الفصل الثالث

الأدبُ والحَيَاة

من العناء الضائع تعريف الأدب على صورة من الصور للاعتراف بنوع من الأدب وإنكار نوع آخر، فما من تعريف سمعناه إلا وهو يسمح لكل أدب أن ينطوي فيه.

يُقال مثلًا إن الأدب ظاهرة اجتماعية، أو يُقال إنه ظاهرة اقتصادية أو ظاهرة بيولوجية، أو غير ذلك من الظواهر المختلفة، ولك أن تقول عن ظاهرة من هذه الظواهر أو عنها جميعًا: حسن، ثم ماذا؟ فلا يسع صاحب التعريف أن ينتهي بك إلى باب مغلق على نوع من أنواع الأدب.

ذلك أن الأدب كالحياة لأنه تعبير عنها، فلا يستوعبه مذهب ولا يستغرقه أسلوب.

قل مثلًا: إن الأدب ظاهرة اجتماعية، فماذا في هذا؟

إن المجتمع لا يستنفد أغراضه ومقاصده في أربع وعشرين ساعة، ولا في سبعة أيام، ولا في شهر أو بضعة شهور، ولا في عام أو بضعة أعوام.

ومن الجائز أن ظاهرة اجتماعية تتحقق في خمسين سنة، وتبدأ في هذه السنة وكأنها معزولة عن المجتمع أو مناقضة لمصالحه الظاهرة، ولكنها بعد خمسين سنة تؤتي ثمراتها التي لا نعرفها اليوم ولا نعرف سلفًا كيف تكون.

وليس أضر بالمجتمع من قطع النسل، ولكن الكاتب قد يشجع العزوبة في قصة يكتبها، وقد يكون تشجيعه لها احتجاجًا على نظام الزواج في المجتمع، وقد يؤتي هذا الاحتجاج ثمرته بعد سنوات، فيصح على هذا الاعتبار أن يكون تشجيع العزوبة ظاهرة اجتماعية ودليلًا على مرض اجتماعي يحتاج إلى العلاج.

فإذا قلنا: إن الأدب مسألة اجتماعية فما الذي أبحناه بهذا التعريف؟ وما الذي حرمناه؟

بل أنت مستطيع أن تشيد بالأدب الذي يسمونه أدب البرج العاجي، ولا تخرج به عن الأدب الذي هو مسألة اجتماعية.

فإذا جاز في المجتمع أن تغرس حديقة للنزهة لا تزرع فيها القمح والشعير ولا تغرس فيها التفاح والكمثرى، فقد جاز في هذا المجتمع نفسه أن تنظم الشعر وصفًا للأزهار والبساتين.

وإذا جاز في المجتمع أن تنشئ مصلحة للآثار لا تبيع تحفها ولا تساوم عليها، فقد جاز في هذا المجتمع نفسه أن تصف أبا الهول بمقال أو عدة مقالات، وجاز فيه أيضًا أن تحاكي تلك الآثار بصناعة الصور والتماثيل.

ومن السخف أن يُقال إن الطبقة الحاكمة هي التي تنحرف بالأدب عن خدمة المجتمع لخدمة مصالحها ومآربها، وإِنِ الأمر وُكِّل إلى الشعب لما نظم أحد شعرًا ولا كتب حرفًا في غير القوت والكساء والدواء وما يلحق بهذه الأشياء.

فقد عرفنا الأدب الشعبي بمصر سبعة قرون متوالية، فلم تُعرَف فيه هذه الشروط ولا تلك الموانع، ولم نعرف له صبغة عامة غير الصبغة الإنسانية التي تعم جميع الطبقات في جميع الأوقات.

على أي موضوع كان الأدب الشعبي يدور بمصر منذ القرن السادس للهجرة؟

إنه كان يدور على ملاحم أبي زيد الهلالي، والزناتي خليفة، والزير سالم، وسيف بن ذي يزن، وغيرهم من أبطال هذا الطراز.

وقد اختلفت الهيئة الحاكمة خلال هذه القرون من الدولة الفاطمية إلى الدولة الأيوبية إلى دول المماليك إلى الدولة العلوية.

واختلفت الأحوال الاقتصادية من رواج النقل في تجارة المشرق والمغرب إلى انقطاع الصلة بينهما إلى نشأة الزراعة القطنية إلى تجدد المعاملات التجارية بين القارات الشرقية والغربية.

وفي جميع هذه القرون كانت قصة أبي زيد هي هي، وقصة الزير سالم على نسختها الأولى، وقصة الذوين والتبابعة مسموعة في القرن الثالث عشر كما كانت تُسمَع قبل ذلك بثلاثة أو أربعة قرون.

وهذا هو رأي الشعب في الأدب الشعبي، لا سلطان عليه للطبقة الحاكمة؛ لأن هذه الطبقة الحاكمة كانت تجهل اللغة التي نُظمِت بها قصائد السيرة الهلالية وما شابهها، ولأن قبائل بني هلال وبني تغلب وبني من شئت من الآباء لم يكن لها سلطان على الدولة الحاكمة، ولا كانت الدولة الحاكمة معتزة بهم أو جارية في نظام المجتمع على مثالهم.

فلماذا أقبل الشعب على تلك الملاحم يسمعها ولا يمل سماعها سبعة قرون أو تزيد؟

وإذا كانت الأفلام والروايات المسرحية في قبضة المخرجين، وكان المخرجون في قبضة رأس المال، فشاعر الربابة الذي تسخره عشرة دراهم من العشاء إلى مطلع الفجر تراه في أي قبضة كان؟ … وما هي المناوبات المصرفية أو البرجوازية أو الحركية أو الاسترخائية التي كانت تُدبَّر من وراء الستار لصرف الشاعر عن الكلام في الرغيف والفول المدمس إلى الكلام في البطولة والغزل وغرام مرعي وسعدى وآخرين وأخريات؟

إن هذه الملاحم حقيقة واقعة، وإن غرام الشعب بها حقيقة واقعة، وإن ثباته على الافتتان بها مع اختلاف الدول والأحوال الاقتصادية والطبقات الحاكمة حقيقة واقعة.

فأين يذهب تعريفنا الأدب بأنه مسألة اجتماعية بين هذه الحقائق الواقعة؟! وأي فرق بين الأخذ بذلك التعريف وإهماله غاية الإهمال؟!

أليس المقصود بالأدب الشعبي أن يُكتَب بلغة الشعب؟

أليس المقصود به أن يلقى القبول والإقبال عند طبقة الشعب؟

أليس المقصود به أن يصدر من صميم الشعب ولا يصدر من الحكام أو المستغلين؟

أليس المقصود به أن يأتي طواعية من الناظم إلى المستمعين بغير تسليط ولا إكراه؟

بلى … وكل أولئك كان موفورًا للملاحم الهلالية وما جرى مجراها؛ فلماذا كانت هذه الملاحم دائرة على البطولة والغزل، ولم تكن دائرة على الرغيف والفول المدمس؟ ومن الذي أكره الشعب على طلب هذه المعاني والإعراض عما عداها؟

جواب واحد لا سبيل إلى الحيد عنه بكلمة من كلمات الرطانة التي يلفظ بها أصحاب الأمر والنهي في تعريفات الآداب.

وذلك الجواب هو: شعور الإنسان.

فالشعب «إنسان» قبل كل شيء، ونفس الإنسان تهتز في كل زمان لأريحية البطولة والغزل، وتجري في ذلك على سنة الحياة التي لا سنة غيرها للأدب والفن، كيفما اختلفت الطبقة الحاكمة، واختلفت أحوال المعيشة، واختلف الناظمون والمستمعون.

لقد كان الشعب يستمع إلى ملاحم أبي زيد وهو موفور الطعام ناعم بالرخاء والسلام، وكان يستمع إليها وهو مهدد بالمجاعة والوباء، ولم يكن من همِّ الحاكمين أن يعلِّموا المحكومين البطولة ويعرضوا أمامهم قدوة المجازفة والهجوم على الموت والخطر، ولعلهم قد مضى عليهم زمن وهم لا يعلمون من هو أبو زيد ولا يسمعون باسمه، بل لعلهم منعوا الجلوس على القهوات التي تُنشَد فيها تلك الملاحم مرَّات بعد مرَّات منعًا للضوضاء والشجار، وهم لا يدرون من أسبابه الكثير أو القليل.

ثم بطلت ملاحم أبي زيد وخلفتها بطولة رعاة البقر في البراري الأمريكية، أو خلفتها بطولة العصابات في المدن الكبرى، ولم تكن لرعاة البقر ولا للعصابات دولة تروج لها الدعوة في وادي النيل، ولم يكن إقبال الشعب على هذه الملاحم بعد تلك الملاحم؛ لأنه «تأَمْرَك» بعد أن تعرَّب، وإنما حلت دار الصور المتحركة محل القهوة البلدية وبقي حب البطولة والغزل كما كان؛ لأنه حياة يفهمها الحي كائنًا ما كان القائلون والممثلون.

وإذا انحدرنا من عالم الإنسان إلى عالم الحيوان والنبات، فما هو العنوان الاجتماعي الذي يندرج تحت زهر الفول وتغريد العصفور؟

إننا نتخيل في هذه اللحظة رطَّانًا من أصحاب البرجوازيات والاسترخائيات والانتهازيات قد شال بأنفه وصعر خده وامتلأ عجبًا من هؤلاء الناس الذي يسألون أمثال هذه الأسئلة الفضولية، ويخفى عليهم أن الأمر متعلق باللقاح والتناسل ووفرة الغذاء في الربيع!

وأفادهم الله وإن لم يفيدونا شيئًا.

ولكنهم مسئولون بعد ذلك: لماذا يغني العصفور يا تُرى إذا شبع؟ أليس الشبع هو المقصود وفيه الكفاية؟ ولماذا يغني إذا تغزل؟ أليست الغريزة الجنسية هناك؟ ولماذا تضيع الطبيعة وقتها في تزويق أوراق الفول؟ أليس هذا ترفًا برجوازيًّا استرخائيًّا مظهريًّا إلى آخر هذه المنسوبات؟

لقد كان أجهل جاهل من المستمعين إلى ملاحم الهلالي والزير سالم إنسانًا أكرم من بعض هؤلاء التقدميين الذين يرسمون للأدب طريقه وللحياة طريقها، وهم عالة على الأدب وعلى الحياة.

وسيُعاد تعريف الأدب على ألف صورة! مسألة اجتماعية تارة ومسألة اقتصادية تارة ومسألة حركية أو سكونية تارة أو تارات، ولكنه لن يمتنع بذلك عن موضوع ولن ينقطع لموضوع، ولن يكون أدبًا ما لم يكن نصيب من شعور الإنسان، وبهذه المثابة يحدثنا عن القطب الشمالي فيحدثنا عن قريب، ويروي لنا خبر البطولة فيروي لنا خبرًا يهزُّ نفس الفقير والغني والصغير والكبير، ويذكر لنا الزهرية فلا يقول له قائل حي: دعها واذكر قِدرة الفول المدمس، ما دام إنسانًا يرجع إلى الطبيعة إن لم يرجع إلى نفسه، فيلمس منبت الفول وزهرته من تربة الحياة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤