الفصل الثاني

التحول الترنسندنتالي في الفلسفة الحديثة

إمانويل كانت (١٧٢٤–١٨٠٤م)

لن يستطيع المرء حين يتصفَّح للمرة الأولى كتاب كانت «نقد العقل الخالص» أن يهتدي على التو إلى أسباب التأثير الضخم الذي أحدثه ذلك الكتاب؛ فهو يحفِل بغوامض ومعميات عظيمة التجريد، تبدو لأول وهلة بعيدةً عن المشاكل التي تحيِّر الأذهان البشرية المعتادة. وأسلوبه شديد التعقيد، يصدم دون شك من ينتقل إليه مباشرةً بعد قراءة كُتَّاب مثل فولتير أو هيوم. وفضلًا عن ذلك، فإن افتقار كتابة كانت إلى ذلك الوضوح واللمعان الكلاسيكي الذي يرتبط عادةً بعصر التنوير، لا تعوِّضه أية نفحة من الحماسة والبلاغة الجديدة التي كان روسو، أمير الرومانتيكيين، قد أدخلها على النثر الفلسفي منذ عهد قريب. ومع ذلك كله فقد كان ذهن كانت من أكثر الأذهان في تاريخ الفكر البشري جرأةً وأصالة. وقد انطوى نقداه المعقَّدان للعقل الخالص والعملي، كما أدرك بعض معاصريه، على انقلاب فلسفي عميق.

ولقد قدَّم إلينا الشاعر «هينه» وصفًا موجزًا لكانت يُغني، في تعبيره عن أهم خصاله، عن مائة صفحة مكتوبة عن تاريخ حياته؛ فهو يقول: «من العسير كتابة تاريخ حياة إمانويل كانت؛ إذ لم تكن له حياة ولا تاريخ، وإنما كانت حياته حياة أعزب عجوز، مجرَّدةً آلية التنظيم، في شارع هادئ منعزل في كونجزبرج، تلك البلدة القديمة الواقعة على الحدود الشمالية الشرقية لألمانيا. ولست أعتقد أن الساعة الضخمة للكاتدرائية القائمة هناك كانت تؤدي عملها اليومي على نحوٍ أكثر دأبًا وانتظامًا ممَّا كان يؤدِّيه مواطنها إمانويل كانت؛ فقد كان يلتزم وقتًا محدَّدًا في استيقاظه، وشربه القهوة، وفي كتابته وقراءته محاضرات الجامعة، وأكله ومشيه، وكان جيرانه يدركون أن الساعة قد بلغت الثالثة والنصف بالضبط، عندما يبارح إمانويل كانت باب داره بمعطفه الرمادي، وفي يده عصاه الخيزرانية، ويسير في شارع «شجرة الليمون» الذي لا يزال يسمَّى ﺑ «طريق الفيلسوف»، تخليدًا لذكراه. فما أشد التعارض بين الحياة الخارجية لذلك الرجل، وبين تفكيره الهادم المحطِّم للعالم! والحق أن مواطني كونجزبرج لو كانوا قد أدركوا من بعيد المعنى الحقيقي لتفكيره، لأحسوا عند مرآه بهلع يفوق هلعهم من رؤية جلاد متخصِّص في قتل البشر. إن هؤلاء السُّذج لم يرَوا فيه سوى أستاذ للفلسفة، وعندما كان يمر بهم في الوقت المحدَّد، كانوا يُحيُّونه تحية الصديق، ويضبطون ساعاتهم عليه. ولكن إذا كان إمانويل كانت، الهادم الأكبر في عالم الفكر، قد فاق ماكسميليان روبسبير بكثير في الإرهاب، فقد كان بينه وبين هذا الأخير أوجه شبه عديدة تُغري على المقارنة بينهما؛ فكل منهما يتسم، أولًا، بنفس الشعور الصارم، القاطع، الجاف، الجاد، بالشرف والنزاهة. وكل منهما يتميَّز بالقدرة الفائقة على الارتياب، وهي قدرة مارسها أحدهما على الأفكار وأسماها بالمذهب النقدي، وطبَّقها الآخر على الناس وأسماها بالفضيلة الجمهورية. ومع ذلك فقد كان كل منهما يمثِّل «برجوازية» المواطن العادي أصدق تمثيل؛ فقد شاءت لهما الطبيعة أن يقوما بوزن القهوة والسكر، ولكن القَدَر أصر على أن يقوما بوزن أشياء أخرى، وهكذا وضع أحدهما ملكًا، والآخر إلهًا في الميزان، وتعادلت كفتا الميزان تمامًا.»١
ولقد كان تطوُّر كانت الفكري بطيئًا إلى حد غير مألوف؛ فقد تشبَّع وهو طالب بمذهب عقلي كان يحظى باحترام كبير في ذلك الحين، وهو مذهب «كريستيان فون فلف Christian von Wolff»، وهو تلميذ غير لامع لليبنتس العظيم. ولم يبدأ كانت في التغلُّب على هذا التأثير إلا في أواسط حياته. وكان أول ما أعانه في هذا الصدد كتابات روسو وهيوم. وهذان، بالإضافة إلى ليبنتس، يمكن أن يُعدوا المؤثِّرات الرئيسية الثلاثة التي شكَّلت فكره الناضج. ومن المحال أن يفهم المرء فلسفة كانت ذاتها إلا إذا ألمَّ بعض الإلمام بطبيعة هذه المؤثِّرات.

فقد كانت مشكلة المعرفة تشغل جانبًا كبيرًا من اهتمام مدرستَين فلسفيتَين رئيسيتَين، ابتداءً من عصر ديكارت، هما العقلية والتجريبية. بل إن من الشائع وصف هذا الاهتمام بأنه هو المميِّز للفترة «الحديثة» في تاريخ الفلسفة من الفترتَين القديمة والوسطى السابقتَين عليها. ومع ذلك فإن أحدًا من السابقين على كانت لم يتصوَّر لحظةً أن مسائل المنهج هي نقطة النهاية في الفلسفة، بل لقد كان معظمهم يعدون نظرية المعرفة، أو الأبستمولوجيا، كما تُسمَّى، مجرد نقطة بداية ضرورية للتفلسف الحقيقي، الذي هو تحديد الطبيعة الحقيقية للأشياء، وشروط سعادة الإنسان؛ فغاية ديكارت من كتابة مقاله المشهور في المنهج لم تقتصر على إيضاح ما عدَّه منهج العلم، الذي كان يتفق في رأيه مع طريقة المعرفة بوجه عام، وإنما كانَت أيضًا تطبيق نتائجه في حل المسائل الميتافيزيقية الكبرى المتعلِّقة بطبيعة الذهن والمادة وعلاقاتهما، وعلتهما، التي أسماها بالله. ولقد كان ديكارت وخلفاؤه في المدرسة العقلية؛ أي اسبينوزا وليبنتس، يعدون أنفسهم علماء ذوي وعي ذاتي عميق، مهمتهم إيضاح نفس المناهج التي أحرزت أخيرًا ذلك النجاح الباهر في ميادين الرياضيات والفيزياء، ثم تطبيقها على المشاكل الأعم المتعلِّقة بالوجود، والتي عالجها الفلاسفة منذ عصر ما قبل أفلاطون. وقد تصوَّروا أنفسهم علماء هندسة أو علماء فيزياء من مرتبة أعلى — إن جاز هذا التعبير — ولم يداخلهم شك في أن أبحاثهم الميتافيزيقية ذاتها كانت في أساسها امتدادًا لأبحاث العلوم «الخاصة»، وكانت الميتافيزيقا؛ أي علم الوجود، لا تعدو في نظرهم أن تكون «ملكة العلوم»، أمَّا الأخلاق فليست سوى نسقٍ من «القوانين الطبيعية» التي تحدِّد شروط تحقيق الإنسان لطبيعته. ولم يدُر بخَلَدهم وجود أي نوع من التمييز القاطع بين قوانين الطبيعة والمبادئ المعيارية، على حين أن هذا التمييز كانت له أهميته الكبرى في فلسفة كانت.

ولقد استبق كبار خصوم المذهب العقلي، وهم لوك وباركلي وهيوم، كثيرًا من أفكار كانت. ولكن إذا كان لوك، في كتابه المشهور «بحث في الذهن البشري»، قد سار متردِّدًا في الطريق المؤدي إلى مشكلة النقد العقلي عند كانت، فإن فهمه للمشكلة قد ظلَّ غير واضح؛ فتحليله للذهن البشري لم يتضمَّن خروجًا صريحًا على مُسلَّمات ديكارت المنهجية الأساسية. كما أنه لم ينظر إلى هدفه الخاص بتحديد «يقينية المعرفة البشرية ومداها» على أنه هدف يختلف اختلافًا شديدًا عمَّا نُطلق عليه نحن اسم علم النفس التجريبي (empirical). وكان اهتمامه بالمسائل الخاصة بأصول أفكارنا، واتباعه لِمَا أسماه ﺑ «المنهج التاريخي الصريح»، دليلًا قويًّا على أنه لم يشعر بوجود فارق أساسي بين الأبحاث النفسية للعلل المتحكِّمة في أفكارنا ومعتقداتنا، وبين التحليلات الفلسفية لمعنى أفكارنا وصحة معتقداتنا.

أمَّا فلسفة كانت فهي تفترض في أساسها تمييزًا قاطعًا بين المسائل المنتمية إلى مجال ما هو كائن، وتلك المنتمية إلى مجال ما يجب أن يكون. ومثل هذا التمييز في رأيه ضروري، لا في الأخلاق فحسب، حيث ينبغي التفرقة بين المرغوب فيه وبين الجدير بأن يكون مرغوبًا فيه، وإنما هو ضروري أيضًا في المنطق ونظرية المعرفة، حيث ينبغي التفرقة، على نحو مماثل، بين ما نعتقده وما ينبغي أن نعتقده، وبين ما نستدل عليه وما يكون من الصحيح الاستدلال عليه. وممَّا له دلالته أن كانت، من حيث هو فيلسوف، لم يكتب «بحثًا في الطبيعة البشرية» كما أسمى هيوم كتابه الرئيسي، وإنما كتب «نقدًا للعقل الخالص» و«نقدًا للعقل العملي». ولا جدال في أن «المنهج التاريخي الصريح» عند لوك لم يكن يفي بأغراض كانت على الإطلاق، ومن ثم فقد كان عليه أن يضع «منهجًا ترنسندنتاليًّا» جديدًا، هو وحده الكفيل بتحديد أُسس الاعتقاد والفعل المبنيَّين على العقل.

وطالما أساء الناس فهم المعنى الذي استخدم به كانت لفظ «الترنسندنتالي». فقد يظن القارئ غير المدقق، حين يلاحظ تكرار ورود هذا اللفظ في صفحات مؤلَّفات كانت، أن فيلسوفنا كان يعني به طريقةً للوصول إلى أشياء «تعلو على هذا العالم». ومثل هذا الاعتقاد باطل؛ إذ إن آراء كانت حول إمكان معرفتنا لأية حقيقة علوية كانت آراءً حذرة لا تُطلق جُزافًا على الإطلاق. ولم تكن لديه أية رغبة في أن يفعل ما فعلته إحدى شخصيات أوبرا جلبرت وسليفان «بيشنس Patience»،٢ فيأخذ جميع بذور الألفاظ الترنسندنتالية ويزرعها في كل مكان، بل إنه بذل قدرًا كبيرًا من طاقته العقلية في سبيل انتقاد التطبيق الميتافيزيقي للألفاظ الترنسندنتالية على ما يتجاوز حدود التجربة الممكنة.

ولقد كان كانت يعتقد أن نقده للعقل قد أحدث ما يمكن تسميته ﺑ «الانقلاب الكبرنيكي» في الفلسفة. غير أن التشبيه الذي قصده من هذه التسمية غامض، وكثيرًا ما أُسيء فهمه، شأنه في ذلك شأن لفظ «الترنسندنتالي». وعلينا، لكي نفهم على نحوٍ أكمل المعنى الذي قصده كانت، أن نعود إلى الموقف التاريخي الذي واجهه عندما قرأ لأول مرة، في وقت كان فيه من أتباع ليبنتس، تحليل هيوم للعِلِّية، الذي بدا ذا طابع شكاك.

فقد سلَّم كانت في شبابه، حين كان من أتباع المذهب العقلي، بأن مبدأ العِلِّية؛ أي المبدأ القائل بأن لكلِّ حادث علة، هو مبدأ ضروري للطبيعة، متأصِّل في طبيعة الأشياء، ولا يحتاج المرء لإدراك حقيقته إلا إلى عقله الخالص، دون الْتجاء إلى التجربة. كما سلَّم دون مناقشة بوجود ارتباطات ضرورية في الطبيعة، كامنة في النظام الموضوعي للواقع. ومن خلال وجهة النظر هذه، لا يمكن أن تكون قوة العقل سوى القدرة على إدراك مثل هذه «العلاقات الواقعية» بالحدس، فيكون بذلك قد رسم نوعًا من الخريطة أو الأشعة السينية للتركيب الداخلي للوجود ذاته؛ فالذهن البشري يفكِّر من خلال العِلِّية؛ لأن ذلك الذهن ذاته هو في واقع الأمر مرآة تعكس بدقة ذلك التركيب الباطن للعالم الخارجي. والعقل يُدرك هذه المبادئ على أنها ذات صحة واضحة بذاتها؛ إذ إنه «يرى»، عن طريق عملية حدس عقلي، أنها تصح بالضرورة على طبيعة الأشياء. وهكذا لا يكون العقل من وجهة النظر هذه مجرد ملكة للتجريد والاستدلال، وإنما ملكة للكشف أيضًا، تتيح لنا إدراك أعم صفات الأشياء كما هي في ذاتها.

ولقد ردَّ هيوم على هذا كله ردًّا غايةً في البساطة.

فقد تساءل: كيف يتسنَّى لنا أن نعرف، على نحو مستقل عن التجربة، أن كل حادث له، وينبغي أن تكون له، علة؟ لقد كان هيوم على استعداد للاعتراف بأن لبعض القضايا صحةً ضرورية، ومن هذه القضايا الحقائق الرياضية والمنطقية، والقضايا «اللفظية» مثل «كل كلب كلب» و«كل شيء ملون ممتد». غير أن مثل هذه الحقائق تعبِّر عن «علاقات بين الأفكار»، ولا تنبِّئنا بشيء عن الأمور الواقعة أو الوجود الفعلي. والمعيار الوحيد للحقيقة الضرورية عند هيوم هو قانون عدم التناقض.

فإذا كان من المحال نفي قضية دون تناقض، فإن القضية تكون صحيحةً بالضرورة. ولكنها، لهذا السبب عينه، لا تنبِّئنا بشيء يتجاوز ما تتضمَّنه التصوُّرات التي تنطوي عليها. أمَّا القضية التي يمكن نفيها دون تناقض، فليست لها صحة مطلقة. وفي هذه الحالة لا يمكن استخلاص الشواهد على صحتها — إن كان لها أي معنًى — إلا من التجربة.

فماذا نقول إذن عن قانون العِلِّية؟ أهناك أي تناقض في إنكار إمكان وجود شيء دون علة؟ يرى هيوم أن الجواب ينبغي أن يكون بالنفي دون قيد ولا شرط؛ فمبدأ العِلِّية الشاملة، من حيث هو قانون للطبيعة، لا يمكن إدراك صحته بطريقة أولية سابقة على التجربة.

وللمسألة موضوع الخلاف هنا أهمية قصوى؛ إذ لو كان مبدأ العِلِّية غير يقيني، لبدا أن العلم بأسره لا يرتكز على أساس أمتن من ذلك الذي ترتكز عليه العقيدة المُنزَّلة. وإذن فهلا يوجد مبرِّر لاعتقاد العالم باطراد الطبيعة؟ أهذا الاعتقاد مجرد رأي إيماني ليس له من الأسس العقلية أكثر ممَّا لالتزامات الكاهن أو النبي أو الطبيب؟

مثل هذه الأسئلة الفائقة الأهمية هي التي تصدَّى لها كانت في كتابة «نقد العقل الخالص»، وكانت إجابته عليها تؤلِّف الجزء الأكبر من ثورته الكبرنيكية في الفلسفة؛ فقد أخذ كانت بالوجه السلبي لتحليل هيوم، ووافق على أن أصحاب المذهب العقلي كانوا يفتقرون إلى الروح النقدية عندما اعتقدوا أن قانون العِلِّية الشاملة حقيقة مطلقة يدرك العقل بحدسه انطباقها على جميع الأشياء كما هي في ذاتها. وكان من رأيه أن ذلك القانون ليس، على حد تعبيره، «تحليليًّا»؛ فهيوم كان مصيبًا تمامًا حين أنكر أن معنى لفظ «الشيء» يستتبع أن تكون له علة. وإذن ينبغي أن يكون المبدأ «تركيبيًّا». غير أن كانت يأبى أن ينظر إلى هذا المبدأ على أنه مجرد تعبير عرَضي عن أمر واقع، مثل «كل البجع أبيض»، أو «كل الفلاسفة مصابون بالعُصاب». وإذن، فإلى أي نوع من القضايا ينتمي قانون العِلِّية؟

يجيب كانت عن هذا السؤال بأن القانون ليس تعبيرًا عن أمر واقع، ذا صحة بعدية aposteriori، وليس إيضاحًا «تحليليًّا» لمعانٍ موجودة بالفعل في تصور ما. وإنما هو مبدأ تنظيمي يعبِّر عن قاعدة شاملة لكل بحث عقلي؛ فجميع المبادئ التي تنتمي إلى هذا النوع أولية، ولكنها تركيبية أيضًا؛ أي إنها ذات شمول وضرورة مطلقة، ومن ثم فإن صحتها لا تتوقف على تأييد من التجربة، بل إن صحتها، على العكس من ذلك، تُفترض ضمنًا في جميع الأحكام التي تنقُل إلينا معرفةً بالظواهر. ومع ذلك فهل هذه المبادئ تنطبق على تصورنا للأشياء من حيث هي موجودة، لا على ما أسماه هيوم بالعلاقات بين الأفكار فحسب.

وإذن فالسؤال الأساسي في نقد العقل لا يعدو، في رأي كانت، أن يكون: «كيف تكون الأحكام التركيبية الأولية ممكنة؟» وليس في وسعنا في هذا الحيز المحدود، إلا أن نُشير إشارةً عامة إلى إجابة كانت على هذا السؤال؛ فالمقدمة التي يرتكز عليها هي أن الذهن البشري لا يمكن تصوُّره مرآةً سلبية تعكس، بطريقة حدسية، الأنماط الكامنة في الأشياء كما هي ذاتها، أو العنصر المعقول فيها، وإنما ينبغي أن ننظر إلى ما نسمِّيه بالذهن على أنه قوة فعالة تقوم هي ذاتها بتشكيل المادة الخام التي تقدِّمها التجربة الحسية في نظام شامل من الظواهر المصوغة في تصوُّرات. ومع ذلك فإن كانت ليس «مثاليًّا»؛ أي إنه لا يقول إن الذهن ذاته هو الحقيقة الوحيدة، أو أن الذهن يخلق عالمه؛ فعناصر التجربة الحسية «معطاة» سواء شئنا أم لم نشأ، ونحن، بكل بساطة، نجدها هناك كُلما فتحنا أعيننا وآذاننا. كذلك لا يشك كانت في أن ثمة «أشياء في ذاتها» بمعنًى مُعيَّن؛ أشياء خارجة عن الذهن، ذات حقيقة مستقلة عنه. بل إن هذا الافتراض في الواقع من القضايا الرئيسية في فلسفته بأسرها. غير أن الأشياء في ذاتها ليست، في رأيه، موضوعات للمعرفة، وليس لدى الذهن أي شيء يقوله عنها بالمعنى الصحيح. بل إن مهمة الذهن هي تشريع قوانين البحث، التي تتيح للوقائع الحسية الخام أن تتعايش سويًّا في مجتمع مدني يضم موضوعات خاضعةً للقانون.

ومع ذلك، فمن واجبنا ألَّا نمضي في هذا التشبيه أبعد ممَّا ينبغي؛ فكانت لا يعتقد أن الذهن المشرِّع يستطيع إذا شاء أن يضع قواعد غير تلك التي تستخدم بالفعل في تفكيرنا العادي وتفكيرنا العلمي في الظواهر. وفي هذا الصدد ظلَّ كانت ملتزمًا التراث العقلي الذي تأثر به؛ فما يسمِّيه كانت ﺑ «صورتَي الحدس»، وهما المكان والزمان، هما، رغم ذاتيتهما، كامنتان في كل إدراك بشري. وفي رأيه أن من المحال تصوُّر شيء لا يشغل مكانًا ولا يمر بزمان. وفضلًا عن ذلك فقد اعتقد كانت أن الهندسة الإقليدية، التي كانت في عصره الهندسة الوحيدة التي وضعها الرياضيون، تعبِّر عن العلاقات الضرورية الشاملة بين جميع الموضوعات التي يمكن أن تظهر لنا في المكان، ولم يدُر بخَلَده قط أن من الممكن وضع هندسات أخرى قد تكون أكبر فائدةً من هندسة إقليدس في ميادين علمية معيَّنة. كذلك اعتقد أن مقولات مثل العلة والجوهر أساسية في كل تفكير عقلي حول الظواهر. ولم يطُف بذهنه مجرد إمكان قيام علم يستغني عن هذه المقولات.

ومع ذلك، فالأمر الذي أدركه بوضوح هو أن جميع المقولات، من أمثال «العلة» و«الجوهر»، لا تمثِّل علاقات أو كِيانات حقيقية.

ولقد كان هو أول من قال بذلك الرأي الذي عبَّر عنه مفكرون تالون على أنحاء شتى، والقائل إن التصورات والمبادئ المنهجية للبحث ليست تعبيرًا عن عنصر عقلي كامن في طبيعة الأشياء، وإنما هي أفكار وقواعد إجرائية، تُتخذ لأغراض عملية هدفها السيطرة على العالم الذي نعيش فيه.

ونستطيع أن نقول، على الإجمال، إن الوجه السلبي لمذهب كانت كان له أثر أعظم من الوجهة التاريخية؛ فموقفه، كما رأينا، يحتم ألَّا تكون صورتا الحدس، وهما المكان والزمان، ومقولات الذهن، كالجوهر والعلة، قابلةً للانطباق على ما يتجاوز المعطى في التجربة الحسية. والثمن الذي ينبغي علينا أن ندفعه لكي نضمن إمكان المبادئ التركيبية الأولية، كقانون العِلية، هو أن نقصر تطبيقها على عالم الظواهر الداخلة في نطاق التجربة. ومن حقنا أن نظل نميِّز، داخل هذا العالم، بين ما هو «حقيقي»، وما هو «خدَّاع»، غير أن مثل هذا التمييز لا ينطبق على الأشياء في ذاتها؛ فعندما نحاول أن نتوسع في تطبيق أفكار كالعلة والجوهر بحيث تسري على الأشياء في ذاتها، أو أن نفكِّر «بطريقة واقعية» حول «علة» عالم الظواهر في مجموعه، فإن المطاف ينتهي بنا حتمًا إلى نقائض لا ضابط لها، ولا قِبل للذهن البشري بحلها على الإطلاق. مثل هذا الاستخدام النظري٣ (speculative) الجامح للعقل، هو الصفة المميزة لتلك الأحكام التوكيدية التسليمية التي كان يدلي بها العقليون السابقون حول الطبيعة النهائية والعلة القصوى للأشياء. ويرى كانت أن هذا الاستخدام النظري٤ البحت يؤدِّي في جميع الحالات إلى قضايا ميتافيزيقية يحق لنا أن نشك حتى في كونها قضايا ذات معنًى. فلكل قضية مثل؛ للعالم في مجموعه علة، قضية مضادة تعادلها إمكانًا، ويمكن البرهنة عليها بنفس القدر من الإحكام، ومن ثم فإن معناها يعادل الأولى في افتقاره إلى الوضوح. فلو أثبتُّ بطريقة عقلية خالصة أن العالم لا بد أن تكون له بداية في الزمان، ففي وسعي أن أُثبت، ببرهان تبدو له نفس ضرورة برهانك، أن العالم لا يمكن أن تكون له هذه البداية. ولو قدَّمت حججًا تبدو مقنعةً تمامًا، على أن المادة تتألَّف من ذرات بسيطة لا تتجزَّأ، ففي وسعي أن أُثبت، بطريقة لا تقل عن ذلك إقناعًا، أن المادة تقبل الانقسام إلى ما لا نهاية. ولو أثبت أنه إذا كان ثمة شيء موجود، مثلك أنت، فلا بد أن يكون هناك موجود٥ ضروري يعد علة، ففي وسعي أن «أُبرهن» بنفس القوة على القضية المضادة، القائلة إن مثل هذا الموجود الضروري غير موجود ولا يمكن أن يكون موجودًا.

والذي يحدث في كل هذه الحالات هي أننا نمدُّ تطبيق مقولات الذهن دون تمحيص، إلى كِيانات افتراضية تخرج تمامًا عن نطاق التجربة الممكنة، فتكون النتيجة أن نفقد ضوابطنا المنطقية، ولا يتبقَّى لنا سوى ادعاءات متضادة تتعرَّض صحتها لنفس القدر من الشك. حقًّا إن السؤال عمَّا إذا كان للكون في مجموعه علة أو بداية في الزمان يبدو في ظاهره سؤالًا معقولًا، غير أن البحث الدقيق يثبت أننا لا نستطيع الإجابة على هذه الأسئلة قط، لا لأننا نفتقر إلى الأدلة الكافية، بل لأن وجهة الأسئلة ذاتها باطلة. ولو نظرنا إلى الكون بأسره على أنه نتيجة لعلة هائلة الحجم، لكان علينا أن ننظر إلى الكون على أنه شيء مادي ضخم تربطه بتلك «العلة» نفس العلاقة التي تربط بين ظاهرتَين مألوفتَين. غير أن الكون في مجموعه ليس ظاهرة، ولا يمكن تصوُّره على أنه ظاهرة؛ ففي كل تفكير ميتافيزيقي من هذا النمط نُضطر إلى تطبيق تصوُّرات على مجال يتجاوز النطاق المعتاد الذي تنطبق عليه إلى حد لا نعود معه نعرف ما الذي يبدو أننا نقوله، فتكون النتيجة تأرجحًا لا ينقطع بين قضايا وقضايا مضادة لا تقلُّ كل منهما عن الأخرى إحكامًا، وهذا الإحكام المتكافئ بين قضايا متضادة هو الذي يجعلها مفتقرة، بنفس القدر، إلى المعقولية. والأجدر بنا، في رأي كانت، أن نكف تمامًا عن أُلعوبة الميتافيزيقا النظرية العقيمة، وإلا فَقَد الذهن ثقته بالمقولات ذاتها، ووقع دون خلاص في قبضة الشك.

وعلى مثل هذه الأُسس يقوم تفنيد كانت للبراهين التقليدية على وجود الله، وهي البراهين التي احتلَّت مكانةً هامة في ميتافيزيقا العقليين ولاهوتهم. وحسبنا هنا أن نقول إن هذه البراهين ترتكز كلها، في رأي كانت، على ما يسمَّى ﺑ «البرهان الأنتولوجي»، وهو البرهان الذي يُقال فيه إن إنكار وجود الله يستتبع التناقض حتمًا، فتصوُّر الله هو، حسب تعريفه، تصوُّر كائن مطلق الكمال، ولكن لا بد أن يكون الوجود من صفات الكائن المطلق الكمال، وإلا لَمَا كان كاملًا، وإذن فلا بد أن يكون الله، من حيث هو الكائن المُطلق الكمال، موجودًا. وموضع بطلان هذه الحجة هو أنها ترى «الوجود» محمولًا يدل على صفة معادلة لجميع الصفات الأخرى التي تُعزى إلى الله، كالعلم المحيط بكل شيء. غير أن الوجود، ليس محمولًا، ولا يدل على صفة أو سمة للأشياء التي يُعزى إليها. ويضرب كانت لإيضاح فكرته مثلًا بالفارق بين مائة قرش حقيقي ومائة قرش خيالي؛ فالفارق الوحيد بينهما ينحصر في أن الأولى موجودة والثانية غير موجودة، أمَّا تصوُّر المائة قرش فواحد في الحالتَين.

والمسألة التي يريد كانت إثباتها في هذا الصدد هي أن لفظ «الوجود» يفقد وظيفته المنطقية إذا ما عومل، كما تتطلَّب البراهين التقليدية على وجود الله، على أنه محمول يدل على صفة. والنتيجة الوحيدة التي تُستخلص من هذا، كما سبق أن قال هيوم، هي أن فكرة الله ذاتها، بمعنى «الموجود الضروري»، فكرة مستحيلة. ويُضيف كانت إلى ذلك نقطةً هامة، هي أنه حتى لو صحَّت براهين وجود الله هذه، لَمَا استتبعت، مع هذا، أن يكون هذا الموجود الضروري، هو ذاته، تلك العناية الإلهية التي يرى الكثيرون أنها هي الموضوع الحقيقي لتقديس البشر وتقواهم.

وقد يستنتج المرء من هذا كله أن نقد كانت المدمِّر للميتافيزيقا النظرية كان استباقًا للنظرية الوضعية التالية القائلة إن جميع القضايا الميتافيزيقية واللاهوتية لا معنى لها على الإطلاق. غير أن هذا استنتاج باطل؛ إذ إنه، مع معارضته الشديدة لكل الادعاءات المتعلِّقة بالمعرفة الميتافيزيقية للواقع، كان يؤمن بأن لبعض الاعتقادات الميتافيزيقية أو اللاهوتية أهميةً من حيث هي «مصادرات» للعقل «العملي». وإذن فلا بد، لتكوين صورة أدقَّ عن تعاليم كانت في هذا الصدد، من أن نُلم بعض الإلمام بفلسفته الأخلاقية.

يعتقد كانت أنه ليس من مهمة الأخلاق أو العقل العملي على الإطلاق وصف الأمور الواقعية أو التنبؤ بها، وإنما تنحصر هذه المهمة في إرشادنا إلى الطريقة التي ينبغي أن نحيا بها، وإلى ما ينبغي علينا فعله. وهكذا فإن أحكام العقل العملي لا تمدنا بمعرفة بالمعنى النظري، وإنما هي أوامر عملية وظيفتها إرشادنا في اتخاذ قراراتنا. وليست وظيفة الاستدلال العملي أو الأخلاقي تبديد الشكوك العقلية المتعلقة بالموجودات، وإنما هي القضاء على تردُّد الإرادة. ويعتقد كانت أن لهذا التردُّد نوعَين رئيسيَّين؛ (أ) تردُّد ناشئ عن التعارض المعتاد بين الرغبات أو الميول. (ب) وتردُّد ناشئ عن التعارض بين الرغبات أو الميول الطبيعية وبين شعورنا بالواجب. وللتغلُّب على هذَين النوعَين تمامًا من التردُّد العملي، يوجد نوعان رئيسيان من الأوامر؛ (أ) أوامر مشروطة hypothetical imperatives، تنبِّئنا بما ينبغي علينا عمله لإرضاء رغباتنا. (ب) وأوامر مطلقة categorical imperatives، تنبِّئنا بما ينبغي علينا عمله بوصفنا كائنات أخلاقية. فإذا شئتُ حفظ صحتي، فينبغي عليَّ ألَّا أستسلم للقلق. ولكن الأساس الوحيد الذي يرتكز عليه «الواجب» في هذه الحالة هو رغبتي الطبيعية في حفظ صحتي. وإذن فالأمر في هذه الحالة أمر مشروط تُستمد ضرورته العملية الوحيدة من رغبتنا في تحقيق الغاية التي يعبِّر ذلك الأمر عن وسيلتها الضرورية. أمَّا الأوامر المطلقة فتقتضي منا أداء الأفعال التي تدعو إليها، بِغض النظر عن ميولنا الشخصية. وهي لا تتساءل عن تفضيلاتنا أو أذواقنا، وإنما توجِّه إلينا دون قيد أو شرط، وعلى نحو لا شخصي، بوصفنا موجودات أخلاقية عاقلة.

•••

ويرى كانت أن مفتاح الفهم الصحيح للأوامر الأخلاقية أو المطلقة هو تصوُّر القانون؛ أي المبدأ الذي يصح دون استثناء. غير أن القوانين الأخلاقية تختلف عن قوانين الطبيعة التي يصنعها العلم في أنها لا تنبِّئنا بما هو كائن بالفعل، وإنما تنبِّئنا بما ينبغي أن يكون، وما ينبغي أن يفعله أي كائن عاقل في ظرف معين. وعلى ذلك فالأمر المطلق، الذي طالما أُشير إلى وجه الشبه بينه وبين «القاعدة الذهبية»،٦ هو أنه ينبغي علينا ألَّا نتخذ لأنفسنا من قواعد السلوك في أي موقف عملي سوى تلك القواعد العامة التي نريد لها أن تكون على الدوام قوانين شاملة للطبيعة. ولنقل مرةً أخرى إن هذه القواعد ليست قوانين الطبيعة، وأن النظر إليها على هذا النحو ينطوي على سوء فهم لوظيفتها، ولكنها لا تصبح قواعد أخلاقيةً إلا إذا اتجهت إرادتنا — بقدر استطاعتنا — إلى أن نجعلها كذلك.
ولقد وُجِّهت إلى نظرية كانت انتقادات كثيرة. والذي يُهمنا هنا هو النتيجة الهامة لتمييزه القاطع بين العقل الخاص أو النظري والعقل العملي؛ أي بين العلم والأخلاق. ذلك لأن قَبول المرء لفكرة كانت المسماة بفكرة «العقلَين»، وقوله مع كانت إن أساس كل عقل عملي يكمن في الإرادة لا في العقل وحده، كفيل بأن يؤدِّي على التو إلى تخليص مجال رئيسي كامل للتفكير الفلسفي من الخضوع للسلطان المطلق للمنهج العلمي. حقًّا إن علم الأخلاق، وكل مبحث آخر قد يماثله في هذا الصدد، قد يظل «عقليًّا» بمعنًى هام، ولكن ليس لنا أن نظل ننظر إلى العقل في هذه الحالة على أنه مَلَكة نظرية خالصة. وفضلًا عن ذلك، فإذا كانت الاعتقادات اللاهوتية أو الميتافيزيقية الوحيدة المشروعة، كما يرى كانت، هي تلك التي تُبنى، آخر الأمر، على مطالب الإرادة الأخلاقية، فإن هذا يؤدِّي إلى استبعاد فرعَين آخرَين في البحث الفلسفي لهما أهمية عظمى من ذلك المجال الذي يجوز تسميته ﺑ «العلم»، مهما كانت مرونة فهمنا لهذا اللفظ. وبالاختصار ففي وسعنا أن نرى، في هذا الجزء ذي الأهمية التاريخية من فلسفة كانت، أن الفلسفة ذاتها تنتقل تدريجيًّا من مركز علم العلوم super science، إلى مركز الأيديولوجية. ومع ذلك فالأمر ذو الدلالة الحاسمة هو أن كانت ذاته يستطيع أن يعترف بهذا الانتقال في حالة الأخلاق، ويؤكِّد في نفس الآن مع ذلك أنها نوع من النشاط العقلي.

وعلينا، لكي نُتم رسم الصورة، أن نتابع تحليل كانت لشروط الحياة الأخلاقية خطوةً أخرى؛ فالأوامر الأخلاقية كما رأينا مطلقة، ومع ذلك فهي في نظر كانت لا معنى لها إلا إذا بُنيت على افتراضات أو مُسلَّمات مُعيَّنة. مثال ذلك أنه ما لم تكن الإرادة الأخلاقية حرةً في فعل ما يأمر به القانون الأخلاقي أو عدم فعله، فإن الأخلاق ذاتها تُعد وهمًا خادعًا. غير أن شيئًا، في رأي كانت، لا يفرض علينا حقيقته بنفس القوة التي تفرضها علينا أحكام الضمير. ومع ذلك فلا سبيل لنا إلى تصوُّر أنفسنا أحرارًا، طالما أننا ننظر إلى أنفسنا بوصفنا كائنات عضوية مادية؛ ففي هذه الحالة يخضع سلوكنا، شأنه شأن سلوك أي كائن عضوي، لتحكُّم العلل الطبيعية. وبالاختصار، فإن أجسامنا، بقدر ما يمكننا «معرفتها» بالوسائل العلمية، هي ظواهر في الزمان والمكان، وبالتالي فهي خاضعة تمامًا لقوانين الفيزياء وعلم وظائف الأعضاء. غير أن مذهب كانت في الأشياء في ذاتها يتيح له مهربًا من هذه النتيجة؛ فليس من الضروري افتراض أن مقولة العلة والمعلول تنطبق على ما يتجاوز نطاق الظواهر المكانية – الزمانية. وعلى ذلك، فلما كان الاعتقاد بأن الإرادة حرة ضروريًّا لضمان حقيقة الحياة الأخلاقية، فإنا نستطيع أن نؤمن، دون تناقض، بأننا ننتمي إلى علم أخلاقي «خارج» عن عالم الظواهر المكانية والزمانية. وبهذا تكون الافتراضات «الميتافيزيقية» الأولية للأخلاقية متمشيةً تمامًا مع قواعد البحث العلمي.

وعلى هذا النحو يحاول كانت، بسلسلةٍ من الحجج التي لا يتعيَّن علينا ذكرها في هذا المقام، أن يثبت، على أُسس أخلاقية، أن من واجبنا الاعتقاد بأننا أفراد أحرار في عالم روحي عاقل، وأننا بهذا الوصف، خالدون أيضًا. كذلك يأتي كانت بحجج لإثبات أن الضرورة العملية تُحتم علينا الإيمان بكائن أو إله هو وحده الذي يضمن لنا الخلود، ويجعل بذلك للحياة الأخلاقية أساسًا. غير أن هذه المعتقدات أو الموضوعات الإيمانية ليست سوى مُصادرات للعقل العملي؛ فمن المحال معرفة ما إذا كانت صحيحة، وأية محاولة نظرية لإثبات صحتها تؤدِّي بنا حتمًا إلى نقائض العقل الخالص وقضاياه الممتنعة. وبالاختصار فإن كانت ينظر إلى الدين (وكذلك الميتافيزيقا في الواقع) على أنه من لواحق الحياة الأخلاقية؛ فقَبولنا ﻟ «حقائقه» لا يرجع، في نهاية الأمر، إلى وجود أي دليل عليها، وإنما لأن هذا أمر يحتِّمه كوننا فاعلين أخلاقيين.

ورغم أن الكثيرين من خلفاء كانت لم يقتنعوا بتفاصيل حجته، فإن القضية الرئيسية في هذه الحجة كانت، ولا تزال، ذات أهمية باقية؛ إذ إن ما يقوله كانت هو في واقع الأمر أن مهمة اللاهوت التقليدي بأسرها قد أسيء فهمها؛ فماهية الدين، كماهية الأخلاق، لا تنحصر في فروض فوق العلمية تتعلَّق بطبيعة العالم «المخلوق»، وأصله، وإنما في إيجاده أساسًا للتجربة الأخلاقية والسلوك الأخلاقي. وربما كان هذا هو السبب الذي تطلق من أجله اللغة الإنجليزية على موضوعات أية عقيدة دينية اسم موضوعات الإيمان faith، لا موضوعات الاعتقاد believe، معترفةً في ذلك برأي كانت القائل إن معنى أية عقيدة دينية لا يكمن في أدلة الذهن البشري.

إن فلسفة كانت معبر يصل بين عصر التنوير، الذي آمن بالعلم بوصفه معرفةً شاملة ودواءً شافيًا لكل ما يُحيِّر ذهننا من الأسئلة، وبين العصر الرومانتيكي، الذي بحث فيه المفكِّرون عن أساس متباين تمامًا للأخلاق والدين والفلسفة ذاتها. ولقد فنَّد كانت ذاته بعض النتائج الفلسفية اللاحقة التي استخلصها فشته، معاصره الأصغر سنًّا، من مذهبه في العقلَين النظري والعملي. ومع ذلك فقد كان هذا المذهب، ومعه نظرته إلى الفلسفة على أنها في أساسها «نقد»، هو السبب الأكبر لأهم التطوُّرات الفلسفية التي حدثت في الفترة التالية.

والنص التالي مقتطف من الأقسام ٥٠–٥٤ من كتاب كانت: المدخل إلى كل ميتافيزيقا مقبلة.٧ وعنوان هذه الأقسام «الأفكار الكونية The Cosmological Ideas».

النص

(القسم ٥٠): إن هذا الناتج للعقل الخالص في استخدامه العالي (على التجربة) transcendent هو أجدر ظواهره بالملاحظة، وهو أقدر هذه الظواهر على إيقاظ الفلسفة من سُباتها التوكيدي، ودفعها إلى أداء تلك المهمة الشاقة، مهمة نقد العقل.
وأنا أُطلق على هذه الفكرة اسم الفكرة الكونية (الكسمولوجية)؛ لأنها لا تستمد موضوعها إلا من العالم المحسوس، كما أنها لا تحتاج إلى أي عالم سوى ذلك الذي يكون موضوعه شيئًا محسوسًا، وبالتالي فإنها، بقدر ما تكون كامنة٨ وليست عالية، لا تكون حتى ذلك الحين قد أصبحت فكرةً بعد، أمَّا أن نتصوَّر النفس على أنها جوهر بسيط فهذا يعني، على العكس من ذلك، تصوُّر هذا الموضوع (وهو البسيط) من حيث هو لا يمكن أن يتمثَّل للحواس. ومع ذلك فإن الفكرة الكسمولوجية تمضي في الربط بين المشروط وشرطه (سواء أكان رياضيًّا أم ديناميًّا) إلى حدٍّ تعجز التجربة تمامًا عن مجاراته، وبذا تظل دائمًا، من هذه الناحية، فكرة لا يمكن أن يُعطى موضوعها بطريقة مطابقة في أية تجربة.
(القسم ٥١): وتظهر هنا، أولًا، فائدة نسق (قائمة) المقولات على نحو واضح لا يُنكَر، حتى إنه لو لم تكن توجد أدلة أخرى عديدة عليها، لكان في هذا وحده الكفاية لإثبات ضرورتها الأساسية في نظام العقل الخالص. ولا يوجد من هذه الأفكار العالية (transcendent) سوى أربع؛ أي بقدر ما يوجد من فئات المقولات. ومع ذلك فهي تُشير في كلٍّ منها إلى المجموع٩ المطلق لسلسلة الشروط الخاصة بمشروط مُعيَّن فحسب. ويناظر هذه الأفكارَ الكسمولوجية الأربع أربعةُ تأكيدات ديالكتيكية فحسب للعقل الخالص، وهي تأكيدات يدل كونها ديالكتيكية على أن لكل منها تأكيدًا مناقضًا يقابله، ويبني على مبادئ للعقل الخالص تعادل المبادئ التي يبني عليها الأول تهافتًا. وليس في وسع أي فن ميتافيزيقي للتمييز الدقيق أن يمنع هذا التعارض، سوى ذلك الذي يدفع الفيلسوف إلى الرجوع إلى المصادر الأولى للعقل الخالص. هذه النقيضة، التي لم تُبتدع ابتداعًا إراديًّا، وإنما تتأصل في طبيعة العقل البشري، والتي هي بالتالي لا مفر منها ولا تتوقف عند حد أبدًا، تنطوي على القضايا الأربع الآتية ومعها قضاياها المضادة:
  • (١)

    القضية: العالم، من حيث الزمان والمكان، بداية (حد).

    القضية المضادة: العالم، من حيث الزمان والمكان، لا متناهٍ.

  • (٢)

    القضية: كل ما في العالم يتألف من البسيط.

    القضية المضادة: ليس ثمة ما هو بسيط، بل إن كل شيء مركب.

  • (٣)

    القضية: في العالم علل عن طريق الحرية.

    القضية المضادة: ليست ثمة حرية، بل كل شيء طبيعة.

  • (٤)

    القضية: يوجد في سلسلة علل العالم موجود ضروري.

    القضية المضادة: ليس في هذه السلسلة شيء ضروري، بل كل ما فيها عرَضي.

(القسم ٥٢): تلك هي أغرب ظواهر العقل البشري، وهي ظاهرة لا نظير لها في أي استخدام آخر لهذا العقل. فإذا ما تصوَّرنا ظواهر العالم المحسوس كما يحدث عادة، على أنها أشياء في ذاتها، وإذا ما نظرنا إلى المبادئ الرابطة بينها على أنها مبادئ تصح على نحو مطلق على الأشياء في ذاتها لا على التجربة فحسب، وهو ما يحدث عادة — بل هو ما يكون، لولا «نقدنا» أمرًا لا مفر منه — فهنا ينشأ تعارض لا يمكن إزالته بالمنهج التوكيدي المعتاد؛ إذ إن من الممكن الإتيان ببراهين متساوية الوضوح والبداهة والإقناع على القضية والقضية المضادة معًا — وأنا كفيل بصحة هذه البراهين جميعًا — وهكذا يدرك العقل أنه منقسم على نفسه، وهي حالة يضطرب لها الشكاك، ولكنها لا بد أن تدفع الفيلسوف النقدي إلى التأمل وتبعث فيه القلق.
(القسم ٥٢ باء): إن المرء يستطيع أن يرتكب في الميتافيزيقا عديدًا من الأخطاء دون أن يخشى أن يُكشف خطؤه، فلو اقتصر على تجنُّب مناقضة ذاته، وهو أمر ممكن جدًّا في القضايا التركيبية التي هي في الآن نفسه غير مستندة إلى أساس من الواقع، فإن من المُحال أن تُناقِضنا التجربة في جميع الحالات التي تكون فيها التصورات التي تربط بينها أفكارًا لا يمكن أن تُعطى، من حيث محتواها الكامل، في التجربة. إذ كيف نُقرِّر، عن طريق التجربة، إن كان العالم أزليًّا أم له بداية، وإن كانت المادة منقسمةً إلى ما لا نهاية أو تتألف من أجزاء بسيطة؟ إن مثل هذه التصوُّرات لا يمكن أن تُعطى في أية تجربة، مهما كان اتساع نطاقها، وعلى ذلك فمن المحال كشف بُطلان القضية الإيجابية أو السالبة بهذا المعيار.

والحالة الوحيدة التي يستطيع العقل فيها أن يكشف رغم إرادته عن ديالكتيكه الخفي، الذي ينظر إليه خطأً على أنه محتواه التوكيدي، هي تلك التي يمكنه فيها أن يبني تأكيدًا على مبدأ معترف به اعترافًا شاملًا، ويستنبط عكسه تمامًا بأدق استدلال منطقي من مبدأ آخر مُسلَّم به بنفس القوة، وهذه بالفعل هي الحال ها هنا، بالنسبة إلى أفكار العقل الطبيعية الأربع، التي تُسفر من ناحية عن أربعة تأكيدات، ومن الناحية الأخرى عن أربعة تأكيدات مضادة، يتلو كل منها، دون تخلُّف، من مبادئ معترف بها اعترافًا شاملًا. وهكذا تكشف هذه الأفكار عن الخداع الديالكتيكي للعقل الخالص في استخدامه لهذه المبادئ، وهو الخداع الذي لولا ذلك لظل مختفيًا إلى الأبد.

وإذن فها هنا اختبار حاسم يؤدِّي حتمًا إلى كشف أي خطأ مستتر يختفي بين ثنايا مصادرات العقل؛١٠ فالقضيتان المتناقضتان لا تكونان باطلتَين ما، إلا إذا كان التصوُّر الذي ترتكزان عليه باطلًا.

مثال ذلك أن القضيتَين «الدائرة المربعة مستديرة» و«الدائرة المربعة ليست مستديرةً» باطلتان معًا؛ في الأولى يستحيل أن تكون هذه الدائرة مستديرة؛ لأنها مربعة، ولكن يستحيل أيضًا ألَّا تكون مستديرة؛ أي أن تكون لها زوايا؛ لأنها مستديرة. ذلك لأن المعيار المنطقي لاستحالة تصوُّر ما هو أن يكون افتراضه مُؤدِّيًا إلى إمكان بطلان قضيتَين متناقضتَين معًا، ومن ثم، فلما كان من المحال تصوُّر قضيةٍ وسط بينهما، فإن هذا التصوُّر لا يكون منطويًا على أي شيء.

(القسم ٥٢ﺟ): ومثل هذا التصوُّر المتناقض هو أساس النقيضتَين الأُوليَين، اللتَين أُسمِّيهما بالرياضيتَين؛ لأنهما تتعلَّقان بجمع المتجانس أو قسمته، وعلى هذا النحو أُفسِّر اشتراك القضية والقضية المضادة معًا في البطلان.

فعندما أتحدَّث عن أشياء (موضوعات) في الزمان والمكان، فإني لا أتحدَّث عن أشياء في ذاتها؛ إذ إني لا أعرف عن هذه شيئًا، وإنما أتحدَّث عن أشياء ظاهرية؛ أي عن التجربة، بوصفها طريقةً خاصة لمعرفة تلك الموضوعات، متاحةً للإنسان وحده. وليس لي أن أقول عمَّا أُدركه في المكان والزمان إنه يوجد في ذاته، مستقلًّا عن أفكاري، في الزمان والمكان، وإلا لكنت مناقضًا لنفسي؛ إذ إن الزمان والمكان، مع ما فيهما من ظواهر، لا وجود لهما في ذاتهما خارج تمثُّلاتي، وإنما هما مجرَّد طرق للتمثُّل، ومن التناقض الصريح أن يقال عمَّا هو مجرَّد طريقة للتمثُّل، إنه يوجد دون تمثُّلنا. وإذن فموضوعات الحواس لا توجد إلا في التجربة، أمَّا إذا أضفينا عليها وجودًا قائمًا بذاته، مستقلًّا عن التجربة أو سابقًا عليها، فإنا نكون أشبه بمن يتصوَّر التجربة موجودةً دون التجربة، أو قبلها.

فإذا ما تساءلتُ عن عِظم العالم من حيث المكان والزمان، فمن المُحال أن تُتيح لي تصوُّراتي أن أُقرِّر إن كان لا متناهيًا أم متناهيًا؛ إذ إن كلا القولَين ليس متضمِّنًا في التجربة؛ لأن من المستحيل أن تكون لدينا تجربة عن مكان لامتناهٍ أو عن زمان لامتناهٍ في مجراه، ولا عن تحدُّد العالم بمكان خاوٍ؛ فهذه كلها لا تعدو أن تكون أفكارًا. وعلى ذلك، فسواء أحدَّدنا عِظم العالم على هذا النحو أم ذاك، فسيكون من المحتَّم، بِناءً على ذلك، أن يوجد في ذاته، مستقلًّا عن كل تجربة. غير أن هذا يناقض تصوُّر العالم المحسوس، الذي لا يعدو أن يكون مجموعةً من المظاهر لا وجود لها ولا ارتباط بينها إلا في تمثُّلاتنا؛ أي في التجربة؛ إذ إن هذا العالم ليس شيئًا في ذاته، وإنما مُجرَّد طريقة للتمثُّل. ويترتَّب على ذلك أنه لمَّا كان تصوُّر عالم محسوس ذي وجود بذاته متناقضًا مع نفسه، فإن حلَّ المشكلة المتعلِّقة بعِظمه باطل دائمًا، سواء جرَّبناه إيجابًا أم سلبًا.

ومثل هذا يصدق على النقيضة الثانية، التي تتعلَّق بانقسام الظواهر؛ إذ إن هذه مجرَّد تمثُّلات، أجزاؤها لا توجد إلا في تمثُّلاتها، وبالتالي في الانقسام؛ أي في تجربة ممكنة تُعطى فيها، بحيث لا يبلغ الانقسام إلا المدى الذي تبلغه التجرِبة الممكنة. فافتراضنا، مثلًا، أن مظهرًا كالجسم يحوي في ذاته، قبل كل تجربة، جميع الأجزاء التي يمكن أن تبلغها أي تجربة ممكنة، معناه أننا ننسب إلى مجرَّدِ مظهر، لا وجود له إلا في التجربة، وجودًا فعليًّا سابقًا على التجربة، أو نقول بإمكان وجود التمثُّلات الخالصة قبل أن يُهتدى إليها في ملكتنا للتمثُّل، وهو قول مناقض لذاته، مثله في ذلك مثل كل حل لهذه المشكلة التي أُسيء فهمها، سواء أقلنا فيه إن الأجسام في ذاتها تتألَّف من عدد لا متناهٍ من الأجزاء، أو من عدد متناهٍ من الأجزاء البسيطة.

(القسم ٥٣): وموضع بطلان الفرض في الفئة الأولى من النقائض (الفئة الرياضية) هو في تمثُّل شيء مناقض لذاته (أي المظهر بوصفه شيئًا في ذاته) على أنه يمكن أن يجتمع في تصوُّر واحد. أمَّا موضع بطلان الفرض في الألفية الثانية من النقائض (أي الفئة الدينامية)، فهو في تمثُّل ما يقبل التوفيق على أنه متناقض. وعلى ذلك، في حين كان القولان المتضادان باطلَين في الحالة الأولى، فإنهما هنا يمكن أن يكونا صحيحَين معًا، ما دام التقابل بينهما يرتد إلى سوء فهم فحسب.
والواقع أن الارتباط الرياضي يفترض مقدَّمًا تجانس ما يجمع بينه (في تصوُّر المقدار Grösse) في حين لا يلزم هذا في الارتباط الدينامي؛ فعندما يتعلَّق الأمر بمقدار ما هو ممتد، ينبغي أن تكون جميع الأجزاء متجانسة بعضها مع البعض ومع الكل، أمَّا في حالة ارتباط العلة بالمعلول، فقد يوجد التجانس فعلًا، غير أنه ليس ضروريًّا؛ إذ إن تصوُّر العِلِّية (الذي يتلو فيه شيء من شيء آخر مختلف عنه تمامًا) لا يستلزم التجانس قط.

ولو عُدَّت موضوعات عالم الحس أشياء في ذاتها، وقوانين الطبيعة المشار إليها من قِبل قوانين للأشياء في ذاتها، لأصبح التناقض أمرًا لا مفر منه. وكذلك لو نُظر إلى موضوع الحرية على أنه مجرَّد مظهر، شأنه شأن بقية الموضوعات، لكان التناقض هنا أيضًا أمرًا لا مفر منه؛ إذ إن محمولًا واحدًا سيُثبت ويُنفى في هذه الحالة على موضوع واحد بنفس المعنى. أمَّا إذا أُلحقت الضرورة الطبيعية بالمظاهر وحدها، والحرية بالأشياء في ذاتها فحسب، فلن يكون ثمة تناقض في القول بنوعَي العِلِّية هذَين في آنٍ واحد، مهما كانت صعوبة أو استحالة تقريب النوع الأخير إلى الأذهان.

إن كل معلول بين المظاهر حادث؛ أي شيء يحدث في الزمان، وينبغي تبعًا لقانون الطبيعة الشامل، أن يسبقه تحديد لسببية عِلَّته (Kausilität ihrer Ursache)؛ أي حالة لهذه العلة، يتلو منها المعلول تبعًا لقانون ثابت. غير أن هذا التحديد للعلة المؤدية إلى السببية (Ursache zur Kausilität)، ينبغي أن يكون بدوره شيئًا يقع أو يحدث، ولا بد أن تكون العلة قد «بدأت في الفعل»، وإلا لَمَا أمكن تصوُّر التعاقب الزمني بينها وبين المعلول، ولكان المعلول، وكذلك سببية العِلة، موجودين على الدوام. وإذن فلا بد أن يكون تحديد علة الفعل قد نشأ بدوره بين المظاهر، ولا بد بالتالي أن يكون، مثل معلوله، حادثًا، وهذا الأخير ينبغي أن تكون له علته، وهكذا دوالَيك، وإذن فلا بد أن تكون الضرورة الطبيعية هي الشرط الذي تُحدَّد تبعًا له العلل الفاعلة. أمَّا لو نظر إلى الحرية على أنها صفة لبعض علل الظواهر، فلا بد أن تكون الحرية، بالنسبة إلى هذه الظواهر الأخيرة من حيث هي حوادث، قدرةً على البدء بها تلقائيا؛ أي دون أن تقتضي ابتداءً لسببية العلة ذاتها، ودون أن تحتاج إلى أي أساس آخر يُحدِّد بدايتها. ولكن عندئذٍ لن تندرج العلة، من حيث سببيتها،١١ تحت التحديدات الزمنية لحالتها؛ أي إنها لن تكون ظاهرة، وإنما ينبغي النظر إليها على أنها شيء في ذاته، بينما تُعَد معلولاتها وحدها هي المظاهر.١٢ فإذا استطعنا أن نتصوَّر، دون تناقض، كائنات عاقلةً تمارس مثل هذا التأثير على الظواهر، فعندئذٍ ستلحق الضرورة الطبيعية جميع ارتباطات العلة والمعلول في العالم المحسوس، وإن كان من الممكن، من ناحية أخرى، التسليم بحرية العلة التي ليست هي ذاتها ظاهرة (مع كونها أساسًا للظاهرة). وإذن فالطبيعة والحرية يمكن أن يُنسبا دون تناقض إلى الشيء نفسه، ولكن على نحوَين مختلفَين؛ أي بوصفه مظهرًا من ناحية، ووصفه شيئًا في ذاته من ناحية أخرى.
إن لدينا في ذاتنا قدرةً لا ترتبط فقط بالأُسس المتحكِّمة فيها ذاتيًّا، التي هي العلل الطبيعية لأفعالها، وبالتالي لا تقتصر على أن تكون قدرة كائن ينتمي هو ذاته إلى الظواهر، وإنما ترتبط أيضًا بأسس موضوعية ليست سوى «الأفكار»، من حيث إن في وسعها التحكُّم في هذه القدرة. وتُعبِّر عن هذا الارتباط كلمة «الوجوب Sollen». وهذه الملكة تسمَّى ﺑ «العقل» Vernunft، وبقدر ما ننظر إلى الكائن (كالإنسان) تبعًا لهذا العقل القابل للتحدُّد موضوعيًّا فحسب، فلا يمكن أن يُعَد كائنًا محسوسًا؛ فهذه الصفة صفة للشيء في ذاته، وهي صفة لا نستطيع أن نفهم إمكانها. أعني أننا لا يمكننا أن نفهم كيف يستطيع «الوجوب» أن يتحكَّم (حتى لو لم يكن ذلك قد حدث بالفعل على الإطلاق) في فاعليته، ويصبح علةً لأفعال نتيجتها ظاهرة في العالم المحسوس. ومع ذلك فإن عِلية العقل تغدو حريةً فيما يتعلَّق بالمعلولات في العالم المحسوس، بقدر ما يمكننا أن ننظر إلى «الأسس الموضوعية» التي هي ذاتها أفكار، على أنها هي المتحكِّمة في هذه المعلولات؛ إذ إن فعل العقل في هذه الحالة لن يتوقف على الشروط الذاتية، وبالتالي لن يتوقف على شروط زمانية، ولن يتوقف تبعًا لذلك على قانون الطبيعة التي يتحكم فيها؛ إذ إن القاعدة التي تُضفيها أُسس العقل على الأفعال تكون شاملةً وفقًا للمبادئ، ولا تتأثَّر بظروف الزمان ولا المكان.
وفي وسعي الآن أن أقول، دون تناقض، إن جميع أفعال الكائنات العاقلة، من حيث هي ظواهر (تُصادَف في تجربة ما) تخضع لضرورة الطبيعة، غير أن نفس هذه الأفعال تغدو حرةً إذا ما نُظر إليها من حيث الذات العاقلة وحدها، وقدرتها على الفعل تبعًا للعقل وحده؛ إذ ما هو الشرط اللازم لضرورة الطبيعة؟ لا شيء سوى قابلية كل حادث في عالم الحس للتحدُّد وفقًا لقوانين ثابتة؛ أي إرجاعه إلى علة في عالم الظواهر، بينما يظل الشيء في ذاته، الذي يكوِّن أساس الحادث وعلته، مجهولًا. غير أن قانون الطبيعة يظل باقيًا، سواء أكان الكائن العاقل هو علة المعلولات في عالم المحسوس عن طريق العقل — أي من خلال الحرية — أم لم يكن يتحكم فيها على أُسس منتمية إلى مجال العقل. ففي الحالة الأولى يتم الفعل تبعًا لقواعد عامة Maximen تتمشَّى نتيجتها، من حيث هي ظاهرة، مع قوانين ثابتة على الدوام. وفي الحالة الثانية، التي لا يتم فيها الفعل حسب مبادئ العقل، يخضع الفعل لقوانين الحس التجريبية، وفي الحالتَين ترتبط المعلومات تبعًا لقوانين ثابتة. ولسنا في حاجة إلى أكثر من هذا فيما يتعلق بالضرورة الطبيعية، بل إننا لا نعرف عنها أكثر من هذا. ولكن العقل في الحالة الأولى هو علة قوانين الطبيعة هذه، ومن ثم فهو حر، أمَّا في الحالة الثانية فإن المعلومات تتلو وفقًا لقوانين الحس الطبيعية وحدها؛ لأن العقل لا يؤثِّر فيها. غير أن العقل ذاته لا يتحدَّد، لهذا السبب، بالحساسية (وهو محال)، ولذا يكون حرًّا في هذه الحالة بدورها، وإذن فالحرية ليست عائقًا في وجه القانون الطبيعي للظواهر، كما أن هذا القانون لا يقضى على حرية الاستخدام العملي للعقل، الذي يرتبط بالأشياء في ذاتها، بوصفها الأسس المتحكمة فيه.

وهكذا تُصان الحرية العملية؛ أي الحرية التي تكون للعقل فيها عِلية مبنية على أُسس متحكمة موضوعيًّا، دون أن يستتبع ذلك أي تضييق لنطاق الصورة الطبيعية فيما يتعلَّق بالمعلولات ذاتها، بوصفها ظواهر. وهذه الملاحظات ذاتها تفيد في تفسير ما قلناه بشأن الحرية الترنسندنتالية وتمشِّيها مع الضرورة الطبيعية (في الذات الواحدة، ولكن ليس تبعًا لوصفٍ واحد لها) إذ إنه في هذه الحالة تكون كل بداية لفعل كائن تبعًا لعلل موضوعية تُعد أُسسًا متحكمةً و«بداية أولى» على الدوام، وإن يكن هذا الفعل ذاته في سلسلة المظاهر مجرَّد «بداية ثانوية»، ينبغي أن تسبقها حالة للعلة تتحكم فيها وتخضع هي ذاتها، على النحو ذاته، لتحكُّم حالة أخرى تسبقها مباشرة. وهكذا نستطيع، دون أن نناقض قوانين الطبيعة، أن نتصوَّر لدى الكائنات العاقلة، أو الكائنات في عمومها بقدر ما تتحدَّد عِلِّيتها فيها بوصفها أشياء في ذاتها، قدرةً على أن تبدأ من ذاتها سلسلةً من الحالات؛ إذ إن علاقة الفعل بالأسس الموضوعية للعقل ليست علاقةً زمنية، ولا يكون الفعل في هذه الحالة مسبوقًا في الزمان بما يتحكم في عِليته؛ إذ إن هذه الأُسس المتحكمة لا تُمثِّل الإشارة إلى موضوعات حسية؛ أي إلى العلل المتحكمة من حيث هي أشياء في ذاتها، لا تندرج تحت شروط الزمان، وعلى هذا النحو يمكننا أن نَعُد الفعل، فيما يتعلَّق بعلية العقل، بدايةً أولى، في حين أنه فيما يتعلَّق بسلسلة الظواهر لا يعدو أن يكون بدايةً ثانوية، ومن ثم ففي وسعنا دون تناقض أن نَعُده حرًّا من وجهة النظر الأولى، وخاضعًا للضرورة الطبيعية من وجهة النظر الثانية (أي من حيث هو مجرَّد ظاهرة).

أمَّا النقيضة الرابعة، فمن الممكن حلها على نفس النحو الذي يخالف به العقل ذاته في النقيضة الثالثة؛ إذ إننا إذا سلَّمنا بأن العلة «في» الظاهرة تتميز عن علة الظواهر (بقدر ما يمكن أن تُعد هذه الحالة شيئًا في ذاته)، فمن الممكن عندئذٍ التوفيق بين القضيتَين؛ الأولى: إذ تقول إنه لا توجد للعالم المحسوس علة (حسب قوانين العِلِّية المماثلة) يكون لها وجود ضروري. والثانية: إذ تقول إن هذا العالم يرتبط مع ذلك بكائن ضروري هو عِلته (ولكنه علة من نوع آخر وتبعًا لقانون آخر). أمَّا الاعتقاد بتعارض هاتَين القضيتَين فيرتكز بأسره على خطأ تطبيق ما لا يصح إلا على الظواهر، على الأشياء في ذاتها، والخلط بين الاثنَين في تصوُّر واحد.

١  Heinrich Heine: Germany. Works, V, pp. 136–137.
٢  كان الشاعر والمؤلف المسرحي الإنجليزي السير وليام جلبرت. (١٨٣٦–١٩١١م) يشترك مع الموسيقار السير آرثر سليفان. (١٨٤٢–١٩٠٠م) في وضع أوبرات خفيفة مشتركة، كانت لها شهرة كبيرة في الربع الأخير من القرن التاسع عشر. ومن أشهرها الأوبرا الخفيفة المشار إليها هنا وهي «بيشنس»، وقد أُلِّفت في ١٨٨١م. (المترجم)
٣  كلمة النظري هنا لا تقال في مقابل «العملي»، وإنما هي مشتقة من «النظر» العقلي البحت، الذي لا يرتكز على أساس علمي أو تجريبي، وهو المقصود بالكلمة الإنجليزية speculation. (المترجم)
٤  كلمة النظري هنا لا تقال في مقابل «العملي»، وإنما هي مشتقة من «النظر» العقلي البحت، الذي لا يرتكز على أساس علمي أو تجريبي، وهو المقصود بالكلمة الإنجليزية speculation. (المترجم)
٥  في الأصل الإنجليزي خطأ مطبعي، هو beginning، وصحته being. (المترجم)
٦  هي النصيحة المشهورة: «أحبَّ لأخيك ما تحب لنفسك.» وصيغتها كما يقصدها المؤلف هي قول المسيح: «عامل الناس بمثل ما تحب أن يعاملوك به» (إنجيل متى ٧: ١٢، لوقا ٦: ٣١). (المترجم)
٧  The Prolegomena to Any Future Metaphysics. نشره Lewis W. Beck في مطبعة Liberal Arts، نيويورك ١٩٥١م، ص٦٨–٩٥. وعنوان الكتاب في أصله الألماني هو: Prolegomena zu einer jeden Künftigen Metaphysik. وقد ظهر لأول مرة سنة ١٧٨٣م.
٨  einheimisch.
٩  في الأصل vollständigkeit، وترجمتها الحرفية: الاكتمال أو الكمال. وآثرنا هذه الترجمة لأنها أوضح، وحتى لا يُخلط بين المقصود وبين المعاني الأخرى للفظ «الكمال». (المترجم)
١٠  لهذا أود لو كرَّس القارئ المدقِّق أعظم قدر من انتباهه لنقيضة العقل الخالص هذه؛ إذ يبدو أن الطبيعة ذاتها قد أوجدتها لتُخفِّف من غُلَواء ادعاءات العقل، وتدفعه إلى اختبار ذاته. وأنا كفيل بدقة كل برهان أتيت به للقضية والقضية المضادة، وبالتالي بإثبات ضرورة النقيضة الحتمية للعقل. فإذا أدَّت هذه الظاهرة الغريبة بالقارئ إلى العودة إلى فحص الفرض الذي ترتكز عليه، فسيرى لزامًا عليه أن يبحث معي بمزيد من العُمق عن الأساس الأول لكل معرفة للعقل الخالص.
١١  أي «فعل» السببية، أو «العملية» التي تؤدي بها العلة إلى إحداث المعلول. (المترجم)
١٢  لا تتمثَّل فكرة الحرية إلا في علاقة العاقل intellectuell، بوصفه علة، بالظاهرة، بوصفها معلولًا. ومن هنا لم يكن في وسعنا أن ننسب الحرية إلى المادة فيما يتعلَّق بفعلها المستمر الذي تشغل به مكانها، وإن يكن فعلها هذا ناتجًا عن مبدأ باطن. كذلك لا يمكننا أن نجد فكرةً عن الحرية تلائم الموجودات العقلية الخالصة، كالله، من حيث إن فعله باطن أو كامن immanent؛ إذ إن هذا الفعل، رغم كونه مستقلًّا عن العلل الخارجية المتحكِّمة، فإنه مُتحدِّد في ذهنه الأزلي؛ أي في «الطبيعة» الإلهية. أمَّا السؤال عمَّا إذا كان من الواجب أن تكون سببية العلة قد بدأت بدورها، أو أن العلة يمكنها إحداث معلول دون أن يكون لسببيتها بداية، فلا يمكن أن يُثار إلا إذا «تعيَّن أن يبدأ شيء» بفعل ما، بحيث يحدث المعلول في التعاقب الزمني، أو في عالم الحس (كبداية العالم مثلًا)؛ ففي الحالة الأولى، يكون تصوُّر هذا الفعل تصوُّرًا لضرورة طبيعية، وفي الحالة الثانية، يكون تصوُّر حرية.
وسيرى القارئ من ذلك أن تفسيري للحرية بأنها القدرة على البدء في حادث تلقائيًّا قد أدَّى بي إلى الاهتداء إلى نفس ذلك التصوُّر الذي هو قوام مشكلة الميتافيزيقا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤