الفصل الثاني

الاتجاهَات الحَديثة في الأدب العَربي

١

للأدب في عصوره الناشطة على الخصوص حركتان: إحداهما التطور والامتداد؛ وهي حركة متقدمة ذات اتجاه معروف يشبه اتجاه التيار بمجرى النهر المطرد في حركته إلى غاية مجراه، وهي كذلك أشبه بحركة النمو في الجسم الحي تحتفظ بالبنية وتزيد عليها، ولا تلغي شيئًا من البنية إلا إذا جاءت بعوض له في مكانه.

والحركة الثانية هي حركة التغيير الذي ينبعث في الأدب وفي غيره عن مجرد حب التغيير، وقد يسميها بعضهم مذاهب ومدارس وليست هي من المذاهب أو المدارس في شيء، وإنما الأحرى بها أن تُسمَّى بالأزياء والجدائل العارضة «الموضات» التي تتغير مع الزمن، وقد تعود في صورة أخرى بعد فترة طويلة أو قصيرة، ولا معنى فيها للتقدم والاطراد، وإنما هي — بالنسبة إلى حركة التيار في مجراه — أشبه بحركة الموج من الشاطئ إلى الشاطئ تزحف كل موجة منه على ما بعدها، فتلغيه وتزول هي بعده في موجة أخرى، ولا تتقدم بالنهر خطوة واحدة في طريق مجراه.

ويغلب على هذه الموجات التي يمحو بعضها بعضًا في تواريخ الأدب أن تنشأ من سوء فهم الآراء العلمية الحديثة وسوء تطبيقها على الموضوعات الفنية.

وأشهر ما حدث من هذا القبيل في العصر الحديث سوء فهم أصحاب «الموضات» في الفن لنظريات فرويد وإخوانه من رواد التحليل النفساني، وأخصها نظرية الوعي الباطن …

فقد سبق إلى الأوهام أن الوعي الباطن هذا اختراع حديث لم يكن له وجود في عصور التاريخ الغابرة، وخطر لهؤلاء الواهمين أن الحس الظاهر لا يكون مرجعًا للفنون بعد اكتشاف ذلك «الوعي الباطن» … ولا يجوز للفنان بعد اليوم أن يرسم ما يراه بعينيه ولو ظهرت فيه آثار وعيه الباطن كله، بل يجب عليه أن يلفق المحسوسات كيفما تخيلها في وعيه الباطن وفي غيره الذي لا يعرفه ولا يراه بطبيعة الحال! ولا ضير بعد ذلك أن تخرج الصور بلا مقاس معروف لأمانة النقل أو لجودة الأداء التعبير، ولا بدليل مفهوم على الفارق بين الحسن والرديء، وبين العناية والإهمال.

وليس أدل على جهل هؤلاء الواهمين بالفن نفسه من غفلتهم عن آثار الوعي الباطن في كل صورة من صور الفنانين الأقدمين، مع الحرص على صدق الحس وأمانة الشبه واللون، فلا عجب أن تنتهي هذه الأوهام إلى نهايتها التي لا محيص عنها، وهي الخلط الذي يلغي بعضه بعضًا بعد قليل.

وقد كان لسوء فهم المذاهب الاجتماعية أثر لا يقل في تضليله للأذهان عن الأثر الذي نجم عن سوء فهم الدراسات النفسية.

فقد كان المفهوم من الاشتراكية في بداءة ظهورها أنها دعوة تحارب الامتياز بالثروة المغتصبة وتمنع الاحتكار والاستغلال.

فلما وصلت الدعوة إلى الذين لا يفهمونها خُيِّل إلى الجاهلين بها أنها تقضي على كل امتياز بين أفراد الناس ولو كان امتيازًا بالعبقرية، والمواهب العقلية، أو الفضائل الخلقية … وحسب فريق من هؤلاء أن الكتابة في غير مسائل الأجور وأسعار الطعام وحاجات المعيشة اليومية تعني الترفع عن طبقة الدهماء، وأن كل استعداد للكتابة، غير الكتابة التي يدركها الأميون وأشباه الأميين، هو ضرب من الفضول والخروج على مبادئ الاشتراكية كما يفهمونها، ومصالح الشعب كما يقدرونها.

ومن آثار هذه الدعوة في الأدب العربي صياح الصائحين بإلغاء كل استعداد فني غير متوافر لمن يجهلون أصول الفنون والآداب.

فلا لزوم لقواعد الرسم والتلوين في التصوير، ولا لزوم للنحو والصرف في اللغة، ولا لزوم للقوافي والأوزان في الشعر، ولا لزوم — جريًا على هذه القاعدة — لقيود العرف والأخلاق في العلاقات الاجتماعية.

وبعبارة أخرى لا لزوم لمزية من المزايا، ولا لضرب من ضروب الاستعداد لا يشيع بين جميع الناس.

وفي اعتقادنا الذي نبنيه على تجارب الواقع أن هذه الدعوات لا تجاوز أعمار «الموضات» التي يعجل إليها الزوال، وأن هذه الأمواج التي يلغي بعضها بعضًا ليست مما يُطلَق عليه اسم الاتجاه في الأدب العربي ولا في غيره من الآداب العالمية، وليست هي بالتيار الجاري في مجراه القويم على أية حال.

وفي وسع الناظر إلى أدبنا العربي في مجراه أن يصرف نظرته عن هذه الموجات جميعًا ليرقب النهر في طريقه المتقدم منذ مطلع نهضتنا الفكرية إلى اليوم، فإنه وشيك أن يتابع النهر في طريقه منذ نيف وسبعين سنة، متقدمًا على سنَّة التطور بغير انقطاع، وبغير التفات إلى هذه المقاطعة العارضة من الشاطئ إلى الشاطئ، في موقع محدود لا تتعداه.

ومن هذا الاتجاه المطرد يبدو لنا جليًّا واضحًا أن الأدب العربي يتقدم في وجهة الاستقلال بجملة معانيه بالنسبة إلى الفرد وبالنسبة إلى الأمة، وأن العلامة المحققة لهذا الاتجاه هي الابتعاد يومًا فيومًا عن التقليد، والاقتراب يومًا فيومًا من التعبير المطبوع الذي لا يقوم على المحاكاة ولا على النقل بغير تصرف فيه.

ففي الشعر يتقدم الشعراء سريعًا من شعر النماذج العامة إلى شعر التعبير عن الشخصية المستقلة.

وفي النثر على اختلاف موضوعاته يكثر التأليف ويزيد عدد الكتب المؤلفة على عدد الكتب المترجمة في أكثر تلك الموضوعات، وذلك فيما عدا موضوعات الثقافة العلمية التي يكثر فيها النقل لتزويد البرامج المدرسية بمادتها الصالحة للتعليم.

ونحن نعني بشعر النماذج؛ ذلك الشعر الذي يصف نموذجًا من الناس كما يكون في الجماعة العامة، ولا ينفذ من وراء النموذج إلى أفراد الناس «شخصية شخصية» مستقلة بطابعها عن سائر الشخصيات الإنسانية.

فإذا تغزل مائة شاعر في معشوقاتهم، فالمحاسن المحبوبة في جميع هؤلاء المعشوقات واحدة لا تنويع فيها، من صفات الطلعة والعين والأنف والثغر والقامة الهيفاء والخصر النحيل … إلى صفات الدلال، والتيه، والهجر، والمطل بالمواعيد.

وإذا امتدح شعراء العصر جميعًا وزراء العصر جميعًا، فليس أمامنا غير وزير واحد تتكرر شمائله وأعماله في كل قصيدة بمختلف العبارات والأساليب.

تغير ذلك كله رويدًا رويدًا في مدى هذه السنين من عهد الثورة العرابية وما قبله بقليل، وظهر بعده الشعر الذي يقوله «شخص» له شعوره المستقل وتقديره الخاص لمعاني المديح، والذي يُقال في معشوق له صفاته وملامحه وعاداته وأحاديثه التي تُروَى بلفظها الشعري في أبيات القصيد، أو الذي يُقال في ممدوح مميز بطابعه الحي الذي لا يختلط بغيره من الممدوحين.

وسرى هذا الاستقلال سريانه السريع في منظومات الغناء من القصائد الفصحى أو الأزجال والمواويل.

فالأغنية اليوم تعبر عن علاقة حاصلة أو عن واقعة محدودة، ولا تُرسَل إرسالًا في قالبها الموروث بنغماتها أو بمضمونها المكرر المطروق.

وظفر المسرح بنصيبه من هذا التطور في الروايات المسرحية، وأكثرها يُنظَم لإحياء «الشخصيات» التاريخية بصورتها التي يخرجها الشاعر من القالب العتيق إلى عالم الحياة بين الأحياء.

وظفرت المسائل الاجتماعية بالنصيب الأوفى في الشعر الحديث، وأكثر ما يكون ذلك في سياق القصة المنظومة التي تمزج التعبير العاطفي بالنظرة الاجتماعية إلى أبطالها وبطلاتها، وقد أُلقِيت في مهرجان الشعر الأخير بالإسكندرية قصائد لكبار الشعراء تزيد على العشر، كانت سبع قصائد منها من باب القصص الاجتماعي أو النفساني، تهدف إلى غاية للشاعر وراء الوصف الصادق والتعبير العاطفي عن وقائع القصة ومواقفها.

أما النثر الأدبي فقد كاد يقصر على القصص وعلى التراجم أو السير التي يصح أن تلحق بالقصة التاريخية.

وانصرف القصاصون عن الموضوعات الغرامية أو الحماسية «الرومانسية» التي تصور الحياة الواقعة في أحياء المدن وجهات الريف، وغلبت القصة الهادفة على الأغراض القصصية الأخرى، كما غلبت الأهداف القومية الاشتراكية على جملة الأهداف التي يرمي إليها «الهدفيون» من القصصين.

وكان للمسرح حظه الموفور من فن القصة الهادفة، وراجت الكتابة باللغة العامية في القصص المسرحية؛ لأنها مقصودة لأغراضها «المحلية» الموقوتة فلا تحتاج إلى الأسلوب الفصيح، وهو أسلوب كل كتابة يقرؤها أبناء الأقاليم على اختلاف لهجاتهم العامية، واختلاف الأزمنة بين جيل وجيل.

ولا يُوجَد في القصص العربي اليوم ذلك النوع من القصة الذي يدخلونه في الغرب تحت عنوان «البرج العاجي»، ويعنون به أدب الزينة والرفاهية وأدب العواطف اللاهية التي يتسع لها وقت الفراغ.

وإنما يُوجَد من بين الكتاب الكبار من يشترك في وضع القصص الرمزي الذي يتناول سرائر النفس الإنسانية، ويكاد يُحسَب من رموز التصوف وأسرار «ما بعد الطبيعة.»

ويُوجَد كذلك من بين كبار الكتاب من يمارس أدب «البرج العاجي» في حواره المنتظم وموضوعاته التي تُستعار أحيانًا من الأساطير وما إليها من مبتكرات الذوق والخيال، ولكن روايات هذه النخبة من كبار الكتاب لم تخلُ قط من ناحية اجتماعية أو ناحية فكرية لا يصدق عليها وصف الناقدين لأدب «الفراغ»، وقد يُقال في هذه البروج العاجية أنها لم تخلُ من حجراتها التي يُنتفَع بها للسكن والمأوى من حين إلى حين.

وتكاد القصة تجور على نتاج الأدب المنثور، وأن تشغل الأكثرين من قرائها على أبواب الأدب الأخرى، ولا نخالها تركت لهذه الأبواب الأدبية ما يزيد على ربع محصول التأليف مما تصدره المطابع في كل عام.

إلا أن التأليف في النقد الأدبي وفي تاريخ الأدب، وفي المقالة الوصفية، لا يزال في ازدياد وانتشار عند المقارنة بين مؤلفات اليوم وأمثالها من المؤلفات إلى منتصف القرن العشرين … ويتسم التأليف في هذه الأبواب بسمات العصر كله؛ وهي سمات الاستقلال أو الترجمة مع التعقيب عليها والتصرف في الآراء والأحكام التي تحتويها، وربما استخدم المؤلفون في النقد الأدبي أو تاريخ الأدب مصطلحات المذاهب الغربية من أقدم عصورها إلى العصر الحديث، ولكنهم يحاولون في أكثر الأحوال أن يقابلوا بينها وبين أصول البلاغة عند العرب في المشرق والمغرب، ويعطوا الشعر العربي حقه من الافتراق عن أشعار اللغات الأخرى بمقوماته التي تستلزمها الفوارق الأصلية بين لغة الاشتقاق والوزن في كل كلمة من كلماتها، وبين لغات النحت وهي لا تتقيد بالوزن في كلمة من كلماتها، ولا تُوضَع فيها المشتقات على أوزان مقررة لا تحيد عنها.

وينبغي أن نذكر هنا أن هذه الوجهة في أدبنا الحديث تعم أدب المرأة كما تعم أدب الرجل إن صح هذا التقسيم في ثمرات الفنون، وإنما يصح في جميع الأذواق والمشارب أن ينقسم الأدب إلى الجيد منه وغير الجيد، ولا تتوقف جودته على جنس الأديب ولا سنه ولا مزاجه، ولكنه يختلف في بواعثه ولا يندر أن يكون اختلافه بين أديبين من جنس واحد أقل من اختلافه بين أديبة وأديب.

وقد اشترك في مهرجان الشعر الأخير نحو عشر أديبات: منهن باحثتان في النقد الأدبي وفي تاريخ الأدب، وسائرهن شاعرات لم يزلن في سن الشباب، إذا لُوحِظ في شعرهن شيء خاص يُنسَب إلى الجنس — فهو الميل إلى المحافظة في التزام أصول الشعر على عروض لا يجوز فيها إهمال الوزن القافية، وليس هذا بالشيء الخاص بأدب المرأة إلا في اعتبار القائلين: إن المرأة أقرب إلى المحافظة على سنة الجماعة.

ولكن اشتراك المرأة في الحركة الأدبية على أية صورة من الصور هو نفسه علامة مستقلة من أبرز علامات الاتجاه المتطور مع الزمن الحديث، وخلاصته في كلمات الختام أنه اتجاه من التقليد إلى الاستقلال، أو من النماذج التي يغيب فيها الفرد بين أشباهه إلى «الشخصية» المتميزة بطابعها في اختيار التعبير واختيار الموضوع، أو هو على الإجمال اتجاه الكاتب الذي ينقل عن مشق منقوط كمشق الخطاط، إلى صاحب الخط الذي لا تتشابه فيه يدان.

٢

مذهب الفيلسوف «هيجل» في أطوار الأمم وأدوار التاريخ يصدق على اتجاهات الأدب في اللغة العربية، وفي غيرها من اللغات الحية.

وخلاصة مذهب «هيجل» — كما هو معلوم — أن كل دور من الأدوار يتبعه ضده أو نقيضه، ثم يلتقي النقيضان على حد وسط بينهما، حتى إذا استقر هذا الحد الوسط على وضع متفق نجم منه نقيضه دواليك على النحو المتقدم.

وفي كل عصر من عصور الأدب يستطيع الناقد أن يكون على يقين من تقابل اتجاهين مختلفين: أحدهما تغلب عليه المحافظة، والآخر يغلب عليه التجديد، ثم يتوسط بينهما اتجاه معتدل لا إلى هذا الطرف ولا إلى ذاك.

حدث هذا في الأدب العربي بين أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين؛ إذ تيقظت الأمم الشرقية وأخذت تنظر في أسباب ضعفها، وتعالجها بما بدا لها من بواعث قوتها، فرأى فريق منها أن يرجع إلى القديم؛ لأنه عهد العظمة والتفوق على غيرها، ورأى فريق آخر أن الرجوع إلى القديم لا سبيل إليه لانقضاء زمنه وتبدل أحوال الزمن بعده، وأن القوة إنما تكون بمحاكاة الأقوياء من أبناء الحضارة الأوروبية في كل شيء، ومن ذاك اتجاهات الآداب والفنون.

ثم اعتدلت بين المدرستين مدرسة متوسطة ترى أن المحاكاة لا تفيد، سواء أكانت محاكاة للقديم أم محاكاة للجديد، وإنما الصواب أن نأخذ بالحسن من كليهما وأن نحذر من «التقليد الأعمى» حيث كان، فلا ندين بالتقليد لأحد، ولا نتجه إلى وجهة في أدبنا وفنوننا غير الوجهة التي نستقل فيها بالرأي والشعور.

وتكاد هذه المدرسة أن تغلب على اتجاهات الأدب في العصر الحاضر، وأن تنجح في تدبير الحلول الصالحة لأكبر المشكلات التي عرضت للأدب العربي في الآونة الأخيرة وهي مشكلة الفصحى والعامية، وأيهما نعتمد عليه في لغة الثقافة والكتابة.

ورأي هذه المدرسة الوسطى أن الفصحى لها موضعها وموضوعاتها، وأن العامية لها كذلك موضع وموضوعات، فهي — أي: العامية — لا تصلح للتعميم بين الأمكنة والأزمنة المختلفة؛ لأنها بطبيعتها محلية وقتية، ولكنها تصلح للمسائل التي تُعالَج في حينها ومكانها، ثم تنتهي بانتهاء ذلك الحين وذلك المكان.

ولكن هذه المدرسة تعارضها في السنوات الأخيرة دعوة جامحة تحاول أن تنطلق من جميع القواعد وجميع الأصول، وآفتها الكبرى أنها تخلط بين القواعد والقيود، فتحسب أن الانطلاق من القيود سيلزم الانطلاق من القواعد الفنية، وهو وهم ظاهر البطلان؛ لأن الفنون لا توجد بغير قواعد تعصمها من الفوضى، بل لا توجد لعبة عامة بغير قاعدة عامة، ولا يستطيع لاعب الشطرنج أو النرد أو الدومينة مثلًا أن يحرك القطع كما يشاء، وإلا بطلت اللعبة كلها في لحظة واحدة.

ومن أسباب التفاؤل في مصير هذه الدعوة الجامحة أنها أجنبية غريبة لم تخلقها بنية الأمة ولم تنبتها جذورها العريقة ولا فروعها الحديثة، ولكنها أشبه بالزوان بين سنابل القمح، يوشك أن يخنقها لو بقي، وليست له مع هذا قوة على البقاء.

فالاتجاهات الحديثة في الأدب العربي لا توجهها هذه الدعوة في الواقع ولا تنقاد لها باختيارها ولا على غير قصد منها، وإنما تأتي هذه الاتجاهات نتيجة للحالة العملية التي طرأت خلال ربع القرن الأخير، وهي حالة يلخصها ظهور الإذاعة وانتشار الصحافة وزيادة عدد القراء، حتى دخلت في موازين القراءة والكتابة مسألة الكثرة العددية، بعد أن كان الحكم فيها للصفوة المختارة من المثقفين أصحاب الآراء والأذواق.

إن هذه الحالة العملية ليست مذهبًا من مذاهب البحث والتفكير، وليست مدرسة من مدارس الفن التي تتقابل فيها الحجج والأقوال، ولكنها هي النتيجة التي لا بد منها في أول عهد الإذاعة مع انتشار الصحافة وتداول القراءة بين عدد كبير من القراء، تميل الجمهرة الغالبة منهم إلى التسلية، ولا تستعد بثقافتها لطلب الفنون العالية والتعبيرات الرفيعة في آداب اللغة، وسائر التعبيرات التي تؤديها الفنون بوسائلها المتعددة.

وتتلخص هذه النتيجة في الاتجاهات الآتية:
  • أولها: وفرة القصص السهلة التي تخاطب الغرائز ولا سيما الغرائز الجنسية وغرائز الصراع التي تتأثر بالمخاوف والأهوال، وتمثيل القصص بالصور المتحركة قد جعلها من شئون السماع ولم يقصرها على القراءة.
  • وثانيها: شيوع الموضوعات العرضية التي يمكن أن تُوصَف في جملتها بأنها من موضوعات الصحافة الشائعة يشترك فيها جمهرة القراء.
  • وثالثها: قلة الشعر المستقل وكثرة الشعر الذي يعتمد على الغناء والمناظر المسرحية، ويقترن به الرقص ومواقف الغزل واللهو على الإجمال.

تلك هي الاتجاهات الشائعة التي تعم الجمهرة القارئة ولا تتخصص بطائفة من طلاب المطالعة التي لم تتأثر بانتشار الصحافة المبتذلة وبرامج الإذاعة ومعارض الصور المتحركة.

إلا أنها — كما قلنا — اتجاهات شائعة تحكمها العددية، ولا تلغي وجود الاتجاهات الجدية التي تستعد للأدب بثقافة عالية أو فهم راجح، ورغبة صادقة في الاستفادة وتهذيب العقل والذوق.

فإلى جانب القصص الغريزية والمناظر المثيرة، توجد المطالعات الرفيعة في النقد والتاريخ والتحليلات النفسية، وتوجد التصانيف التي يدرسها الطالب في جامعته، وتشتمل عليها برامج التعليم في مراحله العالية.

وربما كان نصيب النقد أكبر من نصيب الخلق والابتداع في هذه المطالعات الجديدة، ولكنه نقد مستقل في كثير من موضوعاته، وكل استقلال فهو نوع من الخلق والإنشاء وإن لم يأت بثمرة جديدة؛ لأن الاستقلال في النقد كالإبداع في ثمرات الفنون، كلاهما يعتمد على «شخصية» المؤلف وموازينه التي لا تختل بالمحاكاة أو بالمجاراة.

وطوالع الأمل تبشر بالانتقال من هذه الحالة إلى حالة خير منها؛ لأنها تبشر بالتخصص بين القراء كما تبشر بالتخصص بين الأدباء.

فالقصة المهذبة توجد إلى جانب القصة الغريزية وإن كانت الآن لا تروج مثل رواجها.

وقلة الشعر المستقل أو المحض لا تدل على انطفاء شعلة الشعر في النفس الإنسانية، ولا نحسب أن هذه الشعلة تنطفئ في وقت من الأوقات؛ إذ كان الشعر ملكة إنسانية لم تتجرد منها قبيلة من قبائل البشر وصلت إلى طور التفاهم والتخاطب، ولا شك أنه أول ما يسيغه الطفل الوليد من الكلام؛ لأنه يتأثر به في المهد قبل أن يفهم ما يُقال بلغة الخطاب.

إنما قلَّ الشعر المحض؛ لأن موضوعه مشترك في العصر الحاضر بين كثير من التعبيرات التي تؤدي رسالته أو تنوب عنها، ومنها السماع الميسر في جميع البيوت من طريق الإذاعة أو طريق الأسطوانات، ومنها التعبيرات العاطفية التي تنفس عن شعور القارئ والسامع كلما اطلع على خبر أو حادث ينبه إحساسه ويشغل خاطره كما كانت تشغله من قبل قصائد الشعراء.

ونحن في عصر يجمع بين النقيضين؛ لأنه عصر المشاهدات العالمية التي تواجه الإنسان كل يوم بملحمة مفعولة وإن لم تكن ملحمة منظومة أو مقروءة.

نحن في عصر يستطيع أن يجمع بين النقيضين؛ لأنه عصر العالميات التي لا تنحصر في حدود البلدان، وهذان النقيضان هما: التخصص والتعميم.

ففي وقت واحد يتخصص الطب مثلًا، حتى ليُوجَد الطبيب الذي يعرف كل شيء عن علاج العين ولا يعالج الأنف، وهو إلى جوارها.

وفي هذا الوقت نفسه يشعر هذا الطبيب أنه ينقطع في عزلة عن العالم وعن علمه نفسه إن لم تتسع معارفه العالمية، ولم تكن له إحاطة ملمة بكثير من الدراسات والمعلومات.

وكذلك يتجه الأدب إلى التخصيص كلما عم وانتشر وشاع بين الجمهرة والعلية المفكرة، فلا يزال حتى ينفرد كل فن من فنونه بقرائه وكتابه مع الإلمام المحيط بسائر الفنون.

وخلاصة القول في اتجاهات الأدب العربي الحديث أن الاتجاه المتطرف منها غير أصيل وغير مستمد من بنية الأمة العربية، وأن الحالة العملية أقوى أثرًا فيه الآن من المذاهب والمدارس الفكرية، ولكن هذه المدارس والمذاهب لم تتزحزح عن مقامها، ولا تزال في انتظار التطور الذي يأتي به التخصيص بعد التعميم والشيوع، وأن الملكات الناقدة أكبر عملًا في عصرنا هذا من الملكات الخالقة، ويشفع لها أنها ملكات ناقدة تجنح إلى الاستقلال، وهو أقرب ما يكون إلى الخلق والابتكار.

وكل شيء يمكن أن يُقال عن الأدب العربي الحديث إلا أنه في ركود وجمود؛ إذ الواقع أنه في «ارتجاج» دائم لا ركود فيه، ولا بد من هذا الارتجاج في التمهيد للفرز والتمييز والصفاء.

وكذلك يأتي المحض بعد المحض في مضطرب الآراء والأقوال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤