الفصل السادس

اتجَاه الشِّعر العَربي الحَديث

انتقل الشعر العربي من عهد الجمود إلى عهد النهضة في أربع مراحل:
  • أولها: دور التقليد الضعيف.
  • وثانيها: دور التقليد المحكم.
  • وثالثها: دور الابتكار الناشئ من الشعور بالحرية القومية.
  • ورابعها: دور الابتكار الناشئ من الشعور بالحرية الشخصية أو من الشعور باستقلال الفرد في شعوره.

محمود سامي البارودي

وكان أكبر الشعراء الذين ظهروا في طليعة دور الابتكار محمود سامي البارودي الذي نبغ في أواخر القرن التاسع عشر، وتوفي في أوائل العشرين.

كان البارودي أكبر شعراء العربية في أواخر القرن التاسع عشر غير منازع، وكان أحرى أن يُقال إنه بقية من شعراء السلف المجيدين عاد إلى الحياة في الزمن الأخير؛ لأنه كان صاحب سليقة حية حتى في تقليده، فكان في معظم شعره واحدًا من شعراء السلف المتقدمين، ولم يكن قصاراه أنه مقلد يجيد صناعة التقليد.

كان «سلفيًّا» مطبوعًا وإن تخلف في العهد الأخير، وكانت سنته سنة الشعراء العرب في الأسلوب والموضوع، وربما أفرط في التزام الموضوعات السلفية حتى نهج على نهجها في وصف الطلول والرعيان والنقا والبادية، فلم يكن للثقافة الحديثة أثر إلا في النادر الذي لا يُقاس عليه.

وقد لَحِقَتْ البارودي طائفةٌ من الشعراء كان للثقافة الأوروبية أثر ظاهر في وجهتها وفي اختيار موضوعاتها، ونعني بهم في مصر أمثال: إسماعيل صبري وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم، وفي لبنان والشام أمثال: نجيب الحداد وخليل مطران وبشارة الخوري، وفي العراق أمثال: الزهاوي والرصافي والشبيبي، ولكن الأثر الذي ظهر في شعرهم من الثقافة الأوروبية راجع إلى الحركات الاجتماعية والسياسية، وقليلًا ما يرجع إلى الحركات الفنية والأدبية.

وهذا الدور هو الذي عنيناه بدور «الابتكار الناشئ من الشعور بالحرية القومية».

فنهضة هؤلاء الشعراء هي نهضة المجتمع كله في ميدان الحرية السياسية واليقظة القومية؛ ولهذا شاع في عهدهم أن الشعر الحديث هو الشعر الذي يُنظَم في مسائل السياسة والاجتماع، وفي إحياء المفاخر وتعزيز المطالب، وما إلى هذه الأغراض العامة، وكل ما عدا هذه الأغراض فهو شعر قديم.

والفرق واضح بين فهم التجديد على هذا المعنى، وفهم التجديد من الوجهة الفنية.

التجديد في الشعر

فالشاعر الذي ينظم في الوصف أو في الغزل ويعبر في نظمه عن شعوره الصحيح، هو شاعر مجدد غير مقلد، وإن كان الوصف والغزل من أقدم الموضوعات.

والشاعر الذي ينظم في مسألة اجتماعية أو مسألة عامة، ولا يستقل بالتعبير الصادق في نظمه هو شاعر مقلد، وإن جاء في أحدث العصور.

والعمل الاجتماعي والعمل الفني كلاهما واجب، ولكن لا يُفهَم من ذلك أنهما عمل واحد، وأن الابتكار في هذا يستلزم الابتكار في ذاك.

على أن هذه المدرسة قد أطلقت الشعر من كثير من القيود وجددت شباب اللغة ووسعت نطاق الموضوعات، وكانت مرحلة في التجديد لا غنى عنها للانتقال إلى التجديد الفني بمعناه الصحيح.

وقد جاءت بعدها مدرسة الشعر التي نسميها مدرسة الابتكار المستقل أو مدرسة الحرية الفردية، وهي المدرسة التي ينطلق فيها شعور الفرد حيث ينطلق شعور الإنسان.

ويتجلى الفرق بينها وبين المدرسة التي سبقتها في ملامح كل قصيدة، وفي سمة كل ديوان، وفي ظهور «الشخصية الإنسانية» على كل موضوع يتناوله الشاعر، بعد أن كانت هذه الموضوعات عامة مشتركة لا يتميز فيها مقام عن مقام.

بنية القصيد

فقد أصبح للقصيدة اسم يُعرَف وبنية كالبنية الحية لا تسمح بتقديم بيت على بيت.

وقد كانت القصيدة قبل ذلك مجموعة من الأبيات لا تتسمى باسم، ولا تتميز بعنوان.

كذلك كان الشاعر يصف عشرين إنسانًا في مقام التقدير أو مقام الرثاء، ولكنك تستطيع أن تنقل الأسماء بينها كما تشاء فلا تتغير الملامح ولا تتغير الأزياء؛ لأن الشاعر هنا كالطرزي الذي يصنع الملابس المجهزة لجميع اللابسين، وليس كالطرزي الذي يصنع لكل لابس كسوة مُحْكَمة لا تصلح لسواه.

وهذا الذي عنيناه بمدرسة «الفرد المستقل» في الشعر؛ لأن الشاعر من هذه المدرسة يعبر عما يحسه هو في كل حالة يتناولها بعاطفته وخياله، ولا يصدر عن المعاني العامة المشتركة التي لا تتميز فيها بين شخصية وشخصية، ولا بين مقام ومقام.

ومن الجائز أن تُسمَّى هذه المدرسة بالمدرسة الإنسانية؛ لأن المعول فيها على سليقة الإنسان، فهي إذا طالبت الشاعر بشيء فكل ما تطلبه منه أن يكون إنسانًا صادق الشعور صادق التعبير، وليقل بعد ذلك ما يشاء في كل زمن، وفي كل موضوع.

«فعبر عن شعورك الإنساني» هو الشعار الوحيد الذي اتخذته هذه المدرسة في مذهب التجديد، وهو الشعار الذي اتخذه كاتب هذه السطور؛ لأنه من دعاة هذه المدرسة منذ ظهورها في الربع الأول من القرن العشرين.

وليس معنى هذا الشعار إلغاء الفوارق الوطنية والإقليمية، أو استنكار النظم في موضوع من الموضوعات التي يطوقها الشعراء في كل لغة، وإنما معناه «أن صدق التعبير عن الشعور الإنساني هو التجديد الحق الذي يعصم صاحبه من التقليد والمحاكاة»؛ لأنه يقول ما يحسه، ومن قال ما يحسه فما هو بمقلد لأحد كائنًا ما كان الموضوع الذي ينظم فيه.

فمن ركب الجمل في القرن العشرين واجتاز به الصحراء ثم وصف مركبه هذا فهو شاعر مجدد، وإن كان موضوعه مشابهًا لموضوع طرفة بن العبد وامرئ القيس.

واختلاف الشعر بين الأوطان والأقاليم فارق طبيعي حاصل بطبعه من غير حاجة إلى القواعد والأصول التي تُفرَض على الشعراء.

فالشاعر الإنجليزي الذي يصف الهرم، أو يصف النيل، أو يتكلم عن رمسيس، لا يصبح مصري الشعر ولا مصري الشعور؛ لأن موضوعاته مصرية، والشاعر العربي يصف شلال نياجرا أو غاب بولون لا يزال عربيًّا في سليقته وتفكيره وإن ذهب بخياله إلى أمريكا أو فرنسا، فلا فكاك له من طبعه الأصيل ولا حاجة إلى فرض طبيعة الإقليم عليه.

وقد كان لهذه المدرسة أثر في قوالب الشعر كما كان لها أثر في معانيه، فأُطلِقت من قيود القافية بعض الإطلاق، وتصرفت في الأوزان والبحور مع ملاحظة العروض كما يلاحظه الأقدمون.

مضت مدرسة التجديد على هذا النحو قدمًا منذ نشأتها قبل أكثر من ثلاثين سنة، ولكنها على ذلك تمثل الشعر الحديث في ناحية منه ولا تمثله في جميع نواحيه؛ لأن من الشعراء في هذا العصر من ينزع إلى المذهب السلفي مع التصرف والابتكار، ومنهم من ينظم للغناء ومصاحبة التمثيل في الصور المتحركة والروايات المسرحية، وتدعوه مجاراة الجمهور المسرحي إلى نمط من الشعر لا يكاد يختلف في مادته عن مادة الموال أو الزجل الذي يشيع بين الجماهير.

ومما تقدم يبدو أننا قصرنا القول غالبًا على التجديد في قطر واحد وهو البلاد العربية.

إلا أن الشعر الحديث في الأقطار العربية الأخرى يختلف في وجهته قليلًا أو كثيرًا من هذه الوجهة المصرية، ويستحق في هذا المقام تنويهًا خاصًّا به على حسب الموطن الذي ينتمي إليه.

فهناك مدرسة العراق، وهي في الحقيقة مدرستان متجاورتان: إحداهما يصح أن نسميها بمدرسة الشريف الرضي، وهي أقرب إلى المحافظة والجزالة في الأسلوب والأخرى يصح أن نسميها المدرسة النواسية وهي أقرب إلى الانطلاق واللهجة العصرية، وكلتاهما مدرسة قوية تنظم الشعر في مختلف الأغراض، قد أضافتا إلى ثروة الشعر العربي ولا تزالان تضيفان إليه.

وهناك مدرسة لبنان وسورية، وتغلب على اللبنانيين خاصة نزعة التمرد والانفصال من القديم سواء في وطنهم الأول أو في أوطان المهجر الأمريكية، ومردُّ هذه النزعة إلى حالة لبنان السياسية التي جمعت في أيدي رجال الدين من طوائف المسيحيين سيطرة الدين والدولة، فاندفع المفكرون الناشئون إلى تحدي هذه السيطرة، ولا سيما المهاجرين منهم إلى أمريكا الشمالية والجنوبية.

وفي إفريقية الشمالية والسودان والحجاز طلائع لمدرسة التجديد بلغ بعض أعلامها القمة في الإجادة، وهي تخطو في هذه البلاد جميعًا خطوات سراعًا في ميدان السبق والابتكار.

وجملة القول: أن للشعر العربي اتجاهين في العصر الحديث: أحدهما اتجاه «الشعر المستقل» والغالب عليه إيثار المذهب الإنساني المطلق، أو مذهب الابتكار المستمد من الشعور بحرية الفرد واستقلاله.

والاتجاه الثاني وهو اتجاه الشعر المضاف إلى فن الغناء أو مناظر الصور المتحركة، وهو متقيد بما يخدمه من هذه الأغراض، يعلو معها حين ترتفع ويسف معها حين تجنح إلى الإسفاف.

والغلبة في المطالب «المحلية» الموقوفة لهذه الوجهة.

والغلبة في مطالب الفن الخالص للوجهة الأولى مع الأيام …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤