الفصل الثامن عشر

شِعْرِي

الشعر العربي كفؤ لأداء رسالته ما دامت له تلك اللغة الخاصة التي يعبر بها صاحب «الشخصية الفنية» عن معانيه المقصودة، بوحي فطرته، وبواعث وجدانه وإرادته.

ونريد باللغة الخاصة تلك اللغة التي تستقل عن الصيغ المحفوظة، والأساليب المطروقة، والاستعارات المتفق عليها كاتفاق الأحاديث في تحيات المجتمع، وردود الناس عليها.

وتخصيص اللغة بالتعبير عن صاحبها أهم من الجودة في العبارة والسمو في المعنى، فإن المعنى الخاص أحوج إلى القدرة اللغوية من المعنى الرفيع والتعبير الجيد، والطرزي الذي يستطيع أن يسبغ على البنية الخاصة كسوتها التي تلائمها أحوج إلى القدرة ممن يسبغ الكسوة على البنية المثالية في تناسق الهندام واعتدال القوام؛ لأن موافقة البنية المثالية خبرة مشتركة بين جميع أبناء الصناعة، وإنما يحتاج الطرزي إلى كل فنه وابتكاره الكسوة «الخاصة» حين يهيئ لها إتقانها وجودتها، ولا يتقنها كما يتقنها صانع مجيد، أو كل صانع متبع على سنة التقليد.

ولقد أحسن صاحب ديوان «شعري» في اختيار هذا الاسم لمجموعة قصائده ومقطوعاته، فإنه في الحق شعره الخاص الذي يقوله هو ولا يقوله غيره، وآيته فيه أنه يعني ما يقوله ويقول ما يعنيه، وأنه وحي السليقة الذي تمليه عليه حياته وبواعث وجدانه من آثار الحياة وآثار عوارض الحياة.

قيل إن العالم النفساني «آدلر» خالف أستاذه «فرويد» في إيمانه بالعامل المهم في النفس الإنسانية، فأنكر أن يكون «الجنس» هو ذلك العامل المهم، أو هو الينبوع الخفي الذي تصدر منه أسرارها، وترجع إليه كوامن أشواقها ومخاوفها، وقرر أن حب الحركة لإثبات الذات هو ذلك الينبوع الأصيل في كل نفس بشرية؛ لأن ذات الإنسان ألصق به من جنسه واﻟ «أنا» فيه أسبق وأعرق من الذكورة والأنوثة في كل من الرجل والمرأة.

وأراد العلماء النفسانيون أن يطبقوا علم النفس على المذهب وصاحبه، كما يطبقه هو في تحليلاته، فظهر لهم من مراجعة تاريخه في طفولته الباكرة أنه كان يعاني الألم من لين العظام، وأن ألمه النفساني مما عاناه كان أشد عليه وأعمق في سريرته من آلام جسده الصغير.

ويقول شاعرنا أبو الوفاء في أبياته إلى حافظ إبراهيم مترجم «البؤساء»:

يا صاحبَ «البؤساءِ» جاءكَ شاعرٌ
يشكو من الزَّمنِ اللئيمِ العاني
لم يكفِهِ أنِّي على عُكَّازةٍ
أَمشي، فحطَّ الصَّخرَ في طُرُقاتي
ثم انثنى يُزجِي عليَّ مَصائبًا
سُحُبًا كقطعانِ الدُّجى جهماتِ
في ليلهِنَّ فقدتُ آمالي الأُلى
صاحبْنني مُذْ لاحَ فَجْرُ حَياتي
فغدوتُ في الدُّنيا ولا أدري أمِنْ
أحيائِها أنا أم مِنَ الأمواتِ؟!

تلك صيحة الحس من أثر الصدمة العارضة، ولكن طبيعة الشاعر الحية سمت بالصدمة الحسية فوق هذه الشكوى إلى مغالبة الحوادث وإطلاق النفس من قيودها، فأصبحت عقيدته كلها تعلقًا بالحركة، ونفورًا من القيد، وتطبيقًا للفكرة الجياشة التي سماها كما يسميها علم النفس «بالتسامي»، وقال عنها مرة من مرات في أوائل صفحات الديوان:

وأحقُّ النَّاسِ في النَّاسِ احتراما
من تَعالى عنْ هواهُ أو تَسامى
ذا هو الجمرُ الذي يخشى نهاهُ
لا سِواه وهو لا يرجو سواهُ

بل أصبحت غايته كلها من الحياة أن يتخطى القيود وأن يتركها، ولا يجر وراءه سلاسل الحديد:

وإذا مُتُّ مُتُّ حرًّا لأني
لم أُضِفْ للحياةِ قيدًا جديدا
بل إذا مُتُّ لم أجرَّ ورائي
من كَلامي سلاسلًا وحديدا

وقد يترجم عن هذه العقيدة أحيانًا بحب القوة، كما يترجم عنها بحب المجد أو بحب الحرية، ولكنك تتطلع وراء هذه الأمثلة العليا جميعًا، فترى خلالها شيئًا واحدًا هو حب الحركة والتعلق بالحركة وحدها دون الغاية التي تصير إليها:

قَدَرٌ ماضٍ إلى غايتِهِ
مُسرعًا حتَّى وإن لم يُسرعِ
لا يبالي بالمسافاتِ ولا
بالَّذي يعنيه كسب الموقعِ
الذي يسألُ عن موضعِهِ
سوفَ يمضي ما له من موقعِ

وفي خلال هذا الانطلاق المسرع إلى غير موضع، تنبعث به انطلاقته تارة إلى المجد الذي يهون في سبيله سفك الدماء:

لَنْ تبلُغَ المجدَ إلا إنْ صعدتَ لهُ
على سلالمِ أشلاءٍ وهاماتِ

ومذهب الحركة الدائمة هو مذهب الشاعر في الحب، وفي الغزل، وفي تقدير الجمال، ونشدان الكمال:

كُلُّ ما في الأمرِ أنِّي هائمٌ
ولقد آثرتُ عيشَ الهائمِين

ولقد وافق مذهب الحركة نزعته إلى التسامي، وانبعث من أعماق حياته ومن عوارض حياته، ولكنه وافقه في الشعور المطبوع من غير باعث واحد في حياته الخاصة والعامة؛ لأنه هو الشعور الذي تمليه حوادث التاريخ بعد رقدة الجمود وطول العهد بالسلاسل والقيود.

واللغة الخاصة التي أشرنا إليها في مطلع هذا المقال لازمة لهذا الشعور الخاص، موافقة له في تعبيرها عن «الشخصية» الفنية موافقتها له في تعبيرها عن كل دعوة عامة فيها وجدان الشاعر ووجدان الأمة التي نشأ فيها.

فيندر في هذا الديوان أن تقع على قالب من قوالب التعبير التي سميناها بالصيغ المحفوظة والأساليب المطروقة، ويصح أن نسميها دائمًا بأنها في البلاغة أنماط كأنماط التحية المتفق عليها حتى توشك أن تفقد معناها، ويستمع إليها السامع وهو لا يصغي إلى كلماتها وحروفها.

وأراه على نقيض ذلك قد ترك الصيغ المحفوظة في نظم القصيد ليستبدل بها الصيغ التي لا تزال تجري مجراها على الألسنة في طريق الحفظ والقالب المتفق عليه، كأنه يعطي «اللغة الخاصة» حقها حين يجاري لغة الزمن في أحدث حركاته، ولغة اللسان العام في أعم كلماته وعباراته.

فمن العبارات الشائعة التي تتردد في الديوان قول الشاعر:

أي وضعٍ ذلك الوضع الحقيرْ؟!
أنا ممَّا أنا فيه مستجيرْ
ربِّ هَبْ لي حقَّ تقريرِ المصيرْ

أو قوله من «النشيد»:

ودَعِيني أَجتلِي شخصيَّتي
أو أَرى ذاتِي على مِرآة ذاتِي

وهذه وأشباهها عبارات شائعة بين أبيات الديوان شيوعها على ألسنة المتحدثين أو على أقلام كتاب الصحف، لا ننسى أنها في رأي النقاد من صيارفة الكلام أشبه بعبارات الكلم المنثور منها بعبارات القصيد، وأقرب إلى المعاني المعقولة المحسوسة منها إلى المعاني الملهمة التي يتلقاها الوجدان من الوجدان ويومئ بها الخيال إلى الخيال، ولكننا — على إقرارنا لهذا النقد — نود أن نشفعه بعذره ونقرنه باستدراكه الذي لا بد منه في موضعه، فقد يحسن في كل لغة خاصة كهذه اللغة أن نفرق بين التعبير الشائع والتعبير المبتذل، وأن نميز بين الكلمات التي تُراد لمعانيها ومقاصدها وإن كانت محسوسة ملموسة ولم تكن بالوجدانية ولا الخيالية، وبين الكلمات التي تُقال ولا تُراد لمعنى من المعاني، ولا تعدو أن تكون من تكرار الببغاء لما تسمعه من الأصوات والأصداء.

فالعبارات «المحسوسة» في ديوان أبي الوفاء غير قليلة، ولكن القليل فيه هو العبارات الببغاوية التي يقولها من لا يعيها، ويسمعها من لا يعي منها غير إشارة كإشارة اليد أو صيحة كصيحة النداء المجهول: أنماط كأنماط التحية المتفق عليها بمعزل عن عمل الرأي والقلب واللسان.

ولعلنا ننصف النقد الصادق وننصف الشاعر من هذا النقد إذا سألنا أصحاب الرأي الذي يأبى على الشاعر رخصة الكلم المشاع: أترون هذه الأبيات يلائمها تعبير أصلح لها من هذا التعبير؟ أترونها أقرب إلى طبعها ومعدنها في كلمات الشاعر أو في كلمات تقترحونها لم تشع على الألسنة في الأحاديث ولم تتواتر على الأقلام في أنباء الصحافة؟

من اختار لها كلماتها في نظم الشاعر فقد أنصفه من النقد وأنصف النقد منه، ومن اقترح لها كلمات غير كلماته فله أن ينظر من التأييد والاستحسان وفاق حظه من الإصابة والتوفيق.

وسيبقى بين الفريقين مكان للفريق الذي يتلقى الديوان ويحمد لقياه، ويضعه في ميزان الفن الجميل فترجح به كفة الميزان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤