الفصل التاسع والثلاثون

لو أصبَحت مِصر اشتراكيَّة

وقد أصبحت مصر اشتراكية أو شبيهة بالاشتراكية قبل أكثر من مائة سنة … ولم تكن اشتراكيتها تطبيقًا لنظرية من النظريات التي ينادي بها أصحاب المذاهب الاقتصادية، ولكنها كانت اشتراكية عملية تستلزمها أحوال الزمن، وكانت أسبق الاشتراكيات العملية من نوعها في الزمن الحديث.

كانت الأرض كلها ملكًا للدولة في عهد محمد علي الكبير، وكانت التجارة الخارجية تُدار بيد الحكومة، وهي التي تقدر لكل محصول من المزروعات الغذائية أو المزروعات التي تُستخدَم في الصناعة كالقطن والكتان والتوت مساحة من الأرض تناسب الحاجة إليه في أسواق مصر أو الأسواق الأجنبية.

وكان عشاق الآراء النظرية ينتقدون هذه الخطة ويفضلون عليها حرية التجارة والزراعة، ولكنهم كانوا على خطأ مبين في تطبيقهم لهذه الآراء على مصر خاصة في عهد الإنشاء أو عهد بناء الثورة الزراعية والصناعية، فإنه عهد يستلزم التوفيق بين محصولات البلاد وبين ما تطلبه الأسواق الخارجية منها، ولم تكن لهذه المطالب سابقة يُقاس عليها، وليس في استطاعة الآحاد أن يجمعوا الإحصاءات ويحكموا الصادرات ويفرضوا مشيئتهم على غيرهم من المشتغلين بالزراعة والتجارة، فلا غنى في هذه الحالة — حالة الإنشاء والبناء — من الإشراف العام الذي لا يستطيعه أحد غير الحكومات.

كانت مصر في ذلك العهد «اشتراكية» عملية أو شبيهة بالاشتراكية العملية، ولعلها عادت إلى نظام قريب من ذلك النظام في أيام الحرب العالمية وما بعدها، تحقيقًا للغرض من توفير محصولات الطعام وتدبيرها من طريق تحديد المزروعات واستيلاء الدولة عليها، وخضوعًا لشروط المبادلة بين التصديرات والتوريدات المتفق عليها في حساب العملة الدولية.

فالاشتراكية ليست بالنظام الغريب عن بلادنا … وتجاربنا لهذا النظام تنتهي بنا إلى اختيار الخطط المناسبة لنا ولتقاليدنا ومصالحنا القومية والفردية، وهي خطط الاشتراكية الوسطى أو الاشتراكية المعتدلة بين الطرفين: طرف السيطرة الحكومية الشاملة وطرف الفوضى التي تتيح لكل فرد أن يفعل ما يشاء، في أمور لها مساس بسلامة المجتمع ووسائل المعيشة فيه.

إن تجارب مصر وتجارب غيرها قد أثبتت لنا على التحقيق أن المرفق الذي تديره الحكومات تتضاعف تكاليفه وتزيد فيه المغارم على المغانم، ويؤول شأنه إلى الإهمال وقلة الاكتراث، وبداهة العقل تأبى أن يُقال إن عمل الإنسان لغيره كعمله لنفسه، فإن الطبيعة برمتها — كما ألمحنا إلى ذلك مرارًا — لا تحمل الحي على إبقاء نوعه ما لم يكن في تكوينه دافع من المتعة الشخصية، ومن الحنان الأبوي، ومن الأمل الذي تدور عليه عواطف الأحياء.

فمن الخطر تسليم المرافق جميعًا إلى الدولة، وإلغاء البواعث الفردية التي تشحذ الهمم وتقنع المرء بأنه يعمل لنفسه وذريته مع خدمته للمجموع.

وإنما قوام الأمرين بالنسبة إلينا نحن المصريين على الخصوص أن نبقي للفرد حق الملك وحق التصرف فيما يقدر عليه، وندع للحكومات أن تستأثر بالأعمال العامة التي لا قِبَل بها للأفراد ولا للشركات.

وسبيل ذلك أن نعتمد على خطتين تصلحان لبلادنا كل الصلاحية، بعد التدريب عليهما والإحساس بضرورة كل منهما … وهما خطة الضرائب التصاعدية، وخطة التعاون في كل مادة من مواد التجارة والزراعة على درجات من الاتساع والوفرة تلائم جماعات المتعاونين والريف.

إن الضرائب التصاعدية ترضي شعور الفرد بحقه في الملكية، وتغني عن تقييد الملكية الزراعية أو العقارية بمقدار محدود.

فإذا رأى الزارع أن الضيعة التي تزيد مساحتها على خمسمائة فدان مثلًا تتساوى أرباحها وأرباح الأربعمائة، أو رأى أن الفرق في الربح تقابله زيادة الضرائب وزيادة التكاليف … فهو من غير أمر ولا قانون سيتحول بالمال الزائد إلى مرفق آخر غير الزراعة، وسينتهي هذا التحول في القطر كله إلى التوازن بين مرافق الزراعة ومرافق التجارة وإلى التقارب بين أصحاب الضِّيَاع الكبيرة وأصحاب المزارع الصغيرة، دون أن يُخلَّ بنشاط الفرد في رعاية ملكه والسهر على مصالحه، ثم يتم التحول بالتوريث بعد جيل واحد، فلا يطغى مرفق على مرفق ولا طائفة على طائفة، ولا يختلف الوضع في الحقيقة إذا نظرنا إلى مصلحة المجتمع كله، فإن الزارع الذي يربح من ضيعته الكبيرة بضعة ألوف من الجنيهات لا اختلاف بينه وبين الموظف الذي تنتدبه الدولة لإدارتها وتعطيه مرتبه من خزانتها، لو فرضنا أننا ألغينا الملكية وجعلنا الدولة مالكة للأرض كلها في القطر كله، وقد يكون هناك اختلاف محقق بين مجهود المالك لعمله وربحه ومجهود الموظف الذي يعمل لغيره ويضمن مرتبه من كل محصول يجنيه.

أما التعاون فهو الوسيلة المثلى للقضاء على الاستغلال، والقضاء من ثم على حرب الطبقات، فإنه هو الوسيلة التي تجعل المشتري بائعًا وشاريًا في وقت واحد، وتجعله رابحًا بزيادة السعر ورابحًا بنقصه، فإذا زاد الكسب فهو راجع إليه وإذا نقص الكسب فهو رابح من قلة الثمن الذي يشتري به سلعته، وهو على الحالتين غير مغبون ولا عاجز عن الوصول إلى السلع الميسرة للجميع.

قد يُقال: وهل تضمن الأمانة في إدارة الشركات التعاونية؟ وهل يخلص الموظفون الموكلون بالبيع والشراء في توفير الربح لهذه الشركات؟

والجواب عن هذا السؤال يختلف بين الناس على اختلاق تجاربهم أو اختلاف ثقتهم بالقائمين عندنا على الأعمال العامة، ولكن الأمر الذي لا خلاف فيه أن الشك هنا في أمانة الموظفين وقدرتهم يشمل كل نظام وكل مشروع من مشروعات الإصلاح، فإذا قدرنا الإخفاق لنظام التعاون؛ لأن موظفيه يخونون الأمان ولا يبذلون الهمة في خدمة الشركة، فهذا الإخفاق من نصيب كل نظام آخر يتولاه الموظفون المتهمون، أما إذا أمكننا أن ندفع التهمة عنهم في نظام من الأنظمة المتعددة، فلا موجب لحصر التهمة إذن في التعاون وموظفيه.

إذا أصبحت مصر «اشتراكية» فأصلح الاشتراكيات لها أن تتوسط ولا تندفع مع الشطط في جانب من الجانبين، فليس من مصلحة مصر أن تستولي الحكومات على مرافقها وأن تُدار فيها الأعمال العامة كما تُدار أعمال المكاتب والدواوين، وليس من مصلحة مصر أن تغفل عن مجرى الأمور في العصر كله وفي العالم بأسره، وأن تبقي هذا التفاوت الشاسع بين أغنيائها وفقرائها الزراعيين، وبين أصحاب رءوس الأموال وأصحاب الأيدي العاملة، وفي وسعها أن تحقق المصلحة لأبنائها جميعًا بنظام الضرائب التصاعدية ونظام التعاون في الريف والحاضرة، فلا ينهدم لها مجتمع ولا تنحرف عن تقاليدها التي قامت على الأسرة والميراث، ولا تتسع الفجوة بين أغنيائها وفقرائها أو تتفتح أبواب الاستغلال والشكوى بين من يبيع فيها ومن يشتري وبين من يعطي السلعة ومن ينتفع بها.

وإذا أصبحت مصر اشتراكية على هذا النظام فلا خوف عليها من دعوة طائشة أو مذهب هدام، ولا انفصام بين ماضيها قبل ألف عام، وبين مصيرها بعد ألف عام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤