الفصل السادس عشر

مُعجم المصْطَلحَات الحراجيَّة

تقدم في الكلام على مشكلة المعجمات العربية الحديثة أن المعجمات العامة لا تتوسع في جمع ألفاظ الحضارة ومصطلحات العلم والصناعة، ولا نرى أن ذلك يعيبها أو أنه نقص يتيسر استدراكه: «لأن النظام الذي جرى عليه واضعو المعجمات الحديثة باللغات الأوروبية يخصص لكل علم أو صناعة معجمًا مستقلًّا لا يتعرض لغير مصطلحاتها وألفاظها، وذلك بعد أن بلغت هذه المصطلحات والألفاظ عددًا يكفي لتأليف معجم خاص بكل منها تزيد صفحاته على المئات ولا تمس الحاجة إليه عند البحث عن الكلمات اللغوية في معجماتها العامة، وبخاصة بعدما توفر أناس منا على وضع المعجمات المستقلة لبعض العلوم والصناعات، ولا يزال المدد الوافر يتوالى على هذه المعجمات المستقلة لاستمرار العمل في تدريس العلوم باللغة العربية والاستغناء شيئًا فشيئًا عن مصادرها الأوروبية.»

ومن هذا العدد المبارك الذي وصل إلينا بعد ظهور المقال السابق في «قافلة الزيت» معجم العالم المجتهد الأمير مصطفى الشهابي الذي أسماه «معجم المصطلحات الحراجية»، وأورد فيه هذه المصطلحات بالإنكليزية والفرنسية والعربية.

وليس هذا المعجم — في الواقع — بالجديد بالنسبة إلى العالم الباحث، مؤلفه القدير، سواء في الكثير من مفرداته أو في الطريقة العلمية التي يتوخاها عند نقل المصطلحات أو تعريبها أو وضعها، بما هو معروف عنه من سعة المعرفة بعلمه، وفرط الغيرة على لغته، وحسن التصرف في أدائه لعباراته، وقد اطلعنا على هذه الطريقة في معجمه السابق للألفاظ الزراعية بالفرنسية والعربية، ووقفنا على شيء من تفصيلاتها التي يعرضها للمناقشة في جلسات المجمع اللغوي، وهو علم من أعلامه النابهين الذين يمحضون له أكبر العون في علم النبات خاصة، وفي غيره من العلوم على الإجمال.

ولكن الجديد في هذه المجموعة النفيسة إعدادها في قالب المعجمات التي يتداولها القراء العلميون، وهم في هذا الزمن غير قليلين بين أبناء البلاد العربية، وقد سماه معجمًا للمصطلحات؛ لأنه أفضل ترجمة للكلمة الإنجليزية Vocabulary التي تعني الاصطلاح الخاص لموضوع من الموضوعات أو الاستعمال اللغوي الخاص لكاتب من الكتاب، ولو في الموضوعات العامة، كما يُقال — مثلًا — معجم المصطلحات للشاعر شكسبير أو معجم المصطلحات في دواوين الشاعر براوننج، ولا يُعنَى فيه بالكلمة إلا على حسب معناها الذي ورد في مؤلفاته؛ لأنها قد تخالف معناها العام بغير ذلك الاصطلاح.

ونضرب المثل بكلمة عربية نقصد التمثيل بها لإظهار الفرق بين شرح معنى الكلمة في المعجم العام، وشرح معناها بعينها في كل معجم خاص قد تدخل في عداد مصطلحاته.

فكلمة «الرفع» مثلًا تُذكَر في المعجم العام بمعناها المشهور، ولكنها تُذكَر بين مصطلحات علم النحو بمعناها الذي يتعلق بإعراب الكلمات، وتُذكَر بين مصطلحات علم الآلات في صدد الكلام على الآلات الرافعة، وتُذكَر في باب المراسم للدلالة على درجة من درجات التشريف والتحية، كصاحب الرفعة وصاحب المقام الرفيع، وتُذكَر في علم الحديث للتفرقة بين الأحاديث المرفوعة وغيرها من الأحاديث المرسلة أو المنقطعة، ولا يلزم أن يحتوي المعجم العام جميع هذه المصطلحات إلا إذا أفرط في التوسع على منهج واحد في أمثال هذه الكلمة، وهو جد عسير.

وقد حافظ المؤلف الفاضل على منهج المعجمات الخاصة في معجمه هذا للمصطلحات الحراجية، وزاد فيه كثيرًا على ما جاء من هذه المصطلحات في معجمه السابق للألفاظ الزراعية، وإن لم يخالف طريقته التي اعتمدها في جميع بحوثه الفنية والعلمية؛ لأنها طريقة للتحقيق والتحري لا تحسن مخالفتها بين موضوع وموضوع.

ومن الدقة الفنية المأثورة عن المؤلف أنه سمى معجمه السابق بمعجم الألفاظ الزراعية، وسمى هذا المعجم الأخير بمعجم المصطلحات الحراجية؛ لأن الغالب على الكلمات التي تستخدم علم الحراج أن تكون حدودًا فنية وتعريفات مصطلحًا عليها بين أهلها.

ولا يغلب مثل هذا على كلمات الزراعة؛ لأنها في جملتها ألفاظ متداولة بين العلماء وغير العلماء من الزراعيين وغير الزراعيين، ومثل هذه الدقة في التفرقة بين مواضع الكلمة ظاهر في جميع الكلمات المترجمة أو التعريفات المصطلح عليها.

والمؤلف يعتمد المصطلحات باللغة الإنجليزية، تليها هذه المصطلحات باللغة الفرنسية، ثم يقابلها بالترجمة العربية، محيلًا إلى المصطلحات الأخرى فيما يرتبط معناها بأكثر من مصطلح واحد عند اختلاف الترتيب بالحروف الأجنبية أو العربية، وإنما اعتمد المؤلف ترتيب المصطلحات على حسب الحروف الأجنبية؛ لأنه يترجمها لمن يدرسون العلم الحديث باللغات الأوروبية المشهورة أو لمن يقرءون في كتب ذلك العلم للاطلاع أو الاستفادة ويحبون أن يعرفوا مقابلًا للكلمة الأوروبية باللغة العربية الفصحى، أو باللفظ المولد والدخيل إن لم يُوجَد اللفظ الفصيح.

على أن المؤلف الخبير بمناهج المراجعة لم يفته أن ييسر الأمر على القارئ العربي كل التيسير إذا أردت أن يبدأ البحث بالرجوع إلى الكلمة العربية، فإنه بدأ المعجم بإحصاء المصطلحات العربية التي وردت فيه مرتبة على حسب الحروف الأبجدية، ووضع بإزاء كل مصطلح منها رقم المصطلح كما ورد في الترتيب الأجنبي، فأصبح الكشف عن الكلمة في الأصل أو الترجمة ميسرًا للباحث عنها حيث يشاء.

واختار المؤلف أن يسمي المعجم باسم المصطلحات الحراجية مفضلًا اسم الحراج على اسم الغاب المرادف له في الجملة؛ لأنه لاحظ في ذلك دقة الفارق بين المعنى الاصطلاحي والمعنى اللغوي العام، كما لاحظ العناية بالتراث اللغوي العلمي في مراجع هذا العلم من اللغة العربية، وقال في المقدمة: «… استعملت كلمة حرجة لا غابة أمام كلمة Foret «الفرنسية» وجمعها حراج وأحراج وحرجات وحرج، والأخيرة تأتي للمفرد والجمع … والحرجة والحراج والأحراج هي التي كانت تُستعمَل في كتبنا القديمة، فمنذ زمن الأيوبيين في مصر مثلًا كان الأديب القبطي الكبير ابن مماتي يقول في كتابه النفيس الموسوم بقوانين الدواوين: «الحراج السلطانية» لا الغابات السلطانية، وظل لفظ الحراج يُستعمَل في زمن المماليك وفي قوانين الدولة العثمانية، ثم في قوانين الأقطار العربية التي انفصلت عنها عقب الحرب العالمية الأولى، فلا مجال إذن لترجيح لفظ الغابات عليه، وقد استُعمِلتْ كلمة الغابة تخصيصًا أمام Futoie الفرنسية Foresth الإنجليزية، ثم إن كلمتي حرش وأحراش العاميتين ما لبثتا شائعتين في كثير من الأقطار العربية.»

وليست ملاحظة هذه الاعتبارات في تمصيص الفوارق بين المصطلحات العلمية عملًا ميسرًا لكل مشتغل بالعلوم الزراعية ما لم تسعده على الإحاطة بها معرفة بمراجع التاريخ واللغة تحدد له مواضع التخصيص والتعميم في كل مصطلح، وقد وعى المؤلف من هذه المراجع ما يكفيه للاستقلال بالترجمة والتعريب أو بالوضع في مواضع الحاجة إليه، ولكن أمانته العلمية شاءت له أن يستعين بغير جهوده في هذا الباب كلما تطرق إلى بحث من البحوث عن إحدى الكلمات، فقال: «إن مراجع هذا المعجم هي على الأخص الطبعة الثانية من معجم الألفاظ الزراعية والمصطلحات التي أقرها مجمع اللغة العربية في القاهرة، وهناك ألفاظ جديدة وضعتها وألفاظ راجعت فيها مراجع عديدة يمكن الوثوق بها قليلًا أو كثيرًا، فأثبت أصلح تلك الألفاظ في نظري.»

ولم يتوسع الأستاذ الشهابي في إثبات المصادر أو المراجع أمام المصطلحات الحراجية؛ إذ لا يمكن — كما قال — «في مثل هذا المعجم الصغير ذكر أصول المصطلحات العربية الصحيحة منها والمولدة، وذكر الأسباب التي دعت إلى ترجيح بعضها على بعض، فقد ذكرت ذلك كله في معجم الألفاظ الزراعية.»

أما منهجه في إثبات المصادر أو المراجع أمام الألفاظ الزراعية في معجمها الكبير فحسبنا منها كلمة واحدة نكتفي بها؛ لأننا نعرف مناسبتها ونستدل بها على مبلغ الحرص على إثبات المرجع لأيسر مناسبة.

تلك الكلمة هي كلمة «سهب» بالعربية تقابل كلمة Steppe الفرنسية أو الإنجليزية، فقد جاء في ترجمتها من معجم الألفاظ الزراعية: «الجمع سهوب … الفرنسية من الروسية، تُطلَق على سهول روسية الواسعة المعشبة، والعربية تدل على المستوى من الأرض في سهولة، وذكر لي الأديب المشهور عباس محمود العقاد زميلنا في مجمع مصر أنه استعمل العربية مقابل الأعجمية منذ عشرين سنة، وقد شاع اليوم هذا الاستعمال في الكتب الجغرافية خاصة.»

وقد ألقيت بترجمة هذه الكلمة اقتراحًا عارضًا في إحدى جلسات المجمع، ولم يخطر لي أنها علقت بذهن الأمير أو أنه يذكرها مع المراجع، ولم يذكرها قبله أحد ممن نقلوها في كتب الجغرافية، حين استعمالها لأول مرة في هذا المعنى.

وللمؤلف منهج كهذا المنهج في التعقيب على الألفاظ التي يختار وضعها لمعانيها ويتحرى تسويغ هذا الوضع لأسبابه اللغوية أو العلمية، نكتفي منها كذلك بكلمة واحدة هي كلمة Haras التي اختار ترجمتها بالحريسة من الحراسة أو المفرسة، وقال أمامها: «إنها مؤسسة تُربَّى فيها كرائم الخيل، والمفرسة من فرس على وزن مفعلة، والحريسة لم ترد بهذا المعنى ولكنها في اللسان فعيلة بمعنى مفعولة أي: إن لها من يحرسها ويحفظها وهي الحرائس، فترى أن هناك وجهًا لإقرار الحريسة اصطلاحًا، ويمكن أن يُقال محرِس «بكسر الراء» إذا أريد المكان، وجاء في بعض المعاجم الفرنسية أن الكلمة الفرنسية من فرس العربية، ولكن الثقات من العلماء الفرنسيين يشكون في ذلك كما يشكون في نسبتها إلى مادة حرس العربية.»
ثم أحال المؤلف القارئ إلى معجم «إسكار بلوخ» ولحق معجم «لترة»، وأعطى التحرج كل حقه من نسبة الكلمة إلى اللغة العربية بهذا المعنى، ولكننا لا نستبعد أن تكون الكلمة عربية من أصل آخر هو أصل «التهريش»، وهو مرانة معروفة في تربية كلاب الصيد تتصل بحرائس الخيل، وتقابلها بالإنجليزية كلمة Harras وبالفرنسية كلمة Harrases ويقولون في المعجمات الإنجليزية الكبيرة عند ردها إلى الفرنسية: إنها يغلب أن تكون من كلمة Harer بمعنى إثارة الكلاب للمهارشة.

وتنتقل هذه الجهود في بحوث الترجمة والوضع، أو بحوث المراجعة والموازنة، إلى صفحات المعجم الجديد للمصطلحات الحراجية الذي صدرت طبعته الأولى في منتصف السنة الماضية، بعد عشرين سنة من ظهور الطبعة الأولى لمعجم الألفاظ الزراعية، تقضت كلها في الاستزادة من خبرة العلم ومادة اللغة ومزاولة التجارب العلمية في الحياة الدراسية، وثمرة ذلك كله ظاهرة في صفحات هذا المعجم الحديث الذي يصلح للمقارنة بينه وبين أحسن المعجمات الأوروبية في بابه، وليس له — على ما نعلم — نظير في هذا الباب باللغة العربية.

وليس لنا أن نحكم على المعجم من ناحيته العلمية النباتية، وإن كنا نعرف رجاحة المؤلف الكبير في علمه من متابعة المناقشات التي تجري بينه وبين فطاحل علماء النبات خبراء هذا العلم في لجان مجلس المجمع أو في جلسات مؤتمراته العامة، ولكننا — من الناحية اللغوية — نلمس دلائل الكفاية التي يتطلبها تأليف أمثال هذه المعجمات، وتزداد الحاجة إليها كما ذكرنا في مستهل هذا المقال عامًا بعد عام … وهي كفاية تمت للمؤلف الكبير بالاطلاع والمثابرة على المراجعة في أبواب من الثقافة لا تتصل جميعًا بثقافة فنه، ولا شك أنه اطلاع يسعده الحب والرغبة إلى جانب الفهم والدراية، تلك الرغبة التي استمدها من قدوة أخيه «عارف الشهابي» شهيد القضية العربية الذي قال في إهدائه معجم الألفاظ الزراعية إنه «علمني أن أحب لغتنا الضادية وأن أبذل جهدي في خدمتها.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤