الفصل الحادي والثلاثون

شئون اقتصادية في الدولة الإسلامية

تناول الإسلام كثيرًا من الشئون الاقتصادية التي تدخل في نظام الاقتصاد القومي، ومنها الزكاة والفيء والضرائب والمواريث والقروض، عدا شئون المعاملات التي اصطلحنا في العصر الحاضر على تسميتها بالمعاملات «المدنية».

والزكاة فريضة على كل مال خلا من الدين وحال عليه الحول ولم يقلَّ في الفضة عن مائتي درهم وفي الذهب عن عشرين مثقالًا، ولها نصاب مقدور على الإبل والماشية والخيل، ما يرعى منها وما يتكلف مالكه شراء علفه على ما بيَّنه الفقهاء، والزكاة على مائتي درهم خمسة دراهم، وعلى عشرين مثقالًا نصف مثقال، ويُزاد درهم على كل أربعين درهمًا تزيد على النصاب، وقيراطان على كل أربعة مثاقيل تزيد على العشرين، وتجب الزكاة على المعادن والبضائع بمقادير تُلاحظ فيها النسبة المتقدمة، بحيث تتساوى أنواع الأموال المختلفة جهد المستطاع، ويُنفَق المحصول من الزكاة على الفقراء والمساكين والمثقلين بالدين والأرقاء وأبناء السبيل والموظفين العاملين عليها.

وقد كان بعض علماء السياسة والاقتصاد في عصرنا هذا يذهبون إلى أن إنفاق المال في هذه الوجوه عمل من أعمال الأخلاق لا شأن به للدولة ولا للقانون، ولكننا نرى الدول في هذا العصر تفرض على رعاياها الضرائب التي تنفقها على أغراض كأغراض الزكاة، فهي من «الخير» الذي يعني الجماعات البشرية ولا يرجع أمره كله إلى أخلاق الآحاد.

والفيء يقابل غنائم الحرب، وحكمها أن تُقسَّم إلى خمسة أخماس، أربعة منها للجند المقاتلين، والخُمس الباقي يُنفَق منه على اليتامى والمساكين وأبناء السبيل.

ومن الضرائب التي عُرِفت في الإسلام الخراج والجزية، أي: ضريبة الأرض وضريبة الرءوس.

وضريبة الخراج تُقدَّر على حسب سهولة الري وقيمة الثمر، وهي غير العشور التي تُجبَى من أرض المسلمين، وإن كانت ضريبة الأرض قد عُرِفت جميعًا باسم الخراج بعد صدر الإسلام، وكانت كلها تؤخذ عينًا في صدر الإسلام، ثم استُبدِل بها مقدار من العملة بعد استقرار نظام الدواوين.

وضريبة الرءوس، وهي الجزية، لا يُعرَف لها مقدار محدود، وقد تُفرَض بأمر الإمام أو تجري عليها المصالحة بينه وبين أبناء البلاد المفتوحة، ويغلب أن تساوي أربعة دراهم في الشهر على الغني ودرهمين على متوسط الغنى ودرهمًا على الفقير العامل.

أما المواريث فمنها ما بيَّنه الكتاب ومنها ما بيَّنته السنة واجتهاد الأئمة، وكلها جارية على احترام نظام الأسرة وقوامة الرجل على من يعولهم من النساء والأطفال.

وحكم الإسلام في القروض معروف، فهو يبيح القرض الحسن ويأمر بكتابة الوثائق بالديون: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ. ويصرح القرآن الكريم في غير موضع بتحريم الربا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. وقد فصل الفقهاء أنواعه المحرمة على اختلاف بينهم في التشديد والترخيص.

وقد عرف الإسلام نظام الإقطاع في الأرض وفي جباية الأموال، وكان تعمير الأرض شرطًا لامتلاكها، فلما أقطع النبي — عليه السلام — أناسًا من مزينة أرضًا ليعمروها فأهملوها، وجاء قوم من جهينة فعمروها، حكم عمر بن الخطاب — رضي الله عنه — بملكها للجهنيين وقال: «من كانت له أرض ثم تركها ثلاث سنين لا يعمرنها، فعمرها قوم آخرون، فهم أحق بها.»

أما الإقطاع — أو على الأصح الالتزام في جباية الأموال — فمثله ما رواه المقريزي، حيث قال: «إن متولي خراج مصر كان يجري في جامع عمرو بن العاص من الفسطاط في الوقت الذي تتهيأ فيه قبالة الأراضي وقد اجتمع الناس في القرى والمدن، فيقوم رجل ينادي على البلاد صفقات صفقات، وكتاب الخراج بين يدي متولي الخراج يكتبون ما انتهى إليه مبالغ الكور والصفقات على من يتقبلها من الناس، وكانت البلاد يتقبلها متقبلوها بالأربع سنين لأجل الظمأ أو الاستبحار أو غير ذلك، فإذا انقضى هذا الأمر خرج كل من يتقبل أرضًا وضمها إلى ناحيته، فيتولى زراعتها وإصلاح جسورها وسائر وجوه أعمالها بنفسه وأهله ومن ينتدبه لذلك، ويحمل ما عليه من الخراج في إبانه على أقساط ويحسب له من مبلغ قبالته وضمانه من تلك الأراضي ما ينفقه على عمارة جسورها وسد ترعها وحفر خلجها بضرابة مقدرة في الخراج، ويتأخر من مبلغ الخراج في كل سنة في جبهات الضمان والمتقبلين.»

هذه خلاصة شديدة الإيجاز لمجمل الأحكام التي دخلت بالنص والاجتهاد في نظام الدولة الإسلامية، مما يُعرَف اليوم باسم النظم المالية أو الاقتصادية.

وقد زعم بعض المؤرخين المحدثين أن الدولة الإسلامية قد أصابها الوهن والانحلال؛ لأنها لم تجرِ على «سياسة اقتصادية» مقررة، ولكنه كلام يُلقَى على عواهنه، ويرجع الخطأ فيه إلى قياس الحاضر على الماضي بغير نظر إلى العوامل المختلفة بين الزمنين، فنحن اليوم نعرف نظام الباب المفتوح والدولة المفضلة والحماية الجمركية أو حماية الصناعة الوطنية، كما نعرف التأميم وتنظيم الإنتاج الصناعي لأسباب لم يعهدها الأقدمون في سياسة الدولة أو السياسة القومية العامة.

فلم يكن عندهم نظام رأس المال الذي شاع في العصر الحديث مع شيوع الصناعات الكبرى، ولم تكن عندهم هذه الآلات الضخام التي تغزو الأسواق بمصنوعاتها ويقوم عليها تنافس الدول على فتح الأسواق أو إغلاقها، ولم تكن في العالم عشرات الأمم المستقلة التي تختلف عندها مصادر الثروة بين الزراعة والصناعة، أو بين الزراعة التي تخرج الأطعمة والزراعة التي تخرج الخامات لهذه الصناعة أو تلك من أنواع الصناعات الكبرى.

لم يكن عند الأقدمين قبل القرن الثامن عشر شيء من هذه العوامل الاقتصادية، فقيام الدول في العهد القديم لم يكن منوطًا بسياسة خاصة من السياسات التي خلقتها العوامل الاقتصادية التي أشرنا إليها، وإنما كانت تقوم أو تسقط حسب اقتدارها على الاضطلاع بمهام الحكومة العامة التي تطلب من جميع الحكومات وهي تأمين الرعية وحراسة الطرق وفتح الأبواب للتجارة وتيسير الوسائل لري الأرض والانتفاع بمحصولاتها، واجتناب المظالم التي تزعزع الثقة وتوقع الشك في نتائج التعمير والتثمير.

فإذا حاسبنا الدولة الإسلامية بهذا الحساب فالأحكام الاقتصادية التي لخصناها كانت هي هي أحكامها في أيام الصولة والسعة وأيام الضعف والانقسام، وكل ما اختلف عليها إنما هو طريقة الحاكم في تنفيذها أو طريقة الحكومات في التزام الأمانة لواجباتها.

مثال ذلك أن الخليفة عمر بن الخطاب كان يستبقي الأرض لمن يزرعونها ويحاسب ذوي الإقطاع على استصلاحها، فخرج بعض الأمويين على هذه السُّنَّة ووزَّعوا الأرض على أشياعهم ولم يسألوا بعد ذلك عن صلاحها وعمارها.

ومثاله أن — رضي الله عنه — كان يفرض على أرض السواد درهمًا واحدًا وصاعًا واحدًا على الجريب من الأرض المروية، وخمسة دراهم على الجريب من أرض المرعى، وعشرة دراهم على الجريب من أرض البساتين التي تثمر الفاكهة، وكانت الدولة العباسية في إبانها تتحرى التخفيف عن الرعية ويكتب فقيهها أبو يوسف إلى خليفتها الرشيد: «أن تتقدم في الرفق بأهل ذمة نبيك وابن عمك محمد والتفقد لهم؛ حتى لا يُظلَموا ولا يُؤذَوا ولا يُكلَّفوا فوق طاقتهم، ولا يُؤخَذ شيء من أموالهم إلا بحق يجب عليهم، فقد رُوِي عن رسول الله أنه قال: «من ظلم معاهدًا أو كلفه فوق طاقته فأنا حجيجه».»

وقد كان لاتباع هذه الأحكام أثره كما كان لمخالفتها أثرها، ولم تتغير الأحكام في الحالتين.

ومثاله أيضًا أن التزام الجباية كان من أحسن الأنظمة والدولة مكينة والحكام ساهرون؛ لأنه كان يعفي الزراع من نفقات الدواوين ووظائفها الكثيرة، ويجب على الملتزم أن يخدم الأرض كأنه يخدم مرافقه وموارد رزقه، فلما اختلت الدولة وفسد حكامها كان هذا الالتزام بعينه شرًّا على الجباة وشرًّا على الزراع؛ لأنه عرض الملتزمين لاستصفاء أموالهم وإبطال التزامهم وعرض الزراع للشطط من الحكام والملتزمين.

فالأحكام كافية والحكام هم الذين يتفاوتون في القدرة على إجرائها والإخلاص في رعايتها، وشبيه هذا يحدث عندما يسري النظام الدستوري الواحد على أمتين متجاورتين، فتسعد به أمة وتشقى به جارتها، أو تسعد به الأمة الواحدة في زمن وتشقى به في زمن آخر، وليس الذنب ذنب الدستور ولكنه ذنب الحاكمين والمحكومين.

إلا أن هناك نقدًا «معاصرًا» يلوح على ظاهره بعض الوجاهة وهو أن المعاملة بالتسليف مدار حركة واسعة في التجارة وأعمال المصارف والشركات تصيب الحالة الاقتصادية بالشلل في العصر الحاضر، وهي تمتنع بمنع الفوائد على الأموال إذا حُسِبت هذه الفوائد من الربا المحرم في الإسلام، ولتقرير الحقيقة في هذه المسألة ينبغي أن نفرق بين فوائد القروض في العصور الغابرة وفوائد القروض في العصر الحاضر، فإن الاختلاف بينها جوهري مع وحدة التسمية والعنوان.

فالقرض في العصور الغابرة كان على أغلبه وأعمه تفريج ضائقة، ولم يكن كما نعهده الآن نظامًا من أنظمة المعاملات المتداولة، وكان المرابون يرهقون المضطرين من طلاب الديون، فيضيفون إلى الدين مثله أو ما يقرب من مثله إذا حلَّ موعده وتأخر المدين عن سداده، وهذا هو الربا بالنسيئة أو أكل الربا أضعافًا مضاعفة كما جاء في القرآن الكريم، وقد حرَّمته التوراة وحرَّمه آباء الكنيسة بل حرَّمه الفلاسفة قديمًا، وتوسَّع أرسطو في التحريم فاعتبر المتاجرة بالمال نفسه محظورًا يخالف طبيعة المال الذي جُعِل ليكون واسطة لتبادل السلع ولم يُجعَل ليكون سلعة تُباع وتُشتَرى في الأسواق، ولم يسوِّغ القانون الروماني القديم فرض الفوائد على القروض إلا على اعتبارها تعويضًا عن خسارة لحِقت بصاحب المال.

ولا نريد أن نخوض هنا في آراء الفقهاء وتقسيماتهم لأنواع الربا، فحسبنا من ذلك أن أكل الربا أضعافًا مضاعفة محرَّم بجميع الشرائع في الوقت الحاضر، وأن الإسلام لا يحرِّم أن ينقسم الربح بين صاحب المال ومستغل المال قسمة عادلة لا ظلم فيها على الطرفين، وإجراء المعاملة على هذا الأساس كافٍ لانتظام الحركة الاقتصادية على التسليف والثقة إن كان هذا هو المقصود من التعاون بين أصحاب الأموال وأصحاب «المشروعات» والأعمال، أما تكديس المال لاستخدامه في تسخير العاملين فهو نكبة العصر الحديث وإلغاؤه تتبعه مصلحة كبرى، ولا يتبعه تعطيل للحركة الاقتصادية سواء في عصر رأس المال أم في غيره من العصور.

وحكم الإسلام في الاقتصاد القومي هو التوسط بين كنز الذهب والفضة وبين الإعراض عن نصيب الإنسان من الدنيا وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا (الإسراء: ٢٩) وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا (الفرقان: ٦٧) ومثل هذا القصد هو لُباب الاقتصاد للجماعات والآحاد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤