الفصل الخامس

العالم إرادةً وتمثُّلًا

أرتور شوبنهور (١٧٨٨–١٨٦٠م)

يصعب على المرء، وهو يشق طريقه بصعوبة خلال مؤلفات هيجل المعقَّدة، أن يتجنَّب الشعور بأن هيجل يَعد نفسه، في تواضع محمود، مجرد وسيط شاءَ «المطلقُ» ذاتُه، بمحض إرادته، أن يتحدَّث من خلاله. ومن هنا فإن المرء يتنفَّس الصُّعَداء عندما ينتقل أخيرًا إلى كتابات عدوه اللدود شوبنهور، الذي يشعر المرء على التو بأن فلسفته إن هي إلا فكرة شديدة التواضع لكائن بشري واحد عن عالم لم يصنعه قط، ولا يُعجَب به إلا قليلًا.

ولقد كانت شخصية شوبنهور عكس الشخصية الوديعة الطيبة تمامًا؛ ففي الوقت الذي كان فيه مدرِّسًا شابًّا في جامعة برلين، يتميَّز بقدر كبير من الصَّلَف والاعتزاز بالنفس، اختار أن يحاضر في نفس الساعة التي كان هيجل العظيم يحاضر فيها، وهو اختيار له مغزاه. وغني عن البيان أن قاعة محاضراته كانت خاوية. ولقد نبذته أمه، فكان من الطبيعي أن يغدو كارهًا للنساء. ولقد كان شوبنهور ميَّالًا إلى المتع الحسية ولكن بحرص شديد؛ فكان يتعاطى لذاته بجرعات صغيرة على الدوام، غير أن الوسيلة الوحيدة التي اتخذها سبيلًا إلى الشهرة من حيث هو إنسان، هي أن يصبح واحدًا من أكبر «الكارهين» في العالم. ولهذا كان من المعقول ألَّا يُعد، بوجه عام، واحدًا من أبطال الثقافة في القرن التاسع عشر. غير أن ثمة شيئًا مُحبَّبًا إلى النفس لدى هذا الأعزب العجوز الشاذ الطبع، المنطوي على ذاته؛ ففي تشاؤمه صدق وإخلاص. كما أن هذا التشاؤم لا يقتصر عليه وحده؛ فشوبنهور، كالشاعر الإيطالي ليوباردي،١ يمثِّل ذلك الضجر من العالم والشعور بالعُزلة اللذَين ينطوي عليهما معظم إنتاج الحركة الرومانتيكية، واللذَين لا يصعب الاهتداء إليهما حتى لدى أصحاب المذاهب التي تُعد رسميًّا متفائلةً مثل هيجل. غير أن شوبنهور رفض في إصرار أن يستخدم الدعائم الأيديولوجية التي استخدمها معظم معاصريه؛ فهو مثلًا متحرِّر تمامًا من الهوس القومي الذي انتاب فشته وهيجل، كما أن كتاباته ليس فيها أثر لأسلوبهما الخطابي الممل في إعلاء الذات. وهو لا يتخذ مواقف رسمية، ولا يسمح لنفسه أبدًا أن يُستخدم ناطقًا بلسان روح العصر. ففلسفته تبدو آخر الأمر نوعًا من «الثيوديسية»٢ المعكوسة، يسعى فيها إلى تبرير اعتقاده بأن العالم شرير في أساسه، وأن المهرب الوحيد للناس العاديين إنما يكون في عالم التأمل المنزَّه عن الغرض، غير أن ما يُطرب الذهن أن يُقرأ لمعاصر شاب لهيجل يجسر على أن يُسمِّي الألم شقاءً، ولا يجد نفسه مضطرًّا إلى النظر إلى التاريخ البشري على أنه مسار محتوم نحو التقدم. وإن ثقافة شوبنهور وإحساسه بالتناسق، ونزعته الدنيوية الغريزية وذكاءه، ورشاقة أسلوبه الأدبي، كل هذا يُذكِّر المرء بقوةٍ بعصر التنوير.

ولقد لمح شوبنهور على التو، بذهنه الثاقب كعادته، الدلالة الأيديولوجية الأساسية لفلسفتَي هيجل وفشته. وها هي ذي الكلمات التي يستخدمها في التعبير عن الأهمية السياسية والاجتماعية لمذهب هيجل:

«لقد تعيَّن على الفلسفة، التي استعادت سُمعتها بفضل كانت … أن تغدو سراعًا أداةً تلعب بها المصالح، مصالح الدولة من أعلى، والمصالح الشخصية من أسفل … وعلى العكس من جميع تلك المظاهر والتأكيدات الجادة، لم تكن القوى الدافعة لتلك الحركة أفكارًا، بل كانت بالفعل أغراضًا حقيقيةً إلى أبعد حد؛ أي مصالح شخصية، ورسمية، وكنسية، وسياسية، وبالاختصار، مصالح مادية. فالمصالح الجزئية تهز بعنف أقلام الكثيرين من محبي الحكمة الخالصة … ولا جدال في أن الحقيقة هي آخر ما يجول بخاطرهم … فالفلسفة تُستغل استغلالًا سيئًا، من جانب الدولة بوصفها أداة، ومن الجانب الآخر بوصفها وسيلةً للكسب. وإذن، فمن ذا الذي يؤمن فعلًا بأن الحقيقة بدورها ستظهر إلى النور، بوصفها مجرد ناتج عرضي؟» والحق أنه لو كان كارل ماركس قد فهم تمامًا اتجاه نقد شوبنهور، بدلًا من أن يحاول أن يقلب الديالكتيك الهيجلي رأسًا على عقب، كان من الجائز جدًّا أن يطرأ تغيُّر أساسي على تاريخ البشر خلال الأعوام المائة الأخيرة.٣

ولقد كان من أسباب كراهية شوبنهور لفشته وهيجل اعتقاده أنهما قد شوَّها ما هو صحيح وعميق في فلسفة كانت؛ فشوبنهور كان واحدًا من أوائل المجموعة الكبيرة من الفلاسفة الذين نادوا، في عصر ساد فيه المذهب الهيجلي بالشعار «عودًا إلى كانت!» واستخدموه في الاحتجاج على الاتجاهات السائدة؛ وهذا يعني في حالة شوبنهور، أنه يَعد نفسه قبل كل شيء فيلسوفًا نقديًّا ينبغي أن ينقد العقل أولًا قبل أن يستخدمه فلسفيًّا. والحق أن شوبنهور وإن لم يكن قد اشتهر بفضل مساهماته في نظرية المعرفة، فإن كتابه الأشهر «العالم إرادةً وتمثيلًا» يبدأ، لا على نحو توكيدي ببيان مبادئ ميتافيزيقية، بل بتقدير لطبيعة الذهن وحدوده. ويعتقد شوبنهور، مثل كانت، أن الذهن عاجز عن معرفة كُنه الأشياء في ذاتها. فهو يرى أن أفكارنا لا توصلنا إلى أي عالم يتجاوز نطاق مدركاتنا الحسية. والواقع أن شوبنهور يقترب كثيرًا من مذهب لوك التجريبي؛ إذ يُصر على أن يستخدم كل التصوُّرات ممَّا يوجد في التجربة. ومع ذلك فهو يرى أننا نستطيع الوصول بطريقة أخرى، غير عقلية، إلى حقيقة تُتيحها لنا الإرادة. ونستطيع أن نُدرك مدى ابتعاده عن كانت في هذا الصدد إذا تأمَّلنا الفارق بين تفسير كل منهما لهذا التصوُّر. فإلى كانت ترجع بلا شك، من الوجهة التاريخية، تلك الفلسفات الإرادية التي طالما تردَّد ظهورها طوال القرن التاسع عشر. غير أنه نظر إلى الإرادة أساسًا من خلال الأخلاق. أمَّا عند شوبنهور فالإرادة هي المقولة الميتافيزيقية الرئيسية، وهي أصل كل ما نسمِّيه ﺑ «الحقيقي». فهو يرى أننا لا نحقِّق أنفسنا بوصفنا كائنات موجودةً إلا في أفعالنا الإرادية، ولا نشعر بالعالم الحقيقي على أنه أكثر من نسَق من الأفكار المترابطة إلا لشعورنا بأنفسنا من حيث نحن نريد شيئًا.

ومن الواضح، رغم كل عداء شوبنهور لفشته، أن في هذا الجزء من فلسفته تشابهًا قويًّا بينهما. ولم يكن الفارق الرئيسي بينهما في هذا الصدد فارقًا نظريًّا بقدر ما كان اختلافًا في المزاج؛ ففشته يمجِّد الإرادة في آخر الأمر، أمَّا شوبنهور، فهو وإن يكن يتجه إلى إضفاء صبغة شخصية عليها، فإنه يعدها قوةً شريرة تُحبط من كل وجه حياة الإنسان الروحية.

ومع ذلك فإن شوبنهور ليس مجرد ميتافيزيقي شيطاني يشوِّه «عالم الواقع» الذي وصفه معاصروه بأنه «معقول» و«حقيقي» في آنٍ واحد. بل إن فيه أيضًا شيئًا من النزعة الطبيعية، بحيث إن نظرته إلى الحياة الواعية للإنسان على أنها ناتج عرضي للإرادة فيها قطعًا استباق لفرويد. ولقد كان شوبنهور يستخدم على الدوام معلومات بيولوجيةً وتاريخية تجريبية لضرب أمثلة لرأيه القائل إن إرادة الحياة هي القانون الأساسي للحياة ذاتها. وإذا كانت فكرة الإرادة عنده قد حُمِّلت ما لا تحتمل، واكتسبت صفات شبه خرافيةً لا شأن للعلم التجريبي بها، فإن الكثيرين من شُراح شوبنهور قد نوَّهوا بحساسيته العميقة في ميدان علم النفس.

ويمكن القول، بمعنًى ما، إن أوصاف شوبنهور التجريبية غير المتكلفة للإرادة، تبعث قدرًا كبيرًا من الحرج في نفس أي فيلسوف يتخذ نقطة بدايته من ثورة كانت الكبرنيكية في الفلسفة. إذ إنه يربط فهمه للإرادة بأوصافه للسلوك الملحوظ للكائنات العضوية ربطًا يبلغ من الوثوق حدًّا يجعل مشكلة الاحتفاظ بالتمييز الأساسي بين الإرادة من حيث هي شيء في ذاته يعلو على التجربة وبين الجسم البشري بوصفه فكرة، أو ظاهرةً صُبغت بصبغة موضوعية، واحدةً من مشاكله الأساسية. ورغم تحمُّس شوبنهور الهائل لكانت، فإنه لم يتعلَّم تمامًا درس الفلسفية النقدية؛ إذ يبدو، من وصفه للإرادة أو مظاهرها مثل هذا التفصيل، أنه يحوِّلها إلى مجرد «فكرة» أخرى ليس لها، بالنسبة إلى مقدماته هو، أن تدَّعي لنفسها حقيقةً تزيد على حقيقة أية فكرة أخرى مستمدة من التجربة. وبالاختصار، فليس في وسع شوبنهور أن يجمع بين الأمرَين معًا؛ فهو لا يستطيع أن يعد السلوك الملحوظ للكائنات العضوية البشرية مظهرًا لحقيقة الإرادة الكامنة من ورائه بوصفها شيئًا في ذاته، وأن يؤكِّد، في الوقت ذاته، أن مجال الملاحظة التجريبية منفصل تمامًا عن الأشياء كما هي في حقيقتها.

أمَّا حل هذه المشكلة، إن كان هذا هو الاسم الذي ينبغي إطلاقه عليها، فلا يكون في أي جَدَل نظري أو تحليل منطقي، وإنما نهتدي إليه في المجال الأيديولوجي، وفي مواقف شوبنهور الرئيسية من السلوك في الحياة، واستخدامه الساخر للكلمات الرنانة من أمثال «الواقع reality». وفي حين أن فشته، ومن بعده نيتشه، قد أكَّدا الواقعية المطلقة للإرادة، وجعلا من هذه الصفة علامةً على قيمتها الإيجابية الأساسية، فإن شوبنهور يستخدم الكلمات ذاتها للتعبير عن احتقاره العميق ويبدو أنه يقول: هذا حقيقي «في الواقع»، وكأنه ليس ثمة طريقة أشد فعاليةً من هذه للتعبير عن اشمئزازه. فتلك هي طريقته الحاقدة في التعبير عن احتقاره لكل ذلك النشاط البرجوازي اللاهي غير المكترث الذي تنطوي عليها كل هذه الحركة المثالية بأسرها. ويبدو أنه يتساءل: هل ينظر معاصروه الآن إلى «الإرادة» على أنها مرادفة «للواقع reality»؟ إذن فالواقع شيء ينبغي الانسحاب منه بأي ثمن، حتى إلى «عالم» أوهام إذا ما دعا الأمر، والواقع أن شوبنهور يمضي في تفنيده للحياة الإيجابية «الأخلاقية» التي يمجِّدها فشته، وكذلك هيجل إلى حد ما، إلى حد أنه يرفض أن يعزو إلى الإرادة، تلك «الحقيقة القصوى»، حتى تلك التقوى الطبيعية التي يتنازل الطيبون عنها عادةً للشيطان. فالإرادة في ذاتها شر كلها، وهو يُدير لها ظهره تمامًا، و«يستغلها»، بطريقته الساخرة، في تشويهها والقضاء عليها.
وهناك من نُقاد شوبنهور من يدَّعون أنهم يجدون في عزوفه المتشائم عن العالم شيئًا من عدم الإخلاص. والأمر الذي يفوتهم هو السخرية الكامنة في طريقة ممارسة شوبنهور للتفكير الميتافيزيقي؛ فشوبنهور متشائم بالفعل من وجهة نظر المتعلِّقين بالعالم، الذين يوحِّدون بين «الواقع reality» وبين مطامعهم الخاصة الجامحة. فليخلعوا، إذا شاءوا، صفة «المعقولية» على الإرادة، وليُسمُّوا مظاهرها «الموضوعية» في النظم التاريخية للدولة والكنيسة مظاهر تكشف بها «الروح» عن ذاتها، فما ذاك في الحق إلا تعبير عن طريقتهم الخاصة في الكشف عن أنفسهم؛ فليس في مثل هذا «الواقع» في نظر شوبنهور سلام ولا سعادة بالنسبة إلى الإنسان. ولنتأمَّل الواقع (reality) «الروحي» الذي يصفه هيجل ذاته، فماذا يكون الديالكتيك التاريخي إن لم يكن سجلًّا للصراع اللامتناهي الذي يُكتب فيه على كل «لحظة» أن تجد آفتها في التعارض المحتوم الذي تولِّده داخل ذاتها، وهكذا يقول شوبنهور إنه إذا كان هذا هو «الواقع»، فمرحبًا بهيجل فيه، وإذا كان التشاؤم هو بديله عنه، فلمَ لا تقبل التشاؤم؟

ولكن ماذا يكون الأمر إذا أمكن تحويل الإرادة، وهي مصدر كل شقاء، ضد ذاتها؟ إذا كانت الإرادة هي الشر، فشفاؤنا منها يكون في إخمادها. وهنا يبدو أن الحل الواضح هو الانتحار. غير أن شوبنهور يرفض الانتحار بوصفة آخر أفعال الإرادة وأكثرها يأسًا فحسب؛ فالانتحار يقضي على الجسم من حيث هو ظاهرة، ولكنه لا يقضي على الإرادة ذاتها. والحل الوحيد الآخر، في رأيه، هو تحويل الإرادة ضد ذاتها، وإخماد رغباتنا الخاصة عن طريق سلسلة من أفعال العزوف. وهكذا لا تكون النتيجة عنده هي الموت، وإنما التأمل.

وكثيرًا ما قيل إن فلسفة شوبنهور تتأثر بأفلاطون وبصوفية الهنود معًا. وهذا صحيح، غير أن نظرته إلى حياة التأمل تختلف إلى حد عن نظرة هؤلاء إليها؛ فالتحرُّر من الرغبة يتم، عند شوبنهور، عن طريق التأمل الجمالي، وعن طريق تأمل الفن بوجه خاص. ففي التجاوب مع الفن الرفيع، ولا سيما الموسيقى، تنزُّه واضح، وخروج عن التصديق والتكذيب، والأمل واليأس، يتركنا أحرارًا في تأمل صور الأشياء دون انشغال، بل في تأمل مظاهر الإرادة ذاتها دون اندماج أو اهتمام شخصي.

ولم يفُت نُقاد شوبنهور أن ينبِّهوا إلى أن هذا الوجه من أوجه مذهبه يفتقر إلى الاتساق الشكلي. فإذا كانت الإرادة «هي» الواقع real، وإذا كانت تتبدَّى في شكل من أشكال الحياة، فليس لنا أن نفترض أن التأمل قادر على «القضاء» عليها. فليس ما تقضي عليه الحياة التأملية عند شوبنهور هو الإرادة في ذاتها، وإنما الرغبات الجشعة المتشاحنة للحياة اليومية. غير أن عدم الاتساق لا يكون خطيرًا، إذا ما نظرنا إلى ميتافيزيقا شوبنهور، لا على أنها محاولة لتشييد بناء منطقي، بل على أنها نظرة شخصية إلى العالم، كان فيها رده على الأيديولوجيات «الموضوعية» التي أتى بها السابقون عليه. والمسألة الأهم ليست هي كون حياة التأمل تخلِّصنا من الإرادة، بل هي ما إذا كانت تأتي لنا بحلٍّ شافٍ للمشاكل الروحية، كالقلق وخيبة الأمل، والعزلة والتغرُّب عن الذات، وهي مشاكل تُعد من صميم إنتاج الحياة الحديثة. ولقد عادت نزعة شوبنهور الجمالية إلى الظهور لدى واحد على الأقل من فلاسفة القرن العشرين، هو سانتيانا،٤ كما أكَّد فلاسفة كثيرون آخرون، ممَّن يرَون أن حياة التأمل لا يصح أن تكون مثلًا أعلى يكتفي به المرء، أن التأمل الجمالي ينبغي مع ذلك أن يكون جزءًا كبيرًا ممَّا نسميه ﺑ «الحياة الطيبة».

وإنه ليكون من الخطأ أن ننظر إلى فلسفة شوبنهور على أنها مجرد تعبير عن شخصيته التي كانت عصابيةً شاذة المزاج إلى حد بعيد؛ فهذه الفلسفة ما هي إلا صورة واحدة من صور خيبة الأمل الدائمة التي تشعر بها النفوس الحساسة إزاء أنواع الخلاص الجماعي التي تقدِّمها النظم الاجتماعية. وفضلًا عن ذلك، فقد كان شوبنهور صادق التنبؤ في اعترافه بأعماق «اللامعقول» البشري. وكثيرًا ما يصادف المرءُ في كتاباته إدراكًا يدعو إلى الدهشة لحياة الإرادة على المستوى دون العقلي واللاشعوري، وهي أمور أصبحت لها في عمرنا أهمية كبرى بفضل أتباع فرويد.

ولقد أدرك شوبنهور خطورة العقل وعُقم الوقوف في وجه الإرادة بوساطة مجرد «أفكار»، ولكنه، على خلاف الكثيرين من «اللاعقليين» الآخرين، لم يمجِّد اللامعقولية أبدًا. فهو مثل فرويد، قد اعترف بعصر الحيوانية في الطبيعة البشرية كاملًا، دون أن يحاول تأليه هذا العنصر. بل إنه لم يكن في النهاية يخشاه حقيقة؛ إذ كان يعلم أن ثمة مخرجًا منه، عن طريق الفهم والإبداع الفني، والتأمل الجمالي. ولَكم في فلسفة هذا المتشائم الأكبر من عناصر حكيمة! إنه ليس مجرد «مرحلة» في تاريخ الفكر في القرن التاسع عشر؛ بل إنه يقف من هيجل، في نواحٍ معينة، موقفًا يشبه كثيرًا موقف فرويد من كارل ماركس. ولو أغفله المرء لكان في ذلك إغفال لحقيقة هامة، هي أن العصر الذي قدَّس التقدم كان أيضًا عصر يأس فردي.

والنصوص الآتية مقتطفة من الكتاب الأول (القسمين ١، ٢) ومن الكتاب الثاني (الأقسام ١٧–١٩) من كتاب شوبنهور «العالم إرادةً وتمثُّلًا».٥

وعنوان الكتاب الأول هو «العالم تمثُّلًا. الوجه الأول: الفكرة خاضعة لمبدأ السبب الكافي: موضوع التجربة والعلم.»

وعنوان الكتاب الثاني: «العالم إرادة. الوجه الأول: الصبغة الموضوعية للإرادة.»

القسم الأول: «العالم تمثُّلي.» تلك حقيقة تصح على كل كائن يعيش ويعرف، وإن يكن الإنسان وحده هو القادر على استحضارها في الوعي الفكري المجرد، ولو فعل ذلك حقًّا، لأشرقت عليه الحكمة الفلسفية. وعندئذٍ يدرك عن يقينٍ ووضوح أن ما يعرفه ليس شمسًا ولا أرضًا، وإنما هو عين ترى شمسًا، ويد تلمس أرضًا، وأن العالم المحيط به لا يوجد إلا بوصفه تمثُّلًا؛ أي لا يوجد إلا في علاقته بشيء آخر؛ أي المتمثِّل، الذي هو الإنسان ذاته. ولو كان لنا أن نؤكد أوليًّا أية حقيقة، فهذه هي؛ إذ إنها تعبير عن أعم صورة لكل تجربة ممكنة يتسنَّى لنا تصورها، وهي صورة أعم من كل الصور الأخرى؛ أعم من المكان والزمان والعِلِّية؛ إذ إن هذه كلها تفترضها. وعلى حين أن هذه الصور كلها، التي رأينا أنها ليست إلا أحوالًا لمبدأ السبب الكافي، لا تصح إلا على فئة خاصة من التمثلات، فإن التقابل بين الذات والموضوع هو الصورة المشتركة بين كل هذه الفئات، وهي الصورة التي هي وحدها الكفيلة بتحقيق إمكان أي تمثُّل وجعله قابلًا للتصور بوجه عام، سواء أكان هذا التمثُّل مجردًا أم حدسيًّا، خالصًا أم تجريبيًّا. وإذن فليس ثمة حقيقة أكثر يقينًا واستقلالًا عن كل ما عداها، وأقل حاجةً إلى البرهنة عليها من هذه الحقيقة القائلة إن كل ما هو موضوع للمعرفة، وبالتالي هذا العالم بأسره، ليس إلا موضوعًا بالنسبة إلى ذات، ومدركًا بالنسبة إلى مدرك. أي إنه بالاختصار تمثُّل. ومن الواضح أن هذا يصح على الماضي وعلى المستقبل كما يصح على الحاضر، وعلى أبعد الأمور وأقربها؛ إذ إنه يصدق على الزمان والمكان ذاتَيهما، وهما اللذان لا تنشأ كل هذه التفرقات إلا فيهما؛ فكل ما ينتمي أو يمكن أن ينتمي إلى العالم على أي نحو يخضع لتحكُّم الذات، ولا يوجد إلا بالنسبة إلى الذات، فالعالم تمثُّل.

•••

وهكذا فإنا ننظر إلى العالم في هذا الكتاب الأول من هذا الوجه فحسب؛ أعني من حيث كونه تمثُّلًا. غير أن التردد الباطن الذي يشعر به أي شخص في قَبوله للفكرة القائلة إن العالم تمثُّله هو فحسب، لكفيل بتنبيهه إلى أن هذا الرأي عن العالم، مهما كان من صحته، هو مع ذلك تعبير عن وجه واحد من أوجه المسألة، وأنه ينجم عن نوع من التجريد المتعمَّد. ولكنه من جهة أخرى رأي لا يستطيع أن يجد منه مهربًا. وعلى أية حال فسوف يعالج الكتاب المقبل أوجه النقص في هذا الرأي، عن طريق حقيقة ليس لها مثل اليقين المباشر الذي تتصف تلك الحقيقة التي نتخذها ها هنا نقطة بداية لنا، وهي حقيقة لا يمكننا الوصول إليها إلا ببحث أعمق وتجريد أشق، وبالفصل بين ما هو مختلف والتأليف بين ما هو متماثل. وهذه الحقيقية، التي ينبغي أن تكون شديدة الخطورة والتأثير، إن لم تكن حقيقةً مخيفة لكل شخص، هي أن الإنسان يستطيع أيضًا، بل ينبغي عليه، أن يقول: «العالم إرادتي.»

ومع ذلك فعلينا في هذا الكتاب الأول أن نبحث على حدة في ذلك الوجه الذي نبدأ به من أوجه العالم؛ أعني في الوجه الذي يكون فيه قابلًا للمعرفة، وبالتالي أن ننظر دون تحفُّظ إلى جميع الأشياء الموجودة، حتى أجسامنا ذاتها (كما سنرى بمزيد من التفصيل بعد قليل) على أنها مجرد تمثُّل، وأن نسميها مجرد تمثُّلات. وعلى هذا النحو نجرِّد هذه الموضوعات دائمًا (كما نأمل أن نوضِّح للجميع فيما بعد) من الإرادة التي تؤلِّف في ذاتها الوجه الآخر للعالم. فكما أن العالم هو، في واحد من أوجهه، تمثُّل كله، فإنه كذلك في وجه آخر إرادة كله. أمَّا القول بوجود حقيقة ليست واحدًا من هذَين، وإنما هي موضوع في ذاته (هو الذي تدهور إليه الشيء في ذاته، للأسف، على يد كانت) فهو خيال حالم، وقَبوله إنما هو السراب الخادع في الفلسفة.

القسم الثاني: إن ما يعرف كل الأشياء، ولا يعرفه شيء، هو الذات. وإذن فهي دعامة العالم، وهي شرط جميع الظواهر والموضوعات، وهي دائمًا تُفترض مقدمًا؛ إذ إن كل ما يوجد، إنما يوجد بالنسبة إلى الذات فحسب. وإن كل شخص ليجد نفسه ذاتًا، ولكن بقدر ما يعرف فحسب، لا بقدر ما هو موضوع للمعرفة. غير أن جسمه موضوع بالفعل، وبالتالي فمن الممكن، من وجهة النظر هذه، أن نسميه تمثُّلًا. إذ إن الجسم موضوع ضمن الموضوعات، تسري عليه قوانين الموضوعات، وإن يكن موضوعًا مباشرًا. وهو ككل موضوعات الإدراك الحسي، يندرج تحت الصور الكلية للمعرفة، كالمكان والزمان، اللذين هما شرطا الكثرة. أمَّا الذات التي هي العارف دائمًا، ولا تكون هي المعروف أبدًا، فلا تندرج تحت هذه الصور، بل إن هذه الصور تفترضها مقدَّمًا. ومن ثم فهي لا تتصف بالكثرة ولا بعكسها؛ أي الوحدة، فنحن لا نعرفها قط، ولكنها هي دائمًا العارف كلما كان ثمة معرفة.
(من الكتاب الثاني، القسم ١٧): غير أن ما يدفعنا الآن إلى البحث هو أننا لا نقنع بأن نعرف أن لدينا تمثُّلات، وأن هذه التمثُّلات هي كذا وكذا، وأنها مرتبطة حسب قوانين معينة يعبِّر عنها مبدأ السبب الكافي تعبيرًا عامًّا، بل إنا نريد معرفة دلالة هذه التمثُّلات، ونتساءل عمَّا إذا كان هذا العالم تمثُّلًا فحسب — وهو قول لو صحَّ لكان العالم يمر بنا كما يمر حلم عابر أو رؤية خادعة، ولَمَا استحقَّ انتباهَنا — أم إنه أيضًا شيء آخر، شيء يزيد على مجرد التمثُّل، وفي هذه الحالة، فما هو هذا الشيء؟ إن الأمر المؤكَّد هو أن هذا الشيء الذي ننشده ينبغي أن يكون في طبيعته الكاملة مختلفًا عن التمثُّل اختلافًا تامًّا أساسيًّا، وبالتالي إن صور التمثُّل وقوانينه ينبغي أن تكون غريبةً عنه تمامًا، وهكذا فنحن لا نستطيع أن نصل إليه من التمثُّل بإرشاد القوانين التي تقتصر مهمتها على الجمع بين الموضوعات والتمثُّلات سويًّا، وإنما هذه هي صور مبدأ السبب الكافي.

وهكذا نرى بالفعل أننا لا نستطيع أبدًا الوصول إلى الطبيعة الحقة للأشياء من الخارج، ومهما بحثنا، فلن يكون في وسعنا أبدًا أن نصل إلى شيء سوى الصور والأسماء؛ فنحن أشبه برجل يدور حول قلعة باحثًا، دون جدوى، عن مدخل، ويقوم أحيانًا برسم الوجه الظاهري لهذه القلعة. ومع ذلك فهذه هي الطريقة التي اتبعها جميع الفلاسفة من قبلي.

(القسم ١٨): والواقع أن المعنى الذي ننشده لهذا العالم الماثل لي بوصفه تمثُّليًّا فحسب، أو الانتقال من العالم بوصفه مجرد تمثُّل للذات العارفة إلى أي شيء آخر قد يكونه إلى جانب هذا، لا يمكن الاهتداء إليه إن كان الباحث نفسه مجرد ذات عارفة (أي ملاك مُجنح دون جسم)، غير أنه هو ذاته متغلغل في هذا العالم، وهو يجد نفسه فيه بوصفه فردًا؛ أي إن معرفته، التي هي الدعامة الضرورية للعالم كله من حيث هو تمثُّل، تُعطَى كلها مع ذلك بتوسط جسم، تكون انفعالاته، كما رأينا، نقطة بداية الذهن في إدراكه لهذا العالم؛ فجسم هذا الباحث، من حيث هو ذات عارفة خالصة، هو بالنسبة إليه تمثُّل شأنه شأن أي تمثُّل آخر، وموضوع من الموضوعات. وحركاته وأفعاله لا تُعرف لديه إلا كما تُعرف تغيُّرات جميع الموضوعات المُدرَكة الأخرى، ولو لم يكن معناها يكشف له على نحو مختلف تمامًا، لظلت لها بالنسبة إليه نفس الغرابة والغموض. ولو لم يكن الأمر كذلك لرأى سلوكه يتلو من دوافع معينة باطراد القانون الطبيعي، مثلما تتلو تغيُّرات الموضوعات الأخرى من علل أو منبِّهات، أو دوافع. ولكنه لن يدرك عندئذٍ تأثير الدوافع أكثر ممَّا يدرك الارتباط بين كل معلول آخر يراه وبين علته. عندئذٍ قد يُسمي الطبيعة الباطنة التي لم يفهمها لمظاهر الجسم وأفعاله هذه قوةً أو كيفية أو صفة حسبما يشاء، ولكن فهمه لها لن يتجاوز هذه الحدود. غير أن الحال ليست كذلك على الإطلاق، بل إن الإجابة على هذا السؤال المحيِّر إنما تُعطَى للذات العارفة بوصفها فردًا، فالإجابة هي الإرادة. فهذا، وهذا وحده، هو الذي يعطي الذات مفتاح وجودها الخاص، ويكشف لها عن أهمية وجودها وفعلها وحركاتها وتركيبها الباطن؛ فالجسم يُعطى على نحوَين مختلفَين تمامًا للذات العارفة التي لا تصبح فردًا إلا باتحادها معه. فهو يُعطى في الإدراك العاقل، بوصفه تمثُّلًا وبوصفه موضوعًا ضمن الموضوعات، تسري عليه قوانين هذه الموضوعات، ولكنه يُعطى أيضًا على نحو مختلف تمامًا بوصفه ما يعرفه مباشرةً كل واحد، وتدل عليه كلمة الإرادة. فكل فعل حقيقي لإرادته هو حتمًا حركة لجسم في الوقت ذاته، وهو بالفعل لا يستطيع أن يريد الفعل ما لم يشعر في الوقت ذاته أنه يبدو بوصفه حركةً للجسم. وليس فعل الإرادة وحركة الجسم شيئَين مختلفَين معروفَين موضوعيًّا، تجمع بينهما رابطة العِلِّية، بل هما لا يرتبطان ارتباط العلة بالمعلول، وإنما هما شيء واحد، وإن كانا يعطيان على نحوَين مختلفَين تمامًا؛ أي على نحو مباشر أولًا، ثم في الإدراك بالنسبة إلى الذهن. وما فعل الجسم إلا فعل الإرادة وقد اتخذ صبغةً موضوعية؛ أي تُرجم إلى إدراك. وسوف نرى فيما بعدُ أن هذا يصح على كل حركة للجسم، لا على تلك الحركات التي تتلو من دوافع فحسب، بل أيضًا على الحركات اللاإرادية التي تتلو من مجرد منبِّهات، بل إن الجسم كله ليس في واقع الأمر سوى إرادة اتخذت طابعًا موضوعيًّا؛ أي إرادة أصبحت تمثُّلًا، كل هذا سيُثبَت ويُوضَّح بجلاءٍ خلال هذا الكتاب. ولهذا فإن الجسم، الذي أطلقت عليه في الكتاب السابق، وفي بحثي عن «مبدأ السبب الكافي»، اسم «الموضوع المباشر»، وفقًا لوجهة النظر المقتصرة على جانب واحد، والتي اتخذتها فيهما عمدًا (أعني وجهة نظر التمثُّل) اسم الموضوع المباشر، سأطلق عليه ها هنا، من وجهة نظر أخرى، اسم «موضوعية الإرادة». وهكذا يمكننا أن نقول أيضًا بمعنًى معين إن الإرادة هي المعرفة الأولية للجسم، وإن الجسم هو المعرفة البعدية a posteriori للإرادة، وليست قرارات الإرادة المُتعلِّقة بالمستقبل سوى تفكير العقل فيما سنريده في وقت معين، لا أفعال حقيقية للإرادة. والأمر الوحيد المميِّز للقرار الذي ينعقد عليه العزم هو التنفيذ؛ إذ إنه لا يكون، حتى ذلك الحين، سوى مقصد قد يتغيَّر، ولا يوجد إلا في العقل وبطريقة مُجرَّدة؛ فالإرادة والفعل لا يكونان مختلفَين إلا بالنسبة إلى الفكر، أمَّا في الواقع فهما شيء واحد. وكل فعل مباشر أصيل صحيح للإرادة هو في الوقت ذاته وعلى التو فعل ملموس للجسم. ومقابل ذلك نجد أن كل انطباع على الجسم هو أيضًا، ومن الناحية الأخرى، انطباع على الإرادة. وهو بهذا المعنى يُسمَّى ألمًا عندما يخالف الإرادة، وإشباعًا أو لذة عندما يوافقها. ولكل من الاثنَين درجات واسعة الاختلاف. ومع ذلك فمن الخطأ التام أن نسمِّي الألم واللذة تمثُّلات؛ إذ إنهما ليسا تمثُّلات، وإنما انفعالات مباشرة للإرادة في ظاهرتها التي هي الجسم، وهما رغبة أو عدم رغبة إجبارية فورية في الانطباع الواقع على الجسم. وليست هناك سوى انطباعات قليلة للجسم لا تُثير الإرادة، وعن طريق هذه الانطباعات وحدها يكون الجسم موضوعًا مباشرًا للمعرفة؛ إذ يكون الجسم، بوصفه إدراكًا في الذهن، موضوعًا غير مباشر شأنه شأن كل ما عداه. ولذا كان من الواجب أن ينظر إلى هذه الانطباعات مباشرةً على أنها مجرد تمثُّلات، وأن نستثنيها ممَّا قيل من قبل، فالمقصود هنا هو انفعالات الحواس الموضوعية الخاصة، حواس البصر والسمع واللمس، وإن لم تكن هذه مقصودة إلا بقدر ما تتأثر أعضاؤها على النحو الفريد المرتبط بطبيعتها المحدَّدة فحسب. ولانفعال الحواس هذا تأثير في الحساسية الحادة المتخصِّصة لهذه الأجزاء يبلغ من الضعف حدًّا يجعله لا يؤثِّر في الإرادة، وإنما يمد الذهن بالمادة التي ينشأ منها الإدراك، دون أن تُعكِّر صفو هذا الذهن أية إثارة للإرادة. غير أن كل تأثر لأعضاء الحس هذه على نحو أقوى أو على نحو مختلف ينطوي على ألم؛ أي يخالف الإرادة، ومن هنا كان بدوره منتميًا إلى موضوعية الإرادة. ويظهر ضعف الأعصاب عندما تصل الانطباعات التي ليس لها من القوة إلا ما يكفي لجعلها مادةً للذهن، إلى الدرجة الأعلى التي تؤثر فيها في الإرادة؛ أي تسبِّب ألمًا أو لذة، أو على الأصح ألمًا في معظم الأحيان. غير أن هذا الألم يتصف إلى حدٍّ ما، بالإبهام والغموض، بحيث لا يقتصر الأمر على تألُّمنا من أصوات معينة أو من الضوء القوي، بل تنشأ لدينا حالة من الاعتلال والوسوسة لا نفهمها بوضوح. كما تتضح هُوية الجسم والإرادة على أنحاء أخرى، منها أن كل حركة قوة عنيفة للإرادة؛ أي كل انفعال، تثير الجسم وكِيانه الباطن مباشرة، وتبعث الاضطراب في مجرى وظائفه الحيوية.

وأخيرًا فإن المعرفة التي لديَّ عن إرادتي، وإن تكن مباشرة، لا يمكن أن تفرق عن معرفتي بجسمي. فأنا أعرف إرادتي، لا بوصفها كلًّا أو وحدة، ولا أعرفها معرفةً كاملة حسب طبيعتها، بل أعرفها في أفعالها الخاصة فحسب، وبالتالي في الزمان، الذي هو صورة لظاهرة جسمي، ولكل موضوع كذلك. وإذن فالجسم شرط لمعرفة إرادتي. وهكذا لا يمكنني بالفعل أن أتصوَّر هذه الإرادة دون جسمي. ولقد عالجت الإرادة، أو بالأحرى الذات المريدة، على أنها فئة خاصة من التمثُّلات أو الموضوعات. ولكنا حتى في تلك الحالة قد رأينا هذا الموضوع يصبح هو والذات شيئًا واحدًا؛ أي رأيناه لا يعود موضوعًا؛ فبقدر ما أعرف إرادتي حقًّا على أنها موضوع، أعرفها بوصفها جسمًا، ولكني في هذه الحالة أعود ثانيةً إلى الفئة الأولى من التمثُّلات التي عرضتها في ذلك البحث؛ أي إلى الموضوعات الفعلية. وسنرى بوضوح متزايد، كلما سرنا قُدمًا، أن تمثُّلات الفئة الأولى هذه لا تجد تفسيرها وحلها إلا في تمثُّلات الفئة الرابعة التي عرضناها في ذلك البحث، والتي لا يعود من الممكن وضعها مقابل الذات بوصفها موضوعًا، وأن علينا بالتالي أن نتعلَّم فهم الطبيعة الباطنة لمبدأ العِلِّية الذي يصح على الفئة الأولى، ولكل ما يحدث وفقًا لهذا المبدأ، من خلال مبدأ تحكُّم الدوافع، الذي يسري على الفئة الرابعة.

ومن المحال إثبات هُوية الإرادة والجسم، التي قدَّمنا لها الآن تفسيرًا مؤقتًا، إلا على النحو الذي قلنا به ها هنا. ولقد كان هذا أول إثبات لهذه الهُوية. وسوف يزداد إثباتنا هذا عمقًا خلال هذا الكتاب، وبعبارة أخرى فقد أخرجنا هذه الهُوية من نطاق الوعي المباشر، ومن المعرفة العينية، ونقلناها إلى مجال المعرفة العقلية أو المعرفة المجرَّدة. ومن جهة أخرى، فإن طبيعة هذه الهُوية ذاتها تجعل من المحال البرهنة عليها؛ أي استخلاصها بوصفها معرفةً غير مباشرة من معرفة أخرى أقرب إلى الطابع المباشر، لا لشيء إلا لأنها هي ذاتها أقرب المعارف إلى الطابع المباشر. فإذا لم ندركها أو نتمسَّك بها على هذا النحو، فسيكون من العبث أن نتوقع تلقِّيها مرةً أخرى على نحو غير مباشر بوصفها معرفةً مشتقة؛ فهي معرفة من نوع خاص إلى أبعد حد، وبالتالي لا يمكن أن تُدرَج حقيقتها تحت واحدة من الفئات الأربع التي صُنفت بها كل الحقائق المنطقية، والتجريبية، والميتافيزيقية، وما بعد المنطقية؛ إذ إنها تختلف عن هذه كلها في أنها ليست مثلها ربطًا لتمثُّلٍ مجرد بتمثُّل آخر، أو بالصورة الضرورية لتمثُّل الحدسي أو المجرد، وإنما هي ربط لحكم بالعلاقة التي تجمع بين تمثُّل إدراكي، هو الجسم، وبين ما ليس بالتمثُّل على الإطلاق، وإنما يختلف عن ذلك كل الاختلاف؛ أعني بالإرادة.

(القسم ١٩): وعلى حين أننا قد اضطُررنا كارهين في الكتاب الأول إلى وصف جسم الإنسان بأنه مجرد تمثُّل للذات العارفة، شأنه شأن سائر موضوعات عالم الإدراك هذا، فقد اتضح لنا الآن أن في وعي كل شخص شيئًا يميِّز تمثُّل جسمه من جميع التمثُّلات الأخرى التي تُشبهه تمامًا من جميع الأوجه الأخرى؛ ذلك لأن جسمنا يبدو في الوعي على صورة أخرى مختلفة تمامًا، يعبَّر عنها بلفظ الإرادة. وهذه المعرفة المزدوجة لدينا بجسمنا هي التي تمدنا بالمعلومات عنه، وعن فعله وحركاته الناجمة عن دوافع، وكذلك عمَّا ينفعل به عن طريق الانطباعات الخارجية، وبالاختصار عمَّا يكونه، لا بوصفه تمثُّلًا، بل بوصفه أكثر من التمثُّل؛ أي عمَّا يكونه في ذاته. وليست لدينا أية معلومات مباشرة كهذه عن طبيعة أي شيء حقيقي آخر أو فعله وانفعاله.

ولا تكون الذات العارفة فردًا إلا بفضل هذه العلاقة الخاصة بجسم بعينه، فإذا ما نُظر إلى هذا الجسم بمعزل عن هذه العلاقة، لَمَا غدا سوى تمثُّل كسائر التمثُّلات. غير أن العلاقة التي تكون الذات العارفة بفضلها فردًا هي لهذا السبب عينه علاقة لا تقوم إلا بينها وبين تمثُّل واحد بعينه من بين جميع ما لديها من التمثُّلات، ومن ثم فإنها تشعر بهذا التمثُّل الخاص، لا بوصفه تمثُّلًا فحسب، بل في الوقت ذاته على نحو مخالف تمامًا، بوصفه إرادة. أمَّا إذا تجرد عن هذه العلاقة الخاصة، وعن هذه المعرفة المزدوجة والمتباينة تمامًا لِمَا هو موضوع واحد لا يتغيَّر، فإن هذا الواحد؛ أي الجسم، يغدو تمثُّلًا كسائر التمثُّلات. وإذن فلا بد لفهم المسألة من أحد أمرين؛ إمَّا أن يفترض الفرد العارف أن ما يميِّز هذا التمثُّل الواحد من غيره هو مجرد كون معرفته ترتبط به هو وحده في هذه العلاقة المزدوجة، وأن التبصر في اتجاهَين مختلفَين في آنٍ واحد لا يُتاح له إلا في حالة موضوع الإدراك هذا وحده، وإن مردَّ هذا ليس إلى الفرق بين هذا الموضوع وجميع الموضوعات الأخرى، وإنما إلى الفرق بين علاقة معرفته بهذا الموضوع الواحد وعلاقتها بجميع الموضوعات الأخرى فحسب. وإمَّا أن يفترض أن هذا الموضوع يختلف عن الباقين جميعهم اختلافًا أساسيًّا، وأنه هو وحده دونها جميعًا، إرادة وتمثُّل معًا، في حين أن بقية الموضوعات تمثُّلات؛ أي أشباح، فحسب. وهكذا يكون عليه أن يفترض أن جسمه هو الفرد الحقيقي الوحيد في العالم؛ أي إنه هو الظاهرة الوحيدة للإرادة، والموضوع المباشر الوحيد للذات. أمَّا كون الموضوعات الأخرى، من حيث هي مجرد أفكار، تُشبه جسمه؛ أي تشغل مثله مكانًا (لا يتمثَّل بدوره إلا بوصفه تمثُّلًا)، ولها مثله فاعلية إيجابية في المكان، فذلك ما يُثبته بجلاءٍ قانون العِلِّية الذي يصدق أوليًّا على الأفكار، والذي لا يسمح بوجود أي معلول دون علة. ولكن بالإضافة إلى كوننا لا نستطيع أن نستدل من المعلول إلا على علة بوجه عام، لا على علة مماثلة، فإنا ما زلنا في مجال التمثُّل وحده، وهو المجال الذي لا يصدق قانون العِلِّية إلا عليه، والذي لا يمكنه أن يسري على ما هو خارج عنه. أمَّا كون الموضوعات المعروفة للفرد بوصفها تمثُّلات فحسب، هي، مثل جسمه، مظاهر لإرادة، فذلك، كما قلنا في الكتاب الأول، هو المعنى الصحيح للسؤال المتعلق بحقيقة العالم الخارجي. ومن ينكر ذلك يقع في الأنانية النظرية التي ترى، على هذا النحو، أن جميع الظواهر الواقعة خارج إرادتها هي أشباح، مثلما تؤدِّي الأنانية العملية إلى النتيجة ذاتها في المجال العملي: حيث ينظر فيها الإنسان إلى ذاته وحدها على أنها شخص حقيقي، ويرى في جميع الأشخاص الآخرين بمجرد أشباح. ولا جدال في أن من المحال تفنيد الأنانية النظرية بالبرهان، غير أن استخدامها الوحيد في الفلسفة كان استخدامها بوصفها مغالطةً شكاكة؛ أي لغرض الادِّعاء الظاهري. أمَّا من حيث هي اعتقاد جدي، فمن المحال أن يكون لها قيام إلا وسط المجانين، ومن ثم فإنها بهذا المعنى تحتاج إلى علاج أكثر ممَّا تحتاج إلى تفنيد؛ ولذا فلن نمضي في محاربتها أبعد من ذلك، بل سننظر إليها على أنها آخر معاقل الشكاك فحسب، وهو معقل جدلي على الدوام. وهكذا فإن معرفتنا، التي تتقيَّد وتُحد دائمًا بالفردية، تقتضي بالضرورة أن يكون كلٌّ منا واحدًا فحسب، في حين أنه يستطيع أن يعرف كل شيء؛ وهذا التحدُّد ذاته هو الذي يخلق الحاجة إلى الفلسفة. وإذن فنحن؛ إذ نسعى لهذا السبب بعينه إلى توسيع حدود معرفتنا بالفلسفة، فإننا سننظر إلى حجة الشكاك هذه؛ أعني حجة الأنانية النظرية، مثلما ينظر الجيش إلى قلعة صغيرة على الحدود. حقًّا إن من المحال اقتحام القلعة، غير أن من المستحيل على حاميتها أن تغادرها؛ ولذا ففي وسعنا أن نتجاوزها دون خطر، وأن نتركها في مؤخرة صفوفنا دون أن نخشى شيئًا.

وهكذا أوضحنا بجلاء تلك المعرفة المزدوجة التي لدينا بطبيعة جسمنا وفاعليته، والتي تُعطَى على نحوَين مختلفَين تمامًا، ومن ثم فسوف ننتفع منها على نحو آخر إذ نتخذها مفتاحًا للماهية الباطنية لكل ظاهرة في الطبيعة، وسوف نحكم على جميع الموضوعات المغايرة لأجسامنا، والتي لا تُعطى لوعينا بالتالي على نحو مزدوج، وإنما بوصفها تمثُّلات فحسب، على أساس تشبيهها بأجسامنا. وهكذا فسوف نفترض أنه لمَّا كانت هذه الموضوعات في أحد أوجهها تمثُّلًا، كأجسامنا، ولمَّا كانت متجانسةً مع أجسامنا في هذا الوجه، فإن ما يتبقَّى منها عندما ندع جانبًا وجودها بوصفها تمثُّلًا للذات، لا بد أن يكون في طبيعته الباطنة مماثلًا لِمَا نسمِّيه بالإرادة فينا. إذ ما هو النوع الآخر من الوجود أو الحقيقة الذي ينبغي أن نعزوه إلى بقية العالم المادي؟ ومن أين نستمد العناصر التي نشيد منها مثل هذا العالم؟ ليس ثمة شيء معروف لنا أو يمكننا التفكير فيه، سوى الإرادة والتمثُّل، فإذا شئنا أن نعزو أكبر قدر من الحقيقة المعروفة إلى العالم المادي الذي لا يوجد مباشرةً إلا في تمثُّلنا، فإنا نعزو إليه الحقيقة التي تكون لجسمنا في نظر كل منا؛ إذ إن الجسم هو أكثر الأشياء حقيقةً بالنسبة إلى كل منا. ولكنا إذا ما قُمنا بتحليل لحقيقة هذا الجسم وأفعاله، خلاف كونه تمثُّلًا، فلن نجد فيه سوى الإرادة؛ فبالإرادة تُستنفد حقيقته. وإذن فليس في وسعنا أن نجد نوعًا آخر من الحقيقة نعزوه إلى العالم المادي. فإذا قلنا إن العالم المادي يزيد على كونه مجرد تمثُّل لنا، فينبغي أن نقول إنه، إلى جانب كونه تمثُّلًا؛ أعني في ذاته وفي أعماق طبيعته الباطنة، هو ما نهتدي إليه في أنفسنا مباشرةً بوصفه إرادة.

١  جاكومو ليوباردي (١٧٩٨–١٨٣٧م): شاعر إيطالي، تميَّزت حياته منذ طفولته بالشقاء وخيبة الأمل والمرض، وكذلك بخلافه الدائم مع والدَيه. وانعكس ذلك في شِعره، الذي كان رغم نزعته الوطنية التحرُّرية القوية لاذع السخرية. (المترجم)
٢  انظر شرح هذا اللفظ في أحد هوامش التعليق على فلسفة هيجل (الفصل الرابع). (المترجم)
٣  المقصود من هذه الفقرة هو أن شوبنهور بدوره — ولا سيما في النص الذي أورده المؤلف من قبل — يرد الأفكار البادية التجرد إلى أسس ومصالح مادية، وأنه كان من الممكن، بالتالي، أن يتأثر به كارل ماركس لو كان قد أدرك لديه هذه النزعة إلى التفسير المادي. ومن الطبيعي في نظر المؤلف أن هذا لو كان قد حدث، لتغير طابع التفكير الماركسي، ولتغير بالتالي مجرى التاريخ خلال القرن الأخير. وفروض المؤلف هذه خيالية كلها، وحتى لو صحَّت منها المقدمات الأولى لَمَا أدَّت على الإطلاق إلى النتيجة التي استخلصها؛ لأنه يفترض أن تأثير شوبنهور في ماركس كان من الممكن أن يؤدي إلى تغيير للمجرى الفعلي للتاريخ، وهو افتراض لا يوافقه عليه ماركس ذاته، نظرًا إلى إيمانه بالحتمية التاريخية. (المترجم)
٤  جورج سانتيانا، فيلسوف وشاعر أمريكي، من أصل إسباني، له أبحاث هامة في علم الجمال، منها كتابه «الحاسة الجمالية» The sense of Beauty، وتحتل الإرادة في مذهبه مكانةً هامة. ومن أشهر مؤلفاته سلسلتان من عدة مجلدات؛ أولاهما «حياة العقل The Life of Reason» (خمسة مجلدات)، ومجالات الوجود Realms of Being (أربعة مجلدات)، وقد أمضى الأعوام الأخيرة من حياته في إيطاليا، معتكفًا عن الحياة وعن خضم الحوادث التي يحفل بها عصرنا الصاخب. (المترجم)
٥  ترجمة «هولدين R. B. Haldane» The World as Will and Idea و«كمب J. Kemp» لندن، مطبعة Kegan Paul, Trench, Trubner Co., Ltd. ١٩٠٧م، ص٣–٦ و١٢٧–١٣٦. وقد ظهر الكتاب الأصلي في سنة ١٨١٩م بعنوان Die Welt als Wille und Vorstellung.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤