الفصل الحادي عشر

ظهور الوجودية

سورين كيركجورد (١٨٠٣–١٨٥٥م)

لم يظهر في إنجلترا أو الولايات المتحدة أي اهتمام جدي بكيركجورد من حيث هو فيلسوف إلا منذ الحرب العالمية الثانية، عندما تنبَّه الجميع، حتى المجلات الإخبارية الأسبوعية، إلى مذهب جديد غريب في الفلسفة الأوروبية اسمه «الوجودية». بل إن تواريخ الفلسفة المعتمدة لا تذكره حتى اليوم إلا لِمامًا، وعندما تذكره، فإنها لا تشير أبدًا إلى أنه ربما كان واحدًا من «عظماء» الفلسفة في القرن التاسع عشر. وما زال الجدل دائرًا حول المزايا الكامنة لأفكار كيركجورد الفلسفية، غير أن أحدًا لم يعد يستطيع إنكار أهميته التاريخية؛ إذ إن كتاباته كانت بمثابة الطليعة لحركة من أقوى الحركات الفلسفية أثرًا في عصرنا.

ولقد كان هذا من الأسباب التي جعلتني أرى من الضروري إدراجه في هذا الكتاب، وإن يكن هناك سبب آخر هو أنه مظهر لصورة أخرى اتخذتها أزمة العقل منذ عصر كانت.

ولقد كان كيركجورد من أشد الكُتاب قدرة على المخادعة في عصر كان يلائمه جدًّا إطلاق اسم عصر الغموض عليه. وكانت كتاباته أصعب حتى من كتابات نيتشه ذاتها، من حيث إمكان عرضها وتحليلها بطريقة منهجية منظمة. وليس معنى ذلك أن كيركجورد يفتقر إلى البراعة الأدبية، بل لقد كان، بعكس ذلك، مُغرَمًا إلى أبعد حد بتجميل أسلوبه، وهو قطعًا من أعظم الساخرين العقليين في تاريخ الأدب الحديث؛ ففي وسعه إذا شاء أن يكون ناقدًا فلسفيًّا عميقًا، كما حدث حين وجَّه ديالكتيكية المضاد المدمر ضد هيجل، ولكنه عادةً لا يدلي بحجج لدعم رأيه على الإطلاق، وإنما يعرض رأيه فحسب. وكما قال لي حديثًا فيلسوف بارز من أكسفورد، فإن كيركجورد ليس من أولئك الفلاسفة الذين يمكنك أن تمارس عليهم عملية صقل ذكائك. وهو في هذا الصدد أشبه بشاعر يقدِّم إلى قارئه عالمًا روحيًّا جديدًا غريبًا، يتعيَّن عليك أن تحيا وتتنفَّس فيه مؤقتًا إذا شئت أن تفهمه. وكيركجورد، مثل سقراط، هو أيضًا نوع من «ذباب الدواب» الذي يظل يلسع قُراءه حتى يؤدِّي العملية الأساسية للمعرفة الذاتية. ولكن المهمة الشاقة تقع على عاتقك أنت، أيها القارئ، وكل ما يفعله كيركجورد أو يحاول أن يفعله هو أن يصدمك بحيث تواجه حقيقة وجودك بوصفك كائنًا واعيًا. وبالاختصار فليس لدي كيركجورد مذهب يعرضه أو نظرية يدافع عنها، بقدر ما لديه من مسلك في الحياة وإحساس ومنظور يريد من قارئه أن يشاركه إياه إذا كان على استعداد لبذل الجهد اللازم.

وربما كان أول ما ينبغي أن يقال عن وجهة نظر كيركجورد — وإنها لَوجهة نظر أكثر من كونها «فلسفة» بالمعنى التقليدي — هو أنه يشترك مع نيتشه في تقزُّزه الشديد من العالم البرجوازي المريح، المنافق، التقدمي الذي عاش فيه. بل إن نيتشه ذاته لم يحمل على المسيحية التاريخية الموضوعة في قوالب منظمة بمرارة أشد ممَّا حمل بها عليها كيركجورد، المؤمن بالمسيحية. ونظرًا إلى ولائه الشديد للأناجيل، فقد حمل على الكنيسة القائمة بوصفها مجرد نظام رسمي محترم يقف في وجه هذا التقدم الروحي للفرد المسيحي. وهو يرفض تمامًا ادعاء الكنيسة أنها الخليفة الحقيقية لمسيحية الحواريين.

ولكن كيركجورد يحتفظ بأقوى حملاته لمحاولة هيجل تفسير التراث المسيحي وتبريره بطريقة عقلية مثالية؛ فهذا في رأيه، أوضح أعراض العلة العقلية التي تعانيها الفلسفة الحديثة. فهيجل لا يقدِّم إلينا إلهًا حيًّا، وإنما عرضًا ديالكتيكيًّا تاريخيًّا للأسطورة المسيحية، مهمته الوحيدة هي تحديد الموقع الذي يرابط فيه الناس في مجرى التاريخ. ولم يكن الوعي التاريخي الذي طالما افتخر به هيجل، في نظر كيركجورد، وسيلةً لزيادة المرء فهمه لموقفه الخاص بوصفه موجودًا حيًّا، وإنما كان قبل كل شيء هروبًا من هذا الموقف. وكما رأينا من قبل، فقد اعترض هيجل ذاته على صفة التجرد الباطلة المزعومة التي اتصف بها منطق أرسطو الشكلي التقليدي، واعتزم أن يستبدل به منطقًا حقيقيًّا للفكر أو الوجود (وهما بالطبع يعنيان في نظره شيئًا واحدًا). وهكذا تصوَّر أنه يستطيع بهذا المنطق الديالكتيكي وحده أن يكوِّن لنفسه فكرةً صحيحة عن حقيقة التغير. واعتقد أن الطريقة الوحيدة التي تتيح لنا إدراكًا عينيًّا لطبيعة عملية ما، هي النظر إليها بطريقة ديالكتيكية من خلال شبكة للعلاقات التاريخية متزايدة الاتساع. أمَّا من وجهة نظر كيركجورد، فإن كل ما قام به هيجل فعلًا هو إدماج الوجود الخاص للفرد في ذلك التجريد الشامل لكل التجريدات؛ أي المطلق، الذي يضيع فيه نهائيًّا كل أثر باقٍ للوجود العيني. وممَّا يدعو إلى السخرية حقًّا أن هيجل لا يترك لنا آخر الأمر إلا تلك المنطقية الشاملة pan-logism التي يتضح أن الحقيقة الوحيدة فيها هي الحركة اللاشخصية للديالكتيك ذاته. أمَّا كيركجورد فيتحدَّث عن تفكيره على أنه «ديالكتيك كيفي»، ويعني بذلك ديالكتيكًا يرفض أي ادعاء بتفسير الانتقال من قضية إلى نقيضها على أنه لحظة ضرورية في عملية تطور مستمرة. والواقع أن ديالكتيك كيركجورد لا شأن له على الإطلاق بالمنطق بمعناه المألوف. وهو، إذا جاز هذا التعبير، «منطق نفساني psycho-logic» يسير في مجراه الخاص غير المحتوم نحو غايات بعيدة تمامًا عن الحقيقة العلمية. وقد تقول إن هذا المنطق النفساني مغرق في الغرابة. وردَّ كيركجورد على ذلك هو أن هذا في الحق فضله الأعظم؛ إذ إن الوجود ذاته مغرق في غرابته، ولا يمكن الوصول إليه ذاتيًّا إلا بوسائل ممتنعة هي التأمُّل الباطن والوعي الذاتي.

على أن معارضة كيركجورد لهيجل لا تقف عند حد مسائل الديالكتيك؛ ففي رأيه أن فلسفة القانون عند هيجل إنما هي إنجيل يصلح لإنسان آلي جامد فقد أي إحساس بذاته بوصفه شخصًا، وقنع بالعيش سلبيًّا بوصفه مجرد موظف في الدولة والكنيسة والأسرة؛ ففي رأي كيركجورد أن كل ذلك الجانب الخاص «بالروح الموضوعية» في فلسفة هيجل إنما هو بناء شامخ من التضليل الأنتولوجي يصرف أنظار الناس عن مواجهة الحقيقة الوحيدة التي يتعيَّن عليهم مواجهتها، وهي وجودهم الواعي الخاص؛ فالروح الموضوعية عند هيجل ليست إلا مخلوقًا كونه ديالكتيكه، وشبحًا للفكر لا شأن له بما هو موجود وحي.

وفي رأي كيركجورد أن الحقيقة reality لا يُتوصَّل إليها بتداول التصورات، وإنما بالتجربة المباشرة وحدها. ولقد كان كانت، بطريقته الخاصة، على حق؛ «فالوجود existence»١ ليس محمولًا. ومن المحال أن يدرك المرء معنى كونه موجودًا إلا بطريقة الإشارة، وبحدس مباشر لذاته.

ولقد رأى كيركجورد أن وعي المرء بوجوده يغدو أقوى ما يكون في فترات التوتر الداخلي الشديد، عندما يتجاوز القلق مرحلة الانشغال المحلي بغايات خاصة، ويُصبح كليًّا أو «ميتافيزيقيًّا» إن جاز هذا التعبير. هذا القلق الكلي، غير المتعلِّق بموضوع محدَّد، لا ينشأ إلا عندما يكف المرء عن الانشغال بمشكلة الوصول إلى نتائج خاصة أو الاحتفاظ بما لديه، وعندما تغدو كل مسألة الوصول إلى نتائج أمرًا لا أهمية له، ويُهدِّد نهج حياة المرء كله بالخطر، عندئذٍ فقط يُدرك المرء حقًّا المعنى الحقيقي ﻟ «وجوده». ومن العبث أن تُوجَّه إلى كيركجورد في هذا الصدد تهمة النزعة المرَضية؛ فإن رده الوحيد هو أن يهز كتفَيه غير عابئ ويقول: «ولو!» فهو لا يحاول إثبات نقطة ما، وإنما يحاول التعبير عن موقف يعتقد أن له أعظم الأهمية بالنسبة إلى الشيء الوحيد الذي يستحق الاهتمام، وهو الخلاص الفردي.

وينبغي أن نُشير في هذا الصدد إلى أن ولوع كيركجورد بالحياة الشاذة للوعي — وهو بهذه المناسبة ولوع يشاركه إياه فيلسوف أمريكي «سليم العقل» إلى أبعد حد، هو وليم جيمس — هو أيضًا من الصفات المميزة لعدد من كبار الروائيين والشعراء في القرنَين التاسع عشر والعشرين. والواقع أن كل من تلمَّس طريقه في عالم روايات دستويفسكي الغريب المحموم، أو فتنته ونفَّرته في آنٍ واحد تلك الروايات الميتافيزيقية التي كتبها فرانتس كافكا،٢ يكون قد أعدَّ نفسه أفضل إعداد أدبي ممكن لفهم مؤلفات لكير كجورد مثل؛ «مرض الموت» Sickness unto Death و«تصوُّر القلق» The Concept of Dread. ومع ذلك فإن اهتمام كيركجورد، ﺑ «العقلية المتأزمة» ليس أدبيًّا أو نفسيًّا، وإنما هو اهتمام ميتافيزيقي وديني؛ إذ إنه يرى أن الوسيلة الوحيدة إلى معرفة ما يعنيه وجود المرء أو عدم وجوده إنما هي قضاء ليالٍ حالكة للنفس كهذه.
على أن لكلمة «ما يعنيه» في الجملة الأخيرة دلالةً مزدوجة؛ فهي قد توحي، إذا قرأتها على نحو ما، بأن كيركجورد يهتم أساسًا بالدفاع عن نظرية مُعينة بشأن معنى «الوجود existence» ومعرفته، وهي نظرية لا تختلف كثيرًا عن نظرية كانت. غير أن ثمة طريقة أخرى لفهم كلمة «ما يعنيه» في هذا الصدد، طريقة أقرب في اعتقادي إلى اهتمام كيركجورد الأساسي من حيث هو فيلسوف، وتبعًا لهذه الطريقة يكون هدفه الأساسي هو القول إن المرء لا يُدرك مغزى وجوده الخاص إلا في حالات الأزمة الانفعالية العنيفة، عندما يواجه خطر انعدامه، لا من حيث إن هذا الانعدام مجرد إمكانية، بل من حيث هو حقيقة واقعة. وعندئذٍ فقط يقرِّر المرء أخيرًا أن يعيش أو يموت، أن يكون أو لا يكون وبالاختصار، فإن ما يهم كيركجورد هو دلالة الحياة، أكثر من كونه معنى «الوجود»، وإذا كانت لمذهبه نتائج أنتولوجية أيضًا، فإن هذه تكوِّن نوعًا من الأنتولوجيا ينتهي آخر الأمر إلى موقف عملي لا نظري. وعندما تصل الفلسفة إلى هذه النقطة، تكون قد انتقلت إلى أقصى طرف بعيد عن العلم، ولا تعود أسئلتها متعلقةً على الإطلاق بمعرفة ما هو موجود، بأي معنًى معتاد لهذه العبارة.

والواقع أن نفور كيركجورد من اللاهوت والميتافيزيقا العقليَّين بلغ حدًّا قد يجعل البعض يعتقدون أنه ينكر فعلًا قدرة العقل والفلسفة ذاتها. كما ظلَّت تُفهم منذ عهد سقراط، على حل أية مشكلة روحية أساسية للتجربة البشرية. وقد يبدو من وجهة النظر هذه أن كيركجورد ينكر فعلًا مجرد إمكان التفلسف. بل إن المرء قد يستنتج من ذلك أنه قد وصل إلى نفس النتيجة التي انتهى إليها الوضعيون أنفسهم، وإن يكن قد سلك طريقًا مخالفًا تمامًا؛ فكلا الفريقَين يأتينا بفلسفة ترمي إلى القضاء على كل فلسفة.

ومع ذلك فإن كيركجورد، كالوضعيين، هو فيلسوف؛ ذلك لأن نقد العقل، كما بيَّن كانت ذاته، هو عمل فلسفي لا غناء عنه، مهما كانت نتائجه. والواقع أن محاربة كيركجورد للعقلية، إذا ما نُظر إليها من زاوية معينة، إنما هي صورة متطرفة لرد الفعل الرومانتيكي المستمر على المعقولية. كذلك يمكن النظر إليها على أنها مظهر متأخِّر لتراث إيماني مضاد للعقل، ظهر منذ القدم في اللاهوت المسيحية، وتنتمي إليه أسماء لامعة كأسماء «ترتوليان Tertulian»٣ والقديس أوغسطين٤ وباسكال؛٥ فجميع هؤلاء الكتاب يرَون أن أهمية الحياة الدينية ليست في قدرتها على تقديم إجابات عن الأسئلة التي قد يظل العالم الدائب يوجِّهها خلال بحثه لأسباب الظواهر الطبيعية، وإنما هي تنحصر في نوع من الالتزامات أو العهود الإيمانية فوق العقلية، تصدر استجابةً لشكوك من نوع مخالف تمامًا. إذ إن كيركجورد، شأنه شأن جميع الإيمانيين، يرى أن الأسئلة الدينية الأساسية لا تقبل إجابات عقلية. ولكن لا شك في أن هذا راجع إلى أن الأسئلة الدينية لا تُثار نتيجةً لشيء يمكن أن يسمَّى رغبةً في اكتساب المعلومات، بأي معنًى معتاد لهذه العبارة. فليس ما تستهدفه هو الفهم، وإنما هي تستهدف شيئًا يتجاوز الفهم؛ أعني الخلاص. وليس للخلاص من سبيل إلا العهد الإيماني.
ويكشف كيركجورد عن موقعه التاريخي على نحو آخر، حين يستخدم فكرة «التطور development». على أن هدفه ليس وضع قوانين للتطور التاريخي، كما فعل هيجل وماركس، وإنما كان مهتمًّا بما يمكن تسميته «بتطور أشكال التقدم الروحي». وفي رأيه أن لهذا التطور مراحل ثلاث، على نحو قد يُذكِّرنا بأوجست كونت، ولكن بينما نظر كونت إلى قانونه الخاص بالمراحل الثلاث على أنه ينطبق على التطور العقلي للفرد والجنس، فإن فكرة كيركجورد لا تتعلَّق إلا بالتطور الروحي للنفس البشرية من الوعي الحسي aesthetic إلى الأخلاقي، ثم إلى الديني. وقد يوحي هذا، لأول وهلة، بأنه بينما ينظر كونت إلى رجل العلم على أنه أعلى مرحلة للتطور البشري، فإن كيركجورد يرى أن رجل الدين يمثِّل أعلى المراحل. غير أن المظاهر هنا خداعة إلى حد ما، والمقارنة ذاتها مُضلِّلة إلى أبعد حد؛ فكونت وكيركجورد لم يكونا في الواقع يتحدَّثان عن التقدم من منظور واحد في نظريتهما عن المراحل الثلاث. ويتضح ذلك إذا تذكرنا أن كونت لا يُوحِّد بين اللاهوت والدين، وأنه ينظر إلى العالِم الكامل على أنه ملتزم أيضًا بالعقيدة الوضعية للبشرية. وبالاختصار، فإن كونت لا يرى تعارضًا بين العلم والدين، وإنما التعارض في رأيه يقوم بين الطريقة اللاهوتية لتصوُّر عالم الواقع والتفكير فيه. أمَّا كيركجورد فلا يتحدَّث عن التفكير العلمي بوصفه واحدًا من هذه المراحل. والتطور الذي يصفه ليس تقدمًا من العلم إلى الدين، وإنما من الفن٦ والأخلاق إلى الدين. وبالاختصار فكيركجورد لا يهتم بذلك النوع من التطور العقلي الذي يصفه كونت في نظرية المراحل الثلاث، وإنما يهتم بمسائل القيمة ومشكلتَي معرفة الذات والعلاء على الذات.

وليس هدفي هنا أن أُلمِّح إلى أن من السهل التوفيق بين وضعية كونت ووجودية كيركجورد، وإنما أقول إن التقابل بينهما لا يمكن أن يوصف عن حق بأنه التقابل بين العلم والدين؛ فكيركجورد لم يكن يدخل مع العلم في منازعات شديدة، طالما أن هذا يظل ملتزمًا مكانه بوصفه نظامًا ونَسَقًا فكريًّا، كما أن كونت لم يدخل مع الدين في منازعات، طالما أنه يترك مجال المعرفة البشرية للعلم. وفضلًا عن ذلك، فإن اشتراكهما في معارضة اللاهوت والميتافيزيقا العقليتَين، وفي الاعتقاد بأن مسائل الوجود لا يمكن أن تُحل بالعقل وحده، يكشف عن تقارب تاريخي عميق يحسن بالوضعيين والوجوديين المحدثين أن يتدبَّروا أمره؛ فقد يساعد الاعتراف بهذا التقارب، مع كل ما بينهما من اختلاف في الهدف المنهجي، على تضييق الثغرة التي تبدو سحيقةً بين الفلسفة التحليلية المعاصرة في إنجلترا والولايات المتحدة وبين الميتافيزيقا الوجودية في فرنسا وألمانيا.

ولم ينظر كيركجورد إلى تقدم الإنسان الروحي على أنه مظهر ضروري للتطور التاريخي الذاتي للروح المطلقة، كما فعل هيجل، بل رأى فيه تطورًا شخصيًّا حرًّا تمامًا، يجوز للمرء أن يمر به أو لا يمر، حسبما يشاء. فنظرة هيجل إلى الحرية باطلة تمامًا، من وجهة نظر كيركجورد؛ إذ ينبغي على كل شخص في رأيه أن يقرِّر لنفسه إن كان سيرتقي من مجال التأمل الحسي aesthetic إلى مجال المسئولية الأخلاقية والفعل الأخلاقي، ثم يرقى من هذا المجال الأخير إلى مرتبة الإيمان الديني. غير أن ما يدعو إليه كيركجورد، كما أفهمه، ليس تصوُّفًا؛ فمرحلة الحياة الدينية التي يؤكِّدها ليست اتحادًا صوفيًّا بالله أو تأملًا صوفيًّا له، وإنما هي إيمان وعقيدة إيجابية. فالله عنده يظل عاليًا تمامًا، وهو يعز على الحدس مثلما يعز على الفهم النظري أو العقل. وعلى هذا النحو يتبدَّى لنا كيركجورد سائرًا في الطريق الرئيسي للبروتستانتية اللوثرية. وعلى هذا النحو أيضًا يتبدَّى لنا ابنًا بارًّا لعصر الأيديولوجية، الذي لم يكن عصر أمل، وإنما عصر قرار وتأكيد وإيمان.

ولنختم حديثنا بهذه الكلمة الأخيرة: فكيركجورد، مثل نيتشه، ينكر أية إمكانية للحل الجماعي أو الاجتماعي للمشاكل الروحية للحياة البشرية؛ ﻓ «الطريق» الذي يدعو إليه طريق منعزل، متفرد، ينبغي أن يختاره كل إنسان ويسير فيه بنفسه. وهو أيضًا يرفض المثل الأعلى الإنساني النفعي للخير المشترك الذي يمكن تحقيقه إلى حد ما بالبحث العقلي والعمل الاجتماعي المشترك، وفي هذا يشترك مع نيتشه، وإن يكن الهدف مختلفًا إلى حد ما. وإنما ينحصر الفرق بينهما في أن كيركجورد قد فقد تمامًا تلك الثقة التي لم يفقدها نيتشه مثله، في المثل الأعلى لمملكة أرضية يتحقَّق فيها التطور الذاتي للإنسان في هذا العالم؛ فهو يدعو الناس من وجهة نظره الخاصة، إلى الرجوع إلى الإيمان المفقود بإله آبائهم، غير أن هذا إيمان لا شأن له، من حيث مقصده على الأقل، بالمسيحية التاريخية وبكنائسها، البروتستانتية منها والكاثوليكية. ولكن ما هو «معنى» ذلك بالفعل؟

إن المختارات الآتية مأخوذة من كتاب ربما كان أهم مؤلفات كيركجورد الفلسفية، وهو قطعًا أكثرها اتساقًا، وأعني به «حاشيةً ختامية غير علمية Concluding Unscientific Postscript».٧ فالنص الأول مأخوذ من الفصل الثاني. وعنوانه: «الحقيقة الذاتية، الباطنية، الحقيقة هي الذاتية». والنص الثاني من الفصل الثالث، وعنوانه: «الذاتية الحقيقية أو الأخلاقية، المفكر الذاتي».
«لو تمكن فرد موجود من تجاوز ذاته حقًّا، لكانت الحقيقة بالنسبة إليه شيئًا نهائيًّا تامًّا، ولكن أين هي النقطة التي يكون فيها خارجًا عن ذاته؟ إن عبارة «أنا هو أنا I am I»، هي نقطة رياضية لا وجود لها، ومن ثم فلا شيء يحول بين كل شخص وبين اتخاذ وجهة النظر هذه؛ فليس ثمة شيء يحول دون ذلك. فالفرد الخاص لا يستطيع إلا مؤقتًا أن يدرك وجوديًّا وحدة اللامتناهي والمتناهي، التي تتجاوز هذا الوجود. وهذه الوحدة تتحقَّق في لحظة الانفعال passion. ولقد فعلت الفلسفة الحديثة كل ما في وسعها لمحاولة مساعدة الفرد على تجاوز ذاته موضوعيًّا، وهي مهمة مستحيلة تمامًا؛ فالوجود يمارس تأثيره المقيِّد، ولو لم يكن فلاسفة اليوم قد أصبحوا مجرد مُلفِّقين في خدمة تفكير شاذ والاهتمام به، لأدركوا منذ عهد بعيد أن الانتحار هو التفسير العملي الوحيد المحتمل لهذه المحاولة. غير أن الفلسفة الحديثة الملفِّقة تنظر إلى الانفعال بازدراء، ومع ذلك فالانفعال قمة الوجود بالنسبة إلى فرد موجود، ونحن جميعًا أفراد موجودون؛ ففي الانفعال تُصبح الذات الموجودة لا نهائيةً في أزلية التمثل الخيالي، ومع ذلك تكون هذه الذات نفسها بأوضح معاني الكلمة في الآن ذاته. أمَّا «أنا هو أنا» الخيالية، فليست هُويةً بين اللامتناهي والمتناهي؛ إذ ليس هذا ولا ذاك حقيقيًّا، إنه لقاء خيالي في السحب، وتعانق غير مثمر، كما أن علاقة الذات الفردية بهذا السراب لا توضَّح أبدًا.

إن كل معرفة أساسية تتعلَّق بالوجود، أو بعبارة أخرى إن كل معرفة، لها علاقة أساسية بالوجود هي معرفة أساسية. وكل معرفة لا تربط ذاتها داخليًّا بالوجود، في انعكاس الحياة الباطنة، هي من حيث الماهية، معرفة عرضية، ودرجاتها ونطاقها لا قيمة لهما من حيث الماهية. وكون المعرفة الأساسية ترتبط بالوجود ارتباطًا أساسيًّا، لا يعني الوحدة المشار إليها من قبل، التي يفترضها التفكير المجرد بين الفكر والوجود، كما أنها لا تعني، موضوعيًّا، أن المعرفة تطابق شيئًا موجودًا بوصفه موضوعًا لها. وإنما تعني أن للمعرفة علاقةً بالعارف، الذي هو أساسًا فرد موجود، وأن كل معرفة أساسية، لهذا السبب ترتبط ارتباطًا أساسيًّا بالوجود؛ فالمعرفة الأخلاقية، والمعرفة الأخلاقية الدينية، هي وحدها التي ترتبط ارتباطًا أساسيًّا بوجود العارف.

والتوسُّط mediation سراب، مثل «أنا هو أنا»؛ فمن وجهة النظرة المجرَّدة يكون كل شي موجودًا، ولا ينتقل شيء إلى الوجود. وعلى ذلك فلا يمكن أن يكون للتوسط مكان في التفكير المجرد؛ لأنه يفترض الحركة. حقًّا إن المعرفة الموضوعية قد تتخذ من الوجود موضوعًا لها، ولكن لمَّا كانت الذات العارفة فردًا موجودًا، وسائرًا في عملية الصيرورة نظرًا إلى كونه موجودًا؛ فعلى الفلسفة أن توضِّح أولًا كيف ترتبط ذات خاصة موجودة بمعرفة للتوسط، وعليها أن توضِّح ما تكونه هذه الذات في هذه اللحظة، إن لم تكن تكاد تكون شاردة. وأين هي، إن لم تكن في القمر؟ إن هناك من يتحدَّث على الدوام، ويكرِّر الحديث، عن التوسط. فهل التوسط إذن إنسان، كما ظن، بيتر ديكن Peter Deacon «أن لفظ مطبوع Imprimatur» إنسان؟ وكيف يتحوَّل الكائن البشري إلى شيء من هذا النوع؟ هل هذا الشرف، وهذا الموضوع الفلسفي العظيم، ثمرة دراسة، أم إن الحاكم يُعيِّنه، كما هي الحال في منصب إمام الجامع أو حارس القبور؟ جرِّب أن توجِّه أسئلةً بسيطة كهذه الأسئلة التي يوجِّهها إنسان عادي يسرُّه أن يصبح «توسطًا» إذا أمكن أن يتم ذلك على نحو مشروع حلال، لا بطريقة «واحد اتنين جلا جلا»، أو بنسيان أنه هو ذاته كائن بشري موجود، ووجوده بالتالي أساسي بالنسبة إليه، ووجوده الأخلاقي الديني هو غاية ما يصبو إليه. إن الفيلسوف النظري قد يجد أن من فساد الذوق توجيه أسئلة كهذه. غير أن من المهم ألَّا يوجِّه النزاع في الاتجاه الخاطئ، وبالتالي ألَّا نبدأ بطريقة موضوعية شاذة لنناقش الأسباب المؤدية إلى الاعتراف بالتوسط، والأسباب المؤدية إلى إنكاره، وإنما أن نتمسَّك بما يعنيه كون المرء كائنًا بشريًّا.

وسأوضِّح الآن، محاولًا إظهار الفرق بين طريقة التفكير الموضوعي وطريقة التفكير الذاتي، كيف يشق التفكير الذاتي طريقه داخليًّا إلى العالم الباطن. إن باطنية الذات الموجودة تبلغ قمتها في الانفعال، والحقيقة المناظرة للانفعال في الذات تتحوَّل إلى امتناع منطقي. وكون الحقيقة تتحوَّل إلى امتناع منطقي هو أمر متأصل في كونها ذات صلة بذات موجودة. وهكذا فإن كل طرف هنا يناظر الآخر، فإذا نسي المرء أنه ذاتٌ موجودة، فإن انفعاله يضيع ولا تعود الحقيقة امتناعًا منطقيًّا، وتصبح الذات العارفة كِيانًا خياليًّا أكثر من كونها كائنًا بشريًّا، وتغدو الحقيقة موضوعًا خياليًّا لمعرفة هذا الكائن الخيالي.

فعندما تثار مسألة الحقيقة على نحو موضوعي، يتوجَّه التفكير موضوعيًّا إلى الحقيقة، بوصفها موضوعًا يرتبط به العارف. غير أن التفكير لا يتركَّز على العلاقة، وإنما على مسألة كون الحقيقة هي ما يرتبط به العارف. فإذا كان الموضوع الذي يرتبط به هو الحقيقة فحسب، فعندئذٍ تعد الذات مالكةً للحقيقة. أمَّا عندما تُثار مسألة الحقيقة ذاتيًّا، فإن التفكير يوجِّه ذاتيًّا إلى طبيعة علاقة الفرد، فإذا كانت طريقة هذه العلاقة هي الحقيقة، فإن الفرد يُعد مالكًا للحقيقة حتى لو كان في ذلك مرتبطًا باللاحقيقة.٨ ولنضرب لذلك مثلًا بمعرفة الله؛ فمن الناحية الموضوعية، يوجِّه التفكير إلى مشكلة كون هذا الموضوع هو الإله الحقيقي، أمَّا من الناحية الذاتية، فإنه يوجِّه إلى مسألة كون الفرد متصلًا بشيء على نحو يجعل اتصاله هذا اتصالًا بإله في واقع الأمر؛ ففي أي جانب إذن توجد الحقيقة؟ ألَا يجوز لنا أن نلجأ إلى الوساطة، فنقول إنها لا توجد في هذا الجانب ولا ذاك، وإنما في وسط بين الاثنَين؟ هذا كلام رائع، بشرط أن نتمكَّن من إيضاح كيف يستطيع الفرد الموجود أن يكون في حالة توسط؛ فلكي يكون أي شيء في حاله توسط لا بد أن يكون منتهيًا، على حين أن الفرد الموجود في حالة صيرورة. وكما أن الفرد الموجود لا يستطيع أن يكون في مكانَين في آنٍ واحد، فكذلك لا يستطيع أن يُكوِّن هُويةً بين ذات وموضوع. وعندما يكون أقرب ما يمكن إلى الوجود في مكانَين في آنٍ واحد، يكون في حالة انفعال غير أن الانفعال وقتي، والانفعال كذلك أرفع تعبير عن الذاتية.
وهكذا فإن الفرد الموجود الذي يختار اتباع الطريق الموضوعي، يسير في جميع مراحل عملية التقريب التي يكون هدفه فيها الكشف عن الله بطريقة موضوعية. غير أن هذا مستحيل تمامًا؛ لأن الله ذات، ومن ثم لا يوجد إلا بالنسبة إلى الذاتية في حياتها الباطنة. أمَّا الفرد الموجود الذي يختار اتباع الطريق الذاتي، فإنه يدرك على الفور كل الصعوبة الديالكتيكية التي ينطوي عليها الاضطرار إلى استغراق وقت ما، وربما وقت طويل، من أجل الاهتداء إلى الله موضوعيًّا، وهو يحس بهذه الصعوبة الديالكتيكية بكل ما تبعثه من ألم؛ لأن كل لحظة لا يصل فيها إلى الله، إنما هي لحظة ضائعة.٩ في هذه اللحظة بعينها يكون قد وصل إلى الله، لا بفضل أي تأمل موضوعي، وإنما بفضل الانفعال اللانهائي لعالمه الباطن. أمَّا الباحث الموضوعي فلا تُحيِّره تلك الصعوبات الديالكتيكية التي ينطوي عليها تخصيص فترة بحث كاملة للاهتداء إلى الله؛ إذ إن الباحث قد يموت غدًا، وإذا عاش فلن يكاد يستطيع أن ينظر إلى الله على أنه شيء يؤخذ إذا تبيَّن أنه مريح؛ إذ إن الله ليس إلا ما يسعى إليه المرء بأي ثمن، وهذا هو ما يُكوِّن في فهم الانفعال العلاقة الباطنة الحقيقية بالله.
في هذه المرحلة العظيمة الصعوبة من الوجهة الديالكتيكية، ينحرف الطريق بكل من يعرف معنى التفكير، والتفكير وجوديًّا، وهو أمر مختلف تمامًا عن الجلوس إلى منضدة والكتابة عمَّا لم يفعله المرء قط، ومختلف تمامًا عن الدعوة إلى «الشك في كل شيء de omnibus dubitandum، والتصرُّف وجوديًّا بطريقة فيها من التصديق الساذج ما لدى أكثر الناس تقيدًا بعالم الحس. ها هنا ينحرف الطريق، ويتضح التغيُّر في أنه على حين أن المعرفة الموضوعية تسير بتؤدة في طريق «التقريب» الطويل، دون أن يعوقها اندفاع الانفعال، فإن المعرفة الذاتية تعد كل إبطاء خطرًا مميتًا، وترى أن القرار ذو أهمية عُظمى، ومُلح إلحاحًا شديدًا إلى حد يبدو معه كأن الفرصة قد فاتت بالفعل.

فإذا كان علينا أن نواجه مشكلة تحديد الجانب الذي تكون فيه حقيقة أعظم، وهل هو جانب من يلتمس الإله الحق موضوعيًّا، ويتعقَّب الحقيقة التقريبية لفكرة الله، أم جانب من يتملكه انفعال لا نهائي بحاجته إلى الله، فيشعر باهتمام لا نهائي بعلاقته بالله في الحقيقة (إذ إن كون المرء في كلا الجانبَين معًا بقدر متساوٍ، هو كما لاحظنا من قبلُ مستحيل على فرد موجود، وما هو إلا الخداع البراق لعبارة أنا، هو أنا التقليدي). أمَّا هذا فسؤال لا يمكن أن يشك في الإجابة من لم يؤدِّ العلم إلى تثبيط عزيمته. فإذا ما توجَّه شخص يعيش وسط العالم المسيحي إلى بيت الله الحقيقي، ولديه في معرفته فكرة صحيحة عن الله، وصلَّى، ولكنه صلَّى بروح زائغة، وإذا ما صلَّى شخص يعيش في مجتمع وثني بكل انفعال اللامتناهي، وإن تكن عيناه مرتكزتَين على صورة وثن؛ ففي أيهما تكون الحقيقة أعظم؟ إن أحدهما يصلِّي حقيقةً لله وإن يكن يعبد وثنًا، والآخر يصلِّي باطلًا لله الحقيقي، ومن ثم فهو الذي يعبد الوثن.

•••

إن الاهتمام الموضوعي ينصَب على «ما» يقال، والاهتمام الذاتي ينصب على «كيف» يقال هذا. وهذا التمييز يسري حتى في العالم الحسي، ويجد تعبيرًا مُحدَّدًا عنه في المبدأ القائل إن ما هو صحيح في ذاته قد يغدو باطلًا إذا صدر عن هذا الشخص أو ذاك. وفي عصرنا هذا، تغدو لهذا التمييز أهمية خاصة إذ إننا إذا شئنا التعبير في جملة واحدة عن الفرق بين العصور القديمة وعصرنا، كان علينا بلا شك أن نقول: «في العصور القديمة كان فرد هنا وهناك هو وحده الذي يعرف الحقيقة، أمَّا الآن فالكل يعرفونها، إلا أن امتلاكها في باطن النفس يتناسب عكسيًّا مع مدى انتشارها.»١٠ فمن الوجهة الحسية تكون الطريقة الكوميدية هي أفضل طريقة لتصور التناقض الذي ينطوي عليه تحوُّل الحقيقة إلى بطلان إذا ما صدرت عن هذا الشخص أو ذاك، أمَّا في المجال الأخلاقي الديني، فإن الاهتمام ينصبُّ ثانيةً على «الكيف». ولكن ينبغي ألَّا يُفهم هذا على أنه يشير إلى المسلك الخارجي أو التعبير أو ما شابه ذلك، وإنما هو يشير إلى العلاقة القائمة بين الفرد الموجود، في وجوده الخاص، وبين محتوى قوله؛ فالاهتمام لا ينصب من الوجهة الموضوعية إلا على محتوى الفكر، بينما هو ينصب من الوجهة الذاتية على الصدى الباطن. وهذا «الكيف» الباطن يصبح، عندما يبلغ أقصى مداه، الشوق إلى اللامتناهي، والشوق إلى اللامتناهي هو الحقيقة، غير أن الشوق إلى اللامتناهي هو بعينه الذاتية، وبهذا تصبح الذاتية هي الحقيقة. فمن الوجهة الموضوعية لا يوجد عزم لا متناهٍ، ومن هنا فمن الملائم موضوعيًّا القضاء على الفرق بين الخير والشر، ومعه مبدأ التناقض، وكذلك الفارق اللامتناهي بين الصحيح والباطن، أمَّا هذا العزم فلا وجود له إلا في الذاتية؛ ولهذا كان البحث عن الموضوعية وقوعًا في الخطأ؛ فالشوق إلى اللامتناهي، لا محتواه، هو العامل الحاسم؛ إذ إن محتواه هو ذاته تمامًا. وعلى هذا النحو تكون الذاتية، و«الكيف» الذاتي، هي قوام الحقيقة.
غير أن «الكيف» الذي يرجع تأكيده ذاتيًّا على هذا النحو إلى أن الذات فرد موجود، يخضع أيضًا لديالكتيك فيما يتعلق بالزمان؛ ففي لحظة القرار المنفعلة، عندما ينحرف الطريق بعيدًا عن المعرفة الموضوعية يبدو كأن القرار اللانهائي قد تحقَّق على هذا النحو، ولكن الفرد الموجود، في الوقت ذاته، يجد نفسه في عالم الزمان، ويتحوَّل «الكيف» الذاتي، إلى «تَوْق» striving، وهو «توق» يتلقَّى قوته الدافعة وتجدُّده الدائم من الشوق الحاسم إلى اللامتناهي، ولكنه يظل مع ذلك «تَوقًا».
وعندما تُصبح الذاتية هي الحقيقة، ينبغي أن يتضمَّن تحديدها في شكل تصوُّرات تعبيرًا عن تضادها مع الموضوعية، وعلامة على المفرق الذي ينحرف فيه الطريق، ويكون هذا التعبير في الآن ذاته دليلًا على توتُّر الباطنية الذاتية. وها هو ذا تعريف الحقيقة الذي نعنيه: إن اللايقين الموضوعي، الذي يُتمسَّك به في عملية تملُّك لأكثر المشاعر الباطنة انفعالًا، هو الحقيقة، وهو أسمى حقيقة يمكن أن يصل إليها الفرد الموجود؛ ففي النقطة التي ينحرف فيها الطريق (ومن المستحيل تحديد هذه النقطة موضوعيًّا؛ إذ إن المسألة متعلقة بالذاتية) تُعطَّل المعرفة الموضوعية، فلا يكون لدى الذات، من الوجهة الموضوعية، سوى اللايقين، غير أن هذا هو بعينه ما يزيد توتر هذا الانفعال اللانهائي الذي يكوِّن باطنيته؛ فالحقيقة هي بعينها تلك المخاطرة التي تختار اللايقين الموضوعي بانفعال الشوق إلى اللامتناهي. فأنا أتأمَّل نظام الطبيعة آملًا الاهتداء إلى الله، فأرى القدرة على كل شيء والحكمة الكاملة، ولكني أرى أيضًا أشياء أخرى كثيرةً تعكِّر ذهني وتُثير قلقي. ومُحصِّل هذا كله هو اللايقين الموضوعي، غير أن هذا هو بعينه السبب الذي تصبح الباطنية من أجله بهذا القدر من الشدة؛ إذ إنها تضم هذا اللايقين الموضوعي بكل انفعالها المشتاق إلى اللامتناهي. أمَّا في حالة القضية الرياضية فإن الموضوعية تكون موجودة، غير أن حقيقة مثل هذه القضية تغدو لهذا السبب حقيقةً غير مكترثة indifferent.

ولكن التعريف السابق للحقيقة هو تعبير معادل عن الإيمان؛ فلا إيمان بلا مخاطرة، وما الإيمان إلا التناقض بين الشوق اللامتناهي في باطنية الفرد وبين اللايقين، ولو كنت قادرًا على إدراك الله موضوعيًّا، لَمَا احتجت إلى الإيمان، ولكن لا بد لي من الإيمان لأنني بالفعل لا أستطيع إدراكه موضوعيًّا. وإذا شئت أن أحتفظ بإيماني فعليَّ أن أحرص دائمًا على التمسك باللايقين الموضوعي، حتى أظل في المياه العميقة، التي يزيد عمقها على سبعين ألف فرسخ، محتفظًا بإيماني.

•••

القسم الرابع: المفكر الذاتي؛ رسالته، وصورته، وأسلوبه. إذا ما استطاعت رحلة في عالم الفكر الخالص أن تُقرِّر إن كان الشخص مفكِّرًا أم لا، فإن المفكِّر الذاتي يُستبعد آليًّا من الحساب. ولكن في استبعاده هذا استبعادًا لكل مشكلة وجودية أيضًا بحيث تطلق النتائج الأليمة لهذا صيحات تحذير خافتةً تمتزج بصيحات التهليل التي استقبل بها الفكر المجرد الحديث «المذهب».١١
وهناك مثل قديم يقول إن البلاغة والتأثير tentatio والتأمل، تصنع عالم اللاهوت. وبالمثل يحتاج المفكر الذاتي إلى الخيال والشعور، والديالكتيك في الباطنية الوجودية، مقترنة بالانفعال. ولكن أهم ما يحتاج إليه هو الانفعال؛ إذ يستحيل التفكير عن الوجود existence، وفي الوجود دون انفعال؛ فالوجود ينطوي على تناقض هائل، لا يتعيَّن على المفكر الذاتي أن يجرد نفسه منه، وإن يكن يستطيع ذلك إذا شاء، وإنما تكون مهمته هي البقاء فيه. أمَّا بالنسبة إلى ديالكتيك التاريخ العالمي، فإن الأفراد يتلاشَون في الإنسانية؛ فأنت، وأنا، وأي فرد ذو وجود خاص، لا يمكن أن تظهر في أعين هذا الديالكتيك حتى لو اخترعت أحدث وأقوى أجهزة التكبير.

إن المفكر الذاتي ديالكتيكي يختص بما هو وجودي، ولديه انفعال الفكر اللازم للتمسك بالانفصال الكيفي. أمَّا إذا طُبِّق هذا الانفصال الكيفي على فراغ خاوٍ، أو طُبِّق على الفرد على نحوٍ تجريدي محض، فإن الخطر هنا هي أن المرء قد يقول شيئًا ذا أهمية هائلة، ويكون مصيبًا فيما يقول، ولكنه مع ذلك — ويا لَلسخرية! — لا يقول شيئًا على الإطلاق. ومن هنا فإن من الظواهر الجديرة بالملاحظة نفسانيًّا، أن الانفصال المطلق قد يُستخدم بمنتهى الدهاء، لا لشيء إلا من أجل التضليل، فلو عوقبت كل جريمة بالإعدام، فلن تعود هناك آخر الأمر جريمة يعاقَب عليها مطلقًا. وكذلك الحال في الانفصال التام؛ فلو طُبِّق بطريقة تجريدية، لأصبح نصًّا أخرس لا يمكن النطق به، أو إذا نُطق به فلن يقول شيئًا. أمَّا المفكر الذاتي فيجد الانفصال المطلق في متناول يده، ومن ثم فهو يحرص عليه بانفعال المفكر، بوصفه لحظةً وجودية أساسية، ولكنه يستبقيه بوصفه ملجأً أخيرًا حاسمًا، حتى يحول دون رد كل شيء إلى مجرد فروق كمية، وهو يحتفظ به على سبيل الاحتياط، ولكن لا يطبِّقه على نحو يجعله يلجأ إليه بطريقة مجردة لكبت الوجود. ومن هنا فإن المفكر الذاتي يضيف إلى عتاده الانفعال الحسي والأخلاقي، الذي يُضفيه عليه العينية اللازمة.

إن جميع المشاكل الوجودية مشاكل انفعالية؛ إذ إن الوجود عندها يتخلَّله الفكر reflection، يولد الانفعال. والتفكير في المشاكل الوجودية على نحو يُترك فيه الانفعال جانبًا، يعادل عدم التفكير فيها على الإطلاق؛ إذ يُغفل أهم ما في الأمر، وهو أن الفكر ذاته موجود. غير أن المفكر الذاتي ليس شاعرًا، وإن يكن من الجائز أن يكون شاعرًا أيضًا، وهو ليس باحثًا أخلاقيًّا، وإن يكن من الجائز أن يكون ديالكتيكيًّا أيضًا إنه فرد موجود أساسًا، في حين أن وجود الشاعر ليس أساسيًّا بالنسبة إلى القصيدة، وكذلك وجود الباحث الأخلاقي بالنسبة إلى مذهبه، ووجود الديالكتيكي بالنسبة إلى فكره. إن المفكر الذاتي ليس رجل علم، وإنما هو فنان. والوجود Existing فن. والمفكر الذاتي حسي إلى الحد الذي يجعل لحياته محتوًى حسيًّا، وأخلاقي إلى الحد الذي يكفي لتنظيمها، وديالكتيكي إلى الحد الذي يكفي لتفسيرها فكريًّا.

إن مهمة المفكر الذاتي هي فهم ذاته في وجوده؛ فالتفكير المجرد خليق بالتحدث عن الوجود، وبقوته الدافعة الكامنة، وإن يكن بتجريده من الوجود، ومن حالة الوجود يقضي على الصعوبة والتناقض. أمَّا المفكر الذاتي فهو فرد موجود ومفكر في آنٍ واحد، وهو لا يُجرَّد من التناقض ومن الوجود، وإنما يعيش فيهما وهو يفكر في نفس الوقت؛ ولذلك فعليه في كل تفكير له أن يذكر أنه فرد موجود. ولهذا السبب كان لديه دائمًا ما يكفي للتفكير فيه، وسرعان ما يطرح جانبًا الإنسانية من حيث هي تصوُّر مجرد، وكذلك تاريخ العالم؛ فحتى هذه البقاع الشاسعة، كالصين وفارس، إلخ، ليست شيئًا بالنسبة إلى الوحش الجائع الذي تكوِّنه العملية التاريخية، وسرعان ما يطرح جانبًا التصور المجرد للإيمان، غير أن المفكر الذاتي الذي يظل في كل تفكير له ملازمًا لوجوده، سيجد في إيمانه موضوعًا للتفكير لا ينضب معينه، وذلك عندما يحاول تتبُّع هذا الإيمان في منعطفاته مع كل الأحوال العديدة للحياة. وليس هذا التفكير الذاتي بالأمر الهين على الإطلاق؛ إذ إن التغلغل في الوجود أصعب الأمور عندما يتعيَّن على المفكر أن يظل فيه؛ لأن تلك اللحظة يقتضي أعلى قرار يُصدره المرء، ومع ذلك فهي لحظة عابرة في الأعوام السبعين الممكنة للحياة البشرية.

•••

وعلى حين أن التفكير المجرد يسعى إلى فهم العيني بطريقة مجردة، فإن المفكر الذاتي على العكس من ذلك، يتعيَّن عليه أن يفهم المجرد عينيًّا؛ فالفكر المجرد يتحوَّل من الناس العينيين إلى النظر في الإنسان عامة، أمَّا المفكر الذاتي فيسعى إلى فهم التحديد المجرد لكون المرء إنسانًا من خلال هذا الكائن البشري الخاص الموجود.

•••

وهناك معنًى معين يتحدث فيه المفكر الذاتي بطريقة تُماثل في تجرُّدها طريقة المفكر المجرد؛ إذ إن الأخير يتحدَّث عن الإنسان بوجه عام وعن الذاتية بوجه عام، بينما يتحدَّث الأول عن الإنسان الواحد. غير أن هذا الكائن البشري الواحد كائن بشري موجود، وبذلك لا تكون الصعوبة قد ذُلِّلت.

كذلك فإن فهم المرء لذاته في وجوده هو قوام المبدأ المسيحي، سوى أن هذه «الذات» تتلقَّى عندما تقترن بالوجود تحديدًا أكثر ثراءً وعمقًا بكثير، بل وأصعب من ذلك على الفهم؛ فالمؤمن مفكر ذاتي، والفارق في هذه الحالة، كما أوضحنا من قبل، لا يزيد على الفارق بين الإنسان البسيط والإنسان الحكيم البسيط، وهنا أيضًا لا تكون «الذات» هي البشرية عامة، أو الذاتية عامة، التي يغدو فيها كل شيء هينًا لأن الصعوبة تزول، وتُنقل المهمة بأسرها إلى عالم الفكر المجرد بأشباحه الخيالية. وإن الصعوبة ها هنا لَأعظم ممَّا كانت لدى اليونانيين؛ لأن الموقف ينطوي على المزيد من المتناقضات؛ إذ يؤكَّد الوجود، بطريقة ممتنعة، على أنه هو الخطيئة، وتُؤكَّد الأزلية، بطريقة ممتنعة، على أنها هي الله في الزمان؛ فقوام الصعوبة هو الوجود في مثل هذه المقولات، لا في تخلُّص الإنسان منها بالفكر المجرد؛ أي بالتفكير على نحو مجرد في صيرورة إلهية أزلية مثلًا، وما شابه ذلك، وهي كلها أفكار تظهر بمجرد أن تُزال الصعوبة، ونتيجةً لذلك فإن وجود المؤمن ما زال أكثر انفعاليةً من وجود الفيلسوف اليوناني، الذي كان في حاجة إلى درجة كبيرة من الانفعال حتى بالنسبة إلى «عدم اكتراثه etaraxy»؛ إذ إن الوجود الذي يُؤكَّد بطريقة ممتعة يُولِّد أقصى قدر من الانفعال.

إن في التجريد من الوجود إزالة الصعوبة، والبقاء في الوجود من أجل فهم شيء معين في لحظة ما، وشيء آخر في لحظة أخرى، لا يؤدِّي بالمرء إلى فهم ذاته. على أن فهم أعظم المتقابلات سويًّا، وفهم المرء لنفسه موجودًا فيها، هو أمر عسير حقًّا. فليكتفِ كل امرئ بأن يلاحظ ذاته، ويرقب الطريقة التي يتحدَّث بها الناس، وسيدرك مدى ندرة الحالات التي تحقَّقت فيها هذه المهمة بنجاح.

•••

إن المفكر الذاتي لا يتمتَّع، رغم كل ما يبذله من جهود مضنية، إلا بثواب هزيل؛ فكلما ازدادت الفكرة الجماعية سيطرةً حتى على الذهن العادي، ازدادت صعوبة انتقال المرء إلى أن يصبح كائنًا بشريًّا خاصًّا موجودًا بدلًا من أن يفقد ذاته في الجنس الشامل، ويقول «نحن» و«عصرنا» و«القرن التاسع عشر». ونحن لا نُنكر أن كون المرء كائنا بشريًّا خاصًّا موجودًا فحسب، هو شيء ضئيل، ولكن هذا السبب عينه هو الذي يجعل عدم الاستخفاف به أمرًا يقتضي استسلامًا غير قليل. إذ ما قيمة الفرد وحده؟ إن عصرنا ليعلم حق العلم مبلغ ضآلة قيمته، ولكن ها هنا أيضًا تكمن اللاأخلاقية الخاصة لهذا العصر؛ فلكل عصر عيبه المميز له. وأعتقد أن عيب عصرنا ليس في اللذة أو التهالك أو الحسية، وإنما في الاحتقار الانحلالي للإنسان الفرد بطريقة مبنية على نظرة شاملة إلى الوجود؛ فوسط كل ما نشعر به من فخر بما أنجزه العصر والقرن التاسع عشر، تُسمع نغمة من الاحتقار المذموم للإنسان الفرد، ووسط كل الشعور بالأهمية الذاتية، الذي يتملَّك الجيل المعاصر، يتكشَّف إحساس باليأس من الكائن البشري. وعلى كل شيء أن يرتبط بحركة ما ليكوِّن جزءًا منها؛ فالناس مُصرُّون على أن يفقدوا ذواتهم في المجموع الكلي للأشياء، وفي تاريخ العالم، وكأن ثمة سحرًا يفتنهم ويخدعهم، ولا أحد يريد أن يكون كائنًا بشريًّا فرديًّا. وربما كان هذا مصدر المحاولات العديدة التي تُبذل للاستمرار في التمسك بهيجل، حتى من أناس توصَّلوا إلى إدراك الطابع المريب لفلسفته. والمسألة ها هنا إنما هي خوفهم من أنهم لو أصبحوا كائنات بشرية خاصة موجودة، فسوف يختفون دون أن يبقي لهم أثر، بحيث لا تستطيع أن تهتدي إليهم الصحافة اليومية ذاتها، ناهِيَك بالجرائد الناقدة، فما بالك بالفلاسفة التأمُّليين الغارقين في تاريخ العالم! إنهم يخشَون بوصفهم كائنات بشريةً خاصة، أن يطويهم وجود منسي أكثر انعزالًا عن وجود الإنسان في الريف؛ ذلك لأن المرء لو تخلَّف عن رِكاب هيجل فلن يستطيع حتى أن يجد من يبعث برسالة إلى عنوانه.

١  المقصود هنا طبعًا هو الوجود الحي في زمان، ولكنا لم نشأ ترجمتها على هذا النحو؛ لأن «كانت» تحدَّث عن «الوجود» فحسب، ولأن المقصود هنا إظهار التشابه «اللفظي» بين رأي الفيلسوفَين. (المترجم)
٢  فرانتس كافكا (١٨٨٣–١٩٢٤م): قصصي وكاتب ألماني، ألَّف مجموعةً كبيرة من الروايات والقصص، نشر معظمها بعد وفاته، ومن أشهرها: «المحاكمة والطبيب الريفي». وتتميَّز صورة العالم كما يعرضها كافكا بأنها تجمع بين الواقع والحلم، وتُصوِّر بوضوح محنة الإنسان الحديث في سعيه العقيم إلى الخلاص، وهو مُثقل بشعوره بالإثم وبالعزلة والقلق. (المترجم)
٣  كونيتوس سبتميوس فلورنس ترتوليانوس (١٥٠–٢٣٠م): مفكر لاهوتي روماني، امتاز بأسلوبه اللاتيني الصريح المباشر في الكتابة، ونادى بآراء كان في بعضها خروج على التعاليم المباشرة للكنيسة، ولكن تفكيره كان يدور عمومًا حول الدفاع عن المسيحية وتبريرها. (المترجم)
٤  القديس أوغسطين (٣٥٤–٤٣٠م): أشهر آباء الكنيسة، تميَّزت حياته الأولى بأزمات روحية عنيفة انتهت به إلى اعتناق المسيحية عن تجربة حقيقية، وأصبح له فيما بعد على المسيحية تأثير لا يزيد عليه إلا تأثير القديس بولس فيها. ويُعد مؤسس اللاهوت المسيحي. ومن أشهر مؤلفاته: «الاعترافات»، ثم «مدينة الله». (المترجم)
٥  بليز باسكال (١٦٢٣–١٦٦٢م): فيلسوف ديني وعالم فرنسي، امتاز في ميدانَي الرياضيات والكتابة الفلسفية إلى حد أنه يصعب القول إن كانت أعظم آثاره في هذا الميدان أم ذاك. وقد نشر كتابه المشهور «خواطر باسكال» بعد وفاته. والاتجاه الرئيسي في هذا الكتاب هو إلى إعلاء الإيمان على العقل، وتأكيد أهمية القوى الصوفية على حساب القوى المنطقية لدى الإنسان. (المترجم)
٦  نظرًا إلى أن كيركجورد قد استخدم، في التعبير عن هذه المرحلة الأولى، الصفة aesthetic، ونظرًا إلى أن هذه الصفحة أيضًا تعني ما هو منسوب إلى مجال الفن أو الجمال، فقد تصوَّر المؤلف أن المرحلة الأولى التي تحدَّث عنها كيركجورد هي مرحلة «فنية». وهذا خطأ كبير؛ إذ إن كيركجورد قد استخدم هذا اللفظ بمعناه الاشتقاقي، من حيث هو يعني الشعور والحس، وهو يعني به، قبل كل شيء، اتجاهًا إلى الاستجابة الحسية أو الانفعالية «المباشرة»، ولا شأن لهذه المرحلة عند كيركجورد ﺑ «الفن» على الإطلاق.
كما يلاحظ أن التعبير عن هذه الاتجاهات الثلاثة بكلمة «المراحل» هو ذاته تعبير غير دقيق؛ إذ إن الأمر ليس تطورًا أو تقدمًا من الواحدة إلى الأخرى، بحيث تختفي مرحلة لتحل محلها أخرى. وقد صرَّح كيركجورد مرارًا بأنه لا يرمي أبدًا إلى الاستعاضة نهائيًّا عن اتجاه الحس الانفعالي هذا، وإنما إلى وضعه في موضعه الصحيح وسط الاتجاهات الأخرى الأعمق للإنسان. (المترجم)
٧  ترجم الكتاب David F. Swenson & Walter Lowrie، ونشرته مطبعة جامعة برنستون، بمدينة برنستون، للمؤسسة الأمريكية الاسكندنافية سنة ١٩٤٤م. ص١٧٦–١٨٢ و٣١٢–٣١٨. وقد ظهر لأول مرة سنة ١٨٤٦م بعنوان Uvidenskabelig Eftersskript.
٨  يلاحظ القارئ أن المسألة هنا تتعلَّق بالحقيقة الأساسية؛ أي الحقيقة التي ترتبط أساسًا بالوجود، وأن هذا التقابل قد وُضع لا لشيء إلا لإيضاح طبيعتها من حيث هي منتمية إلى عالم الباطن، أو من حيث هي ذاتية.
٩  وعلى هذا النحو يصبح الله، قطعًا، مصادرة، ولكن ليس بذلك المعنى التافه الذي تفهم فيه الكلمة عادة؛ إذ يصبح من الواضح أن الوسيلة الوحيدة التي يستطيع بها فرد موجود أن يدخل في علاقة مع الله هي عندما يصل التناقض الديالكتيكي بانفعاله إلى حد اليأس، ويعينه على التوصل إلى الله «بمقوله اليأس» (الإيمان). وعندئذٍ تكون المصادرة أبعد ما تكون عن الطابع الاعتباطي، حتى إنها لتغدو ضرورةً حيوية. وعندئذٍ لا يكون الله مصادرة، بقدر ما يكون توصل الفرد الموجود إلى الله عن طريق مصادرة أمرًا ضروريًّا.
١٠  «مراحل في طريق الحياة»، حاشية لصفحة ٤٢٦. ورغم أنني لا أود عادةً أن أعرف رأي العقلَين، فإني أكاد أتمناه في هذه اللحظة، بشرط ألَّا تنطوي هذه الآراء على امتداح لي، وأن تكون تأكيدًا للحقيقة الجريئة القائلة إن كل ما أقوله شيء يعرفه كل شخص، بل كل طفل، وأن المثقفين يعرفون ما هو أفضل من ذلك بكثير. فإذا ثبت أن كل شخص يعرفه، فإن وجهة نظري تكون سليمة، وسأُحاول بالتأكيد أن أسير في طريق الجمع بين المضحك والمؤسي. أمَّا إذا كان هناك من لا يعرفه، فربما أصبحت في خطر التزحزح من مركزي المتوازن بفضل الفكرة القائلة إنني قد أغدو قادرًا على نقل المعرفة الأولية الضرورية إلى شخص ما. والحق أن ما يشغل كل اهتمامي هو هذا الذي اعتاد المثقَّفون أن يقولوه، وأعني به أن كل شخص يعرف ما هو الأسمى. فلم تكن الحال كذلك أيام الوثنية، ولا أيام اليهودية، ولا أيام القرن السابع عشر من المسيحية. فليحيَ القرن التاسع عشر! إن كل شخص يعرف. فيا للتقدم الذي تحقَّق منذ كان القليلون فقط هم الذين يعرفون. ربما كان علينا، لتعويض ذلك أن نفترض أنه لا أحد يعرف اليوم.
١١  المقصود هنا مذهب هيجل. (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤