الفراشة والدبابة

في تلك الليلة كنت أسيرُ في طريق العودة إلى مكتب الرقابة إلى فندق «فلوريدا» — وهو بمثابة منزلي — تحت المطر. وفي منتصف الطريق شعرتُ بالضيق من البلل وتوقفتُ في بار «تشيكوتي» من أجل جرعة شرابٍ عابرة. كان هذا هو ثاني شتاءٍ تتعرض فيه مدريد المُحاصَرة للقذائف الجوية، وهناك نقْص في كل شيء، بما في ذلك التبغ وصبْر الناس، ويشعر المرء بالجوع دائمًا، ويمكن له أن يضيق فجأةً وبلا سببٍ من الأشياء التي لا يملك أي شيء إزاءها مثل الطقس. كان يتعيَّن عليَّ أن أذهب إلى البيت، كان على مبعدة خمسة شوارع فحسب، ولكني حين رأيت باب تشيكوتي جال بخاطري أن أتناول شرابًا سريعًا ثم أسير تلك الشوارع الخمسة عبر «الجران فيا» فوق الطين ومخلَّفات الطُّرق التي حطمَتها الغارات الجوية.

كان المكان مزدحمًا، ولا يمكنك أن تدنو من البار، والموائد مشغولةٌ، والجو يعبق بدخان السجائر، والغناء، والرجال في البزة العسكرية، ورائحة المعاطف الجلدية المبلَّلة. وكانوا يتناولون الأشربة عبر جمهرةٍ بلغَت ثلاثة صفوفٍ أمام البار.

وعثر نادلٌ أعرفه على مقعدٍ خالٍ وجذبه إلى مائدةٍ جلستُ إليها مع ألمانيٍّ رفيع أبيض الوجه بارز الحنجرة، أعرفه لأنه يعمل في الرقابة، وشخصَين آخرَين لا أعرفهما. وكانت المائدة في وسط القاعة، على يمينك حين تدخل.

ولم يكن بوسعك أن تسمع نفسك حين تتكلم من صخب الغناء، وطلبتُ كأسًا من «الجين» ممزوجًا بشراب «الأنجوستورا» كيما أُخفف من إحساسي بالبلل من المطر. كان المكان مكتظًّا حقًّا، وجوٌّ من المرح البالغ يلف الجميع، ربما مرحٌ زائد عن الحد بسبب المشروب الكحولي القطلوني الذي تمَّ صُنعه حديثًا، والذي كان معظمهم يحتسونه. ولطمني اثنان من الناس لا أعرفهما على ظهري، وحين قالت الفتاة الجالسة إلى مائدتنا شيئًا لي لم أسمع ما تقول، فأجبت: بالطبع. والآن حين توقفتُ عن التطلُّع من حولي وبدأتُ أتطلع إلى مائدتنا وجدتُ أن الفتاة مريعة المنظر، مريعة المنظر حقًّا. واتضح حين أتى النادل أن ما سألَتني إيَّاه هو أنها طلبَت مشروبًا، ولم يكن يبدو على الرجل الذي معها أي نشاطٍ أو قوة، ولكنها هي التي كانت قويةً بالقدر الذي يكفيهما معًا. كان لها ذلك الوجه القوي نصف الكلاسيكي، يُشبه في تكوينه وجه مروِّضي الأسود؛ وبدا على الولد الذي معها أنه كان يتعيَّن عليه أن يرتدي ربطة عنقٍ مدرسيةً قديمة. لكنه لم يكن يرتدي رباط عنق، كان يرتدي معطفًا جلديًّا مثله مثل بقيتنا. غير أن معطفه لم يكن مُبلَّلًا؛ لأنهما كانا في البار قبل أن يهطل المطر. وكانت هي ترتدي معطفًا جلديًّا أيضًا، وكان يليق بمواصفات وجهها.

وعند ذاك تمنيتُ ألَّا أكون قد توقفتُ عند تشيكوتي وإنما توجهتُ مباشرةً إلى البيت حيث بإمكاني أن أُغيِّر ملابسي وأُجفِّف نفسي، وأتناول شرابًا وأنا مستريحٌ في فراشي رافعًا قدماي عاليًا. وكنت ضجِرًا من النظر إلى هذين الشخصَين الحديثي السن. الحياة قصيرةٌ، والنسوة القبيحات أطول عُمرًا وها هن جالسات إلى الموائد. وقررتُ أنه برغم أنني كاتبٌ ومن المفروض أن أشعر بفضولٍ لا يُشبَع عن كل أنواع الناس، فإنني لم أكن أهتم بمعرفة ما إذا كان هذان الاثنان متزوجَين أم لا، أو ما هو رأي أحدهما في الآخر، أو ما هي آراؤهما السياسية، أو ما إذا كان لديه بعض المال، أو إذا ما كان لديها بعض المال، أو أي شيء عنهما. وخلصتُ إلى أنهما لا بد يعملان في الإذاعة. كل مرةٍ ترى مدنيين في مدريد ذوي مظاهر غريبةٍ حقًّا فهم يعملون في الإذاعة. ولذلك حتى أقول شيئًا رفعتُ صوتي كي يعلو على الضجيج وسألتُ: أتعملان في الإذاعة؟

قالت الفتاة: أجل.

إذن فالأمر كذلك. يعملان في الإذاعة.

وقلت للألماني: كيف حالك يا رفيق؟

– الحمد لله. وأنت؟

قلت: يغطيني البلل.

وضحك مائلًا برأسه جانبًا. سأل: أمعك سيجارة؟

وناولتُه علبة سجائري التي لم يكن عندي إلا واحدة غيرها، وتناوَل منها سيجارتين. وأخذَت الفتاة القوية اثنتين والشاب الذي كان يمكن أن يليق به رباط العنق القديم واحدةً.

وصِحتُ به: خُذ أخرى.

وردَّ: كلَّا شكرًا.

وأخذها الألماني بدلًا منه وتساءل باسمًا: هل تأذن لي؟

قلت: بالطبع.

كنت في الحقيقة لا أُرحب بأخذه السيجارة وكان يعرف ذلك. ولكنه كان في أشدِّ الحاجة للسجائر لدرجة لم يُبالِ معها بشيء. وكان الغناء قد توقَّف برهةً، أو كانت هناك استراحة كما يحدث في وقت العواصف أحيانًا. وأصبح بوسعنا أن نسمع ما نقول.

سألتني الفتاة القوية: هل أنت هنا من زمن طويل؟ ونطقَت الزاي ثاءً كما في كلمة ثمن.

قلت: إني أرحل وأعود.

قال الألماني: يجب أن يكون حديثنا جادًّا. أريد أن أُجري حديثًا معك. متى يمكننا أن نتحدث؟

قلت: سوف أتصل بك.

كان هذا الألماني من نوعٍ غريب جدًّا بالفعل، ولم يكن أحدٌ من الألمان الحميدين يحبه. عاش تحت وهم أنه يمكنه أن يصبح عازف بيانو، ولكن لو أنه بقي بعيدًا عن أي بيانو لَمَا اكترث ما دام يشرب الكحوليات أو أُتيحَت له فرصة النميمة، ولم يتمكن أحد من إبعاده عن أيٍّ من هذين الشيئين بعد.

كانت النميمة أفضل ما يفعله، وكان دائمًا يعرف شيئًا جديدًا مُشينًا للغاية عن أي شخصٍ يمكن أن تذكره في مدريد وبلنسية وبرشلونة وغيرها من المراكز السياسية.

ثم بدأ الغناء ثانيةً، ولا يمكن لك أن تُمارس النميمة ممارسة جيدة بصوتٍ عال، ولذلك بدا ذلك الأصيل في «تشيكوتي» مملًّا وقررتُ أن أرحل حالما أحصُل على شرابٍ لنفسي.

وعند ذلك بدأ الأمر. دخل البار رجلٌ مدنيٌّ في حلةٍ بُنية اللون وقميصٍ أبيض وربطة عنق سوداء، شَعره ممشَّط إلى الخلف مُبينًا جبهةً عريضة، وأخذ يتنقل من مائدة إلى أخرى يُهرِّج مع الحاضرين، وأطلَق وابلًا من الماء على نادلٍ من رشَّاشة ماءٍ يحملها معه. وضحك الجميع ما عدا النادل الذي كان يحمل وقتها صينيةً مليئة بأقداح الشراب. كان حانقًا.

قال النادل: No Hay Derecho. ومعناها: ليس لك حقٌّ أن تفعل هذا، وهي أبسط وأقوى عبارة احتجاجٍ في إسبانيا. أما رجل رشاشة الماء مبتهجًا بالنجاح الذي حقَّقه، ولا يبدو عليه أي اعتبارٍ لواقع أن البلد في سَنتها الثانية من الحرب، وأنه في مدينةٍ مفروض عليها الحصار حيث كل شخصٍ فيها يشعر بالتوتر، وأنه كان واحدًا فقط من أربعة أشخاص بالملابس المدنية في المحل، فقد أطلَق وابلًا آخر من الماء على نادلٍ آخر.

ونظرتُ حولي عبثًا عن مكانٍ أحتمي به. وكان النادل الثاني ساخطًا أيضًا، وبخَّ رجل رشاشة الماء عليه مرتين بعد ذلك في خفَّةٍ ومرَح. كان بعض الحاضرين يعتقدون أن الأمر باعثٌ على الضحك، بمن فيهم الفتاة القوية. ولكن النادل وقَف وهو يهزُّ رأسه. كانت شفتاه ترتعشان. كان رجلًا هرِمًا عمل في تشيكوتي لمدة عشرة أعوام حسب معلوماتي.

قال في وقارٍ: No Hay Derecho. وفي تلك المرة لم يكن الأمر احتجاجًا. كان اتهامًا. ورأيت ثلاثة رجالٍ في بزتهم العسكرية ينهضون من مائدتهم متجهين نحو رجل الرشاشة المائية، وبعدها كان الأربعة يخرجون من الباب الدوَّار بسرعة، وسُمِع صوت لكمةٍ حين ضرَب أحدهم رجل الرشاشة على فمه. والتقط آخر الرشاشة المائية ورماها له خارج الباب.

وعاد الرجال الثلاثة تبدو عليهم علائم الجِد والصرامة وأنهم قاموا بواجبهم. ثم دار الباب ودخل رجل الرشاشة المائية. كان شعره مُسدَلًا فوق عينيه، وتغطي وجهه دماء، وربطة عنقه ملتوية، وقميصه ممزَّق. كان يحمل رشاشة الماء ثانيةً، وحين اندفع إلى القاعة جاحظ العينين ممتقع الوجه، أطلق رشَّةً من الماء متحدِّيةً عامة بلا هدف، موجِّهًا رشاشته تجاه كلِّ مَن في القاعة.

ورأيتُ واحدًا من الرجال الثلاثة ينهض متجهًا نحوه، ورأيت وجه ذلك الرجل. كان معه عددٌ أكبر من الرجال الآن، وحشروا رجل رشاشة الماء بين مائدتين في نهاية القاعة إلى اليسار حين تدلف إلى المحل، بينما رجل الرشاشة المائية يجاهدهم الآن بقوة، وحين انطلقَت الرصاصة أمسكتُ بذراع الفتاة القوية وجذبتُها نحو باب المطبخ.

وكان باب المطبخ مُغلَقًا، وحين حاولت فتحه بكتفي لم يستجب.

قلت: «اختبئي هنا خلف زاوية البار.» وانحنَت هناك. قلت وأنا أدفعها إلى أسفل: «ارقدي.» كانت ثائرةً.

كان كل رجلٍ في القاعة قد أخرج مسدسه ما عدا الألماني — الذي كمن خلف المائدة — والولد الذي يشبه تلاميذ المدارس العمومية، والذي وقف في ركنٍ إلى جوار الحائط؛ وكانت ثلاث فتيات ذوات شعرٍ شديد الصفرة بينما هو أسود عند جذوره، يقفْن على أطراف أصابعهن فوق منصةٍ خشبيةٍ على طول الحائط كيما يشاهدْن ما يحدث وهن يصرخْن باستمرار.

قالت الفتاة القوية: إني غير خائفةٍ. هذا سخفٌ.

قلت: إنك لا تُحبِّين أن تُصابي بطلقة رصاصٍ في شجار بالمقهى. لو أن لهذا الرجل ذي رشاشة الماء أصدقاء هنا فستصبح العاقبة وخِيمة.

ولكن كان من الواضح أنه لم يكن له أصدقاء؛ لأن الناس بدأت تُعيد مسدساتها إلى مكانها. وعمل أحدهم على إسكات الصارخات الشقراوات، وابتعَد كل شخصٍ كان قد دنا من رجل رشاشة الماء عنه إذ هو مُسجًّى بهدوء على ظهره فوق الأرض.

وصاح أحدهم من عند الباب: لا أحد يُغادر المكان حتى تحضر الشرطة.

وكان رجلان من الشرطة يحملان البنادق قد حضرا من دورية الطريق ووقفا عند الباب. وعند ذلك الإعلان رأيت ستة رجالٍ يصطفُّون كأنهم أعضاء فريق الفوتبول وهم يدلفون إلى الملعب، وخرجوا من الباب. كان ثلاثة منهم هم الذين ألقَوا رجل رشاشة الماء إلى الخارج. وكان واحدٌ آخر هو من أطلَق عليه الرصاص. ساروا خارجًا عبر رجُلي الشرطة ذوَي البنادق كأنهم لاعبون يمررون الكرة فيما بينهم. وبعد أن خرجوا، وضع واحدٌ من رجُلي الشرطة بندقيته عبر الباب وصاح: لا أحد يمكنه الخروج. لا أحد على الإطلاق.

– ولماذا خرج أولئك الرجال؟ لماذا تُبقوننا ما دام البعض قد خرج؟!

– إنهم فنيُّو محركات الطائرات وعليهم العودة إلى المطار الحربي.

– ولكن إذا خرج أي شخصٍ فمن الحماقة الإبقاء على الآخرين.

– يجب على الجميع انتظار فريق الأمن. يجب اتباع القانون والنظام.

– ولكن، ألا ترى أنه إذا غادر أي شخصٍ المكان فمن الحماقة إبقاء الآخرين؟

– لا يمكن لأحدٍ المغادَرة. على الجميع أن ينتظروا.

قلت للفتاة القوية: إنه أمرٌ مضحك.

– كلا. إنه أمرٌ مريع.

كنا وقوفًا الآن وكانت تتطلع بسخطٍ حيث كان رجل رشاشة الماء راقدًا. كانت ذراعاه مبسوطتَين على آخرهما وإحدى ساقيه مثنية.

– سأذهب لأساعد هذا الرجل المسكين الجريح. لماذا لم يساعده أحد أو يفعل شيئًا من أجله؟

قلت: دعيه. الأفضل ألَّا تتدخلي في ذلك الأمر.

– ولكن هذا غير إنسانيٍّ. لقد تدربتُ على عمل الممرضات وسوف أُقدِّم له المساعدة.

قلت: دعيه. لا تقتربي منه.

– لماذا؟

كانت شديدة الاضطراب وفي حالةٍ تقترب من الهستيريا.

قلت: لأنه ميتٌ.

وحين جاءت الشرطة احتجزَت كل شخصٍ هناك لمدة ثلاث ساعات. وبدأَت بأن اشتمَّت فوهات كل المسدسات، فبهذه الطريقة يمكن أن يعثروا على المسدس الذي تم إطلاقه حديثًا. وبعد ما يقرب من أربعين مسدسًا، يبدو أنهم ضجروا من العملية، وعلى كل حالٍ كان كل ما يمكن أن يشمُّوه هو رائحة المعاطف الجلدية المبلَّلة. ثم جلسوا إلى مائدةٍ خلف المرحوم حامل رشاشة الماء مباشَرةً، وهو يرقد على الأرض كأنه رسم كاريكاتوري من الشمع الرمادي، بيدين شمعيتين ووجه شمعيٍّ رمادي، وجعلوا يفحصون أوراق الحاضرين.

ومع تمزُّق قميص رجل رشاشة الماء يمكنك أن ترى أنه لا يرتدي فانلةً داخلية، وكان حذاؤه متهرئًا. كان يبدو ضئيل الحجم مُثيرًا للشفقة؛ إذ هو ممددٌ على الأرض. ويجب عليك أن تخطو فوقه كي تذهب إلى المائدة التي جلس إليها اثنان من الشرطة في ملابس مدنية يفحصان أوراق هوية كل شخصٍ. وفقدَ الزوج أوراقه وعثر عليها مراتٍ عديدة من فرط عصبيته. كان لديه تصريح مرور، ولكنه نسي في أي جيبٍ وضعه، واستمر يبحث عنه وهو ينضح عرقًا إلى أن عثر عليه. ثم وضعه في جيبٍ آخر وطفِق يبحث عنه مرةً أخرى.\ وكان ينضح بالعرق الغزير وهو يقوم بذلك؛ مما جعل شعره يتجعَّد ووجهه يحمرُّ. وكان يبدو الآن كما لو كان يجب أن يرتدي، لا ربطة عنقٍ مدرسية قديمة فحسب، بل وأيضًا إحدى تلك القبعات الصغيرة التي يرتديها صِبية المدارس في إنجلترا. أنت قد سمعت كيف تزيد الأحداث الناسَ هرمًا. حسنًا لقد جعله إطلاق النار هذا يبدو أصغر من سِنِّه بعشر سنوات.

وبينما كنا ننتظر، قلتُ للفتاة القوية إنني أعتقد أن الأمر كله يصلح أن يكون قصةً جيدة وإنني سوف أكتبها يومًا ما، فالطريقة التي انتظم بها الرجال الستة في صفٍّ واحد وخرجوا سريعًا من ذلك الباب شيء رائع. وصدمها ما قلت، فأجابت بأنه لا يمكنني أن أكتب القصة؛ لأنها ستكون ضارةً بقضية الجمهورية الإسبانية. فقلت إنني قضيتُ وقتًا طويلًا في إسبانيا، وإنهم كانوا يقومون بالكثير من إطلاق النار قديمًا فيما حول مدينة بلنسية أيام حكم الملكية، وإنه قبل الجمهورية بمئات السنين كان الناس يقطعون أجساد بعضهم البعض بسكاكين كبيرة تُدعَى «نافاخاس» في إقليم الأندلس، وإنني إذا شاهدتُ إطلاق نارٍ فكاهيَّا في بار تشيكوتي خلال الحرب فبوسعي أن أكتب عنه كما لو أنه حدث في نيويورك أو شيكاغو أو كي وست أو مرسيليا، فهو لا علاقة له بالسياسة على الإطلاق. قالت إنه يجب عليَّ ألا أفعل ذلك. وربما يقول كثير من الناس الآخرين مثل قولها أيضًا. ومع ذلك، كان الألماني يعتقد فيما يبدو أنها قصةٌ جيدة، وأعطيته آخر سيجارة من نوع «الجمل» كانت معي. حسنًا، فعلى كل حال، أخيرًا وبعد حوالي ثلاث ساعات قالت الشرطة إن بوسعنا الخروج.

وقد شعروا بالقلق من أجلي في فندق فلوريدا؛ لأنه في تلك الأيام، مع الغارات، إذا توجهتَ عائدًا إلى بيتك على قدميك ولم تصِل بعد موعد إغلاق الحانات في السابعة والنصف مساءً يشعر الناس بالقلق. وكنت فرِحًا بالعودة، وحكيتُ القصة ونحن نطهو طعام العشاء على موقدٍ كهربائي، ولاقت نجاحًا كبيرًا.

حسنًا. كان المطر قد توقَّف بالليل، وجاء الغد يوم شتاءٍ مبكر، باردًا وساطعًا وجميلًا؛ وفي الساعة الثانية عشرة وخمس وأربعين دقيقة دفعتُ الباب الدوَّار في تشيكوتي من أجل قليلٍ من «الجين» بالمياه المعدنية قبل الغداء. كان هناك عددٌ قليل جدًّا من الناس في تلك الساعة، وجاء لمائدتي نادلان ومدير المحل. كانوا جميعًا يبتسمون.

سألت: هل قبضوا على القاتل؟

قال المدير: لا تُلقي نكاتًا في هذا الوقت المبكر. هل رأيته يُقتَل؟

قلت له: أجل.

قال: «وأنا أيضًا، كنت هناك حين حدث ذلك.» وأشار إلى مائدةٍ في أحد الأركان .. «لقد وضع المسدس على صدر الرجل مباشَرةً حين أطلَق النار.»

– إلى متى احتجزوا الناس هنا؟

– أوه. بعد الثانية من هذا الصباح.

قال نادل: «لم يجيئوا من أجل «اللحم».» مستخدمًا الكلمة الإسبانية العامية التي تعني الجثة، وهي نفس الكلمة المكتوبة في قائمة الطعام لتشير إلى شرائح اللحم البارد .. «إلا في الحادية عشرة هذا الصباح فحسب.»

قال المدير: ولكنك لم تعرف الأمر بعد.

قال نادل: كلا، إنه لا يعرف.

قال النادل الآخر: إنه شيءٌ غريبٌ للغاية.

قال المدير: ومحزنٌ أيضًا. وهزَّ رأسه.

قال النادل: أجل. محزنٌ وغريب. محزنٌ جدًّا.

– أخبرني.

قال المدير: إنه شيءٌ غريبٌ جدًّا.

– أخبرني. هيا، أخبرني.

وانحنى المدير فوق المائدة في حذرٍ شديد.

قال: أتعرف .. كان يضع في رشاشته ماء الكولونيا. يا للرجل المسكين.

قال النادل: لم يكن الأمر مزحةً خاليةً من الذوق، أترى؟

قال المدير: كان الأمر في الواقع مجرد إشاعة المرح. لم يكن لأحدٍ أن يشعر بالغضب. يا للرجل المسكين.

قلت: فهمت. كان يريد تسلية الجميع فحسب.

قال المدير: أجل. كان الأمر في الواقع مجرد سوء تفاهمٍ مؤسف.

– وماذا عن رشاشة الماء؟

أخذتها الشرطة. لقد أرسلوها إلى أسرته.

قلت: أتصوَّر أنهم سيُسَرُّون بالحصول عليها.

قال المدير: أجل. بالطبع. فرشاشة الماء نافعةٌ دائمًا.

– ومن كان هو؟

– صانع خزانات خشبية.

– متزوج؟

– أجل، كانت زوجته هنا مع الشرطة هذا الصباح.

– وماذا قالت؟

– ارتمت إلى جواره وصاحت: بدرو. ماذا فعلوا بك يا بدرو؟ من فعل بك هذا يا بدرو؟ أوه، بدرو.

وقال النادل: ثم اضطُرَّت الشرطة إلى إبعادها؛ لأنها لم تستطع السيطرة على نفسها.

قال المدير: يبدو أنه كان يُعاني مرضًا في صدره. لقد حارب في الأيام الأولى للحركة. قالوا إنه قد حارب في الجبال، ولكنه كان من ضعف الصدر بحيث إنه لم يتمكن من الاستمرار.

وقلتُ مُرجِّحًا: وفي أصيل أمس توجه إلى وسط المدينة كي يُشيع المرح في النفوس.

قال المدير: كلا. أترى، إنه لأمرٌ شديد الغرابة. كل شيءٍ غريبٌ جدًّا. علمتُ هذا من الشرطة التي تتميز بكفاءةٍ عاليةٍ إذا أُتيح لها الوقت المناسب. لقد استجوبوا رفاقه في المحل الذي يعمل به. وقد عرفوا المحل من بطاقة عضويته النقابية التي كانت في جيبه. وقد اشترى رشاشة الماء ومياه الكولونيا بالأمس لاستخدامهما كمزحة يقوم بها في أحد الأفراح. وقد أعلن عن نيته تلك. واشتراهما من محلٍّ عبر الشارع. هناك بطاقةٌ على زجاجة الكولونيا بها العنوان. كانت الزجاجة في دورة مياه البار. وهناك كان يملأ الرشاشة بماء الكولونيا. ولا بد أنه قد دخل هنا عندما بدأ المطر يهطل.

قال نادل: إنِّي أتذكره حين دخل.

– وفي هذا الجو المرِح، ومع الغناء، انتابه المرح هو أيضًا.

قلت: كان مرِحًا زيادةً عن اللزوم. كان كأنما يطفو في المكان.

وتمسَّك المدير بالمنطق الإسباني الذي لا يلين.

قال: إن ذلك هو المرح الذي ينتج عن الشراب مع ضَعف الصدر.

قلت: إني لا أحب هذه الحكاية على الإطلاق.

قال المدير: اسمع. إنها شديدة الغرابة. إن مرحه قد اصطدم بجديَّة الحرب مثل الفراشة.

قلت: أوه، تمامًا مثل فراشة. مثل فراشة.

قال المدير: إني لا أمزح. أترى؟ مثل فراشة تلتقي بدبابة.

وقد أفعمه ذلك بالسرور. كان يخطو داخل الميتافيزيقا الإسبانية الحقيقية.

قال: خُذْ شرابًا على حساب المحل. يجب عليك أن تكتب قصةً عن ذلك.

وتذكرت رجل رشاشة الماء بيديه الشمعيتين الرماديتين ووجهه الشمعي الرمادي، وذراعاه مبسوطتان على اتساعهما وساقه مثنية وكان يبدو أشبه بالفراشة شيئًا ما. ليس كثيرًا. بيد أنه لم يكن يبدو إنسانًا أيضًا. كان يُذكِّرني أكثر بعصفورٍ ميت.

قلت: سآخذ كوبًا من الجين مع مياه الصودا شويبس.

قال المدير: يجب أن تكتب قصةً عن هذا الموضوع. هاك، هاك الفرصة.

قلت: الفرصة. انظر. قالت لي فتاةٌ إنجليزية ليلة أمس: إنني يجب ألا أكتب عنه. وهو سيكون شيئًا سيِّئًا جدًّا للقضية.

قال المدير: يا للهراء. إنه شيءٌ مشوقٌ ومهم، المرح الذي أُسيء فهمه حين يتقابل مع الجدية المميتة الموجودة هنا دائمًا. في رأيي أنه من أغرب الأشياء التي رأيتها من زمن وأكثرها تشويقًا. يجب أن تكتبه.

قلت: وهو كذلك. بالتأكيد. أعنده أولاد؟

قال: كلَّا. سألتُ الشرطة، ولكن يجب أن تكتبه وأن تسمِّيه الفراشة والدبابة.

قلت: وهو كذلك بالتأكيد. ولكني لا أحب العنوان كثيرًا.

قال المدير: العنوان جميلٌ. إنه أدبٌ صِرف.

قلت: وهو كذلك. بالتأكيد. سأُسمِّيه كذلك. الفراشة والدبابة.

وجلستُ هناك في ذلك الصباح المشرق البهيج، والمكان يعبق بالنظافة والهواء المُتجدِّد والكنس، والمدير الذي كان صديقًا قديمًا لي ويغمره السرور الآن بالأدب الذي نصنعه سويًّا. وأخذتُ جرعةً من الجين وماء الصودا، ونظرتُ عبر النافذة تحيط بها أكياس الرمل. ومرَّت بخاطري صورة الزوجة راكعة هناك تقول: بدرو .. بدرو .. من فعل ذلك بك يا بدرو؟ ومرَّ بخاطري أن الشرطة لن يمكنها أبدًا أن تخبرها حتى لو كان لديها اسم الرجل الذي ضغط على الزناد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤