الفصل السادس والعشرون

الجَامِعَةُ في التَّاريخ

تتابعت أطوار كثيرة على كلمة «يونيفرستي» التي يطلقها الغربيون اليوم على المدرسة الجامعة التي يتلقى فيها الطلاب دروسًا عالية في مختلف المعارف البشرية من العلوم والآداب والفنون.

فكان معنى كلمة «يونيفرس» — في أول وضعه — الدورة الواحدة؛ لأنهم كانوا يعتقدون أن الأفلاك تدور بعضها على بعض وتجتمع كلها في فلك الكون الأعظم الذي يدور على نفسه دورة واحدة، ومن ثم أُطلِقت الدورة الواحدة على الكون الذي يشمل كل شيء، ثم أُطلِقت على كل مجتمع شامل من الناس والأشياء، وكانت تُطلَق في القرون الوسطى على نقابات الحرف والصناعات، فكانت نقابة البنائين مثلًا تُعرَف باسم جامعة البنائين أو البناء، وكذلك نقابة الصاغة والنجارين والمعلمين، وسائر نقابات الصناع والمشتركين في عمل واحد، ولم تُخصَّص الكلمة بالمدرسة الجامعة كما نعرفها اليوم إلا بعد القرن الثالث عشر للميلاد، وبعد أن نشأت الجامعات الأوروبية الأولى بنحو مائة وخمسين سنة.

لكن الجامعة كانت أقدم من اسمها في التاريخ بنحو ثلاثين قرنًا ذاهبة في القدم إلى عهود الحضارات الأولى بوادي النيل وما بين النهرين، وليس يُعرَف على التحقيق أين نشأت الجامعات الأولى في البلاد الشرقية، ولكن القول الراجح أنها نشأت في مصر ولحقت عند نشأتها بالهياكل والبلاطات الملكية، فكان المتخصصون للعلم يلوذون بمدارس الهياكل، وكان طلاب الوظائف يلوذون بمدارس الكتبة التي يتخرج منها موظفو الحاشية الملكية وموظفو الدواوين على العموم.

كان أرسطو يقول: إن كهان مصر شُغِلوا بطلب العلم لذاته، خلافًا لما شاع أخيرًا من غلبة المنفعة على أغراض التعليم جميعًا في مصر القديمة، وكان أفلاطون يضرب المثل بالمتعلمين المصريين في حذق المعارف الرياضية والهندسية بصفة خاصة، وكان هيرودوت يقول: إن كهان مصر كانوا يتحدثون إليه كأنهم يتحدثون إلى تلميذ صغير، ومن المشهور أن صولون وأفلاطون حضرا بعض الدروس في جامعة عين شمس، وأن موسى — عليه السلام — كان من طلاب الجامعات المصرية، وقد كانت في مصر مدارس لا يحصيها التاريخ، أهمها وأكبرها: جامعات عين شمس، ومنف، وطيبة. ودروسها تُبَاح لمن يقدر على طلبها ولا تصطبغ بالصبغة المصرية إلا حين يقع الاختيار على المرشحين للكهانة من بين نجباء الطلاب، فيفضي إليهم الكهان الأساتذة بما يحجبونه عن سائر الطلاب.

وقد كان النظام صارمًا في جميع المدارس المصرية من أدناها إلى أعلاها، ومن أقوالهم المأثورة: «إن أذني التلميذ في ظهره»، ويعنون بها أن يفتح سمعه حين تقع عصا المعلم على ظهره للتأديب والتنبه، وربما ارتفعت العصا عن ظهور الطلاب الكبار الذين يُرشَّحون للكهانة والمناصب العليا، ولكنهم يستعيضون في هذه الحالة بوقار الدين والمنصب عن وقار النظام وصرامة العقاب.

وقامت في بابل وفارس القديمة جامعات حافلة بطلاب العلوم ومنها الفلك والطب والزراعة، ووُجِدت آثار كلية للبنات في بابل، وامتاز التعليم الفارسي القديم — كما قال هيرودوت وزينوفون — بالتربية البيتية، ثم التربية على أصول الفروسية والنخوة، فكان الطفل يتعلم في حضانة أمه إلى الخامسة ولا يرى أباه قبل ذلك، ثم يتعلم على أيدي الأساتذة إلى أن يبلغ العشرين ويتخرج بعد ذلك مثلًا في الطاعة والصدق ورعاية حقوق الأسرة والعرش والدين.

وكانت جامعات الهند تتولى تحفيظ القصائد الدينية لطلابها مع كتب الصلوات والأناشيد، ولا يُباح التعليم في الجامعات في الطبقة المحرومة بطبيعة الحال، ولكنه يُقسَّم على حسب الطبقات وما تحتاج إليه من التربية، وأعظمها تربية الكهان والولاة.

أما اليونان فقد نشأت جامعاتهم بعد الجامعات الشرقية بزمن طويل، وكانت في أول العهد بها كالندوات والأندية التي يجتمع فيها الأستاذ وتلاميذه للمحاضرة والمحاورة، ثم قامت عندهم جامعة أثينا التي كانت قبلة الطلاب من بلاد بحر الروم، وفي مقدمتها بلاد الدولة الرومانية، ويدل على مكانة هذه الجامعة أن شيشرون الخطيب الروماني الكبير قد أرسل إليها ابنه ليتعلم فيها الفلسفة والبيان.

ويظهر أن جامعة أثينا هي النموذج الذي تحكيه الجامعات العصرية في القارتين الأوروبية والأمريكية، فقد كانت لها مسابقات ومحافل وسهرات يتغاضى عنها الرؤساء والأساتذة، وكانت لطلابها مراسم في استقبال الطالب الجديد كالمراسم التي يسمونها الآن «بالتدشين» ويفرضون فيها على الطالب الجديد أن يستسلم لما يصيبه من زملائه، وإن بالغوا في التهزئة وأغلظوا في المزاح، وكانت هذه الحفلات بمثابة كسر القيود جميعًا بين الطلاب كأنهم من أسرة واحدة قد امتنعت فيها الكلفة كل الامتناع.

ولم تشتهر روما بجامعاتها كما اشتهرت بمضامير الفروسية وميادين الرياضة، ولكنها كانت كثيرة الندوات التي يتكلم فيها الحكماء والخطباء، ويشرح فيها العلماء دروسهم للطلاب وغير الطلاب، وربما كان المتحف الإسكندري خير مثال للجامعة الرومانية في أرقى أطوارها، فهو مزيج من المدرسة اليونانية والمدرسة المصرية، مع جموح إلى الأدب الشائع في دولة الرومان.

ولما خيَّم الظلام على القارة الأوروبية لم يخلُ الشرق من معاهد التعليم التي تنوب في زمانها عن الجامعات، فكانت هناك مدرسة جنديسابور الفارسية، ومدرسة الرها السريانية، ودُور الندوة التي يتلاقى فيها حكماء العرب وشعراؤهم وعلماء الأنساب منهم ليتعلموا ويعلموا كل ما عندهم من معلومات الأدب والحكمة والتاريخ والنجوم، وتتبعها الأسواق الدورية التي تُعرَض فيها بضاعة التاجر وبضاعة الشاعر، وكل بضاعة تروج عند قصاد تلك الأسواق.

ولما ظهر الإسلام مضت بضعة قرون قبل ظهور الجامعات؛ لأن المسجد الجامع كان يغني عن المدرسة الجامعة، وفيه يجلس العلماء بين مواقيت الصلاة للمحاضرة في النحو أو اللغة أو الفقه أو الحديث أو علم الكلام، حتى إذا مضى القرن الرابع وتعددت العلوم واتسعت رقعة الدولة قامت الجامعات في القاهرة وبغداد ونيسابور وقرطبة وغرناطة وأشبيلية ومالقة ودمشق وبيت المقدس، وازدهر أكثر هذه الجامعات قبل الجامعات الأولى في القاهرة الأوروبية، وهي جامعات بولونيا الإيطالية وباريس الفرنسية وأكسفورد الإنجليزية، وأقدمها نشأ في الثاني عشر للميلاد، ومن قبلها في القرن الحادي عشر نشأت مدرسة «سالرنو» لتدريس الطب خاصة، وظلت مفتوحة إلى أن قضت عليها حروب نابليون.

ومما لا خلاف فيه أن العلوم في الجامعات الحديثة أوفر وأوسع من نظائرها في الجامعات الأولى، إلا أن الجامعات الحديثة لا تزال في حاجة إلى التعليم من تلك الجامعات التاريخية، إذا هي أرادت أن تحقق معنى التربية الجامعية كما فهمها الأقدمون، وينبغي أن يفهمها المحدثون.

إن كانت للجامعة مزية على المدرسة فهي مزية «التعليم الحي» واشتراك «الشخصية» كلها في إلقاء الدروس، وتلقين المثل وإحسان القدوة والاقتداء بين الأساتذة والطلاب، وحرية الفكر في العصر الحديث مكفولة بحكم القانون على نحو لم يعهده الأقدمون في أمم كثيرة، ومع هذا يرجح الأقدمون في استقلال «الشخصية العلمية» على المتعلمين المحدثين؛ لأن شخصية المعلم كلها بعقلها وروحها وضميرها وآداب سلوكها كانت تلتقي بشخصية الطالب الذي لا يحول بينه وبين أستاذه حائل من جانب العقل أو الروح أو الضمير، أما الجامعة العصرية فقد أوشكت الصلة الآلية فيها أن تنوب عن الصلة الشخصية الحية التي لا تنقطع قديمًا في معاهد التعليم العليا، بل أوشكت التربية الجامعية أن تكون صفقة تجارية بتكاليفها ومواعيدها وأثمان كتبها وأوراقها، فليس لها من «الشخصية الحية» نصيب موفور.

ويحضرني هنا رأي للفيلسوف الإسباني «أورتيجا أي جاسيت» عن مهمة الجامعة يلخص فيه هذه المهمة في خلق المعارف والإعداد لخلقها لا في مجرد التحصيل والإحاطة بالمعلومات «المجهزة»، ويسألونه عن اقتباس النظام الثانوي من إنجلترا؛ لأنها امتازت بمدارسها الثانوية، وعن اقتباس النظام الجامعي من ألمانيا؛ لأنها امتازت بفيض المعارف الجامعية فيعجب لهذا السؤال ولا يرى نفعًا في التعويل على الاقتباس وحده كائنًا ما كان موضوع الاقتباس؛ لأن النظام عظيم بأمته وليست الأمة عظيمة بنظامها، ومن قال إن «المدرسة الثانوية» ممتازة في البلاد الإنجليزية فإنما يذكر جانبًا واحدًا من جوانب الامتياز الكثيرة التي تتعدى التعليم إلى السياسة والتجارة والتشريع والألعاب الرياضية، وليس شيء من ذلك بالذي ينقله الناقلون مع نظام المدارس الثانوية، أن نظام التعليم يُنقَل من بلد إلى بلد غريب.

والفيلسوف الإسباني على صواب لا ريب فيه، فلا خير في تزويد الجامعات بما يسمونه حرية الفكر وقداسة الحرم الجامعي وإطلاق المواعيد للأساتذة والطلاب، إذا كان ذلك كله محصورًا في نطاق الجامعة، معزولًا عن الخلائق القومية التي تحيط بها وتشرف عليها، ويوم يُقال هذا بلد عظيم يُقال هذه جامعة عظيمة، ولا ينعكس الوصف يومًا على وجه من الوجوه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤