مقدمة

حياة همنجواي وفنِّه

لعل أحدًا من الروائيين الذين يكتبون بالإنجليزية لم يحْظَ من الشهرة وسَعة الانتشار في العصر الحديث قدْرَ ما حظِي الكاتب الأمريكي العظيم إرنست همنجواي. فبالإضافة إلى المحصول الوافر من الروايات والقصص التي تركها همنجواي وراءه عند مماته في ١٩٦١م، فإن حياته تُشكِّل جانبًا مستقِلًّا، له من الأهمية ما لأدبه بالنسبة لقُرَّائه ولدارسيه، وهذا ما حدا بالنُّقاد إلى الاهتمام بحياته والأحداث الكثيرة التي تزاحمت فيها قدْرَ اهتمامهم بنصوصه الأدبية. وعلاوةً على ذلك فإن أدب همنجواي وكتاباته مغموسةٌ كلها بدم الحياة التي عاشها، فهو يستمدُّ أدبه من تجاريب حياته، وتدفعه هذه الحياة إلى تطوير أدبه ومزجه بتجاربه. وقد دفعَت الحياة الغريبة التي عاشها هذا الكاتب العظيم بعض النقاد إلى الحديث عن الرغبة في الموت التي تتحكم في لا وعي همنجواي وأعماله، وطبَّقوها على انغماسه الغريب في الحروب والمعارك، وفي رحلات الصيد الخطرة، ومصارعات الثيران الدموية. وقالوا أيضًا: إن همنجواي كان يُريد قهر الخوف من الموت، ولذلك لم يكن يحب انتظار الموت بل يبحث عنه في مكمنه.

وقد ابتكر همنجواي أسلوبًا فريدًا في الكتابة، يعتمد على التخلُّص من المحسِّنات البديعية والتزويقات اللفظية والإطناب، ويتَّجِه إلى طريقة الاقتصاد في التعبير١ والأسلوب البرقي الذي يحاول إيصال التجربة إلى القارئ عن طريق التركيز والمباشَرة. وبالإضافة إلى ظهور همنجواي بهذه الطريقة في بناء لغته وفي بناء رواياته، فإن له رؤيا خاصة في الحياة وفي الفن، اجتهَد أن يُوصلها إلى قُرَّائه من خلال قِصصه ورواياته.

حياته وأعماله الأدبية

وُلِد إرنست ميلر همنجواي، مغامر عصْره، في يوم ٢١ يوليو ١٨٩٩م، في مدينةٍ يُطلَق عليها عادةً اسم عاصمة الطبقة الوُسطى وهي «أوك بارك» من ضواحي شيكاغو. وكانت أمه من النساء ذوات النشاط الديني الفعَّال، شغلَت وقت فراغها بالعزف في الكنائس وفي المحافل الدينية. أما أبوه فهو الدكتور كلارنس إدموندز همنجواي، وكان طبيبًا محليًّا معروفًا، يُفضِّل الذهاب للقنْص وصيد السمك في منزل العائلة الصيفي بجانب خليج «هورتون» على الاشتغال بمهنته، وعكَف والده منذ صِغره على تلقينه فنون الهوايات التي شُغِف بها هو نفسه، فأهداه في عيد ميلاده الثالث قصبةً للصيد، كما كان يُعلِّمه فنون الرماية منذ كان في المهد صبيًّا. ومما يُروى عنه: أنه اشترك وهو في هذه السن في الاستعراض العسكري في المدينة، وسار وقد علَّق مسدس جده إلى جانبه وهو يختال وسط الجنود في مشيةٍ عسكريةٍ صارمة. ولكن والدته لم تكن راضيةً عن تلك التنشئة المبكرة، وكانت تُعِدُّ لابنها مشروعاتٍ مخالفةً بالنسبة لمستقبَله، مما جعلها تُعارض والده على طول الخَطِّ وتسخط على ما يفعله مع ابنهما … ويبدو أن همنجواي لم يغفر لها بعد ذلك هذا الموقف إطلاقًا، كما يبدو أن ضِيقه منها قد انعكس في كل ما كان يكتبه ويخلقه من الشخصيات النسائية في رواياته وقِصصه.

وفي العاشرة من عمره، أهداه والده بندقية، وأهدَته والدته آلة تشيللو للعزف، ولكنه أوضح بعد ذلك أنه لم يكن يميل لعزف الموسيقى، وكان يهرب من دروس العزف ليصطاد السمك، وكان من نتيجة هذا الشدِّ والجذب للصبي بين عالَم والده وعالم والدته أن أصبح همنجواي شابًّا عاكفًا على التفكير، شديد الحساسية في نفس الوقت. وقد قال مرةً بعد ذلك عن أيام حياته الأولى: «إن أفضل مدرسة للكاتب هي طفولةٌ شقيَّة» وقد تسببَت هذه الأيام في إصابته ببعض «التهْتَهة الخفيفة» في كلامه، لازمَته طوال حياته.

وتلقَّى همنجواي تعليمه في مدرسة «أوك بارك»، حيث الْتحق بفريق كرة القدم بها. وفيها ظهر مَيله للكتابة لأول مرة، فكان يكتب بعض القصص القصيرة على الآلة الكاتبة، عن تجاربه في الصيد وعن الهنود الحمر، وينشرها في المجلة الأدبية للمدرسة. وقد اشتغل وقت فراغه في هذه الأيام والْتحق بمدرسةٍ لتعليم الملاكمة.

وبعد أن حصل على شهادته الثانوية من المدرسة عام ١٩١٧م، كانت الولايات المتحدة قد دخلَت الحرب العالمية الأولى التي اندلعَت نيرانها منذ سنواتٍ ثلاث في أوروبا، وهجر همنجواي كل مشروعاته بشأن الجامعة وبشأن المستقبَل وتطوَّع في الجيش، ولكنه رسب في الكشف الطبي بسبب عيبٍ كان قد أصاب عينه في إحدى مباريات الملاكمة. وفشلَت محاولات همنجواي في الالتحاق بأي سلاحٍ من أسلحة الجيش، وبعدها نجحَت مجموعةٌ من الأكاذيب، ونقْص في الموظفين إبَّان الحرب، ونفوذ أحد أعمامه في حصوله على عملٍ في صحيفة «كانساس سيتي ستار» التي كانت تُعتَبر أيامَها أكبر مدرسة للصحافة في الغرب الأمريكي. وقد تعلم فيها كيف يقصُّ الخبر بأسلوب الصحيفة المعروف عنها: الأحدوثة المباشَرةً المقتضبَة والفقرات القصيرة واللغة القوية. وقد قال همنجواي بعد ذلك عن هذه الفترة من حياته: إنه قد تعلَّم في هذه الشهور عن الكتابة وعن الصحافة أكثر مما تعلمه في أي فترةٍ أخرى من فترات حياته. وبعدها قرأ عن حاجة الصليب الأحمر العاجلة لمتطوِّعين للعمل على الجبهة الإيطالية، فتقدَّم لهذا العمل وقُبِل فيه في أبريل ١٩١٨م كسائقٍ لعربة إسعاف، وكان أصغرَ المتطوِّعين سِنًّا فلم يكن يتجاوز التاسعة عشرة من عمره. وارتحل من نيويورك إلى باريس عن طريق البحر، ثم أرسلوا به إلى ميلانو حيث عمِل في خط النار. وبعد أسبوعٍ من الأحداث المثيرة، أصابَته قنبلةٌ من مدفع مورتار نمسوي حين كان يحاول إنقاذ أحد الضباط الإيطاليين الجرحى، وأطاحت بطاسة ركبته وجرحَته في رأسه. وفي مستشفى «ماجيوري» بميلانو، أجرَوا له سلسلةً من العمليات أخرجوا بها ٢٢٧ شظية من ساقه. ولم يخرجوا كل الشظايا رغم ذلك، فقد أجرَوا له عمليةً أخرى عام ١٩٥٩م أخرجوا بها من ساقه شظيةً أخرى استقرَّت فيها منذ ذلك الوقت. وفي مستشفى ميلانو تعرَّف على ممرضةٍ إنجليزيةٍ حسناء من ممرضات الصليب الأحمر، عقَد معها علاقةً عاطفيةً ألهمَته فيما بعدُ حبكة روايته المشهورة «وداعًا للسلاح». وقد طاف همنجواي بعد شفائه بصفوف القتال على الجبهة الإيطالية مرتديًا سترةً عسكريةً أمريكية ليبعث الحماس في قلوب المحاربين ويقصَّ عليهم قصة بطولته في الحرب، وكان نتيجة هذا أن أنعمَت عليه السلطات الإيطالية بالميدالية الفضية للشجاعة العسكرية ووسام الاستحقاق الحربي.

وعاد همنجواي في ٢١ يناير ١٩١٩م إلى نيويورك واستُقبِل فيها استقبال الفاتحين، فقد كان من أوائل العائدين الذين اشتركوا في الحرب العالمية الأولى من الأمريكيين. ولكن جوُّ بلدته «أوك بارك» بدا له خانقًا قاتلًا، خاصةً الآن بعد أن ذاق طعم الحرية والإثارة، فدفعه ذلك إلى الاستقلال بحياته عن والديه، وعاش وحدَه في شيكاغو بعد أن حصل على عملٍ يُقيم به أوده عن طريق كتابة بعض القِطع الصحفية لجريدتَي «تورنتو ديلي ستار»، «وتورنتو ستار ويكلي». وكان يُقسِّم وقت فراغه ما بين صالة الألعاب الرياضية، والتمرُّس على فنون الكتابة. وفي أثناء رحلةٍ له إلى «ميتشجان» في هذا الوقت، تعرَّف على فتاةٍ أمريكية ذات موهبةٍ في العزف على البيانو تُدعَى «هادلي ريتشاردسون» تزوَّجها أخيرًا في سبتمبر ١٩٢١م. واقترح همنجواي على أصحاب الصحيفتين اللتين يعمل فيهما أن يُعيِّنوه مُراسلًا لهما في باريس، حيث يوافيهم بمقالاته وقِصصه من هناك، ووافقوا على ذلك. وحمَّله صديقُه شرود أندرسون، بخطابات توصيةٍ إلى معارفه الأدبيين في باريس، أمثال جرترودشتاين وعزرا باوند، وتُعَدُّ سنواته الأولى هذه في باريس من أخصب أيام عمره، قضاها طوَّافًا في البلاد والمدن الأوروبية، يعقِد الصداقات مع شخصيات الأدب والفن المشهورين. وفي باريس تعلَّم همنجواي التمييز بين الأصل والمزيَّف، بين العبقرية والتصنُّع، وتعلم كما قال بنفسه: «كيف يكتب القِصص بالتطلُّع إلى اللوحات في متحف اللوكسمبرج في باريس»، وعندما ألمح له الرسَّام بيكاسو عن مصارعات الثيران في مدريد، صمَّم همنجواي على خوض هذه التجارب الفريدة، فشدَّ رحاله على الفور هو وزوجته إلى إسبانيا حيث شهد أول عرض لمصارعات الثيران في حياته، وقضى بها عدة أسابيع قبل أن يعود إلى باريس. وكانت هذه نقطة البداية في حُبِّه العريض للبلاد الإسبانية ولمصارعة الثيران التي لازمته طوال حياته ولم يكد يخلو كتابٌ من كتبه من أيٍّ منهما.

وبعد ذلك أبرقَت له الصحيفة بالتوجُّه إلى إيطاليا لتغطية أخبار المؤتمَر الاقتصادي في «جنوه»، وبعدها طار إلى القسطنطينية ليُغطِّي أحداث الحرب التركية اليونانية التي استعر أوارها في تلك الأثناء. وفي القسطنطينية شهِد فظائع انسحاب الجيش اليوناني من المدن التركية وتقدُّم الجيوش التركية للاستيلاء على هذه المدن؛ وقد ألهمه هذا الانسحاب الوصْفَ الذي ورد بعد ذلك في مشهد انسحابٍ من «كابريتو» في «وداعًا للسلاح» … وبعد عودته من تلك المهمة بقليلٍ طار إلى لوزان لتغطية مؤتمر السلام هناك. وهكذا تحقق حلم همنجواي بأن أصبح مراسلًا أمريكيًّا جوَّالًا في البلاد الأوروبية.

واستدعى همنجواي زوجته هادلي لتلحق به في لوزان. وفي الطريق وقعَت لها حادثةٌ مفجِعة؛ إذ فقدَت جميع مخطوطات القصص التي كان زوجها قد كتبها طوال السنوات الأربع السابقة، وكانت قد وضعَتها كلها في حقيبةٍ حملَتها معها إليه. وقد أثَّر هذا الفقدان الأدبي في همنجواي فترةً طويلة من حياته ولم يَنسَه مُطلَقًا. وطار همنجواي مرةً أخرى إلى ألمانيا لكتابة تحقيقٍ صحفيٍّ عن إعادة احتلال «الروهر» بالقوات الألمانية. وفي باريس، أجرى همنجواي كتابه الأول، مجموعة من القصص والقصائد بعنوان «ثلاث قصص قصيرة وعشر قصائد»٢ كما كان يزيد من دخْله بالمراهنة عن سباق الخيل الذي برع فيه وربح من ورائه الكثير من المال. ولكنه اضطُر إلى العودة لجريدتَي «ستار» و«ستار ويكلي» حين أشرفَت زوجته على وضع طفلها جون، وأصرَّت على أن تتم الولادة في موطنها بالولايات المتحدة. وبعدها بفترةٍ قضاها في جوٍّ من الضِّيق و«الإقليمية»، استقال من العمل، ورحَل هو وزوجته وطفله إلى باريس حيث خلَع عنه أخيرًا معوقات الكتابة، ونزل إلى الساحة ليُحارب معركته في سبيل الجَودة والظهور كمؤلفٍ له قيمته وأصالته. وكانت باريس أيامَها تمُوج بالكُتَّاب والفنانين الذين يأتون بكل مُستحدَثٍ مُستطرَف، يُغرقون همومهم في الجنس والخمر والسهر طوال الليل. وقد أسمَتهم جرترود شتاين بالجيل الضائع، ولكن همنجواي كان يُمثِّل بينهم شخصًا مختلِفًا، فقد أضفَت عليه جدِّيتُه بشأن عمله في الكتابة وتجاربه في الحرب صفةً خاصة من النُّضج. وانضمَّ في هذا الوقت إلى الجماعة التي كانت تلتقي في مكتبة شكسبير التي تملِكها شابةٌ أمريكية تُدعَى «سيلفيا بيتش» في الحي اللاتيني، وتَعرَّف هناك بالمشهورين من أمثال جيمس جويس، وجون دوس باسوس، وأرشبولد ماكليش، بالإضافة إلى جرترود شتاين، وعزرا باوند. وكانوا يعقدون الندوات التي يناقشون فيها مسائل الفن والأدب وقضاياهما.
ومرت بهمنجواي فترةٌ قاتمة في أيامه تلك في باريس، فكانت المجلات ترفض قِصصه الواحدة بعد الأخرى، ولم يكن يجد ما يُقيم أوَدَه هو وزوجته. ولم يَفتَّ هذا من عضده، بل لم يمنعه عن الاستمتاع بكل ما كان يستمتع به من صيدٍ ومن سباق الخيل وسباق الدراجات، ونجح أخيرًا بعد ذلك في نشر كتابه الثاني، وهو مجموعة من القصص القصيرة ظهرت تحت عنوان «في أيامنا».٣
وقد صمَّم همنجواي على أن ينقل تجربته في الهيام بمصارعة الثيران إلى رفاقه، فخرجوا جميعًا في عام ١٩٢٥م إلى إسبانيا لحضور مهرجان «سان فرمين» في بمبلونة، وهو تقليدٌ اتبعه بعد ذلك طوال حياته. وفي هذه المرة، تعرفَت الجماعة بفتاةٍ إنجليزية لعُوب تُدعَى «ليدي داف توايسدن»، وقع أحد أفراد الجماعة وهو «هارولد لويب» في غرامها وصار يشكُّ في علاقتها بهمنجواي وبأفراد آخرين من الجماعة، رغم أنها كانت مخطوبةً لواحد من الأثرياء الأمريكيين ولا تُخفي علاقاتها بكثير من الأفراد الآخرين. وطوال أيام هذا المهرجان ومباريات مصارعة الثيران التي شهدَتها الجماعة، كان إرنست يشحذ حواسَّه كلها لالتقاط دقائق الأحداث التي تدور من حوله. وقد دوَّن كل هذا بعد ذلك في روايته «وتشرق الشمس ثانية».٤
وقد بدأها في يوم عيد ميلاده السادس والعشرين، وكتب فيها في بلنسية وفي مدريد ثم في باريس، وأتمَّها في مدى ستة أسابيع. وفي الفترة التي كان يُنقِّح فيها الرواية، نُشرَت روايته الأولى المسمَّاة «سيول الربيع»٥ ولكنها لم تلْقَ حماسًا من القُرَّاء ولا من النقاد.
وكانت حياته الزوجية مع هادلي قد انتابها الفتور، كما شابها كثيرٌ من الشجارات التي نشأت من غيرة هادلي من علاقة إرنست بالممرضة الإنجليزية التي تعرَّف عليها في مستشفى ميلانو، والتي استمرَّت بعد ذلك عن طريق الخطابات، وعلاقته المستحدَثة مع «ليدي داف توايسدن». وانتهى به الأمر أن انفصل عن هادلي، واتخذ له مسكنًا يُقيم فيه وحدَه، ثم انتقل إلى نيويورك مع امرأةٍ من معارفه مال إليها تُدعَى «بولين بفيفر» الكاتبة الصحفية بمجلة «فوج» النسائية. واستمر همنجواي يعمل في نيويورك في تنقيح مخطوطة «وتشرق الشمس ثانية»، ودفع بها أخيرًا إلى الناشر، وظهرَت في أكتوبر ١٩٢٦م ونالت الرواية نجاحًا ساحقًا فوْر ظهورها، وأرسَت دعامة همنجواي كواحدٍ من أعلام الأدب الأمريكي البارزين، وجذَب انتباه الجماهير ككاتب وكإنسان. وقد دفع هذا النجاح الناشر «سكريبنر» إلى إخراج كتاب قصص قصيرة له، به أربع قصص جديدة، علاوةً على مختارات من قصصه القصيرة التي نُشرَت سابقًا، تحت عنوان «رجال بلا نساء».٦

وحصل همنجواي على الطلاق من هادلي في عام ١٩٢٧م، وتزوج بعدها حبيبته الجديدة بولين. وقد اضطُر لإتمام هذا الزواج أن يتحوَّل من المذهب البروتستانتي إلى الكاثوليكية؛ لأن بولين كانت من هذا المذهب. وبدأ بعد ذلك مباشرةً في الإعداد لأقرب المشروعات حبًّا لفؤاده، وهو كتابة روايةٍ عن تجاربه في الحرب العالمية الأولى.

ومرةً أخرى، اضطُر همنجواي إلى العودة إلى الولايات المتحدة حين أشرفَت زوجته الجديدة على الوضع، فأقام فترةً في «كي وست»، ثم نزح إلى «كانساس سيتي» حيث دخلَت بولين المستشفى. ومرَّت الزوجة بتجربةٍ عصيبةٍ؛ إذ تعسَّرَت الولادة وأشرفَت على الموت، واضطُروا إلى إجراء عمليةٍ قيصرية لإخراج الوليد الجديد من بطنها، وسمَّوه «باتريك». ومرَّت بهمنجواي تجربةٌ أعصب وهو ينتظر خارج المستشفى نتيجة العملية. وقد ظهرَت هذه التجربة بعد ذلك بتفصيلٍ شديدٍ في الرواية الجديدة التي كان يكتبها آنذاك «وداعًا للسلاح».٧ كذلك ألمَّت بهمنجواي أزمةٌ روحية في هذه الفترة نتيجةً لوصول الأنباء إليه بانتحار أبيه الطبيب بمسدس الجد الذي كان إرنست يحمله وهو طفلٌ ويسير به مختالًا في الاستعراض العسكري في «أوك بارك».
وتوطدَت أقدام همنجواي في عالم الأدب بنجاح «وداعًا للسلاح» التي نُشرَت في سبتمبر ١٩٢٩م. وعكف بعدها على كتابة بعض قصصه القصيرة، أشهرها قصص القاتلان٨ «اليوم جمعة»٩ الهنديان١٠ ثم قضى الصيف التالي في جولةٍ في إسبانيا في رَكب الماتادور المشهور سيدني فرانكلين، خرج منها آخِر الأمر بكتابٍ شاملٍ مشهور عن مصارعة الثيران، وكان بذلك أول كاتب يُقدِّم هذا الفن العظيم للعالم الأنجلوسكسوني، بكتابه الذي يُشبه دائرة معارف عن مصارعة الثيران «موت في الأصيل».١١
وقضى همنجواي فترةً طويلةً في منزله في «كي وست»، وابتاع يختًا للصيد أسماه «بيلار»، استخدمه في رحلات صيدٍ ناجحة. وكان يبحث عن آفاق جديدة يبسط عليها ظل خياله، ووجد أنه لن يجد متعةً بعد ذلك في مناطق إسبانيا وباريس إلا بعد أن يُجددها بمشاهَدة الجانب الآخر من العالم. وعلى هذا ففي أواخر عام ١٩٣٣م، شدَّ رحاله هو وزوجته وأحد أصدقائه إلى أفريقيا، مصطحبين مرشدًا أصبح بعدها صديقًا حميمًا لهمنجواي هو «فيليب برسيفال». وطاف همنجواي في هذه الرحلة بممباسة وكينيا وأوغندا، ومرَّ بتجارب هامة مركزة في كيفية صيد الأسود والنمور والفيَلة، وخاصةً وحيد القرن. وعاد إلى «كي وست» في ربيع ١٩٤٣م وذهنه مُحمَّل بذكرياته الأفريقية. ومرَّت به هناك تجربة صيدٍ فريدة اختزنها في ذاكرته إلى أن حانت لحظة إخراجها في عملٍ فنيٍّ متكامل. ففي أثناء جولةٍ له على قاربه بيلار للصيد، اشتبكَت قصبته بسمكة تونة ضخمة، قال مَن شاهَدها إنها تربو على الألف رطل، وظل يُطاردها قرابة يومٍ كامل وهو يجاهد ألا تُفلت منه. وتمكَّن أخيرًا من صَيدها وجرِّها إلى جانب قاربه. ولكن بعد أن بذل هذا المجهود الجبَّار الذي يفُوق الطاقة في صيدها، هجمَت عليها أسماك القرش ونهشَت لحمها وتركَت له سلسلتها الفقرية ورأسها تَسبَح إلى جانب القارب. وكان يُشبع النشاط والمغامرات في حياته برحلات صيد من هذا النوع، وبرحلاتٍ سريعةٍ بقاربه عبر الخليج إلى كوبا. ولكن القَدَر كان يُخبئ له مغامرةً جديدة من نوع المخاطرة التي كادت تُودِي بحياته في الحرب العالمية الأولى. ففي يوليو من عام ١٩٣٦م نجح أحد الضباط الإسبان في تدبير انقلابٍ ضد حكومة الجمهوريين في مدريد، وانحاز قِسم كبير من الجيش الإسباني إلى جانبه، مما أدى إلى اندلاع نيران حربٍ أهليةٍ مدمِّرة في تلك البلاد التي أحبَّها همنجواي كل الحب. وقد ساندَت القوى الفاشستية في كلٍّ من إيطاليا وألمانيا الضابط فرانكو، بينما انضمَت إلى الجمهوريين صفوف الشيوعيين والفوضويين والاشتراكيين والنقابيين وغيرها من الجوانب الثورية. وانحاز همنجواي إلى جانب الجمهوريين، وطاف في كل مكانٍ في أمريكا يحاول جمْع التبرعات لمساعدتهم وإمدادهم بما يحتاجونه من سلاحٍ. ثم سافر هو بنفسه إلى مدريد ليغطِّي أنباء الحرب الأهلية، وليكون إلى جانب أصدقائه الجمهوريين، وقبل أن يطير للجبهة أعدَّ روايةً جديدة للنشر وأسماها «الغنى والإملاق»١٢ وخاض همنجواي في طريقه إلى ميدان القتل أهوالًا عجيبة وكاد أن يُقتَل عديدًا من المرَّات. وكان يعود أحيانًا إلى الولايات المتحدة لجمْع مزيدٍ من الأموال لمساعدة الجمهوريين، ثم يطير ثانيةً إلى ميدان القتال. وفي إحدى المرات التي عاد فيها إلى الولايات المتحدة نشر مسرحيةً كان يعمل فيها في مدريد وهي «الطابور الخامس»١٣ وكانت هذه المسرحية الوحيدة التي كتبها همنجواي هي العمل الوحيد الذي أجمع كل النقاد على فشله التام.

وحرص همنجواي على أن يكون في وسط المعارك التي تدور بين الملكيين والجمهوريين، وكم من مرة تحطَّم زجاج نافذة الغرفة التي يُقيم فيها في فندق فلوريدا بمدريد؛ نتيجة قنبلةٍ تقع على مقربةٍ منه، ولكنه كان يتحمل كل ذلك ويختزن في ذهنه تجارب الأهوال التي يراها والتي اقترنَت بهذه الحرب البشعة التي مات في العام الأول لها ما يزيد على نصف مليون إسباني. وتعرَّف في مدريد على مراسلةٍ صحفيةٍ شقراء صغيرة السن تُدعَى «مارتا جلهورن»، كانت قد برزت في عملها ونجحت فيه نجاحًا ملحوظًا، وتوثَّقَت عُرى المودة بينهما في هذه الفترة، بحيث لم يكونا يكادان يفترقان.

ولمَّا انتهت الحرب الأهلية الإسبانية باندحار الجمهوريين ودخول فرانكو مدريد في مارس ١٩٣٩م، عاد همنجواي إلى بلاده، واستقرَّ في منطقةٍ جديدة اكتشف فيها أحسن مناطق الانزلاق على الجليد، وهي منطقة «صان فالي». وهناك كتَب ٢٤ فصلًا من فصول روايةٍ جديدة أعدَّها عن الحرب الأهلية الإسبانية. وكانت رواية «لمن تدق الأجراس» For whom the Bell Tolls أحسن وأشهر رواية كتبها همنجواي باعتراف النقاد. وقد قال عنها مؤلفها: «إنني لم أضَع فيها الحرب الأهلية فحسب، بل وضعتُ فيها كل شيء تعلمته عن إسبانيا طوال ثمانية عشر عامًا.» وأهدى همنجواي الرواية التي ظهرَت في أكتوبر ١٩٤٠م إلى مارتا جلهورن، وكان قد اتفق معها على الزواج بعد أن وافقت بولين على الطلاق بشرط أن تحتفظ بولدَيها منه وبمنزلهما في «كي وست». ولمَّا وافق همنجواي على هذه الشروط، قام بشراء ضيعةٍ له في كوبا بقريةٍ تُدعَى «سان فرانسيسكو دي بولا»، وسمَّى الضيعة «فينكا فيخيا»، أي «الضيعة الخارجية»، وتتكون من منزلَين وبرجٍ للمراقبة تحيط بهم حديقةٌ واسعة بها حوض سباحةٍ وملعبٌ للتنس. وقد جعل من كوبا مقرًّا لقاربه البيلار.

وبعد طلاق همنجواي من بولين بسبعة عشر يومًا، تزوج مارتا، وكان في الثانية والأربعين من عمره، بينما كانت مارتا في الثامنة والعشرين. وطارا بعد الزواج إلى الشرق الأقصى ليُغطِّيا أنباء الحرب اليابانية الصينية لصالح صحيفتَين مختلفتَين. وكانت رحلةً شاقَّةً إلى مناطق القتال. وقضيا أربعة شهور في الصين، لمَس همنجواي فيها مدى الصَّدع الذي حدَث بين شيانج كاي شيك وبين الشيوعيين الصينيين وحذَّر من نتائجه المرتقَبة على مستقبَل الصين. وبعد شهر العسل هذا، الذي استطال إلى أربعة شهور وسط جبهة القتال، عاد العروسان إلى ضيعة الزوج في كوبا، حيث اعتزم همنجواي العزوف عن خوض غِمار الحروب بعد ذلك، رغم أن بلاده كانت قد دخلَتها رسميًّا آنذاك بعد واقعة بيرول هاربور المشهورة.

وكان هذا هو الوقت الذي بدأ همنجواي فيه يُطلِق لحيته التي اشتُهر بها، وكان يزعم أنه اضطُر إلى ذلك من جرَّاء مرضٍ جلديٍّ أصاب وجهه وجعل من حلاقة ذقنه أمرًا عسيرًا.

وبدأت زوجته الجديدة تشعر بالملل، ووجدَت أن مثل هذا الزواج لن يتفق مع طموحها الواسع في التقدُّم في عملها الصحفي، فكان أن طارت بمفردها إلى أوروبا لتغطِّي أنباء الحرب العالمية لصالح مجلة كوليير. وبعد سفَرها بستة أشهرٍ طار همنجواي إلى خطوط القتال في أوروبا ليوافي مجلة كوليير هو الآخر بالتحقيقات الصحفية عن الحرب، ولكنه لم يكن مع زوجته، بل قضى معظم وقته مع مراسلةٍ صحفية تُدعَى «ماري ولش». وقد اشترك همنجواي في القتال فعلًا على الجبهة الفرنسية حين كان الحلفاء يُعِدُّون العُدَّة للغزو النورماندي، وكوَّن فرقةً من الفدائيين ترأَّسهم وكانوا ينادونه بلقب «بابا همنجواي»، وقد شاعت هذه التسمية بعد ذلك بين أصدقائه ومحبيه. وكانت هذه الفرقة هي أول جنود من صفِّ الحلفاء تدخل باريس، وكان أول شيء فعله همنجواي بعد دخوله العاصمة الفرنسية أن حرَّر فندقه الأثير «الريتز»، وعبَّ من خموره المعتَّقة. وقد حُوكِم همنجواي أمام محكمةٍ عسكريةٍ بعد ذلك لتخطِّيه حدود قوانين المراسلين الصحفيين باشتراكه الفعلي في القتال، ولكن لم يتقدَّم أحدٌ للشهادة على تلك الجريمة، فسقطَت عنه، كما مُنِح ميداليةً برونزية تقديرًا لشجاعته.

وبعد الحرب، وفي أكتوبر ١٩٤٥م، حصلَت مارتا جلهورن على الطلاق من همنجواي، لم يعارض في منْحها إيَّاه، وعاد إلى فينكا فيخيا بكوبا مع «ماري ولش» التي كان يدعوها دوما «مس ماري»، وقد تزوجها همنجواي أخيرًا في هافانا في ١٩٤٦م، وكانت مس ماري بهذا رابع زيجةٍ له وأحبَّها إلى قلبه، باعترافه فيما بعد. وقد عملَت زوجته الجديدة على إرضائه كلما سنحَت لها الفرصة لذلك، فكانت تشاركه حُبَّه للصيد والرحلات وشرْب النبيذ، وتهتم بأدويته وأدواته، كما كانت مُدبرة منزلٍ وطاهيةً ماهرة في نفس الوقت … وقضى همنجواي عدة سنوات من الاستقرار في فينكا فيخيا، كتَب خلالها كتابه عن الحرب الذي سمَّاه «عبْر النهر وبين الأشجار»١٤ وقد هاجمه النقاد بعنفٍ على هذه الرواية التي جاءت مختلفةً اختلافًا بيِّنًا عن أسلوب همنجواي المعتاد في كتبه. وقد أثار النقد الجارح الذي كتبه النقاد على هذه الرواية حفيظة همنجواي وشرَع في الإعداد لعملٍ كبير يتحدَّاهم به. وظهر هذا العمل بعد ذلك مما كان قد اختزنه في ذهنه من تجارب حدثَت في الصيد على شاطئ كوبا وغيره. وكانت رواية «العجوز والبحر»،١٥ التي نجحَت على الفور، وقابلها النقاد بترحابٍ عظيم، وقد نالت الرواية جائزة بوليتزر عام ١٩٥٣م. ثم حاز الكاتب جائزة نوبل للآداب عام ١٩٥٤م. وأصبح همنجواي أعظم كاتبٍ أمريكي في زمانه.

ولكن انهماك همنجواي في العمل والكتابة إبَّان هذه السنوات لم يمنعه من القيام بالرحلات التي يحبها، فجال في إيطاليا، وعاد ثانيةً إلى إسبانيا بعد أن سمحت له السلطات بذلك، وشهد مصارعات الثيران مرةً أخرى، وطاف بمسارح شبابه فيها وفي الأماكن التي كتب عنها أحداث روايته «وتشرق الشمس ثانيةً». وحنَّ ثانيةً إلى أفريقيا، فاصطحب مس ماري في رحلة صيد إلى أفريقيا موَّلتها مجلة «لوك». وكانت الرحلة موفَّقةً في قسمها الأول، فطاف همنجواي وماري في أدغال كينيا وتوجَّها مرةً إلى الكونغو. ولكن حدث أن سقطَت بهم الطائرة التي كانت تُقلُّهم فوق شلالات «مورشيون» ونجا من فيها بأعجوبة. وقضوا ليلتهم بين الوحوش الهائمة إلى أن أنقذهم قارب الاستطلاع الذي يجوب هذه المنطقة. وفي هذه الأثناء، طيَّرَت وكالات الأنباء خبر فقدان همنجواي، وصدرَت الصحف وفيها نعي الكاتب الكبير، وهزَّ الواثقون من وجود رغبةٍ خفية في الموت لدى همنجواي رءوسهم في عرفان.

وجاءت طائرةٌ لتُقل آل همنجواي بعد الحادثة إلى «عنتيبي» ولكن سوء الحظ لازمهم، فاصطدمَت بالأرض وشبَّت فيها النيران، وقد سببَت هذه الحادثة إصابات خطيرةً لهمنجواي في الكليتَين والكبد وحروقًا في الرأس والساعدَين والساقَين لازمَته آثارها بقيَّة حياته.

وعاد همنجواي بعد رحلته المشئومة تلك إلى «فينكا فيخيا» مع مس ماري. ووصلَته الأنباء بعدها من «استكهلم» بقرار الأكاديمية السويدية: منْحه جائزة نوبل للآداب لعام ١٩٥٥م؛ لسيطرته القوية على أسلوب فن الرواية، التي تبدَّت أخيرًا في «العجوز والبحر». وقد قَبِل همنجواي الجائزة شاكرًا وإن اعتذَر عن عدم استطاعته الذهاب إلى السويد لحضور حفل استلامها، وأرسل خطابًا ألقاه نيابةً عنه هناك سفير الولايات المتحدة في السويد.

وقد تسلَّم همنجواي مبلغ ٣٦ ألف دولارٍ قيمة الجائزة، ثم تعاقَد مع «هوليوود» على تصوير فيلمٍ عن القصة، وحصل من ذلك على مبلغ ربع مليون دولار، بالإضافة إلى ثلُث الأرباح عن حقوقه من الفيلم. وكان ذلك هو الفيلم الوحيد الذي اشترك همنجواي في إعداده، واختار كاتب السيناريو له وممثله أيضًا. وفي عامَي ١٩٥٩م و١٩٦٠م طاف همنجواي مرةً أخرى بإسبانيا إبَّان مواسم مصارعة الثيران في رَكب الماتادور المشهور «أنطونيو أوردونييت»، وشهِد المباريات المميتة التي كان يعقدها مع المصارع «لويس ميجيل» في منافسةٍ دامية. وقد كتب همنجواي بعدها تحقيقًا صحفيًّا عن هذه المباريات والمنافسات لمجلة «لايف»، نُشِر تحت عنوان «الصيف الخطير».١٦ وقد لاحقَته أسطورة الموت مرةً أخرى وهو في «مالقة» بإسبانيا؛ إذ صدرَت إشاعةٌ قوية تُفيد وفاته هناك. وكان كل ما فعله همنجواي حين سمع تلك الإشاعة أن قال وهو يرفع كأسه ويشرب: «إن المرء يحيا في إسبانيا ولا يموت فيها.»

وحين عاد همنجواي في أواخر عام ١٩٦٠م إلى منزله بكيتشوم في ولاية «آيداهو»، بدأ الأصدقاء المقربون منه يلاحظون عليه تغيُّرًا كبيرًا. كان المرح والانطلاق قد زايَلاه، وبدأت تهاجمه الشكوك والريب في استمراره ككاتب، وفي مستقبَله في مهنته، كما بدأ يجد صعوبةً وثقلًا في الكتابة. وسِرُّ ذلك أنه كان قد تعوَّد أن يعيش على مستوًى معيَّن من القوة والنشاط والإقدام في كل شيء، في ممارسة الرياضة، وفي الصيد، وفي الكتابة وفي الشراب، وفي الرحلات، وفي كل أوجُه الحياة، فلمَّا بدأت هذه القوة تضعف فيه، فقدَ الثقة في نفسه وفي فنِّه.

وخانته أعصابه أخيرًا، واختلطَت عليه الحقيقة والوهم، فبدأ يتصوَّر أن السلطات تُطارده بتهمة إغواء القُصَّر، وأن البوليس الفيدرالي يتتبعه ليُثبت عليه الجريمة، كما كان يراقب البنك الذي يُودِع فيه أمواله، وينتابه القلق حين يرى الموظفين يعملون هناك ليلًا؛ لإيقانه أنهم مدفوعون من قِبَل البوليس الفيدرالي لمراجعة حساباته لإثبات أنه تهرَّب من دفع الضرائب والقبضِ عليه وزجِّه في السجن لذلك السبب. ولمَّا تفاقمَت حالته وكثُر ترديدُه عزْمَه على أن يقتل نفسه بعد أن توهَّم عجْزه عن الكتابة، لم يستطع المقربون منه أن يتجاهلوا حقيقة ما أصابه، ودفَع الخوف زوجته وأصدقاءه إلى العمل، فأدخلوه مستشفى مايو١٧ تحت اسمٍ مستعارٍ لكي يُعالَج من الإرهاق العصبي. ووُضِع هناك تحت إشرافٍ مستمر، وتلقَّى عدة جلساتٍ من الصدمات الكهربائية، ولكن كل ذلك لم يفِدْه كثيرًا، فبعد أن خرج من العيادة وتفاءل الجميع بتحسُّن حالته، فوجئَت زوجته ماري صباحَ أحد الأيام بطلقةٍ تنفجر في الطابق السفلي، فهرعَت إلى أسفل لتجد همنجواي وقد أطلق النار على رأسه من بندقيته. وقد قالت ماري للصحفيين: إن طلقةً قد خرجَت بطريق الخطأ بينما كان همنجواي ينظف البندقية فقتلَته على الفور. ثم تجلَّت حقيقة ما حدث بعد ذلك في وقائع كتاب «بابا همنجواي» الذي كتبه واحدٌ مِن ألصق أصدقاء همنجواي به، وهو «هوتشنر»، وصف فيه ضمن ما وصفه الأحداث الأخيرة في حياة همنجواي، والمحاولات التي بذلها للانتحار بإطلاق الرصاص على نفسه، وبإلقاء نفسه من الطائرة التي كانت تُقلُّه إلى مستشفى مايو، إلى أن نجحَت محاولته الأخيرة وقضى على نفسه في النهاية.

وهكذا لاقى همنجواي الموت الذي طالما كتب عنه ودارت معظم رواياته وقصصه حوله.

مجموعة القصص القصيرة

تم اختيار المجموعة التي يجدها القارئ بين يديه بحيث تُقدِّم له صورةً كاملةً لفن القصة القصيرة لدى همنجواي. ورغم أن الكاتب قد اشتُهر برواياته، فإن قصصه القصيرة تُقدِّم هي الأخرى نماذج قصصيةً ذات معمارٍ فنيٍّ مُحكَم مما يجعل من معظم تلك القصص أعمالًا خالدة ضمن إنتاج الكاتب.

وقد صدرَت قصص همنجواي القصيرة أول ما صدرَت في مجموعاتٍ هي: في زماننا (١٩٢٥م)، رجال بلا نساء (١٩٢٧م)، المنتصر لا يربح شيئًا (١٩٣٣م). كما نشر الكاتب عددًا آخر من قصصه في الصحف والمجلات بخلاف تلك الكتب الثلاثة. وتُقدِّم المجموعة الحالية عدة قصصٍ تُنشَر لأول مرةٍ باللغة العربية.

وكان همنجواي يُحب أن يكتب عن موضوعاتٍ وتجارب مرَّ بها بالفعل؛ نجد ذلك في رواياته كما نجده في قصصه. وضمن مجموعة قصصه القصيرة — التي بلغَت في مُجمَلها حوالي الثمانين — نجد سلسلة قصص «نك آدمز» التي تُصوِّره صبيًّا وشابًّا ورجلًا يتعرض لمواقف مختلفة تزيد من تجاربه بالحياة والطبيعة الإنسانية، وهو يظهر هنا في قصص: المخيم الهندي، الطبيب وزوجة الطبيب، قصة أفريقية، عشرة هنود.

وكتب همنجواي عن إسبانيا، البلد الذي أحبَّه وعشِق رياضته الشهيرة وهي مُصارَعة الثيران، وتعاطَف مع أهله إلى درجة أنه شارك في الحرب الأهلية التي نشبَت هناك لمدة أعوامٍ ثلاثة. وتُقدِّم المجموعة الحالية إسبانيا في قصص: الفراشة والدبابة، حاضرة الدنيا، مكانٌ نظيفٌ حسن الإضاءة.

أما عن القصص الأفريقية فنُقدِّم منها هنا: ثلوج كليمنجارو، وقصة أفريقية.

والقصة القصيرة عند همنجواي تتصف بالتركيز الشديد، وتُشرك القارئ في مطالعة تجربةٍ إنسانيةٍ. وأسلوب الكاتب هنا يمثل رأيه في فكرة جبل الثلج العائم الذي لا يظهر للعيان منه سوى ثُمن حجمه فقط، بينما بقيَّته مختفية تحت الماء. فالرواية عنده يمكن أن تُظهِر من ذلك الجبل الثلجي الكثير مما هو مختف، فطبيعتها تسمح بوجود التفاصيل الضرورية التي تكتمل معها الصورة الشاملة التي تقدمها الرواية. أما القصة القصيرة فهي تُقدِّم الجزء الظاهر فحسب، وتترك للقارئ تشرُّب البقية وفقًا لإحساسه ودرجة تجاربه في الحياة.

والقصة القصيرة على ذلك الوجه قد سمحَت لهمنجواي — أكثر مما سمحَت له الرواية — أن يتجلَّى في أسلوبه اللغوي المشهور القائم على التركيز والتخلِّي عن المحسِّنات اللفظية والصفات التي لا تخدم الحدث أو الشخصيات، مما سمَّاه النقاد بأسلوب الاقتصاد في التعبير. وهو أيضًا يستخدم الحوار على نحوٍ خاصٍّ به، يتصف بالإيجاز، والتكرار المقصود، واستخدام المفردات الشائعة المعروفة لدى من يتحدث من شخصيات القصة. وينجح كل ذلك في نقل اللمحات الإنسانية التي يحاول المؤلف أن ينقلها إلى القارئ كما شعر هو بها وهو يكتب القصة (انظر قصة قطة تحت المطر). وهو ينجح في ذلك إلى درجةٍ جعلَته واحدًا من كبار مؤلفي القصة القصيرة، مثلما هو من كبار مؤلفي الرواية.

ماهر البطوطي
١  Understatement.
٢  Three short stories and ten Poems.
٣  In our Time.
٤  The sun also rises.
٥  The torrents of spring.
٦  Men without women.
٧  A farewell to arms.
٨  The killers.
٩  To day is Friday.
١٠  The two Indians.
١١  Death is the Afternoon.
١٢  Have and Have not.
١٣  The fifth column.
١٤  Across the river and into the trees.
١٥  The Old man and the Sea.
١٦  The dangerous summer.
١٧  Mayo clinic.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤