وقال ذات مرة إنه من دواعي سروره أن يجد شخصيةً ذكيةً مثلي يتجاذب معها الحديث أثناء تناوُل الطعام، وقد وافقَتْه خالتي الرأي، لمجرد أن تبدو شخصيةً لطيفةً، لكن عندما ضحك بطريقة غريبة، احمرَّ وجهها خجلًا. كانت معاملتُه لها قاسيةً في تلك الفترة، لكنْ بحلول عيد الحب كان قد سامَحَها، وتلقَّتْ منه هديةً وهي عقد من عقيق الهيلوتروب، ممَّا جعلها تبتسم وتتنحى جانبًا لتذرف في نفس الوقت دموعًا تنمُّ عن ارتياحها.

•••

إن شحوبَ وجه مونا الشديد، وبروزَ عظامها التي لم ينجح ثوبها الفضي في إخفائه؛ ربما كانا من علامات مرضها. لقد أعلنَتِ الجريدة المحلية عن موتها في ذلك الربيع مع ذِكْرٍ للحفل الموسيقي الذي قدَّمَتْه في مبنى البلدية. أعادت جريدة تورونتو نشر النعي الخاص بها بجانب لمحةٍ عن مسار حياتها بَدَتْ ملائمةً لتعزيز مكانتها، إنْ لم تكن جيدةً جدًّا. وعبَّرَ العم جاسبر عن دهشته، لكن ليس حيال موتها، إنما لأنها كانت ستُدفَن في تورونتو. ستقام مراسم الجنازة والدفن في كنيسة هوزاناس التي تقع على بُعْد أميالٍ قليلة من شمال بلدته؛ أيْ في الريف. لقد كانت كنيسةَ العائلة عندما كان العم جاسبر ومونا/مود صغيرَيْن، وكانت كنيسة أنجليكانية. كان العم جاسبر والخالة دون من رعايا الكنيسة المتحدة آنئذٍ، كما كان يفعل معظم الموسرين في البلدة حينها، وكان رعايا تلك الكنيسة متشدِّدين في معتقداتهم، لكنهم لم يعتقدوا أنه ينبغي عليهم أن يذهبوا للكنيسة كلَّ أحدٍ، وكانوا لا يرون أن الرب يغضب من تناوُل أحدهم كأسًا من الخمر بين الحين والآخَر. (كانت برنيس، الخادمة، تذهب إلى كنيسةٍ أخرى وتعزف على آلة الأرغن هناك، وكانت رعايا تلك الكنيسة صغار العدد وغريبي الأطوار؛ فقد كانوا يتركون منشورات عند أبواب المنازل في البلدة، وكانت تضم قوائمَ بأسماء الأشخاص الذين سيذهبون إلى الجحيم، الذين لم يكونوا من الأشخاص العاديين، إنما من الأشخاص المعروفين مثل رئيس الوزراء بيير ترودو.)

قال العم جاسبر: «إن كنيسة هوزاناس لم تَعُدْ تُقِيم أيَّ طقوسٍ دينية، فما الجدوى من إحضارها إلى هنا؟ فلا أعتقد حتى أن ذلك مسموح به.»

لكن اتضح أن الكنيسة قد فتحت أبوابها لممارسة كل الطقوس الدينية؛ فالأشخاص الذين كانوا يتردَّدون عليها في شبابهم كانوا يفضِّلون الذهابَ إليها لإقامة مراسم الجنازات، وفي بعض الأحيان كانوا يُزوِّجون أولادَهم فيها. كانت بحالةٍ جيدة من الداخل، بفضْلِ هبةٍ بمبلغ كبير أوصى بها أحدُ رعاياها لتطويرها، وكانت وسائلُ التدفئة بها عصريةً.

•••

وصلنا أنا والخالة دون إلى هناك بسيارتها، وكان العم جاسبر مشغولًا حتى آخِر لحظة.

لم أحضر من قبلُ أيَّ جنازات؛ فلم يكن أبواي يعتقدان أن الطفل بحاجةٍ إلى أن يمر بتجربةٍ كهذه، حتى إن كان يُشار إليها — حسبما أتذكر — في محيط معارفهم بتأبين الميت.

لم تتشح الخالة دون بالسواد، كما كنتُ أتوقَّع، وإنما كانت ترتدي بذلةً من اللون الأرجواني الفاتح الهادئ، وسترةً من جلد الحمل الفارسي، وقبعةً صغيرة مستديرة تماثلها. كانت تبدو جميلةً للغاية، وبَدَا أن معنوياتها كانت مرتفعةً بدرجةٍ لم تستطِعْ إخفاءها.

لقد انتهت من مشكلةٍ كانت تؤرِّقها؛ الخلاف الذي كان بينها وبين العم جاسبر؛ وهذا الأمر جعلها تشعر بالسعادة.

لقد تغيَّرَ بعض أفكاري خلال الفترة التي قضيتُها مع خالتي وزوجها؛ فعلى سبيل المثال: لم أَعُدْ شخصيةً غير ناقدة لأشخاصٍ مثل مونا، أو لمونا نفسها، ولموسيقاها، وحياتها المهنية. فلم أَعُدْ أعتقد أنها شخصية استثنائية، أو كانت كذلك، لكني أستطيع أن أتفهَّم كيف أن بعض الأشخاص قد يرونها كذلك. ولم تكن المسألة تتعلَّق ببنيتها الضخمة، وأنفها الأبيض الضخم، والكمان والطريقة المضحكة التي تحمله بها؛ وإنما الأمر يتعلَّق بالموسيقى نفسها وحبها الشديد لها. إن ولع المرأة الشديد بشيءٍ ما قد يجعلها تبدو سخيفةً.

لكن ذلك لا يعني أنني اعتنقتُ طريقةَ تفكيرِ زوج خالتي بالكامل؛ إنما كلُّ ما في الأمر أنها لم تَعُدْ غريبةً جدًّا بالنسبة إليَّ كما كانت من قبلُ. بينما كنتُ أنسلُّ ذات مرة من أمام غرفة نوم خالتي وزوجها المغلقة في الصباح الباكر في أحد أيام الآحاد، وأنا في طريقي لكي أحضر واحدةً من كعك القرفة الذي كانت تعدُّه خالتي في ليلةِ كلِّ سبتٍ، ترامَتْ إلى مسامعي أصواتٌ لم يَصْدُر مثلها عن أبي وأمي أو عن أي شخصٍ آخَر، كانت أصواتَ همهماتٍ وصيحاتٍ ممزوجة بالمتعة التي توحي بالاشتراك في اقترافِ شيءٍ ما، وتوحي بحالة من التقصير أربكتني وأحبطتني.

قالت الخالة دون: «لا أعتقد أنه سيأتي الكثيرون من تورونتو إلى هنا. وحتى آل جيبسون لن يتمكَّنَا من المجيء أيضًا؛ فالزوج لديه اجتماع، والزوجة لن تتمكَّن من تغييرِ جدولِ حصص طلابها.»

آل جيبسون هما مَن يقطنان بالمنزل المجاور لنا، وقد استمرت صداقتنا لهما لكنها كانت محدودةً؛ فلم تكن هناك زيارات متبادَلة بيننا وبينهما.

قالت لي فتاةٌ بالمدرسة: «انتظري حتى يجعلوك تُلْقِين النظرةَ الأخيرة عليها؛ فلقد كان عليَّ أن أُلقِي نظرةً على جثمان جدتي، وقد فقدت الوعي بعدها.»

لم أسمع من قبلُ عن النظرة الأخيرة هذه، لكني استطعتُ أن أخمِّن ما يجب أن تكون، وقرَّرْتُ أن أنظر لجثمان مونا بمؤخرة عينَيَّ وأتظاهر بأنني أحدق فيه.

قالت الخالة دون: «ما دامت الكنيسة لا تحتوي على تلك الرائحة العَطِنة، فإنها لن تؤثِّر على الجيوب الأنفية لزوجي.»

لم تكن هناك أية رائحة عَطِنة، ولا يوجد أي أثر لرطوبة شديدة تتسرَّب من الأرضية والجدران الحجرية ممَّا يوقع الكآبة في النفس. لا بد أن أحدهم قد استيقظ في الصباح الباكر وأدار جهازَ التدفئة.

امتلأَتِ المقاعد تقريبًا عن آخِرها.

قالت الخالة دون بصوتٍ هادئ: «هناك كثيرٌ من المرضى الذين يعالجهم زوجي جاءوا إلى هنا، هذا شيء لطيف. ما من طبيبٍ آخَر في البلدة يفعل المرضى من أجله شيئًا كهذا.»

كانت عازفة الأرغن تعزف مقطوعةً أعرفها جيدًا؛ فلديَّ صديقة، في فانكوفر، قد عزفَتْها في إحدى الحفلات الموسيقية في عيد الفصح. إنها مقطوعة «أيها المسيح، يا فرحة رغبة الإنسان.»

كانت السيدة التي تعزف على آلة الأرغن هي عازفة البيانو في الحفلة الصغيرة التي أُقِيمت في المنزل ولم تكتمل، وكان عازف التشيلو يجلس في أحد مقاعد الجوقة بالجوار، وربما كان سيعزف إحدى المقطوعات لاحقًا.

بعدما جلسنا ننصت لفترةٍ شعرنا ببعض الجلبة في خلفية الكنيسة. لم أُدِرْ رأسي كي أعرف مصدرَها لأنني لاحظتُ لتوِّي الصندوقَ الداكن اللون الخشبي اللامع الذي كان موضوعًا بالعرض أسفل المذبح مباشَرةً؛ النعش، وكان بعض الناس يطلق عليه التابوت. وقد كان مغلقًا. لم يكن عليَّ أن أشعر بالقلق حيال النظرة الأخيرة على الجثمان إلا ريثما يفتحونه، ومع هذا تخيَّلْتُ شكلَ مونا بداخله؛ بأنفها الضخم البارز الذي يشير قليلًا إلى أعلى، وجسمها وقد نحل تمامًا، وعينَيْها المغلقتين. رحتُ أثبت تلك الصورة جيدًا في مخيلتي حتى شعرتُ بدرجةٍ من القوة كفيلةٍ بأن تمنعني من الشعور بالغثيان.

ولم تُدِر الخالة دون رأسها هي الأخرى مثلي كي ترى ما الذي كان يدور خلفنا.

كان مصدر ذلك الإزعاج الطفيف يأتي من الممر الجانبي، وتبيَّنَ أن العم جاسبر هو المتسبِّب فيه. لم يتوقَّف عند المقعد الذي كنَّا نجلس فيه أنا والخالة دون حيث احتفظنا بمكانٍ له؛ مرَّ بجوارنا بخطًى وقورة لكنها عملية، وكان بصحبته شخصٌ ما.

الخادمة برنيس التي كانت في كامل زينتها، وقد ارتدت بذلةً بلون أزرق داكن وقبعةً بنفس اللون مزركشة ببعض الورود. لم تكن تنظر نحونا أو باتجاهٍ أي شخص، وقد احمرَّتْ وجنتاها وأطبقَتْ شفتَيْها.

ولم تكن الخالة دون أيضًا تنظر نحو أحد؛ فقد انهمكت في تلك اللحظة في قلب صفحات كتاب الترانيم الذي أخذته من جيب المقعد الذي أمامها.

لم يتوقف العم جاسبر عند النعش؛ فقد كان يقود برنيس نحو آلة الأرغن. كانت هناك دقات عالية غريبة تثير الدهشة في الموسيقى التي تُعزَف، ثم تبعتها نغماتٌ خافتة، ثم ما لبثَتْ أن توقَّفَتْ، وبعدها ساد الصمت فيما عدا الأصوات الصادرة من بعض الأشخاص الذين كانوا يتحركون ببطء ويحاولون الإصغاء لما يدور في القاعة.

اختفت الآن عازفة البيانو التي كانت تعزف على الأرغن وكذلك عازف التشيلو، لا بد أن هناك بابًا جانبيًّا قد خرجا منه. أجلَسَ العم جاسبر برنيس مكانَ المرأة.

وبمجرد أن بدأَتْ برنيس في العزف، تحرَّكَ عمي للأمام، وأشار إلى الجمع في القاعة. كانت هذه الإيماءة تعني أنْ ينهضوا ويشرعوا في الغناء، وقد فعل عدد قليل منهم بالفعل ما أراد، ثم زاد عددهم إلى أن أصبح الجميع يغني.

راحوا يهمهمون وهم يقلِّبون صفحات كتب الترانيم الذي بأيديهم، لكن معظمهم استطاع أن يبدأ الغناء قبل حتى أن يعثر على الكلمات: «الصليب العتيق القوي.»

انتهت مهمة العم جاسبر، وكان بمقدوره الآن أن يعود ويشغل المكان الذي كنَّا نحتفظ له به.

لكن كانت هناك مشكلة واحدة؛ شيء لم يأخذه في الحسبان.

هذه كنيسة أنجليكانية، أما في الكنيسة المتحدة التي يتردَّد عليها العم جاسبر، فإن أفراد الجوقة كانوا يدلفون من بابٍ خلف منبر الوعظ، ويستقرون في أماكنهم قبل أن يدخل القس، وهكذا كانوا يتمكَّنون من التطلُّع نحو الجمع المتواجِد ولسان حالهم يقول: نحن نشعر بالطمأنينة لتواجدنا معًا في هذا المكان. ثم كان يدخل القس، ودخوله كان بمنزلة إشارة لإمكانية بدأ الطقوس. أما في الكنيسة الأنجليكانية فإن أفراد الجوقة يسيرون عبر الممر حيث يأتون من الخلف، وهم ينشدون ويعلنون عن ظهورهم بطريقةٍ جادةٍ لا تكشف عن شخصيةِ أحدٍ منهم. يرفعون أعينَهم عن الكتب من أجل التطلُّع إلى المذبح فقط، ويبدون مختلفين قليلًا وكأنهم قد انسلخوا عن هوياتهم المعتادة، ولا يدرون مَن حولهم من أقارب أو جيران أو أي أحدٍ آخَر في الجموع المتواجدة.

وها هم يأتون عبر الممر الآن ويردِّدون كالباقين: «الصليب العتيق القوي»، ولا بد أن العم جاسبر قد تحدَّثَ إليهم قبل أن يشرعوا في الغناء، وربما قد أوضَحَ لهم أنها الترنيمة المفضَّلة لدى المتوفَّاة.

أما المشكلة فكانت تكمن في المساحة المتاحة وأعداد الأشخاص المتواجدين. فمع تواجُد أفراد الجوقة في الممر، لم يكن هناك سبيلٌ كي يعود العم جاسبر إلى مقعدنا؛ فما من سبيل أمامه للرجوع.

ولم يكن أمامه سوى شيء واحد يفعله، وبسرعة، وقد فعله. فلم يكن أفراد الجوقة قد بلغوا المقعد الأمامي بعدُ؛ لذا فقد أقحَمَ نفسه بداخله، واعترت الدهشةُ مَن يقفون بجواره لكنهم أفسحوا له مكانًا بينهم؛ أيْ أفسحوا له مكانًا قدرَ المستطاع. وكانوا بالمصادفة ممتلئي الجسم، وكان هو عريضَ المنكبين على الرغم من كونه شخصًا نحيفًا.

سأتمسك بذلك الصليب العتيق المهترئ
حتى لا أتباهى بما قمتُ به من أعمال صالحة.
سأتشبَّث بالصليب العتيق المهترئ
وسأستبدل به تاجًا في يومٍ ما.

هذا ما كان عمي يغنيه، وبكل ما أوتي من حماسةٍ في المساحة التي أُتِيحت له، ولم يكن بمقدوره أن يستدير ليواجه المذبح، بل كان عليه أن ينظر جانبًا نحو الخارج باتجاه أفراد الجوقة الذين كانوا يتحركون. ولم يستطع أن يخفي شعوره بأنه قد حُوصِر في مكانه. سار كل شيء على ما يرام، ولكن ليس بنفس الصورة التي تخيَّلَها تمامًا. وحتى بعد أن انتهى الغناء، بقي في مكانه؛ حيث جلس حاشرًا نفسه قدرَ المستطاع في تلك المساحة الضيقة مع أولئك الأشخاص. ربما ظنَّ أنها لن تكون خاتمةً مناسبةً آنئذٍ أن ينهض ويعود أدراجه عبر الممر كي ينضمَّ إلينا.

لم تشارِك الخالة دون في الغناء لأنها لم تعثر على مكان الترنيمة في كتاب الترانيم؛ يبدو أنها لم تتعقبها بالطريقة التي فعلتُها أنا.

أو ربما لمحَتْ أثرًا من خيبةِ أملٍ على وجه العم جاسبر حتى قبل أن يشعر هو نفسه به.

أو ربما أدركَتْ، ولأول مرة في حياتها، أنها لم تكن تهتم. لم تكن تهتم على الإطلاق.

•••

قال القس: «دعونا نصلِّ.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤